الحضارات والثقافات وئام أم صدام ؟

بحث مقدم من:

الأستاذ الدكتور عبد الله بن صالح العبيد 

عضو مجلس الشورى المملكة العربية السعودية 

إلى مؤتمر باريس للمنظمات الخيرية والإنسانية 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يتداخل مفهوم لفظي الحضارة والثقافة في كثير من الأحيان عند كثير من الدارسين، وقد استخدم المؤرخون لفظ الحضارة منذ ما يزيد على قرنين لدراسة أحوال الأمم والشعوب ذات الأثر العميق في المسيرة البشرية، وخصوصاً في الدراسات الشرقية، كما شاع استخدام الثقافة في الدراسات الحديثة المتعلقة بأحوال الأمم والشعوب ذات الأثر المعاصر في الحياة البشرية وأصبح الشرقيين يؤثرون استخدام لفظ حضارة، والغربيون خاصة الأمريكيين ذوي الأثر الأكبر على الحياة المعاصرة، يؤثرون استخدام لفظ ثقافة.

وثمة تعريفات عدة للحضارة والثقافة والمدنية التي تدخل أحياناً في هذا المفهوم، وتصرف أحياناً كثيرة إلى مظاهر وآثار الحضارة والثقافة.

ولعل الاهتمام بحوار الحضارات ودراستها كان نتيجة الحروب التي اصطلى العالم بويلاتها في القرن العشرين، الذي شهد الحرب العالمية الأولى والثانية، وحروب فيتنام، والشرق الأوسط، والخليج، والبلقان، وأفريقيا، وغيرها؛ وحاجة العالم إلى مفاهيم مشتركة سعت الأمم المتحدة إلى بلورتها في الإعلانات والمعاهدات والمواثيق الدولية. فقد أدرك العالم بعد الحرب العالمية الثانية حاجته إلى الحوار وتحجيم الخلافات التي أدت إلى هلاك ملايين البشر وإلى التنكر للأخلاق والمبادئ الإنسانية، فكان إنشاء هيئة الأمم المتحدة وكان إنشاء اليونسكو المنظمة الدولية للعلوم والثقافة، وبدأت اليونسكو منذ عام 1949م نشاطها في حوار الحضارات والثقافات، فقد جاء في أحد تقاريرها الأولى المنشورة عام 1949م (أن مشكلة التفاهم الدولي هي مشكلة علاقة بين الحضارات، ومن هذه العلاقة يجب أن يظهر مجتمع عالمي جديد على أساس التفاهم والاحترام المتبادل، ويجب أن يتبنى المجتمع نزعة إنسانية جديدة بحيث تحقق فيه العالمية من خلال الاعتراف بالقيم المشتركة في الحضارات المختلفة).

وقد بلورت اليونسكو هذا المفهوم بما لا يتعارض مع الخصوصيات الثقافية وبما يؤكد مسؤولية كل شعب تجاه حضارته وتجاه الإرث البشري العام ففي بيان لاحق لليونسكو نص في مادته الأولى على ثلاثة بنود هي:

1.    كل حضارة لها اعتبارها وقيمها التي تجب المحافظة عليها واحترامها.

2.    كل شعب له الحق وعليه واجب تنمية حضارته.

3.    كل الحضارات، بما فيها من تنوع واختلافات عميقة وتأثير متبادل على بعضها البعض، جزء من الإرث العام للبشرية.

وقد أخذت هذه المفاهيم بعين الاعتبار في الدراسات الدولية، كما هي طبيعة الأشياء، وركز عليها في مواجهة التحديات التي تعمدت تجاهل الآخر في محاولة للسيطرة والهيمنة، كما كان منهج الأيديولوجية الشيوعية الأممية. وما إن تنفس العالم الصعداء من هذه الأيديولوجية التي جندت ضدها خلال الحرب الباردة جميع القوى الدينية والاجتماعية والأدبية والفكرية من العالم الحر والعالم المتحالف معه، ما إن تنفس العالم الصعداء بعد ذلك حتى كانت البدائل جاهزة ليست، لا بدائل الهيمنة وإنما بدائل المهيمن وجاءت بشائر ذلك من خلال الأطروحات الأمريكية المتمثلة في أطروحتي فوكوياما وهنتنقتون.

أطروحة فوكوياما وأطروحة هنتنقتون

لعل من المناسب التقديم لهاتين الأطروحتين بما قد يفيد في معرفة أسباب ووقائع تقديمهما للعالم بصفة عامة، وللمجتمع الأمريكي بصفة خاصة.

فقد تبين لقادة الرأي والفكر والسياسة ومراكز السيطرة العسكرية والأمنية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي على وشك أن تكون القوة الأولى في العالم، افتقارها إلى رؤية واستراتيجية فلسفية تحدد مسارها القادم وتقدم للعالم نظرتها المستقبلية. فقد قامت هذه الدولة من دون خلفية حضارية وأيدلوجية ونظرة متكاملة للحياة وللوجود، بخلاف ما قامت عليه الإمبراطوريات والدول الكبرى في التاريخ، مثل الحضارات والدول التي قامت في أوربا والشرق من هندية وصينية وفارسية وإسلامية ومصرية ويونانية ورومانية وغيرها، وإن كانت الولايات المتحدة قد قامت فيما مضى على مناقضة ما عليه أوربا التي انطلقت من منجزاتها في القوى البشرية والمادية والتميز عنها بمساقات متميزة في مجال الحرية الدينية والسياسية، كما أنه وإن تفوقت الولايات المتحدة وحققت انتصار أوربا تحت عباءة القوة العسكرية الأمريكية في القرن العشرين، وإنه وإن كانت الولايات المتحدة قد أبدعت في البنية القانونية والسياسية للحياة الديموقراطية المعاصرة، فذلك كله من خلال البنية التنظيمية للدولة ومؤسسات المجتمع المدني في الداخل والتأثير في العالم، من خلال قيام المؤسسات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة والبنك الدولي والتحالفات العسكرية والاقتصادية، ولا من خلال بناء القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية التي تمثل المبادئ التي قامت عليها الحضارات.

أعود للأطروحتين فأكاد أجزم أنهما تمثلان تأطيراً للرؤية الأمريكية الجديدة بعد مرحلة الحرب الباردة وتبريراً لتمرير قرارات أمريكية، وليستا نتائج دقيقة لدراسات علمية جادة تسعى لترسيخ المفاهيم الحضارية القائمة على الحرية والعدل والمساواة حيث جندت الولايات المتحدة (الممثلة للعالم الرأسمالي العالمي في حربها ضد الاتحاد السوفيتي الممثل للنظام الاشتراكي آنذاك) جندت جميع القوى السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية؛ لمواجهة ذلك النظام، وبعد القضاء عليه جاءت هاتان الأطروحتان اللتان تعملان لتحقيق هدف واحد هو تأكيد استمرار الصراع من أجل سيطرة النظام الرأسمالي بصفة عامة وتحقيق الهيمنة الأمريكية بصفة خاصة، مستخدمتين وجهين متباينين لمسيرة التاريخ: أحدهما نهاية التاريخ كما يراها فوكوياما، وهي النظرة التي تقوم على أساس أن ما وصلت إليه البشرية من تقدم في ظل النظام الليبرالي والمنجزات الرأسمالية هو نهاية التجارب الإنسانية، وأن ما سبقها من تجارب قد اضمحل بسبب فشلها في البقاء وهذا هو منطق المفكر هيجل الذي أطر هذه الأطروحة وجسدها في بقاء الدولة البروسية، وأنها تمثل نهاية التاريخ. ونهاية التاريخ وفق هذه النظرية تعني سيطرة وهيمنة هذا النظام الذي تمثل عند هيجل بالدولة البروسية ولدى فوكوياما بالولايات المتحدة الأمريكية.

أما نظرة هنتنقتون فتقوم على نظرة استمرار التاريخ من خلال الصراع والتجديد، فكما كان قائماً أيام الحرب الباردة مع الاشتراكية فإنه يقوم الآن مع الحضارات المغايرة للحضارة الغربية، وفي تفاصيل هذا التقسيم يؤطر لاحتواء أوروبا الغربية للوقوف مع أمريكا من جانب، والوقوف في وجه الحضارات الأخرى التي تعتبر الحضارة الإسلامية أخطرها وأولاها في بدء حلبة الصراع من جانب آخر. وهنتنقتون لا يزيد في ذلك عما سبق أن بادر به رئيس حلف شمال الأطلسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي من القول إن الخطر القادم هو الخطر الإسلامي وربما هدف بالتعبير بصراع الحضارات إلى الالتفاف على التعبير بالصراع الاقتصادي والسياسي والعسكري الذي مارسته أوروبا سابقاً على المناطق الإسلامية من جهة، ومن جهة أخرى لحشد المؤثرات الدينية والثقافية والاجتماعية الأخرى للوقوف مع الحملة الجديدة، ولا نستبعد أن يكون بيان المثقفين الأمريكيين المعنون بـ(على أي أساس نقاتل؟) جزءاً من حشد هذه الشريحة في هذا المنظور، عرفه من عرفه وجهله من جهله، إذ لا يخفى على المثقفين أن منطق الحضارات وفلسفتها وأفكارها لا تزرع الصراع وإنما تزرع التفاهم والوئام وأن عوامل الصراع إنما تقدمها المصالح العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية التي تختفي وراء تعبئة دينية أو حضارية.

إن هاتين الأطروحتين من خلال هذا المفهوم لا تعدوان أن تكونا استجابة مستعجلة لتحقيق الرغبة في وضع إستراتيجية فلسفية للرؤية الأمريكية المستقبلية عوضاً عن النظرة البراجماتية المتعرية التي لا تتفق مع المعاهدات والمواثيق الدولية وبخاصة قضايا حقوق الإنسان التي اتشحت لباس الحرية السياسية وتجاهلت أحياناً وحاربت أحياناً أخرى الحرية الفكرية والعقدية.

لقد راجت هاتان الأطروحتان فيما بين عام 1993م-وعام 1996م وعبر مقالات عدة كما تم الترويج لهما خلال العديد من المقابلات واللقاءات والندوات والمؤتمرات سواء المؤيدة لهما أو المعارضة ولم يكشف النقاب كثيراً عن نظرة فوكوياما المتمثلة في الترويج للهيمنة الرأسمالية بصورة فاضحة مثل ما جاء في مقاله (إنسان في زجاجة) الذي تحدث فيه عن التطوير التكنولوجي البيولوجي وأثره في مستقبل تغيير الطبيعة البشرية عندما قال (عند التوصل إلى تغيير الطبيعة البشرية الحالية، أي الانتقال إلى عالم غير بشري، فإن النظام الليبرالي والرأسمالي السائد الآن هو الذي سوف يسود ذلك العالم). وإذا كان الأمر كذلك فلا داعي ليبرر فوكوياما أطروحته بأن سبب فشل النظريات والأنظمة السابقة لنهاية التاريخ تعارضها مع الطبيعة البشرية الأصلية وانحرافها عنها.

وبقدر ما أسدل الستار على بعض الآراء في تقديم التنظير لرؤية فوكوياما، لم يُركز كذلك على الجوانب الأخرى في نظرية هنتنقتون، وهذا يتعارض مع جملة استنتاجه وما سرده بوضوح في كتابه "صراع الحضارات" حيث يقول: (يجب أن تبحث شعوب كل الحضارات عن القيم والأسس والممارسات المشتركة مع شعوب حضارات أخرى) ولا شك أن الهدف من الأخذ بهذا القول يحقق التلاقي ويتلافى الصدام، وقد عبر هنتنقتون نفسه عن ذلك بقوله (إن الاختلافات إن اعترف بها يمكن أن تشق طريقاً نحو التلاقي). بل إنه يرى في موضع آخر من نفس الكتاب أن الفروق بين الحضارات المتمثلة بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد والدين لا تعني بالضرورة النزاع، كما أن النزاع لا يعني العنف بالضرورة أيضاً، كما يرى أن الاختلافات الحضارية المتراكمة تاريخياً هي المفجرة لصراعات اليوم، وأن عناصر الصدام تعود إلى إفرازات أزمة نظام عالمي يمر بمرحلة حرجة. وبهذا يمكن تحويل مفهوم الصراع إلى أنه ذلك الاختلاف الذي يمكن قبوله والتعايش معه وليس الاختلاف الذي يصنف فيه العالم إلى حضارة غربية وحضارات مغايرة لا يعالج ما بينهما إلا الحرب، كما جاء في الطرح الأول، بينما يكون حسم الخلاف في الطرح الثاني من خلال الحوار والنقاش وتشغيل الفكر والذهن والعقل والمنطق، وليس من خلال تشغيل آلة الحرب والدمار.

وبتعبير آخر فإن فوكوياما يريد أن يصل بنا إلى الإعلان عن انتهاء حركة التجارب الإنسانية وأن القوانين التي أرستها الحضارة الغربية تمثل انتصار الطبيعة وقوانينها على حركة الإنسان، وبالتالي يجب الخضوع لحكمها عليه. وبهذا يقف التدافع البشري والصراع الفكري والأيديولوجي.

أما الوجه الآخر للعملة، وهو ما يريد أن يصل بنا إليه هنتنقتون، فهو استمرار التدافع والصراع بين الحضارات من خلال مكوناتها التاريخية واللغوية والدين والتقاليد، ويجعل الدين أهم هذه المكونات. وتظهر أبعاد نظرة فوكوياما بالدعوة إلى مقاومة كل ما ومن يقاوم الطبيعة وقوانينها، فلا خصوصية لمجتمع أو دولة أو حكومة تخالف ما تقوم عليه الحضارة الغربية التي تمثل نهاية التاريخ.

ولعل هذه النظرة ونظرة ما بعد الحداثة تتفقان في الترويج للقضاء على ما مضى من التاريخ الإنساني والقضاء على الإنسان المركب الاجتماعي القادر على الاختيار الحر؛ ليحل محله إنسان ذو بعد واحد، فما بنته الأفكار والعقول خلال آلاف السنين سوف ينتهي بالإنسان إلى طريق واحد لا خيار له فيه، وهو النظرة التي تقوم على النظرة المبتسرة لطاقات وقدرات وتاريخ الإنسان، حيث تفهمه على أنه كائن مادي تحركه الدوافع المادية من غريزية وجنسية واقتصادية، وليس ذلك الكائن الاجتماعي المرتبط ببقية عناصر الكون والحياة، وأن لهذا الارتباط والبعد جوانب روحية وأخلاقية تتعدى النظرة إلى أن الإنسان مادة استعمالية استهلاكية تحكمه قوانين الطبيعة المادية من جانب آخر، وحين يتجاوز الأمر العلاقات الفردية يرى فوكوياما أن العالم الإسلامي فشل في الاستفادة من الغرب وعلومه، فلا العلمانيون نظموا شؤون عالمهم الإسلامي والعربي، ولا الأصولية الإسلامية أوجدت البديل، فأصبح العالم الإسلامي نتوءاً في مسيرة التاريخ، لذا يتوجب على الولايات المتحدة والبلدان الديموقراطية أن تجابه تغييرات العالم الجيوسياسي بعد انهيار الشيوعية، وأن تواجه عدم تطابق قواعد العالم التاريخي ومناهجه ومن ضمنه العالم الإسلامي مع طبيعة الحياة في العالم بعد التاريخ.

وبهذا يتضح بطلان هذا التنظير للمسيرة البشرية والتاريخ البشري؛ لأنه يتجاوز الانحدار بالإنسان إلى الحيوانية والبهيمية إلى مادة استهلاكية استعمالية وبما يتنافى مع رسالة هذا الإنسان وكرامته، وهو الذي سخرت له معظم الكائنات الأخرى ليستعملها فيما ينفعه وينفع البشرية من حوله ومن بعده، من دون الإضرار بتلك الكائنات من حيوان ونبات وبيئة. وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الفساد والتلوث الذي يكتنف حياة الإنسان والبيئة هو بسبب انحراف قيام الإنسان بواجبه تجاه نفسه وتجاه غيره، قال الله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا)[الروم 41].

إن الأخذ بأطروحة فوكوياما تجاوز لحدود العقل البشري ومصلحة البشرية مهما تعددت رؤاها واجتهاداتها في جميع أمورها الدينية والدنيوية.، وابتسار للتاريخ وتبريرٌ لمرحلة قد لا يكون الزمن مواتياً للوصول إليها بهذه السرعة.

إن التبرير لمواجهة هذا العدو المشترك كما تقدمه أطروحتا فوكوياما وهنتنقتون يتجاهل حقيقة الحضارات الأخرى من جانب، والمواثيق والمعاهدات الدولية من جانب آخر كما يتجاهل من جانب ثالث طبيعة الصراع القائم بين القوى العالمية الكبرى من دول وشركات داخل المجتمع الغربي، حيث الصراع بين القوى الاقتصادية داخل الدول الكبرى وعلى مناطق النفوذ في الجنوب سياسياً واقتصادياً، وكذلك الصراع داخل المجتمع الغربي على أحادية القرار، من خلال القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية داخل هذه المعسكر، كما يتجاهل طبيعة الصراع القائم إبان الحرب الباردة، وهي وإن كانت حرباً باردة بين القطبين آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي فإنها كانت حرباً حارة وشرسة في مناطق النفوذ والتمدد الشيوعي، فقد تمت محاربة الاتحاد السوفيتي دينياً باسم الإلحاد، واقتصادياً باسم الاقتصاد الحر، وسياسياً باسم الستار الحديدي ومحاربة الأحزاب الشيوعية، ودولياً باسم حقوق الإنسان، واشترك في هذه الحرب المسلمون والنصارى والعلمانيون والمؤسسات الاقتصادية ومراكز البحوث والدراسات وغيرهم. وبعد انتهاء القوة العسكرية السوفيتية خمدت ألسنة الصراع ولم يبق لذلك الفكر المغاير أي خطر على المجتمع البشري والحضارات الأخرى؟‍‍‍! وكأن شيئاً لم يكن!. كما يلاحظ أن تلك العناصر التي اشتركت في مواجهة الاتحاد السوفيتي شاركت في الصراع القائم بين الاتحاد اليوغسلافي وأوربا، وقد نال كل من المسلمين والنصارى وأصحاب المذاهب الأخرى نصيبهم من انهيار ذينك الكيانين وكان المسلمون في كلتا الحربين في خندق واحد مع المسيحيين والعلمانيين الغربيين.

نعم لا يمكن أن تتجاهل مصالح كل طرف من الأطراف في تلك الأثناء، ما كان يجري في ذلك الحين من جانب آخر من جهود جبارة للتنصير في كبريات الدول الإسلامية، مثل إندونيسيا وبنغلادش ونيجيريا، واشتعال الحروب المدمرة في عدد من الدول العربية والإسلامية وغيرها، في الخليج ولبنان وآسيا وأفريقيا، هذه الحروب الناتج عن اختلافات إقليمية وقومية ومذهبية وعرقية وسياسية، وهي تعبير عن تضارب مصالح وتفاقم تفاهم وفوضى سياسية ومخاوف أمنية، وليست بأي حال من الأحوال صراعات حضارية. كما لا يمكن أن يتجاهل من جانب ثالث ردود الفعل الغاضبة من العديد من دول وشعوب العالم للهيمنة الرأسمالية والعولمة التجارية التي عبر عنها المشاركون في مؤتمر (ديربان) في جنوب أفريقيا في شهر أغسطس عام 2001م، والذي ضم ما يزيد على ثلاثة آلاف منظمة حكومية و 150دولة، لكونها تمثل محاربة الظلم والسيطرة والاستبداد ولا ينتظم هذه المنظمات وهذه الدول غير هذه القيم لأنها تنتمي إلى شعوب وثقافات وحضارات مختلفة. نعم إنه صراع بين الهيمنة الرأسمالية ومن يعارضها بصرف النظر عن لونه أو عرقه أو جنسيته أو حضارته، إنها الهيمنة والاستعلاء القائمة على تدمير الآخرين.

 بعض ردود الفعل الأمريكية للأطروحتين

ولعل من المناسب الاستشهاد برأي فئة من الأمريكيين تعارض هذه التبريرات المتشنجة للهيمنة الرأسمالية والتمثيل لها بالسيدة هيلجا لاوش رئيسة مؤسسة تشيلر للنشاطات الثقافية والإنسانية في الولايات المتحدة الأمريكية فهذه الفئة تعارض استنتاجات هنتنقتون، فقد قالت السيدة لادش في محاضرة لها مطلع صيف عام (2002) بعنوان (حوار الثقافات وليس صدام الحضارات) متحدثة عن كتاب صراع الحضارات لهنتنقتون: إنه ليس مجرد نظرية أكاديمية بل إنه سيناريو فعلي لسياسة إنجلو سكسونية، وإن الفكرة الأساسية لكتاب عن صدام الحضارات تقوم على أن ليس هناك أساس مشترك بين الحضارات الكبرى في التاريخ، وأن لا شيء بينها مشترك ولذا فالحرب بينها حتمية. وأشادت بأهمية العودة إلى منهجية التفكير الذي يقوم على الوحدة قبل التنوع وتوافق الأضداد، وقالت: إن الحوار بين الثقافات كان دائماً سمة من سمات التاريخ الإنساني حيث التقت دائماً عقول العالم عبر القرون، كما أشارت إلى أن التاريخ الإنساني اليوم أصبح في قارب واحد. ولكي نواجه التهديد بصدام الحضارات ينبغي أن نعمل على إحياء كل الثقافات العظمى للتاريخ الإنساني ونلتقي مع أفكار أفلاطون وكونفوشيوس والفارابي والكندي وابن سينا ونيكولاس كوسا وتشيلر وغيرهم من العمالقة. ولعل هذا الإسهام من السيدة لاوش يمثل مستوى ردود الفعل لهاتين الأطروحتين من قبل فئة من المثقفين الأمريكيين، كما يمكن الاستشهاد على ذلك بعدم اتفاق الموقعين على البيان المسمى بيان المثقفين الأمريكيين (من أمريكا) عدم اتفاقهم على صياغة مشتركة لأمور مهمة تبرر استخدام (القتال) بدل الحوار، ومن ذلك التعبير في أكثر من مكان بـ(أن بعض الموقعين يرى) وتلك شواهد على اعتبار أن الحملة لحشد المثقفين قد تعثرت في بعض مراحلها أو تكامل عناصرها ومن أدلة ذلك أيضاً إن العالم المعاصر وإن كانت الهجمة الغربية الأوربية على العالم الإسلامي قد نجحت تحت ظل الدين وسميت بالحروب الصليبية بين القرن الحادي عشر والثالث عشر، لم يقبل من فخامة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش التعبير بالحرب الصليبية في إطار حرب الإرهاب، وهذا ما جعله يتراجع عن هذه الكلمة، وتتوقف جميع وسائل الإعلام الغربية المروجة للحملة عن تدوالها لعدم تقبل المجتمع العلماني الغربي للاستظلال بظل الصليب الذي حارب سيطرته منذ القرن التاسع عشر وعدم قبول الكنيسة لحملة تشن باسمها دون استشارتها.

كما يلاحظ أن رئيس الوزراء الإيطالي قد أبدى اعتذاره عن تهجمه على الدين الإسلامي والقيم الإسلامية لردود الفعل الغاضبة على تصريحه من قبل العالم الإسلامي شعوباً ودولاً ومنظمات.

 الحضارة جهد مشترك

يؤكد المؤرخون أن الحضارة عبر التاريخ جهد إنساني أسهمت فيه جميع الأجناس والأعراق والثقافات وأن اختلاف الحضارات إنما يعود إلى العوامل المتنوعة والظروف المتغيرة، كما يقول المؤرخ البريطاني توينبي 1889/1975م، ويؤكده عالم الأجناس الفرنسي كلود ليفي شتراوس الذي يقول: إن من العبث القول بالتفوق الثقافي لعرق على باقي الأعراق أو الدونية لعرق دون باقي الأعراق؛ ولذا فإن الحداثة ليست خاصية غربية، وليس تقدم الغرب الحالي نهاية التقدم أو نهاية التاريخ. ويرى المفكر الفرنسي روجيه جارودي أهمية حوار الحضارات من أجل وعي أكمل وفهم أشمل للتعاون والمقاييس البشرية، ويشير إلى أن التعالي الغربي على الحضارة الإسلامية هو الذي أفقد الحضارة الغربية الحديثة بعدها الإيماني. وكم هي معلومة سيرة تحول هذا المفكر من المسيحية والماركسية والإسلام وهو إذ يندب الحضارة الغربية فإنه في تفكيره لم يخرج من إطار محاولة تصحيحها، ولم يأبه بالحضارات الأخرى إلا بقدر ما تسهم به في إنقاذ الحضارة الغربية من التردي الذي تهوى إليه والذي أثر بصفة سلبية ومباشرة على الحضارات الأخرى، ممثلاً بفرض الغرب نموذجه على الآخرين حتى قادهم إلى ردود الفعل التي وصفها بالأصولية، حسب ما جاء في كتابه عن الأصوليات المعاصرة.

ويقول جارودي إن الغرب قد صادر المعرفة العالمية وأباح لنفسه تحديد موقع الآخرين وفقاً لتاريخه وغاياته وقيمه ثم ينادي بأهمية القضاء على هذا التصور التسلطي الغربي وضرورة الانخراط في حوار حضارات حقيقي مع الثقافات غير الغربية وهو يشير بذلك إلى الأصوات المرتفعة والمطالبة بضرورة مواجهة الحضارات الأخرى، خاصة الحضارات الإسلامية التي يجب كما يرى (بوزان) وهنتنقتون وأمثالهم مواجهتها والحيلولة دون التحالف معها أو حتى تحالفها مع الحضارات الهندية أو الصينية وتأليب العالم ضدها والعمل على مناهضتها وهو التعبير الناتج كما يقول (رولان بريتون)، عن تصور الأوربيين لمفهوم الحضارة والثقافة، فهو يقول: في ذروة العصر الذي كان الأوربيون يهيمنون فيه على العالم فكرياً وسياسياً، جرى تصور الحضارة أولاً بصيغة المفرد وصنف من خارجها بالمتوحشين، وتم تصنيف العالم على أساس شعوب بدائية وشعوب متحضرة.

ولعل مبعث هذا الانفراد هو القوة العسكرية والسياسية والصناعية التي يمتلكها الغرب، ولكن الحضارات لا تقوم على هذه القوى. لا شك أنه يمكن لهذا القوى أن تحمي الحضارة إن كان ثمة حضارة وقيم وأخلاق ومبادئ أما استعمال القوة للاحتفاظ بالقوة فشواهد التاريخ كتبت فشل ذلك، فقد تحطمت الحضارة الفرعونية والبابلية والرومانية قديماً كما فشلت ألمانيا والاتحاد السوفيتي حديثاً، وما تحتاجه القوة الكبرى في العالم اليوم هو البحث عن قيم وفلسفة للوجود وخدمة للإنسانية ولا فلسفة لتبرير تصرف وضعت خططه بهدف الهيمنة والسيطرة واختلاق أعداء أوهن من أن يهددوا مثل هذه القوة.

إن المجتمعات الإنسانية تتطلع اليوم إلى تجنيد جميع قواها وإمكاناتها المادية والبشرية إلى الحوار وجمع الكلمة والعيش المشترك وتطوير العلاقات الإنسانية والدولة على مستوى الأفراد والجماعات والدول والتجمعات الإقليمية والدولية ولعل هذه الرسالة من خير ما تتبناه وتقدم عليه المنظمات الخيرية والإنسانية والرسمية في جميع دول العالم من الولايات المتحدة الأمريكية حتى أصغر دولة في المجموعة الدولية. ذلك أن الحضارة جهد مشترك.

المصدر: http://www.humanitarianibh.net/conferences/obayd.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك