سقوط الغرب: سؤال الحضارة في الحرب العالمية الأولى

د.محمد عفيفي

 

لم تكن الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 مجرد صراع عسكري مسلح انتهى بهزيمة طرف، وانتصار الطرف الآخر، ولكنها في الحقيقة كانت تعبيراً عن متغيرات حادة في بنية الفكر الإنساني العالمي بشكلٍ عام، وانعكاس ذلك بطبيعة الحال على الفكر العربي، بحكم وقوع معظم أرجاء العالم العربي تحت الاحتلال الأوروبي سواء قبل أو بعد الحرب، هذا فضلاً عن التبعية الفكرية للعالم العربي للحضارة الغربية آنذاك.

إذاً طرحت الحرب العالمية العديد من الأسئلة الفكرية المهمة لأول مرة في التاريخ، ربما كان أولها تسمية الحرب نفسها بالحرب الكبرى أو الحرب العالمية، فلأول مرة في التاريخ يدخل العالم بأكمله في حرب كبرى شاملة تنتشر فعالياتها ومعاركها ونتائجها على قارات العالم أجمع، هذا فضلاً عن استمرارية الحرب إلى عدة سنوات.

وربما يعود ذلك إلى التطور التقني المهم الذي عرفته البشرية منذ الثورة الصناعية. إذ عرف الإنسان اختراع الموتور والطاقة البخارية، هذه الاكتشافات المهمة التي لعبت دوراً مهماً في طي الزمان وتقصير المسافات، وكانت بمثابة البدايات الأولى لما نسميه الآن (العولمة)، إذ لم تعد الحركة قاصرة على السفن الشراعية والاعتماد على قوة الرياح أو القوى العضلية، وإنما سخر الإنسان الطبيعة لخدمته باختراع القوة القاهرة (الموتور) المحرك. ثم كان اختراع السيارة وأيضاً الطائرة والغواصة من الأشياء المهمة التي جعلت أي حرب قادمة هي بحق حرب كبرى لا يعرف العالم إذا بدأت متى تنتهي.

كما طرحت الحرب أيضاً سؤالاً مهماً: هل الحرب صراع بين الديمقراطية والديكتاتورية كما روج لها من جانب الحلفاء؟ أم صراع من أجل بقاء الديمقراطية أمام زحف الديكتاتوريات القديمة المستبدة؟! إذ روجت أداة الدعاية الإنجليزية الفرنسية آنذاك أن الحرب ليست إلا محاولة من جانب الديكتاتورية المتمثلة في النظم التقليدية البالية التي تمثلها ألمانيا والنمسا والمجر وروسيا والدولة العثمانية، وهي جميعاً إمبراطوريات أقرب ما تكون إلى النظم السياسية في العصور الوسطى، في مواجهة صعود الديمقراطيات المتمثلة بشكل أساس في إنجلترا وفرنسا، ثم الولايات المتحدة بعد دخولها الحرب العالمية في عام 1917.

وتمت الدعاية بشدة إلى هذه النظرية في أكبر حملة دعائية عرفتها البشرية في تاريخها، وتم طرح السؤال الخطير: هل تنتصر الدكتاتورية على الديمقراطية وتسود العالم؟

كما تم إعطاء الحرب العالمية صبغة قومية أيضاً، إذ روجت آلة الدعاية الغربية لهذه الحرب على أنها حرب ضد القوميات، فهل تنتصر الإمبراطوريات التي تقهر القوميات وتكبت حركتها النشطة الصاعدة، أم تستطيع القوميات الصمود والبقاء على قيد الحياة والانتصار للمبدأ القومي.

وضرب مثال على ذلك بالدولة العثمانية التي تقهر القوميات التابعة لها، ألم يضطهد هؤلاء القوميون العرب ومذابح جمال باشا العثماني في بلاد الشام دليل على ذلك؟! كما ساعدت إنجلترا القومية العربية والشريف حسين على الوقوف في وجه الدولة العثمانية، ومن هنا كان الدور التاريخي للورانس العرب، هذا الرجل الذي قدمت السينما العالمية فيلماً شهيراً عنه. ألم تضطهد الدولة العثمانية أيضاً الأرمن؟ حيث تم إلقاء الأضواء على ما سمي بمذابح الأرمن. وتم الترويج لنفس المنطق فيما يخص القوميات الخاضعة لإمبراطورية النمسا والمجر في شرق أوروبا، وأيضاً القوميات الخاضعة للإمبراطورية الروسية في آسيا وأوروبا. وفي ضوء ذلك نستطيع تفهم الظروف الدعائية والتاريخية وراء التصريح الشهير للرئيس الأمريكي مع نهايات الحرب العالمية الأولى حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، كمحاولة من الغرب لإرساء قاعدة تفكيك الإمبراطوريات القديمة والانتصار للقوميات.

لكن الانتصار الكبير الذي حققه الحلفاء في عام 1918 كان يخفي في الحقيقة تحولات حضارية مهمة وخطيرة تصيب البنية الحضارية الأوروبية التي ازدهرت لقرون عديدة منذ عصر النهضة. فتحت أقواس النصر وأكاليل الغار كان البعض ينبه إلى أن هذا الانتصار هو في الحقيقة انتصار بطعم الهزيمة، وأن الحضارة الأوربية في خطر بل إلى أفول.

وفي تلك الآونة أصدر الفيلسوف الألماني شبنجلر كتابه المهم (سقوط الغرب) في عام 1918، هذا الكتاب الذي أصبح شاهداً مهماً على منحنى خطير في تاريخ الحضارة الأوربية. وترجم الكتاب إلى الإنجليزية بين عامي 1926 و1928. في هذا الكتاب يطرح شبنجلر بجرأة مصير الحضارة الأوربية على بساط البحث، متنبئاً بتحولات عميقة في مجريات هذه الحضارة. وبالفعل ستشهد الفترة التالية، فترة ما بين الحربين العالميتين متغيرات خطيرة في الفكر الأوروبي وانقسامات حادة في الفكر الأوروبي لا سيما مع ظهور اليسار الماركسي في الاتحاد السوفيتي، وانتشار الماركسية في أوروبا، وأيضًا اليمين الفاشي وصعوده في إيطاليا وألمانيا.

وانعكست أسئلة الحرب العالمية الأولى على عالمنا العربي مبكراً، واهتم رموز الفكر العربي بهذه الحرب والتطورات التي تجري في أوروبا، واهتزت لديهم صورة أوروبا بلد الحضارة العالمية آنذاك.

إذ أثار اندلاع الحرب العالمية الأولى جدلاً كبيراً في صفوف التيار الليبرالي العربي، هذا التيار الذي استقى فكره وثقافته من أوروبا، حيث وجد هذه القارة التي تربطه بها وشائج فكرية ونفسية تدفع نفسها دفعاً نحو حرب ضروس هائلة تلتهم الحضارة التي طالما تغنى بها هذا التيار، فكان عليه أن يقدم تفسيرات مقبولة لهذا الوضع الذي وصلت إليه أوروبا.

وعلى صفحات السفور، مجلة التيار الليبرالي في مصر آنذاك، دار نقاش حاد وطويل بين أهم رموز التيار الليبرالي في العالم العربي في محاولة لتفسير حالة الحرب التي تعيشها أوروبا، وتنعكس آثارها على العالم بأكمله. ومنذ عام 1915 دار الجدل بين المفكرين العرب حول ذلك الشأن.

وكان واضحاً لهؤلاء المفكرين أن عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى سيختلف كليةً عما قبله، وأن هذه الحرب بشير بعالم جديد وحضارة جديدة ستطبع صورتها على أوروبا. وهكذا اتفقوا على أن هذه الحرب: (قامت لإعلان إفلاس المبدأ القديم، وبشير بالمبدأ الجديد).

وكان على هذا التيار الفكري العربي الانتظار لسنوات حتى يدرك في سنوات الثلاثينيات وقبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، أن الحرب العالمية الأولى كما يصفها هيكل في عام 1932: (كشف تعاقب السنين من بعد الحرب العالمية الأولى عن الحقيقة المؤلمة المضنية، فقضية أوروبا التي حاربت في سبيلها أربع سنوات تباعاً والتي بذلت فيها مهج أبنائها، لم تكن إلا قضية الاستعمار ومن يكون لها حق التوسع فيه، دول الوسط أم الحلفاء؟).

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3662

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك