فقه الائتلاف: التصوُّف الجديد عند فتح الله كولن

فؤاد البنا

 

من المعلوم أن إحدى المعضلات الرئيسة التي تعاني منها أمة المسلمين هي الفرقة، وهي عند فتح الله كولن إحدى زوايا مثلث التخلف الحضاري الذي يضم أيضاً الجهل والفقر.

ولأن تيار الخدمة الذي أسسه كولن في تركيا نذر نفسه لمحاربة هذا الثالوث، فسنسلط الضوء في هذا البحث على دور كولن في محاربة الفرقة بطريقة إيجابية من خلال إشاعة فقه الائتلاف.

وسنركز كتابتنا على عنوانين اثنين، هما: أسس فقه الائتلاف، ووسائل تجسيد فقه الائتلاف:

أولاً: أسس فقه الائتلاف:

رغم أن كولن واعظ وداعية ولا سيما في الشطر الأول من حياته، إلا أنه مفكر وحركي، ولذا لم يكتف بإثارة العواطف وتحريك الوجدان من أجل بيان أخطار الفرقة بين مكونات المسلمين، وتوضيح أهمية الائتلاف؛ بل أقام هذا الائتلاف على عدد من الأسس التي تجمع بين الفكر والوجدان، بين العلم والعرفان، ويمكن تلخيص هذه الأسس في خمس نقاط:

1- الإيمان الجامع بين العلم والإخلاص:

من المؤكد أن الإيمان هو خلاصة التفاعل الإيجابي بين العلم الدقيق والإخلاص الوثيق، لكن عهود التخلف والانحطاط التي مر بها المسلمون شوهت مفهوم الإيمان فجعلته أعورَ، حتى بدا كأنه إخلاص بلا علم، وتوكُّلٌ بلا أسباب، بل بدا عند آخرين كأنه اسم بلا مسمى، وأمانٍ بلا ظل من الحقيقة أو تأييد من الواقع. ولذلك اهتم كولن بإحياء مفهوم الإيمان بجناحي العلم والإخلاص، حيث دمج -بتوازن دقيق- بين العقل والروح، ولأن الله يوفق دعاته منذ الصغر، فقد نشأ كولن على هذا التوازن، حيث حرص منذ طفولته على الموازنة في حضوره ومناشطه بين مجالس العلم (العقل) ومجالس الذكر (الروح)، رغم ما كان بينهما من عداوة!

ولأن القرآن هو المصدر الأول لهذا الدين، فإن معانقته وفق منهجه هو السبيل للحصول على العلم والإخلاص، عبر التدبر والخشوع، وهذا ما فعله كولن، حيث كان دائم المدارسة للقرآن، دائب التدبر لآياته.

ولهذا أوصى تلاميذه ومحبيه بأن يقرؤوا القرآن بهذه الطريقة، حيث قال: "على الفرد أن يقول لنفسه: صحيح أنني لستُ بنبي، ولكني أشعر أن آيات القرآن البالغة ستة آلاف ونيفا وكأنها قد نزلت عليَّ"(1).

ولأن العلم شطر الإيمان (بجانب الإخلاص)، وشطر عمارة الحياة (بجانب العمل)، فقد حث كولن أتباعه على طلب العلم، وذلك في كل كُتُبِهِ ومقالاته ودروسه ومواعظه ومناشطه المختلفة(2)، هذا العلم الذي يصير قنديلاً لاكتشاف مجاهل النفس البشرية، واكتشاف دروب الحياة، حتى لا يقع الإنسان في مهاوي النفس الأمارة بالسوء أو يسقط في حُفَر الحياة، سواء على يمين الصراط أو يساره.

ولهذا حث كولن على استغلال كل إنسان لعمله واستعماله كمنشور في تحليل الحوادث والأشياء، مع توجيه " علمه لإضاءة وإنارة المناطق المظلمة والطيران بعلمه ومعرفته للوصول إلى الحقائق الموجودة فيما وراء الطبيعة، فقدره وقيمته بقيمة علو طيرانه"(3).

والعلم عند كولن ليس مجرد معارف يتم تكديسها في العقل؛ بل هو منهج متكامل لقراءة (آيات الأنفس) و(آيات الآفاق) في ضوء (آيات القرآن) وحقائق العلم، والعلم الذي يتم تحصيله وفق هذا المنهج يثمر خشية الله، كما قال تعالى: ﴿إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ﴾ [فاطر: 28] ولهذا ربط العلماء القدامى العلم بالخشية كما قال الإمام سفيان الثوري: إنما العلم الخشية.

وقد رأى كولن في هذا السياق أن تقوى الله حَقَّ تقاته تتناسب طردياً مع معرفة الله تعالى، "لذا يمكن القول بأن جميع المعارف التي لا تساعدنا على زيادة هذه المعرفة ليست إلا معرفة ظاهرية وعبارة عن قيل وقال"(4).

وحث على الانتقاء في طلب العلم، والتركيز على ما يجعل الإيمان ينتفض، ويجعل أصحابه يشاهدون تجليات أسماء الله وصفاته، وهو المالك الحقيق للأشياء وصاحبُها، والمؤثرُ الحقيقي فيها، "وأن نقضي الأيام الباقية من حياتنا في دائرة رضا الله تعالى، وفي ضوء هذا النور المتولد من عملية التفكير والتأمل هذه"(5).

إن العلم هو الطريق إلى الفاعلية، ولكنه ليس العلم المجرد من الإخلاص؛ بل العلم الذي يشترك القلب في تحصيله ويتحول إلى معرفة، بعد أن تقوم البصيرة بضم هذه العلوم الجزئية المبعثرة وربطها في اتجاه واحد هو الله، من أجل إرضائه بالتزام منهجه واستثمار سننه في العبودية له في محراب الحياة.

"إن الانتساب إلى الحق، والنظر إلى كل شيء بنور الله ومعرفته، يحول حقيقة الإنسان -الذي كان قطرة من ماء مهين- إلى بحر، ويحول معرفة الإنسان من ذرة إلى شمس، ويحول قلب الإنسان -الذي هو شيء لا يذكر- إلى نبض للكون"(6). ولذلك قال تعالى: ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ [الزمر: 9].

وما برح كولن ينوه بفضل العلم والإخلاص في الارتقاء بالعلوم والأعمال إلى سماوات القبول والتأثير والفاعلية، فإن "الذرة الواحدة منها تعادل الشمس، والقطرة الواحدة منها تعادل البحار، واللحظة الواحدة منها بقيمة الأبد"(7)، وبالنية الصالحة حصل أهل الكهف على أجور عبادة ثلاثمائة وتسع سنوات رغم أنهم كانوا نائمين (8).

ويحذر من أن القلب سلاح ذو حدين، فهو جسر إما إلى الخيرات وإما إلى نزغات الشيطان، بحسب صلته بالله(9). ولهذا أكد مراراً وتكراراً على أهمية الإخلاص وضرورته، مشبهاً له بجناح الطائر في الارتفاع بالأعمال، لافتاً الأنظار إلى بركة الإخلاص ودوره في مراكمة الأجور، حيث يقول مثلاً: "والإخلاص وثيقة اعتماد يمنحها الله القلوب الطاهرة، فهي وثيقة سحرية تجعل القليل كثيراً، والضحل عميقاً، والعبادات والطاعات المحدودة غير محدودة؛ حتى يستطيع الإنسان بواسطتها أن يطلب أغلى ما في سوق الدنيا والآخرة"(10).

وبسبب الانفصام الذي حدث عند مجاميع من المسلمين بين العقل والقلب، فإن كولن ما فتئ يؤكد على ضرورة الجمع الدقيق بينهما، حتى لا يكون هذا الانفصام أحد منابع التمزق وحلول الغثائية والوهن، كما هو حاصل الآن، يقول كولن: "العقل منبع مهم للعمر، أما البصيرة فمنبع مهم للمعرفة أو العرفان. فالذي يملك عقلاً ولا يملك بصيرة قد يعرف أشياء كثيرة ويفهم أشياء كثيرة إلا أنه لا يستطيع أن يصل بمعلوماته إلى شيء"(11).

ولأهمية تجسير العلاقة بين العقل والقلب، من أجل تجفيف منابع الكثير من الصراعات، يقول كولن: "لقد قاست الإنسانية منذ ظهورها حتى الآن من صخب النزاع بين العقل والقلب. ولو فشلنا في إقامة جسر بين العقل والقلب، ولقاء بينهما، وتأمين التناغم والتلاؤم بينهما، فإن هذا النزاع والخصام سيستمر"(12).

من أجل ذلك كثف كولن دعوته إلى التمازج المتناسب والتلازم المتوازن بين العقل والقلب في مئات المواضع من كتبه ومقالاته (13). ويمكن تلخيص طبيعة هذه المزاوجة بأوجز عبارة قالها كولن، وهي: "إذا كان العقل هو قسم البياض من العين، فالحكمة هي القسم الأسود منها"(14)، والحكمة هنا يقصد بها العرفان الذي هو ثمرة البصيرة المنغرسة في القلب المتسم بالإخلاص.

ويزيد كولن من تجفيف منابع الفرقة في عقل الإنسان وقلبه، بحسن قراءته للقرآن، وحسن نظرته الشمولية إليه، فهو: "مجموعة القوانين الإلهية النازلة من لدن الخبير المتعال والمشرقة على عالم بني الإنسان، والتي تتناول الإنسان في جميع جوانبه، من قلبه وروحه وعقله وجسمه"(15).

وبالعلم النقي أوجد كولن في تلاميذه (الإدارة)، وبالإخلاص التقي أوجد (الإرادة)، واستطاع بمداد العلم ودموع الإخلاص إيجاد الأرقام الصحيحة، ونجح في حرث الأراضي الخصبة لاستزراع ثقافة الأخوة بدوائرها الأربع -كما سيأتي في الفقرة القادمة- ومن ثم قام بتجفيف أحد منابع الفرقة والتمزق، وتحويله إلى منبع من منابع الأخوة والائتلاف.

2- الأخوة بدوائرها الأربع:

اشتهر كولن بدعوته للأخوة والتسامح، ومن خلال جمع مقولاته وممارساته ذات الصلة بهذا الموضوع اتضح لي أن للأخوة عنده أربع دوائر، تبدأ من الأضيق لتنتهي بالأوسع:

الدائرة الأولى: الأخوة الوطنية:

وهي الدائرة التي تضم ما يعرف اليوم بجمهورية تركيا، حيث يبني على المواطنة حقوق الأخوة، من تناصر وتعاون في كافة الشؤون المادية والمعنوية؛ إذ الأقربون أولى بالمعروف.

وفي كتابه (ونحن نقيم صرح الروح) - والذي أراه أقرب إلى النظام العام لتيار الخدمة - وجه كولن تلاميذه إلى ضرورة "أن نجعل وطننا وإنساننا مقصودنا، ونجهد في تغيير مصيرنا المعكوس، ونحيي أجسادنا بالروح المتشكل من عجين مجتمعنا، ونفتح صفحة تاريخية نقية وجديرة لشعبنا، هي شيء من الأسس لحضارة تفوق المدن الفاضلة ورؤيا التجدد"(16).

وبالفعل فإن أبناء الخدمة اليوم يمثلون أحد الجسور التي انتصبت أمام بلادهم لتساعدها على العبور إلى المستقبل، ويتحدث كولن عن شيء من هذا الدور، فيقول: "هذا الوطن، وهذه الأرض التي رويت منذ زمان بدماء ملايين النفوس المضحية، تعيش اليوم مع كثير من أبنائها الأوفياء حماس العبور من الماضي إلى الآتي... طافحين بالرجاء والأمل، وممسوسين بقشعريرة حمى الارتقاء بشعبهم. فترى إحدى يديهم ورجليهم منشغلة بالعمل اليومي، وأخراها منشغلة في تجهيز الخطط والبرامج للمستقبل، بل تجدهم قد وهبوا أحاسيسهم ومشاعرهم لإمرة فكرهم ودعواهم"(17)، وهو في هذا السياق ما فتئ يُذكِّر الأتراك بتاريخهم الإسلامي المجيد، من أجل تحلية الوطنية بمضمونها الإسلامي المنفتح، لا الطوراني المنغلق (18).

وهو كثير الاحتفاء برموز تركيا العثمانية، حيث يجهد لإعطائها الصبغة الإسلامية، مثل بشارة الرسول بفتح إسطنبول، وتحولها إلى قاعدة للمد الإسلامي في نواحٍ كثيرة من العالم، ولا سيما في شرق أوربا (19). أما ما يقدمه تيار الخدمة لبلاده من خدمات فهي أفضل تجسيد للوطنية في أسمى معانيها.

الدائرة الثانية: الأخوة القومية:

من المعلوم أن الأتراك لا يسكنون فقط تركيا، بل إن معظم المناطق الممتدة ما بين جنوب شرق الصين حتى تركيا تنتمي تاريخيا وعرقيا إلى القومية التركية، ولذلك فإن تيار الخدمة بفضل توجيهات كولن يتمدد في هذه المناطق بقوة ليقدم خدماته إليها، باعتبار أن لهؤلاء حقوق الأخوة القومية والدينية والإنسانية، بجانب حقوق المجاورة.

ومثلما فعل كولن في الدائرة الأولى، فإنه لا ينفك عن تذكير الأتراك جميعهم أنهم ما عرفوا الحياة العزيزة إلا بالإسلام (20)، ويذكرهم بأمجاد العثمانيين، والأدوار الكبرى التي قاموا بها في الذود عن الإسلام وحماية المسلمين، وفي ذات السياق فإنه يشيد بأدوار وبطولات العثمانيين، ويدافع عنهم باستماتة(21)، ويدافع عن رموزهم كالسلطان عبدالحميد الذي تعرض لحملة شعواء لتشويهه حتى لُقب بـ(السلطان الأحمر) من قبل الفرنسيين، ليجد هذا اللقب قبولاً عند غلاة التحلل من الأصول من الأتراك، لكن كولن يقاوم هذا الاتجاه بقوة، ويرفض تلقيب السلطان عبدالحميد بهذا اللقب، ويلفت الأنظار إلى أدواره البطولية وصفحاته البيضاء(22).

ويبرز حماس كولن في الدفاع عن العصر العثماني أكثر في الدفاع عن المدارس الدينية والزوايا والتكايا، رافضاً الاتهامات لها بأنها لعبت دوراً في سقوط الدولة العثمانية؛ بل يرى أن العكس هو الصحيح(23). وقد برز الدور العملي لتيار الخدمة في هذه الدائرة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي واستقلال الجمهوريات الإسلامية الست في وسط آسيا، وهذا الدور الإيجابي ناشط ولا سيما في المجالين التربوي والاجتماعي.

الدائرة الثالثة: الأخوة الإسلامية:

المسلمون اليوم أكثر من خُمس سكان العالم، ويسكنون حوالي ربع مساحة اليابسة، ورغم انتمائهم إلى أعراق وألوان وألسنة مختلفة، ورغم توزعهم بين طوائف ومذاهب وفرق ومشارب متنوعة إلا أن عنوان الإسلام ومسمى الإيمان يجمعهم، كما قال تعالى: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ [الحجرات: 10].

هذه الرؤية الإسلامية هي التي يحاول كولن - مثل كثير من المفكرين والدعاة المسلمين - إعادتها إلى الواجهة بعد أن نسيتها مجاميع كثيرة من المسلمين، مفضلة الانتماء إلى دوائر عرقية أو جغرافية أو تاريخية أو طائفية أو مذهبية ضيقة.

ولهذا فإن كولن ومعه تيار الخدمة يؤمنون بضرورة تجديد العالم الإسلامي، حيث يقول كولن مثلاً: "لذلك نؤمن بضرورة توجيه العالم الإسلامي جميعاً إلى التجدد بكل أجزائه في فهم الإيمان، وتلقيات الإسلام، وممارسة الإحسان، وإثارة العشق والشوق، وتحكيم المنطق، وتعديل طرق التفكير، وأسلوب التعبير عن الذات، بمؤسساته ونظمه التي تكسبه هذه الأحوال"(24).

ويؤكد على هذا المعنى فيقول: "إن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى "انبعاث جديد" وإصلاح جاد في ملكاته العقلية والروحية والفكرية، وبتعبير أكثر حيوية، إلى "إحياء"... يستجيب لمتطلبات جميع أصناف البشر ويحتضن الحياة كلها، في كل زمان ومكان، بقدر السعة والعالمية التي تتسع لها مرونة النصوص، مع السعي الجاد للحفاظ على أصول الدين"(25).

وفي سبيل إيقاظ الحس الجمعي للأمة وتذكير المسلمين بأخوتهم الإسلامية، يبدأ كولن بإعادة هذه الحقيقة إلى الواجهة في التدين الإسلامي، من خلال إحياء الشعائر الدينية وإقامتها كالصلاة، وليس مجرد أدائها، مما يزرع في قلب المتدين روح الشعور بالانتماء إلى جماعة المسلمين(26).

ويدعو كولن كعادته إلى الموازنة بين العقل والقلب، في سياق حثه على ضرورة تحقيق الوحدة الإسلامية(27)؛ لأن هذا التوازن هو أحد أهم أسس الوحدة، ومن دونه لن تتحقق الوحدة الفعلية، حتى لو اجتمع المسلمون تحت راية دولة واحدة.

ويحذر المسلمين من الوقوع في مصائد الأعداء، ويحث على إيجاد صيغة اتحاد عصرية تحافظ على مضمون الوحدة مع الإبقاء على الوطنيات كجزء من الواقع، وذلك كالاتحاد الإنكلوسكسوني والغال(28).

وهو في هذا الاقتراح يسعى للموازنة بين الوحدة والحرية في حدهما الأدنى على الأقل، ولهذا يقول: "أعلى الأمم قدراً هي الأمة التي تسيِّر أمورها في ظل الوحدة والتآلف، والتي تعطي أهمية لرأي شعبها. وهذا يتعلق بقيام أفراد هذه الأمة بتلقي التربية نفسها في الدين واللغة والتاريخ"(29). وهذا يطمئن الوطنيين غير الأتراك من أن تيار الخدمة ليست له أي طموحات في إعادة الحكم العثماني إلى بلدانهم.

الدائرة الرابعة: الأخوة الإنسانية:

ورد في القرآن الكريم نسبة كل نبي إلى قومه المرسل إليهم بلفظ "أخوهم"، رغم أنهم كفار، وهي الأخوة الإنسانية التي لا ينكرها القرآن ومن هنا نَهَلَ كولن رؤيته الكونية بأبعادها الانسانية.

فهو يجعل على المسلم رسالة نحو البشرية جمعاء من أجل إقامة ما يسميه بـ(التوازن الدولي)؛ أي عدم طغيان أحد على أحد، ولهذا فإن قراءته لآيات الجهاد في القرآن الكريم أوصلته إلى تأليف كتاب خاص تحت عنوان (روح الجهاد وحقيقته في الإسلام) أكد فيه أن من أهم وظائفه -الجهاد- صد عملية الإكراه وفتن الناس عن أديانهم وقناعاتهم(30).

وفي سياق قراءته لقوله تعالى: ﴿لا إكراه في الدين﴾ [البقرة: 256] انحاز إلى ظاهر الآية التي تدل على حرمة الإكراه لأي شخص كان من أجل اعتناق الإسلام (31)، ومن ثم ليس مع من يدَّعون نسخ هذه الآية أو يؤولونها، كبقية آيات الحرية والاختيار.

وفي معرض تدبره لبعض الآيات المتحدثة عن ذي القرنين، وهو الملك الصالح الوارد ذكره في سورة الكهف، أوضح كولن أن هذا الملك نموذج للمسلم الذي يستخدم كل إمكانياته الكبيرة حتى مداها الأخير - من أجل تحقيق الرضا الإلهي، وفي سبيل تحقيق التوازن في الأرض(32). بمعنى أن قوامة المسلمين على الناس هي تكليف أكثر من كونها تشريفاً.

وهكذا، فإن كولن يزيل الانفصام الذي أبداه أصحاب التدين المنقوص بين الدائرة الإسلامية، وكل من الدوائر الوطنية والقومية والإنسانية، وبالتالي أوجد بُعْداً آخر من أبعاد فقه الائتلاف، وبنى له أساساً آخر، وهو في ذلك يتفق مع المفكرين والدعاة الوسطيين، كالإمام حسن البنا الذي وضع الدائرة المصرية (الوطن) أولاً، ثم العربية (القومية)، ثم الإسلامية، ثم الإنسانية.

3- الإيجابية الفاعلة:

هذا هو الأساس الثالث من أسس فقه الائتلاف عند فتح الله كولن، حيث عمد إلى إيجاد الشخصية الإيجابية الفاعلة، بحيث يكون المرء شخصية لا فرداً، والشخصيَّة هي التي تمتلك إمكانات الائتلاف مع غيرها، وتحولها إلى لبنة في صرح المجتمع الذي تعيش بين ظهرانيه، بينما الفرد يميل إلى السلبية والذاتية والأنانية، ومن ثم يصير شوكة في خاصرة المجتمع، وغصة في حلقه، ومعول هدم في صرحه.

الشخصية المؤتلفة هي التي تحمل روح الجماعة في عقلها وقلبها، حيث تجتمع أبعادها الفكرية والروحية حول مقاصد هذا الدين، ومن ثم تكون أبعد ما تكون عن الأنانية الفردية. ولهذا حذر كولن مراراً وبأساليب مختلفة من كل أشكال المنافع الشخصية، وحث على ضرورة الإخلاص وعدَه السبيل إلى الأبدية والسعادة الأخروية(33).

ولوضوح هذا الأمر في فلسفة كولن، ولبروز البعد الجماعي في شخصيته، فإنه في تفريقه بين الفلسفة والنبوة، يجعل أحد أهم الفروق بينهما، أنَّ الفلسفة أنانية فردية، بينما النبوة اجتماعية متساندة ومتعاونة(34).

والإيجابية لا يمكن أن تكون إلا ثمرة الفكر الراقي الذي يورث صاحبه الشعور المرهف بالمسؤولية، يقول كولن: "يقولون فلان حساس إلى درجة يتأثر حتى من رطوبة الجو أفدي مثل هذا الشخص بنفسي... إذ ماذا نقول لمن لا يبتل حتى وهو تحت المطر؟!"(35).

ولهذا فقد ركز على إيجاد الفرد الإيجابي الذي يصير رقماً صحيحاً فاعلاً، ولبنة مناسبة في جدار المجتمع، وكما قال أحد الباحثين (36) بصدق: "إن فتح الله كولن لم يتناول الإنسان كموضوع للنقاش على المستوى الثقافي، بل حوّل هذا الموضوع إلى مشروع جدي في الحياة العملية".

4- الاعتراف بالآخر وحقه في التميز والاختلاف:

لما كانت الصراعات تأتي في الغالب نتيجة ادعاء كل طرف امتلاكه الحقيقة المطلقة، ومن ثم تكفير وتسفيه الآخر، فإن كولن يعترف ويحث أتباعه على الاعتراف بالآخر، وعلى أن من حقه أن يعيش بكرامة، ويتمتع بحقوقه بحرية تامة في ضوء النظام العام للمجتمع، ويستوي في ذلك أن يكون هذا الآخر دينياً أو طائفياً أو مذهبياً أو غير ذلك.

ولهذا فإن حركة فتح الله كولن منفتحة على المجتمع التركي بكل مشاربه وأطيافه، "فهي -قبل كل شيء- لا تهدف إلى أي انفصام نفسي أو اجتماعي عن المجتمع وإلى الإسهام فيه، وتدعو إلى الأخوة الأبدية. ولا تتصرف تجاه العلاقات الاجتماعية بشكل انتقائي مثلما تتصرف الحركات الأيدولوجية، بل تخاطب كل الكتل الجماهيرية وتخاطب كل عائلة وكل فرد. ولا تسعى إلى تطوير أية حركات انعزالية في الشارع أو في السوق أو في النوادي أو الجمعيات... إلخ. وتعارض أي حركة اجتماعية انعزالية تصادم روح الحياة الاجتماعية"(37).

وينطلق كولن من مبدأ أن الله أمرنا أن نغير أنفسنا لا أن نغير الآخرين، وأننا عندما نغير أنفسنا ونكون في مستوى الإسلام فإن سلوكياتنا ستكون أفضل دعوة إلى الإسلام، ولا بأس بعد ذلك أن نقوم بمهمة البلاغ بالحسنى دون إكراه كما أسلفنا.

لكنه في معرض حديثه عن بعض علل التدين عند أهل الكتاب، يحذر أشد الحذر من الوقوع فيما يمكن تسميته بالتطفيف والتفلت من معايير الموضوعية؛ إذ من الحرام أن يكيل المسلم بمكيالين، فيستوفي لنفسه ويأخذ من حق الآخرين، بل ما يرضاه لنفسه هو ما يرضاه للآخرين، والعكس صحيح(38).

وما فتئ يدعو إلى نبذ الأنانية، والاعتراف بوجود الآخر، وطبيعة الاختلاف في التفكير - على المستوى الإسلامي - مع ملاحظة التفريق بين الثوابت والمتغيرات، والثوابت عنده هي "القواعد والأركان والأصول الأساسية"(39)، فهي وحدها التي ينبغي أن تكون محل اتفاق جميع المسلمين، أما غيرها فإن الاختلاف فيها سائغ ومشروع.

ومن خلال استقراء الباحث لمواضع وموضوعات الاختلاف بين مذاهب وتيارات المسلمين، وجد أن أهم سبب لذلك هو خلط كثيرين بين الثوابت والمتغيرات، وإحدى إسهامات فتح الله كولن في إقامة فقه الائتلاف، تأتي بسبب وعيه بخارطة الثوابت والمتغيرات، ولذلك يقول في هذا الشأن: "لما كانت الدعوة واحدة، والحق بجانبها، والأهداف والمبادئ الأساسية واحدة، فإن الاختلاف في الوسائل والطرق يجب ألا يكون سبباً للخلاف والفرقة، ويجب أن يكون الوعي من الرسوخ والثبات بحيث لا يعطي مجالاً لهذا الخلاف. وإلا فإن ظهور بوادر الخلاف والفرقة بمعاذير واهية يعد مزاجاً صبيانياً ودليلاً على عدم وجود المروءة والإحساس بالحق والسعي من أجله. والحقيقة أن الطرق المؤدية إلى الله تعالى متعددة بتعدد الأنفس والأمزجة بشرط بقائها ضمن دائرة أهل السنة والجماعة، ويجب أن يُحترم كل طريق من هذه الطرق، وتؤيد كل خدمة مقدمة"(40).

ومهما يكن النضوج الفكري، فإن الأمر بحاجة -أيضًا- إلى أخلاق، ولا سيما في هذا السياق، وأهمها التخلي عن الأنانية والتعصب والتحلي بالمرونة والتسامح، حتى يظل التعدد في دائرة (التكامل) لا (التآكل) وفي ساحة (التعاون) لا (التباين).

"ويرى فتح الله كولن أن الإنسان الفاضل هو الإنسان المتسامح اللين الجانب. وهو الإنسان المضحي والمخلص في سبيل المجتمع والإنسانية.. لذا فلا يرى أي شرعية في استعمال أي نوع من أنواع العنف في هذا الشأن، وهذا الأسلوب يقدم نموذجاً إسلامياً متوافقاً مع القواعد الإسلامية من جهة، ومع قيم العالم الحديث من جهة أخرى"(41).

وهكذا، أوجد كولن أساساً آخر من أسس فقه الائتلاف؛ لأن الذي يعترف بالآخر، ويرى أن من حقه أن يفكر بما يريد وأن يقول ما يراه صواباً، وأن يفعل ما يتفق مع قناعاته الفكرية، فإنه لا يمكن أن يدخل معه في صراع، لا على مستوى (الكلام) ولا على مستوى (الفعل)، وبهذا تقترب الأمة خطوة أخرى من (الائتلاف) بعيداً عن (الاختلاف).

5- الدوران حول المقاصد وتجفيف منابع الاختلاف الأخرى:

الناظر في خلافات المسلمين الداخلية، يجد أن أحد أسبابها الخوض في التفاصيل والجزئيات، والدوران حول نصوص وقضايا جزئية، وإهمال المقاصد العامة التي جاء الإسلام من أجل تحقيقها، ولذا فإن كولن يجعل الدوران حول مقاصد الشريعة أساساً من الأسس التي يقوم عليها فقه الائتلاف.

ويبدأ الأمر بقراءة أسباب الفرقة في تاريخنا الإسلامي، فيجد أن غياب الرؤية الكلية والتصور الشامل هو السبب الرئيس؛ إذ يقول: "لقد غابت عن واقعنا منذ قرون منظومة فكرية ذاتية، وفلسفة حياة ذاتية، تعتمد على الحركيات الإسلامية التي تشكل جذور المعنى لثقافتنا (الملية) فتشتتنا شَذَر مَذَر، نحن وعالم كبير مرتبط بنا"(42).

ولهذا فإنه يدعو إلى إيجاد هذه الرؤية الكلية المعاصرة بعيداً عن الفلسفات الأجنبية، ويحث على تفعيل فقه مقاصد الشريعة الإسلامية في هذا السبيل.

ثانياً: وسائل تجسيد فقه الائتلاف:

لم يكتف فتح الله كولن بأسس فقه الائتلاف، فقد جعل الشطر الآخر من هذا الفقه هو الوسائل الكفيلة بتنزيل وتجسيد تلك الأسس في الواقع العملي، وأهم هذه الوسائل:

1- التحلي بآداب الحوار والخلاف:

لقن الله رسوله محمداً -في حواره وتعامله مع المشركين- أن يقول لهم: ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين. قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون﴾ [سبأ: 24، 25] ففي الآية الأولى لم يدَّعِ أن المؤمنين على الهدى والمشركين على الضلال المبين، بل كل طرف يمكن أن يكون على الحق أو على الضلال، حتى يستمر الحوار، ثم نلاحظ في الآية الأخرى أنه نسب الإجرام إلى المسلمين (أجرمنا)، بينما أطلق على سلوكيات المشركين أعمالاً ﴿ولا نسأل عما تعملون﴾. ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين﴾ [القصص: 85].

من هذه الأرضية جاء فتح الله كولن؛ إذ بسبب تدبره الراقي للقرآن حاول استيعاب حقائقه وقيمه وتنزيلها على الواقع، والبداية في هذا الشأن بإجادة استخدام اللغة وحسن توظيف الكلمة، بحيث تحقق الهدف دون استفزاز ودون زيادة أو نقصان.

"والكلمة أهم واسطة لانتقال الأفكار من ذهن إلى آخر، ومن قلب إلى آخر. والذين يحسنون استعمال هذه الواسطة من أرباب الفكر يستطيعون جمع أنصار عديدين للأفكار التي يريدون إيداعها في القلوب وفي الأرواح، فيصلون بأفكارهم إلى الخلود. أما الذين لا يحسنون هذا ولا يستطيعونه فإنهم يقضون أعمارهم في معاناة فكرية، ثم يرحلون عن هذه الدنيا دون أن يتركوا أثراً فيها"(43).

ويمكن القول باطمئنان: إن أهم أداة لتدريب الشباب على الحوار وآداب الخلاف هي التربية ولا سيما في المدارس، وهذا ما اهتم به فتح الله كولن وتلاميذه في تيار الخدمة.

التربية هي التي تصنع الأجيال المنشودة للنهوض الإسلامي؛ لأنها تستطيع اجتثاث الزوائد الموجودة في تكوين الفرد، والناتجة عن طبائع الفجور: ﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾ [الشمس: 8]، وشوائب النفس الأمّارة بالسوء، ومن ثم يمكن تحصين هذا الفرد ضد ثقافة التعصب والانغلاق، مع تحليته بآداب الحوار وأخلاق الخلاف.

ويبين كولن خطورة التربية والمدارس بصورة عامة، فيقول: "عند افتتاح المدارس كل عام لا نملك أنفسنا من التفكير في المدرسة وفي المعلم. كيف لا والمدرسة مختبر حيوي، والدروس إكسير الحياة، والمعلم هو بطل هذه المؤسسة التي توزع الشفاء والصحة".

"تقوم المدرسة بإرسال حُزم أضواء العرفان على الحوادث فتنيرها وتجلو غوامضها، وتهيِّء لطلابها إمكانية معرفة ما يحيط بهم، وتفتح بسرعة سبل اكتشاف ماهية الأحداث والأشياء، وتهدي فكر الإنسان إلى الواحد الأحد في معظم الأحيان، فالمدرسة بهذا المعنى مَعبد، والمعلمون فيها هم أولياء هذا المعبد وحواريوه"(44).

وظل كولن في تربيته لتلاميذه يحليهم بآداب التعامل مع الآخرين، ومن ذلك التسامح والبحث عن الأعذار، وعندما تكون المعصية من الكبائر المعلومة في الإسلام، فإن كولن يُعلم تلاميذه الامتعاض من الأفعال لا من الأشخاص(45)، وهو بهذا يقتدي بالأنبياء والدعاة والمجددين والمصلحين الذين كان هذا ديدنهم(46)، مثل لوط الذي سجل الله تعالى قوله لقومه المجرمين: ﴿إني لعملكم من القالين﴾ [الشعراء: 168]، ومثل محمد فقد قال له تعالى موجهاً وملقنا: ﴿فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون﴾ [الشعراء: 216]. فالبراءة إذاً تكون من الأعمال لا من الأشخاص.

ويدعو كولن المؤمنين عامة وأهل الخدمة خاصة إلى التعامل الإنساني والأخلاقي مع المخالفين ومن أساء إليهم، حيث يقول: "لا يظهر كمال الإنسان ونضوجه إلا عندما لا ينحرف عن طريق الحق، حتى بالنسبة للأشخاص الذين أساؤوا إليه، بل لا يتردد في إسداء الخير إليهم. أجل إن على الإنسان ألا ينحرف عن الإنصاف وعن المروءة حتى تجاه من رأى منه الإساءة والشر؛ ذلك لأن القيام بالإساءة تصرف حيواني، ومقابلة الإساءة بالإساءة نقص خطير في الإنسان. أما مقابلة الإساءة بالإحسان، ومقابلة الشر بالخير فعلامة من علامات السمو والشهامة"(47).

وركز في هذا السياق على غمس تلاميذه بأخلاق الإسلام، وركز في التخلية على خلق الأنانية والأثرة، وفي التحلية على خلق الخدمة والإيثار (48).

2- الامتناع عن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة:

إنَّ زعْم كثير من الشخصيات والجماعات امتلاكها للحقيقة المطلقة هو سبب تسفيهها للآخرين، ومن ثم الوصول إلى حالة من الصراع والصراع الآخر، وبروز ظواهر التشرذم والانقسام، سواء أكان هذا الادعاء بلسان المقال أم بلسان الحال.

ولهذا، فقد ظل كولن ينتقد هذه الظاهرة، ويحذر من الوقوع فيها، ويبين الحلول لها والمخارج منها. ولاتباعه منهج التلطف في كل شيء، فإنه حتى في هذه الحالة يبين أن الإنسان بروحه وعقله قادر على أن يدرك الحقيقة بفطرته "؛ ولكن العوائق من أمثال الكبرياء وتجاوز الحد والخطأ في زاوية النظر تمنع رؤية الهدف بشكل واضح. وحتى لو بلغ الإنسان ذروة العلم فلن يستطيع الخلاص من القرارت الخاطئة ما لم يستطع الخلاص من هذه العوائق"(49).

ويشرح هذه الظاهرة من كل جوانبها، وهو يرى أن "الاحتكار الفكري وادعاء صاحبه بأن الحق دائماً معه ليس إلا تعبيراً عن عبادة الوسيلة وإشارة إلى غياب الهدف. وإلا فكيف يمكن تفسير مشاعر الحقد والنفور والكراهية عند بعضهم نحو أناس يشاركونهم بالعقيدة والمشاعر والمبادئ نفسها؟ أليس هذا دليلاً على عدم وجود هدف؟ آه من هؤلاء المساكين عبيد أنفسهم الذين يطمحون إلى إدارة العالم حسب أفكارهم العرجاء"(50).

وقد اعتبر هذا الأمر من الوسائل؛ لأنه كان يدرب تلاميذه على إدراك النسبية وعدم وجود الخير المحض والشر الخالص، أو عدم وجود الصواب الكامل والخطأ التام، وكان يلفت أنظارهم إلى هذه الحقيقة في ثنايا موضوعات كثيرة، وعلى سبيل المثال وضح لهم في إحدى محاضراته أن كل المذاهب، كالمعتزلة والجبرية في التاريخ الإسلامي، وكل الثقافات غير الإسلامية كالرأسمالية والشيوعية، أنها جميعاً تمتلك شيئاً من الصواب ووجهاً من أوجه الحقيقة(51).

وكمداخل للوصول إلى إدراك هذا الأمر بوضوح، حث المسلمين على جملة من القيم، أهمها: التحلي بالإنصاف والموضوعية(52). وكذا القراءة، والشورى، والتواضع.

أكثر كولن من الحديث عن الشورى، تنويهاً بأهميتها، وتوضيحاً لجمعها بين الثوابت والمتغيرات، وتبييناً لأسسها ونتائجها، وإبرازاً لمجالاتها(53).

ومن العبارات الجميلة التي تجسد أهمية الشورى بعبارات قصيرة، قوله: "الشورى طريق مهمة لإكساب العقل المحدود وللتفكير المحدود شمولية غير محدودة"، "ليست هناك دولة غنية كالمشورة ولا هناك جيش قوي يضاهيها"، "أفضل إكسير لإزالة صدأ الأفكار هو المشورة"، "إن كان عقلان أفضل من عقل واحد، فمن باب أولى أن تكون مئات العقول أفضل من عقل واحد. واسم وعنوان اجتماع هذه المئات من العقول هو المشورة"(54).

وفي هذا السياق، بيَّن الأهمية البالغة للشورى في كل الأمور، وجعلها الشرط الأول في أي عمل أو قرار (55)، وبين أن أعقل الناس هو المشاور ولا سيما في القضايا الاجتماعية(56)، وحث على إيجاد مؤسسات خدمية واجتماعية على قاعدة الشورى(57). ويبدو أن مؤسسات تيار الخدمة تدار بهذه الطريقة، ولذلك فإنها تحقق نجاحات عميقة وقوية، بجانب امتلاكها لبقية شروط النجاح، وعليه فإنني أعتبر هذه المؤسسات - بجانب الخدمات التي تقدمها - محاضن تربوية، يتدرب القائمون عليها على أمور كثيرة، من أهمها الشورى، وعدم ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، والتواضع، إضافة إلى ما سيأتي من وسائل أخرى فيما بقي من هذا البحث، وهي: التخطيط والتدرج المرحلي، الاتجاه بطاقة النقد نحو الذات وإعذار الآخرين، والتلطف والرحمة والحب.

3- التخطيط والتدرج المرحلي:

دعا كولن المؤمن إلى ألاّ يتشاءم بسبب قلة الإمكانيات ومحدوديتها، وعليه أن يستعمل ما أعطاه الله من فضل استعمالاً حكيماً، وألا يستعمله دون حساب؛ أي يقوم "بضرب عصفورين بحجر واحد" كما يقال في المثل الدارج. أجل! على المسلم أن يخطط على الدوام ويبرمج كيف يضرب بحجر واحد مئات العصافير، مثلما نرى في العديد من الإجراءات الربانية. فكما نحصل من بذرة واحدة نبذرها في الحقل على سبع أو سبعين أو سبعمائة من البذور، علينا أن نخطط في كل خدمة ئريد تحقيقها في سبيل الإيمان وفي سبيل الملة للحصول على سبع أو سبعين أو سبعمائة ضعف"(58).

وفي سياقات كثيرة ومساقات متعددة حث على ضرورة وأهمية التخطيط، فعند تفسيره لقوله تعالى: ﴿فإذا فرغت فانصب﴾ [الشرح: 7] حث على ضرورة التخطيط الحسن لاستثمار الأوقات في العمل والحركة (59).

ودعا إلى ضرورة التنظيم للحاضر والتخطيط للمستقبل، من أجل حساب الأرباح والخسائر المحتملة(60) وهو ما يدخل تحت مسمى (فقه المآلات) كما عند الأصوليين من علماء الإسلام، "فقبل القيام بأي عمل وبأي نشاط إن لم يتم التفكير جدياً في العاقبة وإن لم تؤخذ آراء المجربين فلا يمكن التهرب من عاقبة خيبة الأمل والندامة. كم من نشاط وعمل بُدء به دون إمعان فكر، لذا فلم يتم تسجيل خطوة واحدة فيه إلى الأمام.. ليس هذا فحسب بل خسر القائمون به سمعتهم كذلك"(61).

وحضَّ على التخطيط الذي يتضح فيه الهدف تماماً حتى لا تتعدد الأهداف أثناء العمل، ويظهر الاضطراب والفوضى، وحتى لا تتحول الوسائل إلى أغلال تقيد الإنسان وتربطه بها(62).

وبجانب ذلك، فإن التخطيط يجعل الحركة ذاتية لا مجرد ردود أفعال، وفاعلة لا منفعلة، وما لم يتم التخطيط "فسندخل في تأثير الدوامات الفكرية والبرنامجية لأمواج هجمات الآخرين وأعمالهم الحركية، ونضطر إلى تمثل فصول حركاتهم"(63).

ويرى أن وضع خطة مدروسة بشكل جيد لإنشاء ورشة أو مصنع أمر ضروري لنجاحهما، فكيف "بالتخطيط الذي يتناول أمور الأمة كاملة، ويتناول إدارة دولة، وإرادة الإنسان، وهي أمور حافلة بالمعضلات وبالأحاجي والألغاز لكونها متعلقة بهذا الإنسان اللغز"(64).

ومن التخطيط: التدقيق في الأمور، ونجد فتح الله كولن في مواضع عدة يؤكد على ذلك، ويحث تلاميذه على أن يصل تدقيقهم إلى حد تشطير الشعرة أربعين شطراً، وهو في مقام آخر يتحدث عن تيار الخدمة ومواصفات وارثي الأرض، ومن ذلك تدقيقهم الأدق الذي يشطر الشعرة أربعين شطراً(65).

والتخطيط يقتضي التدقيق في قراءة الواقع، بحيث تكون الخطة موصلة لتحقيق الهدف، دون تعجل قطف الثمرة قبل نضجها، أو التأخر حتى يقطفها الآخرون أو حتى تذوي وتذبل.

وبسبب القراءة المتأنية للواقع والتخطيط الدقيق، فإن تيار الخدمة يؤثر العمل الهادئ، حيث رأى كولن: "أن كل نشاط يجب أن يجري في سكون وصبر يحاكي سكون وصبر المرجان الذي يتكاثر بهدوء ودون ضوضاء في أكثر الأماكن هدوءاً وبعداً عن الأنظار"(66).

ويعبر عن هذه الحقيقة بأسلوب مقارب جميل: فيقول: "وربما يستمر المشي في السبات والتكلم في النوم، فيلزم أن نصبر ونحتمل سنين، علمها عند الله. نعم، سنصبر؛ لأننا نعي ونستشعر الحاجة إلى سنين قد تطول من الانتظار الحي في الأعماق المرجانية، ومن الحركة المؤثرة والمنظمة في حضانة البيوض، حتى يتعافى سائر البدن المتضعضع، ويستجمع قدرته ليقتدر على تصفية حسابه مع العصر"(67).

وكمثال عملي على أمر أراد فعله كولن، لكن الظروف غير مواتية كما أخبره تلاميذه، ما أشار إليه عندما تحدث عن صفات وارثي الأرض، فعندما وصل إلى الوصف الثامن وهو الفكر الفني، اكتفى بالعنوان، ولم يتحدث عن المضمون، بسبب أن بعض الأوساط ليست على استعداد لذلك بعد(68).

ومن المعلوم أن التخطيط لا يقضي على الأخطاء تماماً؛ لكنه يقللها إلى حد كبير، ويبقيها في دائرة (الأخطاء) ولا يسمح لها بالانزلاق إلى دائرة (الخطايا) وهي الأخطاء القاتلة، بمعنى أن أخطاء ستظهر هنا وهناك، واكتشافها لا يمكن أن يتم ما لم يوجد النقد الذاتي، وهو الوسيلة الرابعة لتحقيق (فقه الائتلاف).

4- التلطف والرحمة والحب:

حركة فتح الله كولن إيمانية راقية، تجمع بين العلم الذي يوفر الدليل على ضرورة التعامل الأحسن مع الناس، وبين الإخلاص الذي يوفر الدافعية للاستمرار والصبر والتفاني والتضحية في هذا الطريق، مع ما يقتضيه ذلك من مواجهة الإساءة بالإحسان، والأخطاء بالصفح، والمقاطعة بالوصل، ابتغاء وجه الله ورغبة في نيل رضاه ورحمته وجنته.

ولهذا فقد انطلق كولن من قوله تعالى: ﴿وليتلطف﴾ [الكهف: 19] ليكون لهذا التلطف تجليات إيجابية كثيرة على جوانب الدعوة والحركة، سواء من جهة التخفي والإسرار والهمس، أو من جهة اتخاذ الوسائل اللطيفة والهادئة والمرنة وغير المستفزة للناس، وهذا واجب حتى في الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس(69).

وأورد في مقام آخر قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم﴾ [المائدة: 54] وتأمل فيها طويلاً ليؤصِّل لمنهج التلطف والرحمة والهوادة واللين، ومما قاله في تنزيله لهذه الآية على هذا العصر: "فإن المطلوب ليس إلا التصرف برحمة وشفقة نحو المؤمنين بل بأسلوب أكثر ليناً وتواضعاً؛ أي أذلة على المؤمنين، لا يقابل الشتم منهم إلا بالسكوت، ولا يقابل عدوانهم إلا بالصبر؛ أي يضع رأسه تحت أقدام المؤمنين"(70).

ويصف كولن رجل القرآن بأوصاف كثيرة، ومن ذلك أنه "يرى ويفكر ويتصرف بكليات قلبه كافة، وقيامه وقعوده رحمة، وقوله وكلامه وئام، وأحواله كلها رقة ولطافة"(71).

وظل يعلم تلاميذه بأن الرحمة تذيب جليد الحقد، ويوصيهم بأن يتنفسوا محبة، ويحثهم على اللين والهوادة؛ حيث يقول على سبيل المثال: "الطبع اللين والكلمة الطيبة هما مفتاح القلوب"(72). ويقول: "عندما يتحد العلم مع الخلق اللين يصل إلى أعماق كبيرة"(73)، ولا يفتأ يستخدم أعذب الكلمات وأفضل الأساليب وأقوى المؤثرات اللفظية، من أجل دفع تلاميذه وعامة المسلمين إلى التخلق بخلق المسامحة في سائر الأحوال(74) ولا سيما عند القدرة على انتزاع الحق أو الثأر والانتقام، حيث يقول: "اصفح عندما تكون قادراً على العقاب، وبذلك يكون لصفحك قيمة"(75).

ولا يكفي لصاحب الخدمة أن يصفح، بل لا بد أن يتجاوز هذا إلى التضحية، ولذلك شبه كولن رجل الخدمة بتشبيهات عديدة، منها أنه "كالجواد الأصيل الذي يعدو حتى يكاد أن ينشق صدره، أو كالنسر الذي أفرد جناحيه للطيران"(76).

ويذهب كولن إلى أبعد من ذلك، إلى القمة السامقة التي لا يستطيع الوصول إليها إلا القليل من الناس، من الذين راغموا أنفسهم، وزكوها بالعلم والإخلاص، ووفق محاسبات ومجاهدات طويلة، وهو الحب حيث نختم هذا المبحث بمسك من كلام فتح الله كولن في هذا السياق، إذ قال: "إن رجل الفكر بطل للحب قبل كل شيء، فهو يحب الله حباً كحب مجنون، فيحس في ظل أجنحة الحب هذا بوشائج وثيقة تربطه مع الكائنات، فيحضن بشفقة كل إنسان، وكل شيء.. ويضم إلى صدره إنسان الوطن بحب يبلغ حد العشق.. ويداعب ويشم الأطفال كبراعم للمستقبل.. وينفث في الشباب الاستحالة إلى إنسان مثالي؛ إذ يباريهم في بلوغ المقاصد السامية - ويشرف الشيب بأخلص التوقير والاحترام.. ويفتح سبيلاً للحوار مع الجميع.. ويتقارب بين شرائح المجتمع المختلفة بمد جسور مبتكرة فوق المهاوي السحيقة الفاصلة بينها، ويضطرم حراً من أجل الملاءمة التامة بين الشرائح المتوافقة نسبياً"(77).

وبسبب تلطف كولن وحركته، وحسن ظنهم بالناس، نجحوا في التغلغل في أعماق المجتمع التركي رغم الشتاء القارس الذي عاشته تركيا في العقود الماضية، واستطاعوا انتشال مئات الآلاف من الشباب، والعروج بهم إلى ذرى المعالي، كجزء من (استراتيجية) الحركة في الإصلاح التحتي، والانتقال بتركيا من الشتاء الأسود إلى الربيع الأخضر.

ولمعرفة كولن بطبيعة المجتمع التركي وعاطفيته، فقد بدأ دعوته من المساجد عبر سلاح الوعظ البناء، الوعظ الذي استطاع بجناحي البلاغة والإخلاص أن يرتقي بأعداد هائلة من القاع إلى القمة. وعندما أصبح رقماً صعباً دخل المجتمع من أبواب متفرقة، منها المدارس والمعاهد والجامعات، ووسائل الإعلام الجماهيرية وجمعيات النفع العام، حيث نجح في الوصول إلى من لا يدخلون المساجد، مساعداً لهم في الوصول إلى الله، مما آذن بانقشاع الليل وانبلاج الفجر الذي ظل حلماً، لكن كولن يبدو أنه سيجعله بعون الله حقيقة.

وبهذه الوسائل التي أصبحت جزءاً من أسلحة تيار الخدمة في الجهاد المدني والدعوة السلمية المعتمدة على القدوة الحسنة والدعوة العملية، وبجانب الأسس السابقة نجح فتح الله كولن بإيجاد ما يمكن تسميته بفقه الائتلاف، في زمن تفرق فيه المسلمون حتى صاروا مضرب المثل في ذلك. فنسأل الله أن تجد هذه التجربة الدراسة التي تستحقها مع الاستفادة من حسناتها الكثيرة، ولا سيما في هذا المضمار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)         أضواء قرآنية في سماء الوجدان, ص322.

2)         انظر مثلاً: الموازين أو أضواء على الطريق, ص98، 141، 216.

3)         نفس المرجع, ص14.

4)         أضواء قرآنية, ص125.

5)         نفسه, ص130.

6)         نفسه, ص266.

7)         الموازين, ص27.

8)         أضواء قرآنية, ص222.

9)         انظر: التلال الزمردية - نحو حياة القلب والروح, ص65.

10)       نفسه, ص114.

11)       الموازين, ص198.

12)       ترانيم روح وأشجان قلب, ص14.

13)       انظر مثلاً: الموازين, 71، 80، 99، 100، 115، 126، 128، 158، 169، 178، 195، 198، 204، 219. أضواء, ص61، 94، 136.

14)       الموازين, ص219.

15)       نفسه, ص184.

16)       ونحن نقيم صرح الروح, ص38.

17)       نفس المرجع, ص120.

18)       انظر مثلاً: المرجع السابق, ص120-125.

19)       انظر مثلاً: أسئلة العصر المحيرة, ص289-291.

20)       انظر: ونحن نقيم صرح الروح, ص108.

21)       انظر مثلاً: أسئلة العصر, ص140- 144.

22)       نفس المرجع, ص194-199.

23)       انظر: أسئلة العصر, ص255-258.

24)       نقل هذه العبارات محمد أنس أركنة في دراسته القيمة: فتح الله كولن-جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية, ص252.

25)       نفس المرجع, ص253.

26)       انظر: أضواء قرآنية, ص152.

27)       الموازين, ص80.

28)       نفسه, ص81.

29)       نفسه, ص95.

30)       راجع وظائف الجهاد, ص43-62.

31)       انظر: أسئلة العصر, ص241.

32)       أضواء قرآنية, ص233.

33)       انظر: محمد أنس أركنة فتح الله كولن, ص316، 317.

34)       الموازين, ص53.

35)       نفسه, ص117.

36)       هو: محمد أنس أركنة, فتح الله كولن, ص35.

37)       محمد أنس أركنة: فتح الله ولن, ص111.

38)       انظر: أضواء قرآنية, ص143، 144.

39)       الموازين, ص82.

40)       نفسه, ص88.

41)       أركنة: فتح الله كولن, ص231.

42)       ونحن نقيم صرح الروح, ص143.

43)       فتح الله كولن: الموازين, ص148.

44)       أركنة: فتح الله كولن, ص302.

45)       أضواء قرآنية, ص251.

46)       انظر: د. فؤاد البنا, التفكير الموضوعي في الإسلام, ط1 (الدوحة: سلسلة كتب الأمة، رقم 137)، صـ52-56.

47)       الموازين, ص75-76.

48)       انظر مثلاً: المرجع السابق, ص111 (عن الإيثار).

49)       أضواء قرآنية, ص131.

50)       الموازين, ص29.

51)       انظر: أسئلة العصر المحيرة, ص150، 151.

52)       انظر مثلاً: الموازين, ص259.

53)       انظر مثلاً: ونحن نقيم صرح الروح, ص51-64.

54)       الموازين, ص240.

55)       نفس المرجع, ص22.

56)       أضواء قرآنية, ص332.

57)       نفس المرجع, ص141.

58)       نفسه, ص254، 255.

59)       نفسه, ص385.

60)       الموازين, ص18، 19.

61)       نفسه, ص23.

62)       نفسه, ص27.

63)       ونحن نقيم صرح الروح, ص65.

64)       الموازين, ص133.

65)       ونحن نقيم صرح الروح, ص124.

66)       الموازين, ص30.

67)       ونحن نقيم صرح الروح, ص92.

68)       نفسه, ص50.

69)       انظر: أضواء قرآنية, ص140، 141.

70)       نفس المرجع, ص148.

71)       ونحن نقيم صرح الروح, ص99.

72)       الموازين, ص249.

73)       نفس المرجع, ص251.

74)       انظر: المرجع نفسه, ص24-26.

75)       نفسه, ص245.

76)       انظر: أركنة: فتح الله كولن, ص338-339.

77)       ونحن نقيم صرح الروح, ص128- 129.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/4/84

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك