الجغرافيا وخريطة الإسلام في العالم

عبد الرحمن السالمي

 

منذ القرن التاسع عشر سادت أطروحات النظريات الشاملة في التاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا والأديان. ورغم العوامل العنصرية والتمييزية الظاهرة في تلك الفرضيات والنظريات؛ فإنّ شموليتها أو عالميتها كانت عاملاً إيجابياً في النظر إلى الظواهر كلّها على أنها ظواهر عالمية أو إنسانية, ثم تلت تلك الشمولية في الرؤية والنظر رؤى الخصوصيات أو المجالات الحضارية والثقافية. وعليها بنى بعض المستشرقين والجغرافيين والمؤرخين رؤاهم الخاصّة لجغرافية الإسلام وتطوراتها عبر التاريخ. وأشهر تلك النظريات مقولة الجغرافي الفرنسي بلانول في الطبيعة الصحراوية والسهوبية (=المناطق شبه الصحراوية) للإسلام، أخْذاً من المناطق التي انتشر فيها وبقي حضارةً وكثرةً سكّانية, وفي الواقع فإنّ تلك صورة أكثر منها واقعاً تاريخياً. فقد خرج الإسلام من الجزيرة العربية ذات الطابع البدوي، ومن أكبر الشعوب التي اعتنقته الشعوب التركية، والتي خرجت من آسيا الوسطى ذات الطابع البدوي والسهوبي. وبحسب ابن خلدون -كما يقول بلانول- والذي كتب بعمقٍ عن طبيعة الدول والسلطات في الإسلام؛ فإنّ العصبيات القَبَلية ذات الأُصول البدوية، والقادمة من الصحاري إلى المدن هي التي حدَّدت مصائر مجتمعات المسلمين الحَضَرية وغيرها. بيد أنّ أندريه ميكيل وهودجسون نَبَّها إلى خَطَل هذه الرؤية رغم ظاهرها المُغري، ومن الناحيتين الجغرافية والبشرية. إذ إنّ أكبر مناطق الإسلام السكانية على مدى التاريخ كانت على البحار ومن حولها أو على الأنهار الكبرى, ومن ذلك مناطق ومجالات المحيط الهندي وشرق آسيا والبحر المتوسط وأنهار: النيل والفرات وسيحون وجيحون. والحياة البحرية والنهرية تتطلب استقراراً وحواضر كبرى ووسطى وصغرى، واريافاً زراعيةً، لا تستطيع البداوة أن تقومَ بها وعليها. إنما هناك صحارى وبداوة بالفعل في عالم الإسلام، أدّت أدواراً مهمةً عبر التاريخ؛ لكنها لم تحدّد مصائر الاجتماع الإسلامي، بل حدَّدتْهُ الحواضر والمستقرات الكبرى. ولذا فإنّ الحديث عن طبيعةٍ بدويةٍ للإسلام -بسبب العناصر التكوينية للسكان، وبسبب جغرافيا الانتشار- هو حديثٌ غير صحيح، وهو ناجمٌ عن صُوَر وأنماط مُسْبقة. ولابد من أجل فهم عالَم الإسلام اليوم من العودة إلى الأصول العَقدية من جهة، وإلى تطورات الدولة والانتشار العمراني والحضاري والبشري، ثم كيف تغيَّرت سائر المسائل في الأزمنة الحديثة والمعاصرة.

 

يقوم التصور القرآني للعالم على أنّ الناس فيه كانوا أُمّةً واحدةً لصدورهم عن أصلٍ واحد، ثم كان الاختلاف الذي بمقتضاه صار الناسُ أُمماً، ولم تغب عنهم منذ ذلك الانقسام أشواق العودة إلى الأصل ونوازع الاختلاف, وظهرت سلطاتٌ في الأُمَم، وبعث الله النبيين والمرسلين دعوةً للدين الواحد، وكان كلُّ نبيٍ يُبعثُ إلى بني قومه خاصةً، وبعث الله محمداً صلَّّّّى الله عليه وسلَّم إلى الناس عامَّةً، بدءًا ببني قومه وعشيرته الأقربين. وعندما هاجر النبيُّ إلى المدينة عام 622م كتب بين أهلها والذين هاجروا معه كتاباً عَدّهم فيه: "أمةً واحدةً من دون الناس". وإلى هذه الجماعة ودارِها فَرَض القرآنُ الهجرة لدعم دار الإيمان الجديدة حتَّى كان فتْح مكة، فانتصرت مقولةُ الأُمّة الشاملة، وجرى نَسْخُ الهجرة العامة إلى المدينة، وصار المطلوب الانتشار من أجل الدعوة، والسعي لكي تتطابق أمة الدعوة مع أمة الإجابة. والتطابُقُ لا يعني التوحُّد في دولةٍ واحدةٍ؛ لأنه بحسب القرآن فإنّ الناس سيبقون أُمَماً، وسيبقى الاختلاف، وإنما المُراد استمرار السعْي إلى التوافُق والمُسالمة بين سائر الأُمم (= الشعوب والقبائل) من طريق التعارُف؛ أي اعتراف كلٍ منهم بالآخر الفردي والجماعي. وطرائق التعامل بين المسلمين والآخرين بالداخل والخارج بحسب قوله -عزَّ وجلَّ-: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم﴾.

 

كان لقيام الخلافة والدولة وللفتوحات دورٌ كبيرٌ في التطور التاريخي والبشري لدار الإسلام؛ فالدولةُ التي قامت بالجزيرة غيرّت من التوازُنات الاستراتيجيَّة بالمنطقة؛ إذ كانت هناك ثُنائية قطبية قائمة على إمبراطوريتي الروم والفرس. ولذا فقد استدعى ذلك نزاعاً أفْضى إلى زوال الإمبراطورية الفارسية، وانكماش الإمبراطورية البيزنطية، وهي الفترة التي عُرفت في التاريخ الإسلامي الأول بعصر الفتوحات. وقد كان هناك عصر فتوحاتٍ آخر زمن العثمانيين بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر للميلاد. وهذا التوسع الدُّوَلي أو الإمبراطوري كان بين أسباب الانتشار الإسلامي. لكنّ السبب الأهمَّ للانتشار هو الحضارة والثقافة اللتان نشرهما المسلمون من طريق الدعوة والتعامل بإنصافٍ ومودّةٍ وتآلُفٍ مع الناس في قارتي آسيا وإفريقيا وفي أوروبا وأميركا في الأزمنة الوسطى والحديثة. فالفتوحات تعرضت لمدٍ وجزْر، وزالت آثار العديد منها، مثل الأندلس رغم التجربة الإنسانية الرائعة. أمّا الذي بقي حتَّى اليوم في الدين والجغرافيا والحضارة فقد بقي بسبب روح الحضارة والحاضرة، روح التعارُف الذي نشرته أمة الإسلام. فالمتغير الجيواستراتيجي -الذي حدث بسبب ظهور الأمة وقيام الخلافة- لم يثبت أو يستقر إلاّ لأنّه ظهرت هناك متغيرات جيودينية، وجيوثقافية، وجيوحضارية. فالصليبيون غزوا المشرق وعسفوا وقتّلوا وبنوا الحصون ثم زالوا بعد مائتي عام. والمغول والتتار غزوا العالَم، ولم تستقر أُمورهم لأكثر من مائتي عامٍ أيضاً, ومن بقي منهم في المناطق المفتوحة إنما استطاع البقاء لأنه اعتنق الإسلام وسلوكه وقيمه.

 

على أنّ الجغرافية الدينية والثقافية أو الحضارية لا تُفهم على نحوٍ متكامل دون الجغرافية البشرية. وقد كتب كراتشكوفسكي المستشرق الروسي قديماً عن الجغرافيين المسلمين وتصوراتهم لعالم الإسلام والعوالم الأُخرى المجاورة أو البعيدة. أمّا أندريه ميكيل الفرنسي فقد كتب عن جغرافية دار الإسلام البشرية؛ بيد أن عملُهُ ليس عملاً وصفياً دقيقاً فقط؛ بل إنه يتضمن نظراتٍ شمولية ومنهجية في طبائع الاجتماع الإنساني في عالم الإسلام, وقد آثر أن يجمع بين النظرتين: نظرة تأمُّل الشعوب المختلفة بداخل دار الإسلام، وكيف عاشت في الأزمنة الوسيطة بين ثقافتها الخاصة وثقافة الإِسلام، ونظرة تأمُّل علائق المسلمين الإنسانية والثقافية فيما بينهم، وعلائقهم الإنسانية والعالم الخارجي عبر الأزمنة والعصور المتطاولة. وقد رأى أنّ عالَم الإسلام -بين القرنين الرابع الهجري والثاني عشر الهجري- شكّل ثقافةً كبرى وعالمية، وشهد ازدهاراً حضارياً نادراً ما عرفته قارة آسيا من قبل على مدى العصور التاريخية. فضلاً على أنه هو الذي صنع الهوية الإفريقية بداخل الإسلام، وهو الذي أعطى أوروبا الوسيطة الأساس لتقدمها العلمي والحضاري. وآثر مارشال هودجسون أن يقسم العالَم الإسلامي الوسيط جغرافياً وحضارياً إلى ستة أقسام، رأى أنها تُشكِّلُ كُلاًّ حضارياً واحداً؛ لكنه لا يُلغي الخصوصيات الناجمة عن التضاريس الجغرافية، والأُخرى البشرية.

 

لم تكن دار الإسلام جامدةً أو سكونيةً حتَّى في أجزائها الأساسية أو الرئيسة؛ بيد أنّ الأزمنة الحديثة أحدثت فيها متغيراتٍ جذرية وأساسية لسائر النواحي: البشرية والسلطوية والجغرافية. ولا شك أنه كان هناك انحسارٌ في الجوانب اللغوية والثقافية، وهناك اضطرابٌ وتبعيةٌ في الجوانب السلطوية والجغرافية والاستراتيجيَّة؛ بيد أنّ هذه التطورات ما نالت من المسلمين فقط؛ بل نالت من معظم نواحي آسيا وإفريقيا. كما أنّ هناك تطوراً سكانياً وبشرياً في عالم الإسلام لم يكن متصوَّراً قبل الأزمنة الحديثة. ففي أوروبا وأمريكا اليوم عشرات الملايين من المسلمين، نصُفهم من العرب، وهذه الملايين حدثت فيها ولديها بعض التوتُّرات في العقود الأخيرة سببها في الحقيقة التوتُّر الحاصل بين المسلمين والغرب. إنما هناك آفاقٌ جديدةٌ انفتحت على الإسلام رغم التوترات، ورغم دعوى صراع الحضارات والحروب على الإرهاب, وهذا متغيّرٌ في جغرافية عالم الإسلام يضاهي في أهميته المتغيّر الأخير الذي أعاد التركيز على الأمة وفكَّها عن الجغرافية عندما زالت دار الإسلام، وشاع اضطرابٌ شديدٌ للاعتقاد أنّ الدين يرتبط بالجغرافيا أو بالخلافة. لقد عاد التركيز على الأمة وهويتها وانتمائها وثقافتها، وانكمشت جغرافيتها البشرية والثقافية عن بعض النواحي؛ لكنها تمددت وانتشرت في نواحٍ أُخرى؛ إذ إنّ الثقافات الكبرى والأُمم الكبرى لا تزول؛ لكنها تتحول. وما تزال فكرة الأمة شديدة التوهجُّ في أَوساطٍ شاسعةٍ من المجتمعات الإسلامية على مدى العالم, ولذا يمكن القول: إنّ خريطة الانتشار الإسلامي اليوم هي خريطة الأمة المتجددة.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/3/51

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك