إعادة بصيص الأمل الثقافي

مهدي نصير
العلاقة بين الإبداع الأدبي والفني والواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي هي علاقة جدلية تبادلية، وربَّما يكون الإبداع العميق والحقيقي والعضوي هو البارومتر الأكثر حساسية لالتقاط ذبذبات الواقع الأولية باتجاه التغيير، فالإبداع يستشرف المستقبل من خلال وعيه العميق بمحرِّكات مجتمعه وأوجاعه وهو ينظرُ دائماً نحو هذا التغيير الذي يحلم به لمجتمعه ويتجه إليه ويمهِّد الطرق إليه.
في الواقع العربي المأزوم والممزق والمليء بالفتن والحروب الداخلية المدعومة والموجهة من قوى خارجية لها مصالح في تفتيت هذه الأمَّة وبقائها نهباً لقراصنة التاريخ، في هذا الواقع المرير على المبدع الحقيقي أن يتحرَّكَ وسطَ هذه المتاهة وينير الطريق حتى لو كانت قاسيةً وصعبةً ومليئةً بالتحديات الكبيرة.
هذا الواقع العربي ومحرِّكاته الداخلية والخارجية أثَّرَ وأثار قوى المجتمعات العربية المتعددة ومكوِّناتها التي تشكَّلت عبر التاريخ بفسيفسائها -التي كانت إضافةً خلاَّقةً لنسيج المجتمعات العربية- ودفع بها للنكوص إلى مكوِّناتها الجمعية الصغيرة التناحرية (الإثنية والدينية والمذهبية والجهوية والقبلية والعرقية... إلخ).
وبهذا النسيج المفكَّك الفاقد لأناه الجمعية العليا دبَّ الصراع البغيض بين مكوِّنات مجتمعاتنا العربية بتوجيه ومباركة وتمويل قوى النهب العالمية المسيطرة على مقادير وسياسة وثروات الشعوب.
على المبدع والمثقف والمفكر العربي أن يُعيدَ رسم أفقٍ جمعيٍّ عالٍ يجمع كلَّ فسيفساء المجتمع العربي بهويَّةٍ جامعةٍ عليا إنسانيةِ التكوين تنهل من تراثها الخصب كجذرٍ لها وتطوِّر حياتها ووجودها ضمن منظومة مجتمعٍ مدنيٍّ منفتحٍ على الحضارة الإنسانية ومتفاعلاً معها آخذاً منها ومُضيفاً إليها، هذا الدور الجوهري والحيوي منوطٌ بالمبدعين العرب لخلق الأمل والأفقِ لهذه الأمَّة.
وفي ضوء ذلك، ستؤثِّر الأحداث الدموية والاحتراب الداخلي والنكوص إلى مؤسسات ما قبل الدولة في العالم العربي على حركة التأليف والنشر لمنتجات الثقافة العربية الإبداعية بكافةِ أشكالها، فالاحتراب الداخلي وانعدام الرؤية وانعدام الأمن الاجتماعي الذي يجب أن تحكمه القوانين المدنية يدفع بالمثقف الحقيقي للتراجع عن نشر رؤاه وأعماله العضوية العميقة المنبثقة من حركة المجتمع والباحثة عن أفقٍ جمعيٍّ عالٍ له.
فهذا الأفق الجمعيُّ العالي سيصطدم ويتصارع مع قيمٍ جمعيةٍ سفلى طائفيةٍ ودينيةٍ وعرقيةٍ وجهويةٍ وقبليةٍ وكمبرادوريةٍ أيضاً مرتبطةٍ برأس المال العالمي وحركته ومسلَّحة بالجهل والمال والسلاح القاتل، ومع عدم وجود ضوابط مجتمعية قانونية حقيقية لحماية الفكر والإبداع سيتحوصل هذا الفكر والإبداع -كما حصل في مراحل كثيرة من التاريخ العربي القديم- بعيداً ودون الاقتراب من دوره الحقيقي في صياغة رؤى وقيم وثقافة مجتمعه للارتقاء بها.
ختاماً، الواقع الثقافي العربي ممزقٌ ومشوَّهٌ يتصارعُ فيه المثقفون العرب صراعاً دموياً وفقاً لأيدولوجياتهم التي ثبتَ أنها جميعها كانت فاشلةً في قيادة دفَّةِ المجتمعات العربية المتخلفة والمريضة والفقيرة فعلياً مع امتلاكها أضخم ثروات التاريخ البشريِّ بأكمله.
المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?id=4639&Archive...