التعايش والوِفاق في المجتمع المسلم
صالح بن عبدالله بن حميد
الحمدُ لله، الحمدُ لله خلقَ الإنسانَ في أحسن تقويم، وخصَّه بالتفضيل والتكريم، جعلَه أهلاً لدينه وشريعته، ومحلاًّ لتكليفه وأمانته، أحمدُه – سبحانه – وأشكرُه لا عزَّ إلا في طاعته، ولا غِنى إلا بالافتقار إلى رحمته، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُوصِلُ إلى رِضوانه وجنَّته، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أعظمُ الخلق خُلُقًا، وأحسنُهم جِوارًا، وأكرمُهم في عِشرته، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله السادة الشرفاء عِترتِه، والأخيار الحُنفاء صحابتِه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسارَ على نهجه وطريقته، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا لا مُنتهَى لغايته.
أما بعد:
فأُوصيكم – أيها الناس – ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله – رحمكم الله -، فجادَّةُ النجاة قليلٌ سُلاَّكُها، والقلوبُ الغافلةُ مخوفٌ هلاكُها.
فما للقلوبِ لا تتدبَّر .. وما للأبصار لا تتبصَّر .. أغرَّتها آمالُها؟! .. أم على قلوبٍ أقفالُها؟! .. إن الله لم يخلُق الخلقَ عبثًا، ولم يترُكهم سُدًى، كلا ثم كلا، فوربِّكم لتُسألُنَّ عن الرسول ومن أرسلَه، وعن القرآن ومن أنزلَه، وعما اجترحَه ابنُ آدم في الدنيا وما عمِلَه، فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف: 6- 9].
معاشر المسلمين: |
إن من سُنَّة الله في البشر: اختلافُ أذواقهم وفُهومهم وإدراكاتهم وحدَّة طِباعهم وهدوئِهم وذكائِهم وقناعاتهم، فلكل إنسانٍ قناعاتُه ورُؤيتُه وفهمُه وإدراكُه، فلا يُحجَرُ عليه، ولا يُجبَرُ على تغيُّر مفاهيمه، وما يصلُحُ لهذا قد لا يصلُحُ لذاك.
وإن من عباد الله من لا يُصلِحُه إلا الغِنى، ولو أفقرَه الله لكفَر، وإن من عباد الله من لا يُصلِحُه إلا الفقر، ولو أغناه الله لبطَر.
وكم أعطَى اختلافُ الألوان جمال الصُّورة، فلدرجات الألوان أهميتُها من أجل اكتمال الصورة وجمالها، وكلٌّ مهمٌّ بقَدر أهمية صاحبِه، وما اختلفَت أصابِعُ اليدين إلا لاختلاف الوضعِ فيها.
ومن هنا – عباد الله – فإن اختلافَ الناسِ ليس اختلاف تفاضُلٍ وتمايُزٍ بين أعراقها وقبائلِها وطبقاتها، ولكنَّه اختلافٌ من أجل المنافِع والإبداع، وتعدُّد طُرق المعرفة والثقافة، والتسابُق في الخيرات، والمُسارَعة إلى المكرُمات، ومن أجل أن يتعارَفُوا وليتَّخِذَ بعضُهم بعضًا سُخرِيًّا. أما ميزانُ التفاضُل فهو التقوى والعملُ الصالح ليس إلا.
معاشر الإخوة: |
إن المسلَك الحكيم هو في التعامُل مع ما قضَته سُنَّةُ الله من حقائِق التنوُّع الاجتماعيِّ، والتفكيرُ بطريقةٍ مُنفتِحةٍ غير ضيِّقة؛ لأن الأُطُر الضيِّقة لا تُنتِجُ إلا خياراتٍ ضيِّقة، وفهمُ الآخر لا يلزمُ منه القناعة بما يقول، ولو لم تكُن أنت مُختلفًا لما كان الآخرُ مُختلفًا، وإذا اتَّفقَ اثنان في كل شيءٍ فلا حاجةَ لأحدهما.
معاشر الأحبَّة: |
الانسِجامُ والتعايُش شعورٌ داخليٌّ جميلٌ في النفس الإنسانيَّة، يُبرِزُ العلاقةَ الإيجابيَّة والانتِماء بين أفراد المُجتمع، فيكونُ كالبُنيان يشُدُّ بعضُه بعضًا، وكالجسَد الواحِد إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَد بالسَّهر والحُمَّى.
الانسِجامُ والتعايُش ينطلِقُ من الأُخُوَّة، وصلاح النفس، وسلامة الصدر، والمُساواة، والمحبَّة، والتواصِي بالحق والتواصِي بالصبر وبالمرحمة.
والمُساواةُ بين الناس ليست مُساواةَ تماثُل؛ بل مُساواةُ تكامُل. مُساواةٌ تنفِي العصبيَّة والحِزبيَّة، وحمِيَّة الجاهليَّة، ودعوَى الجاهليَّة، وتُؤكِّدُ السمعَ والطاعةَ، ولُزوم الجماعة وعدم الشُّذوذ عنها أو الخروج عليها.
الانسِجامُ والتعايُش هو الاعترافُ بحقِّ العيش في مُجتمعٍ واحدٍ، وبلدٍ واحد. والناسُ يتعايَشُون بالدين وبالمروءة وبالحياء وبالرغبة وبالرهبة.
التعايُش هو الوجودُ المُِشتركُ بين الناس، على اختلاف طبائِعِهم ومقاصِدهم، وهو لا يعني الإلغاء، وإنما يعني الاعترافَ بالآخر. التعايُش هو تنظيمُ وسائل العيش بين الناس.
إخوتي في الله: |
الانسِجامُ والتعايُش ينشرُ الأُلفة والتعاوُن والترابُط، ويُنمِّي روحَ العمل والإبداع، ويحمِي البلادَ من الانحِراف، والأفكار المُنحرِفة، والاتجاهات العُدوانيَّة، ويُقلِّلُ من أثر الشائِعات المُوهِنة للعزائِم، والمُفرِّقة للجماعة.
معاشر الأحبَّة: |
كسبُ القلوب مُقدَّمٌ على كسب المواقِف، ووحدةُ القلوب مُقدَّمةٌ على وحدة الآراء. تأمَّلُوا – حفظكم الله – قولَ موسى لأخيه هارون – عليهما السلام -: يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: 92، 93]، فأجابَ هارونُ مُحافظًا على الوحدة ومُبتعِدًا عن الفُرقة: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: 94].
معاشر المسلمين: |
أما في دينِنا فلم تُشرع شرائِع الدين، ولم تُفرض فرائِضُ الإسلام، ولم تتنزَّل الأحكام إلا بعد أن استقرَّ المُسلمون المُهاجِرون والأنصار في مُجتمع المدينة بمُكوِّناته وتنوُّعه.
ولقد ذكرَ بعضُ أهل العلم أن من غايات الهِجرة: تكوينَ الوحدة الإسلاميَّة في ظلِّ الدولة الإسلاميَّة.
لقد كان مُجتمعُ المدينة مُجتمعًا مُتعايِشًا، وهم يضُمُّ: المُؤمنين، والمنافقين، واليهود، والمُشركين، وغيرَهم.
وقد قيل للمُؤمنين في مكَّة قبل الهِجرة: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء: 77]، ولما انتقَلوا إلى المدينة عاشُوا مع أهلها، قيل لهم: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة: 8].
وقد وجَّه الله نبيَّه محمَّدًا – صلى الله عليه وسلم – في شأنِ أهل الكتابِ بقولِه: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13].
والعفوُ: تركُ المُؤاخذَة بالذنبِ، والصَّفحُ: تركُ أثره في النفس.
ولما قال المُنافِقون مقالتَهم التي سجَّلها عليهم القرآنُ العزيز: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8]، طلبَ الصحابةُ – رِضوانُ الله عليهم – من النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يأذَنَ بقتلِهم، فقال – عليه الصلاة والسلام -: «لا يتحدَّثُ الناسُ أنه كان يقتلُ أصحابَه».
ما أعظمَها من كلمة، وما أوضحَه من توجيه. فأين هذا – عياذًا بالله – من الذين يقتلُون آباءَهم وأمهاتهم وأقاربَهم، فضلاً عن إخوانهم المُسلمين؟!
معاشر الإخوة: |
لقد كان الصحابةُ – رِضوانُ الله عليهم – يرَون الاجتماع من أعظم الخيرات، وأكبر الصالِحات، لذا تراهم قد ائتَمُّوا بكل من حقَّت له الإمامة.
يقول الإمامُ ابن حزمٍ – رحمه الله -: “وما امتنعَ قطُّ أحدٌ من الصحابةِ – رضي الله عنهم – ولا من خيارِ التابعين من الصلاة خلفَ كلِّ إمامٍ صلَّى بهم، حتى خلفَ الحجَّاج بن يوسف، وحُبيش بن دُلجَة، ونجدَة الحَروريِّ، والمُختار بن أبي عُبَيد، وكلٌّ مُتَّهمٌ بالكُفر”.
والمُسلِمون يرَون أن من صلَّى صلاتَهم، واستقبلَ قبلتَهم، وأكلَ ذبيحتَهم، فهو منهم، والسرائرُ إلى الله، والحسابُ على الله، فلا شقَّ عن القلوب، ولا غلَّ على سابقٍ بالإيمان، ولا تفريقَ بين المُسلمين بالأسماء والألقاب ولو كانت أشرفَ الألقاب والأسماء، مثل: المُهاجرين والأنصار، وإنما تُقالُ على سبيلِ الثناء والتأليف والتعريف.
والمُسلمون يحرِصون على هداية الخلق، ويستُرون العيوب، ولا يتتبَّعون العورات، ولا يذكُرون أخطاءَ أهل العلم إلا لبيانِ الحقِّ، وعلى سبيل الترجيح لا على سبيل التجريح، ويلتمِسُون العُذرَ ما أمكَن.
يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “إن المُتأوِّل الذي قصدُه مُتابعةُ الرسولِ – صلى الله عليه وسلم – إذا اجتهدَ فأخطأَ لا يُكفَّر، بل ولا يُفسَّق، وهذا مشهورٌ عند الناس في المسائل العلمية، وأما مسائلُ العقائِد فكثيرٌ من الناس كفَّر المُخطِئين فيها. وهذا القولُ لا يُعرفُ عن أحدٍ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحدٍ من أئمة الإسلام، وليس فيهم – يعني: الأئمة الأربعة – من كفَّر كلَّ مُبتدِعٍ.
بل المنقُولات الصريحةُ عنهم تُناقِضُ ذلك، ولكن قد يُنقلُ عن أحدهم أنه كفَّر من قال بعضَ الأقوال، ويكونُ مقصودُه: إن هذا القولَ كُفرٌ ليُحذَر.
ولا يلزمُ إذا كان القولُ كُفرًا أن يكفُر كلُّ من قالَه مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوتَ الكفر في حقِّ الشخص المُعيَّن، كثبُوت الوعيد في الآخرة بحقِّه، وذلك له شروطٌ وموانِع”. اهـ كلامُه – رحمه الله -.
ومن منقُولات السلف: “لو كان كلُّ ما اختلفَ مُسلِمان في شيءٍ تهاجَرَا لم يبقَ بين المُسلمين عِصمةٌ ولا أُخوَّة”.
وما أجملَ الوقوفَ عند قولِه – صلى الله عليه وسلم -: «شهِدتُّ بدار عبد الله بن جُدعان حِلفًا ما أحبُّ أن لي به حُمر النَّعَم، ولو دُعِيتُ لمثلِه في الإسلام لأجبتُ».
إنه حلفٌ يحفظُ الحقوق، وينصُر المظلُوم، ويُعينُ المحرُوم، ويحفظُ المصلحةَ العامَّة، ويدفعُ التصادُم.
وقد قال الإمام البغويُّ – رحمه الله – في قوله تعالى: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء: 140]، قال: “وإن خاضُوا في حديثٍ غيره فلا بأسَ في القعُود معهم مع الكراهة”.
عباد الله: |
إن الإسلام يسَعُ أهلَه كلَّهم، لسعَتِه وسماحته، عاشُوا في كنَفِه وتعايَشُوا على أرضِه القرونَ تلوَ القُرون، وعونُ الله لا يتنزَّلُ على المُتعصِّبين والمُتحزِّبين، ولا ينصُر الله أقوامًا مُتفرِّقين.
إن الجفاءَ والتباعُد النفسيَّ والاجتماعيَّ هو الذي يقضِي على الوِحدة، وينبُذ التعايُش، والعاقلُ المُنصِفُ من اغتفرَ قليلَ خطأ أخيه في كثيرِ صوابِه، فلا يبخَسُ الناسَ حقوقَهم، ولا أشياءَهم؛ بل يُعاملُ الناسَ بما يحبُّ أن يُعامِلوه به، فلا يقِفُ عند الألفاظ والكلمات؛ بل يقبلُ ما يقولُه صاحبُه في تفسير مُرادِه.
وبعدُ – عبادَ الله -:
القولُ الحسنُ والتعامُلُ الحسنُ لا يتوقَّفُ على دينٍ أو مذهَب؛ بل هو حقٌّ لكل الناس، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83].
والوسيلةُ في ذلك: الرِّفقُ والإنصافُ، والحبُّ والابتسامةُ، وحُسنُ الظنِّ، وطِيبُ القلب، وسلامةُ الصدر، والاحترامُ والتقديرُ.
ولا تستطيعُ حمايةَ نفسِك ما لم تحمِ إخوانَك، فالمرءُ قليلٌ بنفسِه كثيرٌ بإخوانه، والحياةُ قائمةٌ على الزوجيَّة والثُّنائيَّة، وليس على الأُحاديَّة والفرديَّة، وتسويةُ الناس بفِكرٍ واحدٍ خلافُ سُنَّة الله، والحوارُ هو للتعارُف والتعايُش والتفاهُم ومزيدٍ من الثقافة، وليس للإلزام والإقناع.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13].
نفعَني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية |
الحمدُ لله، الحمدُ لله الرحمن، علَّم القرآن، خلقَ الإنسان، علَّمه البيان، أحمدُه – سبحانه – وأشكرُه بالعلم والعمل واللسان والجَنان، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُبلِّغُ من ربِّنا الرِّضوان، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المبعوثُ للثَّقلَين الإنس والجان، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى الآلِ والأصحابِ والأنصار والأعوان، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ.
معاشر المُسلمين: |
ينبغي التفريقُ بين التعايُش والردِّ على المُخالف؛ فالردُّ على المُخالِف بابٌ واسِعٌ مفتُوح، يُسلَكُ فيه مسالِكُ المصلحة والحكمة والموعِظة الحسنَة، والجِدال بالتي هي أحسن في بيان الحق، وتزييف ما عداه.
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – في المدينة قبِلَ تنوُّعَها وتعدُّد سُكَّانها، في حينِ أن القرآن كان ينزِلُ لبيان الحقِّ وفضحِ المُخالِف.
كما ينبغي التفريقُ بين المُسالِم والباغِي والخائِن؛ فالذي يبغي ويُهدِّدُ السِّلم العام، ويُريدُ تفريقَ المُسلمين، ويُعمِلُ السَّيفَ على رِقابهم، فلا بُدَّ من إيقافه عند حدِّه، والضربِ على يدِه كائنًا من كان.
والذي يخُونُ وطنَه، ويخذُلُ أهلَه، ويتواطَأُ مع الأعداء ويُمالِئُهم يجبُ الحزمُ معه، وفضحُ أمره، واتخاذُ الموقِف الرَّادِع الصارِم له ولأمثالِه.
وقد قال عليٌّ – رضي الله عنه – في الخوارِج: “لكم علينا ألا نمنَعَكم حقَّكم من الفَيء، ولا نمنَعَكم من المساجِد، ولا نُقاتِلَكم حتى تُقاتِلوا”.
فلما استحلُّوا دماءَ المُسلمين وأموالَهم، فقتَلُوا عبد الله بن خبَّاب، وأغارُوا على صَرح المُسلمين، فحينئذٍ قاتلَهم – رضي الله عنه -.
ألا فاتَّقوا الله – رحمكم الله -؛ فإن وحدةَ الصفِّ واجتماع الكلمة غاياتٌ مطلُوبةٌ في كل حين، وهي عُنوانُ قوَّة الأمة، وسرُّ حفظِ البلاد، ولكنَّها في هذه الظروف التي يتربَّصُ بها الأعداءُ، ويتطاوَلُ فيها المُغرِضون، ويجتَرِئُ فيها الخوَنةُ، تكونُ أشدَّ إلحاحًا وأعظمَ حاجةٍ.
فيجبُ على كل مسؤُولٍ أيًّا كانت مسؤوليَّتُه، سياسيًّا أو إعلاميًّا أو تعليميًّا أو غيرَهم، في قطاعٍ عامٍّ أو في قطاعٍ خاصٍّ، أن يتأمَّل في الأوضاع، ويعيشَ الواقِع، ويستوعِبَ النوازِل المُحيطة، وبخاصَّةٍ في هذا البلاد المُبارَكة القائِمة على شرعِ الله الرافِعة لرايةِ التوحيد، وقد أدركَ العالَمُ ذلك فيها، ووحدة صفِّها، وتماسُك جبهتها الداخليَّة، ومًِصداقيَّتها، وحُسن علاقاتها. ومن هنا، كانت الثقةُ بها، والقبولُ بدعواتها، والالتِفافُ حولَها، والتحالُف معها.
يجبُ على كل مسؤُولٍ الالتِزامُ بكل ما يُؤكِّدُ روابط الوحدة، وتلاحُم المُجتمع، بعيدًا عن المُزايَدات وعن كل نقاشٍ أو مسائل لا تُناسِب المرحلَة، والحذَر من إثارة ما يُفسِدُ ولا يُصلِح، ويُفرِّقُ ولا يجمَع من مقالاتٍ أو تغريداتٍ أو رسومات.
باعِثُ ذلك: حُسنُ التديُّن، والحبُّ، والإخلاصُ، والعقلُ والحكمة، والغيرةُ على الدين، وعلى الوطن، وعلى الأهل، حِرصًا على المصلَحة العامَّة، واجتماع الكلمة، والالتِفافِ حول القيادة، وإغاظَة العدوِّ المُتربِّص.
حفِظ الله العبادَ والبلاد، وأعزَّ الإسلام وأهلَه، وردَّ كيدَ الكائِدين في نُحورهم.
ألا فاتَّقُوا الله – رحمكم الله -، وأحسِنوا إن الله يُحبُّ المُحسنين.
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمةِ المُهداة، والنعمةِ المُسدَاة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله، فقد أمرَكم بذلك ربُّكم في مُحكَم تنزيلِه، فقال – وهو الصادقُ في قِيله – قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاةَ والملاحدةَ وسائرَ أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتَّبَع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، ووفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، واجمَع كلمتَهم على الحق والهُدى والسنَّة يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحقِّ والهُدى والسنَّة كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتن ما ظهرَ منها وما بطَن.
اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين على الحُدود، اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين على الحُدود، اللهم سدِّد رأيَهم، وصوِّب رميَهم، وشُدَّ أزرَهم، وقوِّ عزائِمَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم أيِّدهم بتأييدك، وانصُرهم بنصرِك، اللهم احفَظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائِلهم، ونعوذُ بك اللهم أن يُغتالُوا من تحتهم، اللهم ارحَم شُهداءَهم، واشفِ مرضاهم، واحفَظهم في أهلِهم وذريَّاتهم، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلُومين في فلسطين، وفي سُوريا، وفي بُورما، وفي أفريقيا الوسطى، وفي بُلأدان أخرى، قد مسَّهم الضُّرُّ، وحلَّ بهم الكربُ، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطُّغيان، والتشريد والحِصار، سُفِكَت دماؤُهم، وقُتِّل أبرياؤُهم، ورُمِّلَت نساؤُهم، ويُتِّم أطفالُهم، وهُدِّمَت مساكنُهم ومرافقُهم.
اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، ويا مُنجِي المؤمنين، انتصِر لهم، وتولَّ أمرَهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وألّّف بين قلوبهم، واجمع كلمتَهم، اللهم مُدَّهم بمددك، وأيِّدهم بجُندك، وانصُرهم بنصرِك. اللهم إنا نسألُك لهم نصرًا مُؤزَّرًا، وفرَجًا ورحمةً وثباتًا، اللهم سدِّد رأيَهم، وصوِّب رميَهم، وقوِّ عزائِمَهم. اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين ومن شايعَهم، ومن أعانَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، ومزِّقهم كلَّ مُمزَّق، اللهم اجعَل تدميرَهم في تدبيرهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك باليهود الصهاينة الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
المصدر:http://www.assakina.com/khotob/85775.html#ixzz4HrMJp8uC