مفاهيم ملتبسة.. الحضارة والنهضة والتنمية والمدنية والتقدم

سهام أمسغرو

 

  • الحضارة:

عندما نتحدث عن الحضارة فنحن بصدد الحديث عن الهُويّة الخاصة بمجتمع ما، طريقته الخاصة في العيش، ومجموع القيم و النظم التي تميزه عن باقي المجتمعات. فأي جماعة من الأفراد تعيش ضمن مجتمع واحد إلا  و لها مكتسبات قيمية و تنظيمية تكوّن من خلالها حياة مشتركة لها مميزات تظهر على مستوى الجماعة، و تشكل في مجموعها معالم الحضارة. و رغم أن هناك من يعتبر حتى الجماعات الأكثر تخلفا تمتلك حضارة خاصة بها[i]، إلا أن مفهوم الحضارة يظل مرتبط في نشأة اصطلاحه بالتمدن، إذ أننا نجد أن “الحضارة” استعملت بمعناها الاصطلاحي  لأول مرة في القرن السابع عشر في فرنسا “civilisation” ، وهي مشتقة من كلمة “civilisé” أي متحضر، و يقصد بها مجموع الظواهر المميزة للحياة التي بناها الإنسان المدني[ii]. وهناك من يجعل حدا فاصلا بين الحضارة و الثقافة كأنهما ضدان متنافران  و ذلك بإعطاء الحضارة صفة المدنية المادية البحتة ، إلا أنه في اعتقادي، الثقافة تشكل جزء لا يتجزأ من الحضارة؛ إذ يمكن أن نصادف حضارتين مختلفتين تمتلكان نفس القوة و الزخم على مستوى النُّظم المَدنية ، و لكن تظل لكل منهما ثقافتها الخاصة التي تظهر آثارها حتى على مستوى العمران، فينطق الحجر الأَصم مُعربا عن حضارة متفردة و متميزة عن غيرها من الحضارات.

و رغم هذه الخصوصية التي تتميز بها الحضارة، إلا أن مفهومها يظل عاما و شاملا، و يبدو ذلك جليا في نظرة مالك بن نبي عندما وصفها “بمجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد في كل طور من أطوار حياته المساعدة الضرورية” [iii]، و من هنا نتبين الشقين المعنوي[iv] و المادي اللذين تتميز بهما.

وبالتالي أستطيع أن أكتب تعريفا مختصرا بحيث تكون الحضارة هي:

حالة من الارتقاء في سلم التاريخ الإنساني تحدث في مجتمع ما، و ذلك من خلال مجموع النظم المادية و القيم المعنوية التي يسير وفقها و التي يتميز بها عن غيره من المجتمعات. 

  • النهضة:

عرّفنا الحضارة أعلاه، و لكن ما لم نقله عنها أنها تجليات النهضة و نتاجها. فإذا كانت الحضارة بناء فكري و مادي يحدث في أمة من الأمم، فإن “عملية النهوض” هي الطريق المؤدية لهذا البناء، فالنهضة هي حركة دينامكية واسعة تطرأ على مستوى الوعي و الفعل تُخرج أمّة من الخمول و الركود إلى الحركة و التغيير المؤَسّسين على إدراك تاريخي عميق و رؤية إستراتيجية مستقبلية واعية. و من خلال الأفكار التي يطرحها الدكتور جاسم سلطان يظهر لنا أن النهضة تأتي بعد مرحلة الصحوة ثم اليقظة[v]؛ الصحوة التي تصحو خلالها روح الانتماء إلى الأمجاد و التاريخ، و تعتريها عاطفة قوية تـنزع نحو التحرك المندفع، ثم تليها اليقظة التي تُوجه هذه العاطفة المندفعة بإدراك و فهم راشدين، لتتوج بعد ذلك هذه المراحل بنهوض حقيقي يتجلى في بناء فكري عميق يليه بناء فعلي في مختلف المجالات و الميادين.

و لأنني لا أريد الخوض كثيرا في التاريخ الاصطلاحي لكلمة نهضة الذي ظهر في إيطاليا مع بداية القرن التاسع  عشر تحت مسمى Renaissance و انتشر في أوروبا في حركة لإحياء التراث العلمي و الفني للإغريق و الرومان[vi]، فقط أكتفي بالإشارة إلى أن أغلب المحاولات العربية لتعريفها ظلت متأثرة بالجدل الحضاري مع الغرب و لم تكن مبنية في مجملها على تأصيل منبثق من الثقافة الذاتية[vii] ، و لقد كان ” شروط النهضة” الذي قدمه مالك بن نبي سنة 1949  يقدم مقاربة مختلفة عما قدمه المفكرون و الكتاب في هذا الصدد، حيث اعتمد على معيار عملي شرطي للإجابة على سؤال النهضة و ذلك باعتماد نفس الإستراتيجية الغربية في تنقيح التراث القديم ، أي أنه استفاد من الإستراتجية و لم يعتمد على المحتوى الفكري، وبهذا أعتقد أنه كان موفقا في إتباع منهجية تقبل الانفتاح على الآخر دون الذوبان في أفكاره.

و لكي أصوغ النهضة في كلمات إذن، يمكن القول بأنها:

حركة دينامكية فاعلة تطرأ على مجتمع عانى من الخمول و الركود لأمد طويل، تستمد قوتها من عبق التاريخ المتألق، و تُأسس فِعلها بفكر مبصر متفوق، و تُنبت ثمارها في كل ميدان بشكل متدفق.

  • المدنية:

المدِينة.. تلك البؤرة التي تمردت على الطبيعة ! و سلـّطت يدها على الحجر و الشجر و الرياح و المطر، و جعلت الآلة تتحدى كل يوم الكون، مرة بالنفع، و أخرى تعيث فيه فسادا..

مِن المدينة تلك، جاء مصطلح المَدَنِية الذي يصف هذه الحركة الدءوبة من فعل الإنسان في تحدي الطبيعة، في استنزاف معدنها و خيراتها حينا، و في محاكاة فعلها بآلة اخترعها حينا آخر.

عملية التمدن هي عملية عامة لا تحتمل الخصوصية في مجملها[viii]، ويمكن أن تنتقل بين المجموعات البشرية دون أن تأثر على خصوصيتها الحضارية . إذ يمكن أن نجد حضارات متشابهة في تكنولوجياتها، مختلفة جدا في تكوينها الاجتماعي و دينها و فنها[ix]. فكيف ذلك إذن و المدنية هي جزء لا يتجزأ من الحضارة؟؟

سبق و ذكرنا أن الحضارة تتميز بخصائصها الثقافية و المادية في آن واحد، و الثقافة هي التي تجعل منها تحمل طابع الخصوصية، بينما الجانب المادي و المتمثل في المدنية، فهو عام، إذن يمكن إسقاطه على جميع الأمم، وأي تقدم في مجال البحث العلمي أو الاختراع التقني أو الصناعي هو قابل للانتشار بين بني البشر دون الرجوع إلى سؤال الثقافة أو الهوية.

فالمدنية إذاً هي:

مجموع الوسائل و النظم المادية التي توصلت إليها البشرية في مجال العلم و التكنولوجيا لتسهيل الحياة الحديثة دون أن تحمل طابعا ثقافيا معينا.

  • التقدم:

التقدم هو صفة لا يمكن لصقها بأمة إلا إذا ما قورنت بأخرى، فهي متقدمة على كذا و كذا من الأمم الأخرى. و التقدم يخضع في تقييمه لمعايير مادية بالأساس، فالدولة المتقدمة هي التي تملك اقتصادا قويا، تطورا علميا و صناعة متفوقة، كل هذا يضمن لها تبعية أمم أخرى أقل كفاءة منها، و بالتالي يكون لديها حضور على مستوى القرار السياسي في المحيط الخارجي بحسب درجة الهيمنة التي يفرضها تقدمها. و من الضروري أن نشير إلى أن مفهوم التقدم لم يكن يخضع لنظرية عامة تظم كل البشر، بل كان لكل حضارة معايير تقدمها حسب منطلقاتها و مقدساتها الخاصة، ثم خضع “للعلمنة” في عصر النهضة الأوروبية حين سيطرت النظرة المادية الواحدية للكون على الإنسان الغربي.و لأن الإنسان الغربي هو المتقدم، خضع العالم “المتخلف” حتى لفهمه لمفهوم التقدم ذاته، و لقد تأثر كثير من المفكرين العرب بهذا الطرح الغربي المادي لدرجة اعتبر بعضهم التقدم هو مرادف للحداثة الغربية.

 و إذا كان هذا الفهم السائد للتقدم في عصرنا الحالي، فإن التقدم التي نرتجيه لنهضتنا الحضارية الإسلامية هو تقدم مادي و أخلاقي على حد السواء، فلا تستبد التقنية على حساب المبادئ الإنسانية و لا يطغى الاقتصاد على الأخلاق و القيم. و بذلك يكون التقدم المنشود هو:

رقي تشهده أمة وسط الأمم الأخرى في المجال العلمي و الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي، وذلك فق معايير تحترم قيمها الأخلاقية و الدينية.

  •  التنمية:

نما نموا يعني الزيادة في الشيء، إذا كان هذا هو المعنى اللغوي الذي تنبثق منه التنمية، فإن معناها الاصطلاحي برز بداية في عالم الاقتصاد، حيث خضع هو الآخر لمقاييس مادية محضة في التقييم، و ذلك راجع للهيمنة الغربية التي كان لها السبق في وضع مؤشرات التنمية انطلاقا من منظور اقتصادي. بعد ذلك بدأ يبرز هذا المفهوم في مجالات أخرى مثل التنمية الاجتماعية و من ثم التنمية البشرية و غيرهما.. لكن هذا المفهوم ظل منحصرا في رؤيته المادية الضيقة، وغدت حتى التنمية البشرية ليست سوى استثمار للإنسان من أجل إحداث تنمية اقتصادية[x]. و من الغريب فعلا أن الدول الإسلامية المندرجة ضمن دول العالم النامية، ظلت تحت هذا الوصف لثلاث عقود طويلة دون أن تتزحزح عنه مما يجعلني أعتقد أن تبني المفهوم التنموي الغربي و تطبيقه في الدول الإسلامية يعد من بين أسباب تخلف هذه الأخيرة، أولا لأن التنمية بالمفهوم الغربي كما تبين قاصرة في شموليتها ، و ثانيا لأن التنمية عملية تخضع للخصوصية المحلية، و بالتالي فإن مفهومها يجب أن ينبثق من المجتمع الذي تمارس فيه. و لقد وضح الدكتور جاسم سلطان الفرق بين التنمية و النهضة و بين تكاملهما من أجل البناء الحضاري عندما قال: “أن مفهوم النهضة هو مفهوم الحراك الاجتماعي لعصر ما نحو الفعالية الحضارية، وأن مفهوم التنمية في الفكر الأوروبي هو مفهوم يقتصر على الجانب الاقتصادي و مؤشراته، و نستنتج أن السعي نحو الحضارة يشمل عملية الحراك النهضوي، و يشمل عملية التنمية الاقتصادية من أجل إحداث فعل حضاري”[xi]

و بالتالي يمكن أن نجمل مفهوم التنمية في كونها :

عملية مستمرة تتم في مجتمع ما بهدف تطوير حياة الفرد و المجتمع، و ذلك وفق سياسات عامة تنبثق من حياة ذلك المجتمع و قناعاته، و تعتمد على توحيد الجهود الحكومية و الأهلية.


  1. [i]  “يرى موريس كروزيه أنه حتى الأقوام المتوحشة لها حضارات خاصة بها”| تاريخ الحضارات العام / م1/ ص18
  2. [ii]Littré. Dictionnaire de la langue française
  3. [iii] “مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي” لمحمد العبدة.
  4. [iv]  أقصد بالشق المعنوي، مجموع القيم و المبادئ و الأخلاق سواء كانت منبثقة من عقيدة دينية أو فكرة فلسفية.
  5. [v]  أنظر “من الصحوة إلى اليقضة” استراتيجية الإدراك للحراك| الدكتور جاسم سلطان. من ص 42 إلى ص 46
  6.  [vi]  حسب الدكتور عمر مسقاوي في مقال له بعنوان “ولادة النهضة في فكر مالك بن نبي” نشر في الحياة بتاريخ 07/06/23.
  7. [vii]   يفصل ذلك الباحث المغربي الطيب بوعزة في مقال له بعنوان “في تجديد سؤال معنى النهضة” نشر على الجزيرة.
  8. [viii]  أقول – في مجملها- لأن هناك من يتحدث عن المدَنية الخاصة، كالملبس الذي تتوفر فيه شروط التمدن و يتميز بالخصوصية الثقافية.
  9. [ix]   رأي “رالف لينتون”  نقلا عن مقال ” الحضارة و المدنية و الثقافة” لـعبد الله المقدسي. بتاريخ 08/07/18 جريدة الرأي الإلكترونية.
  10. [x]عند هيجنـز (Higgins) ، التنمية هي: «عملية استثمار إنساني تتم في المجالات أو القطاعات التي تمس حياة البشر  مثل التعليم والصحة العامة والإسكان والرعاية الاجتماعية…الخ، بحيث يوجه عائد تلك العملية إلى النشاط الاقتصادي الذي يبذل في المجتمع» نقلا عن عمر عبيد حسنة: “مفهوم التنمية”
  11. [xi]  انظر من الصحوة إلى اليقظة | إستراتيجية الإدراك للحراك، الصفحة 20

المصدر: http://feker.net/ar/2012/07/29/11503/

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك