جولة في مصطلحات الحضارة والمدنية والتنمية والنهضة

م. محمد صالح البدراني

تعلَّمنا المصطلحات وانطبعت في الذهن دونما تمحيص وتأصيل, فكانت النتيجة أنَّنا نصف شيئًا بمدلول آخر، وهذا أتى عن طريق التقريب والتغريب الذي مرّ زمن عليه وتجاوز الأجيال.. فقد جرت على الألسن وبالأقلام تصف “التطور المدني” بـ”الرقي الحضاري”, والحضارة شيء والمدنية شيء آخر، ووصف المفكرون الحراك الغربي والثورة الصناعية بالنهضة والنهضة شيء والتنمية شيء.. هي جزئية من كلية, ونظرة مبتسرة عن غير قصد, وإنما مجارات الوصف المتلقى ومحاكاة للفكرة كما في منشئها بغية نقلها كاملة إلى قرائها, أو من خلال الترجمة واختيارها لبدائل الكلمات وفق بُعد المترجم.

هذه الكلمات وغيرها وضعنا لها تعريفها من خلال ما تم نشره في يقظة فكر من إصدارات ومقالات, ولا أرى من داع لإعادتها هنا.. لكن, وخلال هذا المقال, يمكن تلخيص بعض الجوانب.

لو دققنا فيما أتانا من الغرب, وفيه من ظاهر الخير وباطنه, وفيه أيضًا من ظاهر السوء وباطنه, لوجدنا أننا أمام كينونة بعين واحدة, ونتاجها المرتكز والموثوق في جانب واحد, والأفكار التي تدعمها أيضًا أحادية النظرة في جوهرها ومصداقيتها؛ تقبل من يتبعها وترفض من يخالفها, رغم أنَّ الانطباع العام غير ذلك، حتى التحليل للمجتمعات يجري من خلال تلك الأحادية, وتريد الآخرين صورة مصغرة عنها ولا تريدها حتى بذات تكاملها المنظور.. لكي تبقى مهيمنة مسيطرة, ولأن الفكرة أساسًا ليست غاية أو هدف, وإنما وسيلة هي اليوم وإن كانت فكرة مركزية عند الأوائل, وهذا يتضح بجلاء عند الولايات المتحدة، حتى أنك حين تنتقد فعلاً بالمعروف عن الديمقراطية مثلاً يقال “ليس ممكنا أن نتصور اليوم كديمقراطية جيفرسون”… أما أصالة توليف الفكرة فما زالت الأكثر فاعلية في بريطانيا ــ حد تقيمنا عن بعد وما يصل من معلوماتية ــ، نقلوا المدنية دون فكرها فبقت بلا فكـر وإنما نكرانهم للتفاعل مع الغير جعلها تستند إلى تأصيل العقدة الفوقية المحتوية على نقص وانهزام نفسي, لدرجة أرّخت بفتح اسطنبول..

صَرْحُ ما يسمى بالحضارة الغربية هو التكنولوجيا والثورة الصناعية, فهي مدنية تراكم على الجهد البشري وليس بالغرب خاصة وإنما هم اليوم من رواد تطويرها كدول صناعية كبرى(1), ومن الذين لم يحملوا هذه الكنية أيضًا, وفعلهم لا يعتبر حضارة, إنما تحرك واستثمار راده أصحاب المصالح من الإقطاعيين لرأس المال والذي انتقل للولايات المتحدة كرأس مال بكينونته الجديدة, فليس من أفكار أساسية حقيقية في الرأسمالية غير المصالح أو النفعية التي تطورت وكبرت وهيمنت واحتاجت إلى أسوار حماية, فأتت بأفكار قديمة بديلة منفصلة, ومركبة مبتسرة, لتتناسق بمظهرها, لتكون تلك الأسوار, لكنها لا تنطلق من جذر ولا ترتبط جدليًا, رسخت في الذهنية كما المسلمات, وشكلت نمط حياة وتلك الغاية والأمر الذي يدافع عن وجوده ليستمر النظام، هذه الفكر والإعلانات, وغيرها لم تعد كافية حتى بات الحفاظ على نمط الحياة قضية مصير..

وأدلجتها كما يحاول البعض في  الغرب اليوم هو محض عبث سيجعل منها غير ذات قدرة على تأدية الغرض منها، أما ما نقل عندنا فقد أضحى يطرح كأيدلوجيا ويرفض أيضًا كأيدلوجيا وهذا واقع ونوعية الحوار في منظومة تنمية التخلف لدينا الشاملة النواحي.

فالعلمانية عندنا تعرّف (فصل الدين عن الدولة) والحقيقة أنها فصل الكنيسة التي ليس لديها شريعة تعتمدها أساسًا وإنما هيمن رجال الدين بهواهم وحكموا باسم الله.. – وهذا معروفة تفاصيله – وهو خلل لم يعد مقبولاً من كنائس عصرنا “كمعلن من الثوابت”, أهي بلوى أم ابتلاء أن نأتي ونسقط تاريخ الغرب علينا وعلى دين لا يملكه رجال(2)؟

إنما الدين رسالة أمة وهويتها متى فقهته, وهو أساسًا دين دولة, بمعنى أنّ هنالك شريعة نظام وشورى وأن هذا ــ ما خلا ثوابت بالنص ــ أمر مدني قابل للاجتهاد والتطوير, بل وتوجيه الحياة المدنية والمخرجات بمنطلق تكريم الله للإنسان كمدنية لها خلفية وانتماء, لها أساس هو التوحيد, ولها ثوابت في الحقوق والتكريم, كشمولية للإنسان تعطيها الأصالة والثبات, وقيادة نفع الإنسان عمومًا..

نعم هذا يعتمد على فهم القائمين عليه، وهو بهذا يقف معروضًا للأمة باجتهاد دعاته, وليس لهم عند الناس من حصانة وعصمة, وإنما مسئولية الناس حُسن وسوء تقييمها لهؤلاء كما لغيرهم، وينبغي لهذا الفهم أن يملك أدوات التحسين من داخله وله عرى معلومة, ونقض واحدة يعني تدهور أخرى, وهو ما ينبغي أن يكون عبرة من التاريخ, فيصر المتصدون على ولاية الأمة الحقيقية وليس أتباع مناهج الذين ظلموا، فالانتخابات بطريقتها الحالية آلية وممكن أن تعطي الشرعية لدكتاتور, أو أن تعطيها لمنقذ عظيم, أو مؤسسة راسخة صالحة, المهم كيف نستخدم هذه الآلية وكيف نعطيها المصداقية من حضارتنا.

نظام الإسلام لا يُختصر بفرد ولا جماعة, وهو سيبقى في طرح نظري ما غاب نموذجه المنتج من أهل عصرنا، وأهم معوقاته هي الانطباعات وسطحية التفكير وسماع الناس بألسنتها وليس بعقلها, فهي مازالت تتعامل مع التدين كغريزة ولا تفهم الدين النظام.. هو نظام لمن تلقاه بعقله واتخذه وطنًا عندها تستقيم الأمور وتتوجه الطاقات الحضارية والمدنية تهدر في نهر له مجرى وليس طغيانًا ليس له حدود, كطغيان المدنية اليوم الذي تدهورت فيه قيمة الإنسان فأضحت كلاما أو إعلان.

أتمنى على الأخوة المفكرين أن يدقّقوا فيما طرحتُ مُختصرًا، وان يحيوا استخدام الكلام بمفاهيم الإسلام ولا أعني التعبير القديم المبهم للناس اليوم وإنما المعنى العميق المفهوم..  فوصفنا لمدنية الغرب بالحضارة، هو خلق للحجب ومنع للتفاهم والتعارف, ويجعل المعروض بمرتبة التنافس لما هو ليس منافسًا له, ونحن نرى أن لا تفاهم وليس من إرادة للتفاهم فالاستعلاء بالرفض في الطرفين يحد من فاعلية ما لدى الطرفين, ويضيف سوء فهم لمهمة المسلمين, وكل يظن أنه شعب الله المختار, وكأن ضيق نظر الصهاينة لا يكفي بهذا الاتجاه!

المدنية اليوم إذًا بيدِ الغرب والشرق الصناعي للتطوير, وهي عمليًا تكنولوجيا, أما ما يطرح من حريات وحقوق إنسان وغيرها فهي آليات لا علاقة لها بالمصالح ورأس المال كجذر وساق وليست منطلقة منها، وإنما أسوار ربما لم تعد تحميها مع هذا الخلط الجديد والدين عندهم, حتى ليكاد هؤلاء بأدلجتهم ما لا يؤدلج أن يفرضوا على الدين شريعة ليست منه, ولان القادم من السنين يحتمل ظهور هذا الأمر ويكون صراعًا هناك علينا أن نفهم لكي لا نقوم بنقل الصراع إلينا ونحن لسنا طرفًا فيه كما نقلنا ما ليس لنا وأسقطناه علينا حتى حاول البعض تفسير التاريخ ليطابقه مع تاريخ مظلم ويفقد منطقية انتقال نور المعرفة أساسها, فنحن مجتمع يبدو بألوان مختلفة اليوم, لأنه فقد الوعاء الجامع وتناثرت محفوظاته، لكننا أصلا بنينا على التنوع وليس قبول الآخر وإنما حمايته ومن لم يفعل ذاك فهو قد شذ عن الأساس.

ليس عيبًا أن نعرّف الأمور بحقيقتها، وليس كرهًا، وليس نظرة فوقية أن يطمح أكثر مفكرينا ألا يكونوا تابعين عرفوا الطريق أم لم يستبينوه، فنحن ننطلق من نظرة رسالية، نذكر عيوبنا ونعلم واقعنا، ونود أنْ تكون هنالك الحقيقة والحقيقة فقط, لكي نتعاون لا لنتصارع فنهلك البشرية والإنسان ليفهم كل منا وضعه، وللأسف نحن بهذا قاصرين ويظن بعضنا أن بالتوفيق والتقريب بلا أسس وتعريف سيخلق حالة صحية، كما ترون نحن في خضم محاولة هيمنة وإلغاء، بل لا اعتبار، حتى بتنا أمة تعني بئر نفط ومخزن ثروات وأرضنا حاضنة فتن، إن فـَكَّرْنا فيجب أن نفكر بتفكير ناقص قاصر أعور يستثني إن لم يلغي هويتنا لنكون بهذا مقبولين وتابعين شطار تقدميين.. ولا يرون عندنا ما يمكن أن يتعلموه وهو عذر لهم لأننا لم نحاول السير بطريق النهضة حقيقة, وإنما فهمناها كما فهموها أنها تنمية وحسب, وأنكرنا على علمائنا التقليد في حين أننا نمارسه بالتنظير والتفكير المدني..

لنبرز فكرنا، تعاريفنا ومفاهيمنا واستنباطاتنا من المفاهيم بما نفقه من واقعنا، لنضع مقاييس للنهضة ولا نعتمد على مقاييس التنمية التي لا يمكن أن تقيّم النهضة إلا بعين واحدة، انظروا إلى جداولها وقيمها سترون أنها لاتصف جوهر وإنما مظهر في بلداننا..

نريد مقاييس عميقة تصف العمق للنهضة، نحن لا نتسابق بالمدنية فالمدنية عالمية لا نشارك بتطويرها حاليا رسميًا ـــ وإن كانت طرائد الجهل من خيرة أبناء الأمة تشارك من بعيد تقدم لبنها ويسجنها إحساس الغربة وهزيمة الأمة ـــ وما نقدمه هنا فمعطيات تستقى من المستهلكين ولو تصححت أفكار الغرب وطريقة تعامله معنا ــ وهو أمر بيدنا ــ لما كان هنالك من مشكلة مستقبلية لكن العالم اليوم يسير نحو هاوية كله، إنها ـ أي الهاوية ــ منظر مثل مناظر التاريخ الخربة في الصراعات، قد ينفذها عقل جمعي متمدن, إلا أن الخراب سيوضع بإطار وإمكانيات فنية حاسوبية تقول لك واصفة الدمار أنه منظر جميل بالألوان ونلقي اللوم فيه على بعضنا ونحن بأغلبنا مخطئون.

إنَّ الحضارة عين النهضة اليمنى, منها نستقي الأساس المتين، وبها نقود المدنية إلى حيث الفعل المكين، وحين نشتري مخرجات المدنية بأموالنا فكلما عظمت وتعقدت في ديارنا وعجز أبناءنا عن صيانة خلل فيها أو إعادة تشييدها أو تطويرها بأنفسهم.. فهذا يعني تدني في التطور المدني وليس علوًا كما تشير المقاييس، فلنحسن إذًا تركيب عين المدنية كي نرى بوضوح بعينين لا انطباعات وسراب أو غبش وإنما أبعاد ثلاثية وصورة واقعية يستبينها العقل وهذا هو النظر السليم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  مجموعة الست ( فرنسا، بريطانيا، الولايات المتحدة، المانيا، ايطاليا, اليابان) ثم أضيفت كندا لتشكل مجموعة السبع، ثم روسيا لتشكل مجموعة الثمان، أهم ملاحظتين أنها تشكل 65% من اقتصاد العالم وتحتل سبعة من ثمان مراكز الأشد انفاقًا على التسلح 71%، 98% من الأسلحة النووية وهي 14% من سكان العالم، وهنالك مجموعة العشرين التي تضم دول آسيوية.. ممكن الاطلاع بالتفصيل في ويكيبيديا.

 

(2)  ليس في الإسلام رجال دين، ومن يمثل من أصحاب الأزياء الخاصة دور رجال الدين اليوم إنما هو وزرهم وهو نتيجة الانحدار الحضاري الذي يمر به واقعنا فيهم الفاهم العالم الجليل وفيهم غير هذا, يغره حال دنياه وهالات يهواها وبات مصدرًا للتشريع يترك الناس بعقلها الجمعي الذي يتجه بنا إلى التعمق في منحدر ألتخلف والذي نتيجته ضعف الفهم القائد للجهالة فيظن البعض أن رأي إنسان حتى ولو لم يك من الشرع بشيء ينقذه من معصية الله بفعله.. وأسوأ الأمر حين يحدث هذا عند رواد المعرفة والتعلم وربما من يحدد للأمة المصير فيستند لهالة الإنسان الضعيف ليبرر فعله للعامة فيستسلم العامة له كأنه قدر الله وعذابه فيكونوا بذلك ستارا للمستبدين.

المصدر: http://feker.net/ar/2012/06/17/11415/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك