هيجل وصوت من الشرق

إبراهيم المطرودي

 

لم تكن مشكلة هيجل عندي أنه قال عن الشرق ما قاله، وعزا إليه ما عزاه، ورماه باجتباء الحرية لشخص، وقصرها عليه، فتلك مسألة وجدتُ ما يؤيدها، ويُستدل به لنصرتها، وإنما الذي رابني من حديثه أنه جعل تلك الخلّة خلة مطلقة، لا تتعلق بالظروف، ولا ترجع إليها، وتلك طريقة في التفكير تُورث اليأس، وتقبر الأمل، وتُخالف تأريخ الإنسان، ومنطق حياته؛ لأنها تعني أن الإنسان الشرقي والغربي مرّابالظروف نفسها، وعاشا تحت ظلالها، فاستطاع الغربي أن يتخذ الحرية له نهجا، ويستزرع بها أملا، وعجز الشرقي أن ينال ما ناله أخوه، فدلّ ذلك على خلل في تكوينه، وعجز في سجيته، وضعف في عريكته، وذاك ما يشعر به قارئ هيجل، والناظر في كتابه.

استولت الكنيسة على الفلسفة، وطوّعتها لنصرتها، ومنعت الفلاسفة من الخروج عليها، والقفز بعيدا عن خطوطها، وقيّدت حركتهم، «وحرصت مجالس الكنائس على أن تُمسك بهؤلاء الفلاسفة حتى لا يجاوزوا حدود الدين، فإذا ما ضلوا سبيلهم أرجعتهم إلى حظيرة الطاعة» (رسل، تأريخ الفلسفة الغربية)،

أصاب هيجل في وصف الداء، ولم يُوفق في إظهار أن الشرق هكذا كان، وهكذا سيكون، ففي الشرق الإسلامي، كما في الغرب المسيحي، بدأ الإنسان حرا في نظره إلى النص الديني، فنشأت الفرق والمذاهب، وتكاثرت الملل والنحل، وبعد حين انتهى الإنسان هنا وهناك إلى تحكيم تلك التصورات في النص نفسه، فأصبح مطلوبا من النص أن يُؤكّدها ويدل عليها، وينطق بما كان فيها، فجرّد الإنسان تصوراته وأفهامه من التأريخ، ونزعها منه، وأحلّها محل النص، واستنجد بالعقل حتى يبذل جهده في استنباط ما يكفل لها الحجة، ويقيها شر النقد، بدأ العقل في الشرق المسلم باحثا، وفي النصوص ناظرا، وانتهى إلى أن يصبح محاميا عن ثلة من الأفهام، ومدافعا عنها، وطالب فريق بعد ذلك بإغلاق باب الاجتهاد، فكان ذلك تقنينا صريحا لمنح شخص الحرية، وحرمان غيره منها، وإذا كانت تلك حال الشرق المسلم وقصته؛ فهي أيضا قصة العقل في الغرب المسيحي قبل عصر النهضة الحديثة.

وإذا كانت حال شرقنا معروفة لنا، ولا يجد الشرقي صعوبة في قبول تلك الدعوى فيها، فأنا مورد هنا نصين، أبرهن بهما على أن سيرة العقل في الغرب المسيحي لم تكن سوى قصة أخرى، من قصص منح الحرية لشخص وقصرها عليه، وهي قصة لا تختلف بدايتها وإن اختلفت نهايتها، حين بدأ العقل الغربي يستعيد قوته، ويُدافع عن حرية أصحابه، ويبدأ بدوره الإبداعي الذي كان له أول أمره حين كان حرا في قراءة النص الديني والنظر فيه.

إذا كان الشرقيون، بعد مرحلة الحرية التي كان من ثمراتها الثراء في التراث الديني، سخّروا العقل لمذاهبهم، وحراسة ما قاله أسلافهم؛ فالغربيون في العصور الوسطى فعلوا مثل ذلك في الفلسفة، واتخذوها في تفسير المعتقدات الدينية، والدفاع عنها، حتى صارت: "وظيفة الفلسفة أن تحاول تفسير حقيقة هذه المعتقدات، وأن تبرهن عليها بمقدار ما تقع داخل قدرة العقل البشري أن يفعل ذلك؛ لأن الفلسفة لم تكن سوى خادمة للاهوت" (وليم كلي رايت، تأريخ الفلسفة الحديثة).

الفلسفة نشأت قبل المسيحية، وكانت بحثا حرا قبلها، وحين دان الغربي بالمسيحية، ونشأت بنظراته الحرة مذاهبها وطوائفها الدينية؛ أصابه ما أصاب الشرقي من منح الحرية لشخص دون غيره، وعدّها حقا له دون سواه، فكان جلّ همّ الغربي في تلك الفترة أن يلجأ إلى الفلسفة، ويعتصم بها، ويتخذ منها سلاحا يُقنع بسبب منه المسيحيين بأفهام رجال دينهم، ويحمي بها تلك الأفهام أن يُصيبها ضعف، أو يلحقها خور، وظّف الغربي الفلسفة التي نشأت حرة في اليونان، وكانت عند أصحابها الأولين طلبا للحكمة المجردة، وجعلها خادما مطيعا للاهوت المسيحي، فكانت حاله كحال الشرقي التي أخبرنا عنها هيجل، وكرّر ذكرها في كتابه.

صحيح أن العقل الغربي استعاد قوته، واسترد نشاطه، وصحيح أيضا أن أصحابه رأوا أن للعقل ميادين أخرى، غير ميادين اللاهوت والانتصار له، فمضوا في عمارة الدنيا وزخرفتها؛ لكنهم مروا بما مرّ به إخوانهم في الشرق، وخضعوا له، وصيّروا من العقل، الملتحف بالفلسفة، نصيراً للمذاهب الدينية، ومدافعا عنها، ولم يعد للغرب فضيلة على الشرق إلا أنه استطاع أن يُنقذ نفسه، ويُخرجها مما كانت فيه، وليس ذلك على الشرق وأهله ببعيد، ونحن نُشاهد في بلدانه العلماء المبدعين، والشباب المتحمسين للعلم، وإذا كان الغربيون استرجعوا عقولهم بعد حركة الإصلاح الديني، واستردوا ملكاتهم بالعلم والبحث فيه، فقد بدأ أبناء الشرق في هذا السبيل أولى خطواتهم، وما أمر المخترعين من أهل هذه البلاد المباركة إلا نموذج باهر، يشقّ طريقه؛ ليُنقذ الأمة الشرقية المسلمة من صراع المذاهب، وتطاحن أهلها، ويهمس في أذنها أن ثمّ في الحياة دروباً هي خير عند الله تعالى وأبقى للناس من هذه الصراعات التي لم تُعمّر بلدا، ولم ترفع شأن أمة.

والنص الثاني الذي يشهد بأن الغربي مرّت به ظروف، وأحاطت به أحوال، جعلته يقصر الحرية على شخص، ويرى غاية ما يستطيعه أن يُدافع عن قوله، وينتصر لمذهبه، نراه في قول برتراند رسل: "وقد بدأت الفلسفة ـ باعتبارها متميزة عن اللاهوت ـ في اليونان إبان القرن السادس قبل الميلاد، فلما أن قطعت شوطها في العصر القديم، عاد اللاهوت فغمرها حين قامت المسيحية وسقطت روما، وكانت للكنيسة الكاثوليكية السيادة على الفلسفة في ثاني عصورها" (تأريخ الفلسفة الغربية).

استولت الكنيسة على الفلسفة، وطوّعتها لنصرتها، ومنعت الفلاسفة من الخروج عليها، والقفز بعيدا عن خطوطها، وقيّدت حركتهم، "وحرصت مجالس الكنائس على أن تُمسك بهؤلاء الفلاسفة حتى لا يجاوزوا حدود الدين، فإذا ما ضلوا سبيلهم أرجعتهم إلى حظيرة الطاعة" (رسل، تأريخ الفلسفة الغربية)، وتلك هي الحال التي وسم بها هيجل الشرق وأهله، فأهل الغرب وأهل الشرق مروا بتقديس عالم الأشخاص الذي يجعلهم يستجيرون بكل ما يستطيعون حتى يحموه، ويقفوا دون نقده، والفرق بين الشرق والغرب أن الأخير أدرك أن الدفاع عن عالم الأشخاص وما تركوه ليس سوى لعبة من ألاعيب الباطل على الأمم، يمنعهم بها من استثمار عقولهم، ويحول بها دون تفكيرهم، ويُفرّق بها بين أجيالهم، فجيل عظيم يملك التفكير، ويقود عملية الخلق الإبداعي، ويملأ الآفاق بعقله ضجيجا، وجيل هزيل غايته الحراسة، ومهمته الحماية، وليس له بعد ذلك هدف يرومه، ولا مسعى يقصده، وكأن علة إيجاده والحكمة من خلقه لم تكن على قدر علة وحكمة إيجاد الأول وخلقه، وتلك اللعبة هي ما بدا لي أن هيجل يريده، ويسعى إلى إقناع القارئ به، وهو معنى ما كان لفيلسوف ألمانيا أن يذهب إليه، ويُفسد حكمته به؛ فالحكمة أمل في التغيير، ونشاط في الطريق إليه، وتهيئة حثيثة لظروفه!.

المصدر: http://www.alriyadh.com/1543527

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك