ما يستلزمه التواجد الحضاري للعالم الإسلامي

الدكتور ميرزائي

 

إنّ موضوع الحضارة مليءٌ بالغموض والإبهام، ليس لجهة اختلاف النظريات المطروحة في هذا الحقل فحسب، وإنّما للتباين الذي يشوب هذه النظريات أحياناً، فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي اعتبر فيه البعض أنّ التمدن هو الجزء المحسوس والخازن المادي للثقافة، اعتبره البعض بعداً فكريّاً لها، في حال أنّه يمكن القول، أنّ جميع التعاريف المرتبطة بالحضارة والثقافة تتمتّع بمكانةٍ خاصّةٍ، وبالأخص أنّ البعض اعتبر في طبيعة العلاقة بين الحضارة والثقافة، أنّ الثقافة هي الحجر الأساسيّ للحضارة، بحيث تكون الحضارة كالبناء المؤَسّس عليها، في حين عدّها البعض بمثابة الأعمدة الشامخة والبارزة لصرح الحضارة، بنحوٍ تكون خيوط الثقافة والحضارة قد نُسجت وتشابكت مع بعضهما البعض.

على الرغم من الإبهام الذي يعتري مفهوم الحضارة والذي يحول دون تمكّن الباحثين من إعطائه معنىً واضح وشفاف، إلّا أنّه من الواضح بمكان، أنّ هذه العلاقة المتينة بين الحضارة والثقافة بدرجةٍ تسمح معها إمكانيّة مشاهدة الثقافة في كلّ بعدٍ من أبعاد الحضارة بحيث يكون الكثير من اضطراب وعدم فعّالية الحضارة، أساساً في وجود التناقضات والمتباينات الرئيسيّة في الثقافة.

يبدو للعيان أنّ لدينا أسلوبين أساسيين لدراسات الحضارة:

الأسلوب السلبيّ: وفيه نُثبت عظمة حضارتنا عن طريق تبيين ضعف وجمود الحضارات المنافسة الأخرى، ومن دون شك، فإنّ عدم فاعليّة الحضارات الأخرى تشكّل فرصةً حقيقيّة لإظهار حضارتنا على كافة الأصعدة، أمّا ذلك لا يعني بوجهٍ من الوجوه أنّ ضعف الحضارات الأخرى دليلٌ على قوّة حضارتنا، وذلك لأنّ كل مظهر من مظاهر حضارتنا بلا شك يجب أن يكون مسبوقاً حتماً بالفكر والأعمال الإيجابيّة والبنّاءة، وبعبارةٍ أخرى فإن الضعف الحاصل في الحضارات المنافسة الأخرى يمكن أن يشكّل فقط حافزاً لتحقّق حضارتنا.

الأسلوب الإيجابي: ونسعى من خلاله إلى معرفة مدى الاستعداد الإيجابي للتراث الإسلامي من جهة القدرة على الأداء والعمل، بصرف النظر عن الحالة السلبيّة أو الإيجابيّة التي تتمتّع بها الحضارات الأخرى.

يتجلّى الأسلوب الإيجابي لدراسات الحضارة عبر مرحلتين:

المرحلة الأولى: وصف المقدرة الحضاريّة الإسلاميّة والتي تتمّ قراءتها من خلال النهج التاريخي للتراث الإسلامي وذلك عبر خطوتين: في الخطوة الأولى تتمّ فيها ملاحظة محتوى التراث الإسلامي، وفي الخطوة الثانية أن نضع جزءاً من هذا المحتوى موضع النقد والتحرّي، وبشكلٍ عام، في هذه المرحلة من دراسات الحضارة، تكون نظرتنا إلى الثقافة الإسلاميّة، وأدائها نظرةً إجماليّة، وهذه الميزة تحدو بنا أن نحكم بأنّ دراساتنا الحضاريّة لا ينبغي أن تبقى أسيرة هذه المرحلة بطابعيها الانفعالي وحدّها الأدنى.

المرحلة الثانية: تبيين مدى المقدرات الإسلاميّة المرتكزة على مجال العمل والأداء في الحاضر والمستقبل.

والحقيقة أنّه على الرغم من أنّ هذه المرحلة من مراحل دراسات الحضارة تشكّل أكبر حاجاتنا وأكثرها إلحاحاً، إلّا أنها وإلى يومنا هذا لم تدخل حيّز الاهتمام بشكل جدّيّ، كما يبدو أنّه في هذه المرحلة وقبل أي شيءٍ نحن بحاجةٍ إلى تأسيس أصلٍ أصيلٍ، ينبغي من خلاله الاهتمام بعدة نقاط أساسيّة وهي:

من الضروري أن يكون هناك ارتباط بين الحضارة الإسلاميّة وجملة المفاهيم الأساسيّة والمقوّمة للتاريخ الإسلامي، من قبيل الخلافة، والإمامة و…الخ، وبعبارةٍ أخرى فإنّ أيّ زاوية من زوايا الحضارة الإسلاميّة، يجب أن تشير إلى قسمٍ من أقسام الرؤية الكونيّة الإسلاميّة، والاهتمام بهذه المسألة يؤدّي إلى عدم ضعف مصادر المعرفة للحضارة الإسلاميّة بنصوصها الإسلاميّة، وذلك لأنّ الرؤية الكونيّة الإسلاميّة تشمل النصوص والمتون الإسلاميّة وغيرها.

ومن هناك وقبل أن تمثّل الحضارة حالةً محسوسةً من قبيل التكنولوجيا والاقتصاد فإنّها تُعتبر امتداداً فكريّاً ومعنويّاً يحاكي العقلانيّة والأخلاق، ومن اللازم إيلاء الاهتمام وبشكلٍ جدي بالأساليب والوسائل والمراكز المواكبة للقدرات المعنويّة للإسلام، وبعبارةٍ أخرى، فإنّه في الوقت الذي تكون فيه الميّزات الأساسيّة للحضارات غير الإسلاميّة من قبيل الكميّات المحسوسة، فإنّ الحضارة الإسلاميّة هي من الأمور التي تُعنى بالكيف، وإلى ما يمكن قوله: فإنّ الحضارة الإسلاميّة وصفٌ للحالة الأخلاقيّة في الاجتماع البشري، حيث يتمّ فيه أولاً أن يكون محصول الطاقات الإنسانيّة في سبيل القرب الإلهيّ، وثانياً انسجام هذه الطاقات والقوى بدرجةٍ لا يسمح فيها الابتعاد عن الأعمال الإنحرافية بعدم إبطال أثر بعضها البعض فقط، وإنّما ومن خلال اتخاذ الرؤية التوحيديّة محوراً لها، فإنّه سيتحقّق التآزر والتعاضد والتناغم فيما بينها، وعلى هذا الأساس فإنّ الحضارة الإسلاميّة هي حالةٌ يمكن للنفوس أن تتكامل وتتفاعل عبرها، سواءُ كانت ضمن عائلةٍ واحدةٍ، أو في قريةٍ، وحتى في مدينةٍ صغيرةٍ ولو كانت فاقدةً لكلّ إمكانيّات الخدمات والتكنولوجيا.

على الرغم لما تمثّله الحضارات من بعدٍ فكريٍّ وحسيٍّ، فإنّ لها مستويات بعيدة وقريبة، حيث تتجلّى من خلالها – على سبيل المثال فإنّ العائلة على ما لها من أهميّة إلّا أنّها من المستويات البعيدة للحضارة، أمّا الدولة والجغرافيا فهي من السطوح القريبة لها- ووفق تعبير مالك بن نبيّ، فإنّ الواقع مركبٌ من ثلاثة عناصر هي: الزمان، والأرض، والعقيدة، وكما يبدو فلتحقّق الحضارة الإسلاميّة ، ينبغي أن تُبيّن هذه العناصر الثلاثة في العالم الإسلاميّ بشكلٍ منطقيٍّ ومعقول.

يمكن استحصال الإرث الإسلامي المتوافر لبناء الحضارة الإسلاميّة عبر أسلوبين: الأوّل التقصّي المبنيّ على العلوم المتوافرة والموجودة، بمعنى أن يتلقّى هذا التراث الإسلامي الحاضر، جملةً من أجوبة العلوم على احتياجات الحضارة، لأجل صناعة وبناء الحضارة، والثاني التقصّي المبنيّ على أساس المفكرين الإسلاميين، بمعنى أنّه ولعدم إتاحة الوقت، أن نضع النظريات التي تعمّق بها مجموعة المفكرين الإسلاميين، نصب أعيننا لدراستها، إنّه من الواضح وبشكلٍ أكيد أنّ كلا هذين الأسلوبين يركّزان على الصيرورة التاريخية للنظريات والإرث، أمّا ما يميّز الأسلوب الثاني هو ما يُلاحظ فيه من صيغةٍ وقراءات متخصصة أكثر من الأوّل، وعلى سبيل المثال عندما نطالع نظرية الإمام الراحل حول الحضارة، فإنّنا لا نطالع فيها فقط فكر الإمام، والذي يعبّر عنه آية الله جوادي آملي أنّه فكرٌ حاوي للقرآن والبرهان، والعرفان، وإنّما يتمّ أيضاً ملاحظة التجربة التطبيقيّة لهذا الفكر في مجال العمل، وبعبارةٍ أخرى فإنّ دراسة التراث الحضاري الإسلاميّ عن طريق استقصاء العلوم الإسلاميّة، يؤدي إلى أن نفقد في متون العلوم جملةً من الشخصيات المتعددة الأبعاد الجامعة لعلومٍ في نموذج ونمط الحياة، كالإمام الراحل، هذا في حال أنّ الشخصيّة الحقيقيّة للإمام الراحل يجب أن يُبحث عنها في سيرته وليس في كتبه.

لا شكّ أنّ القرآن والسنّة من مخزون الحضارة الإسلاميّة، حيث يعتبر القرآن الكريم أهمّ نص إسلامي وقيمته تتجلى في متنه، أمّا قيمة السنّة فليس في محض متنها فحسب، وإنّما عبر تطبيقها للقرآن، وبتعبيرٍ آخر في تبيينها له، وتأتي علّة أهميّة القرآن الكريم في منظومة المفاهيم والأخبار التي يؤديها.

بناء الحضارة الإسلاميّة أمرٌ تدريجيٌّ متعدّد المراحل، بمعنى أنّها ليست بأمرٍ سابق؛ حتى يمكننا أن نضع حيثيّاتها الكاملة تحت تصرفنا بشكلٍ مسبق، وأيضاً ليست بأمرٍ لاحق، حتى نتمكّن وبمرّةٍ واحدة كالله أن ننفخ الروح في هذا القالب، إنمّا ينبغي علينا، ومن أعماقنا، الاعتقاد والإيمان بالإسلام الذي يرتكز القرآن في حاقّ وجوده، ويجب أن نجري هذا الإيمان في أرواحنا مجرى روح الحضارة الإسلاميّة على قدم المساواة وفي نفس الوقت، وفي هذه الحالة فإنّ كلّ ما يصدر منّا من فكرٍ أو عملٍ سيكون هو الحضارة الإسلاميّة، وفقط ومن خلال الروح المقارِنة للقرآن الكريم تستطيع أن تقيم أوثق العُرى مع الآخرين في الدين، وأن تشكّل الأمّة الإسلاميّة، والحقيقة أن تشكيل الأمّة ليست هي الغاية الحقيقيّة للحضارة الإسلاميّة، وإنّما هي الحاضنة التي تتحقّق الحضارة من خلالها، وبعبارة أخرى فإنّ الأمّة الإسلاميّة هي المكان الذي تنمو فيه الطاقات الإنسانيّة، وهي بنفسها جزءٌ من تحقّق الحضارة الإسلاميّة.

إنّ بناء الحضارة الإسلاميّة بحاجةٍ إلى وعي عميق للقدرة الماديّة والمعنويّة الإسلاميّة، بحيث يؤدي فقدان عامل الوعي إلى تبدّل هذه القدرة إلى تهديد.

من اللازم الاعتناء بنفس الوقت بالفرص السانحة وأيضاً بالتهديدات، فعلى سبيل المثال، بلا شك أنّ الصحوة الإسلاميّة فرصةٌ تاريخيّة للعالم الإسلاميّ، أمّا الغفلة عن فهم جميع جوانبها، فإنّها تؤدي إلى تفعيل التهديدات من خضمّ هذه الفرصة، وخلاصة المسألة، فإنّ المهم في الاهتمام بهذه القدرات الإسلاميّة، هو هندسة الحضور التاريخي للإسلام ضمن سلسلة مجريات الأحداث في العالم المعاصر، بحيث يكون إبراز هذه الهندسة، وخروجها إلى حيّز التنفيذ، نمطاً واقعيّاً حضاريّاً، وليس فقط مُنتزعاً من أقوال الأخرين .

لأجل الاستفادة القصوى من المقدرة الإسلاميّة واستمراريّتها، ينبغي دائماً أن نضع الأساليب المرتبطة بالإسلام وقدراته موضع النقد.

المصدر:http://alhiwaraldini.com/home/%D9%85%D8%A7-%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D9%84%D8%B...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك