هل نحن في صراع مستمر مع الحضارات

رقية القضاة

 

الحضارة نتاج إنساني متعدد الجوانب والمجالات واسع التاثير كبير التأثر، وهو تعبير ينم عن مدى حضور وتأثير أمة من الأمم، في زمن من الأزمان ، بحيث تترك أثرا واضحا وجليا يسطر ويكتب في التاريخ الإنساني الممتد عبر قرون وآماد ، هي عمر الإنسانية على وجه البسيطة .

وهو تأثير يختلف سلبا وإيجابا بحسب مصادر إثراء وبناء وإنشاء هذه الحضارة، إذ كلما زادت واقعية وعدالة ومراعاة تلك المصادر لحاجات الإنسان وفطرته، كلما امتد وطال وخلد عهد تلك الحضارة وتميزها، ولأن تاريخ الإنسانية مرتبط إرتباطا وثيقا بحضارتها ، فإنه من غير الممكن أن يذكر ذلك التاريخ دون إيضاح أثر ومآثر هذه الأمة أو تلك ،ولان التاريخ الحضاري للأمم مرتبط أشد وأوضح مايكون بعقائدها ، فإن تنوع الأثر الحضاري للأمم لازم الإختلاف والتباين.

وليس بالضرورة الاصطدام والتقاطع والرفض الكامل ، بل هو توارد وتتابع الامم بعقائدها وثقافاتها وآثارها المختلفة وفق تدبير العزيز الحكيم الذي جعل عمارة الارض قرونا تتلو قرونا مع اختلاف الشرائع وتباينها ما بين حق وباطل عند الله سبحانه فالقران يقر بوجود حضارات واستخلافات وأمم سابقة أثارت الأرض وعمرتها وهو ماعبر عنه القران الكريم بقوله سبحانه وتعالى: (( وأثاروا الأرض وعمروها أكثرمما عمروها )) .

ومع أن الحديث عن هذه الحضارة جاء في معرض السير في الأرض والاعتبار بنتائج الإعراض عن رب الخلق (( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى )) إلا أن القرآن قد أقر لهم بالبناء والإعمار والتأثير.

وهو أيضاً ما أوضح ووثق المبادئ التي تقوم عليها حضارة الأمة الاسلامية ، فهي لا تلغي الآخر ولا تقيم له المذابح الجماعية في حركة خرقاء يظن بأنها ستلغي الإسلام كدين وتمحوه كنور وحضارة ، بل تتعايش معه وتبني بمعيته دون ادنى انسلاخ من ثوابتها الشرعية.

وهو أيضاً ما يجعلها في موقع الديمومة والتجدد والتأثير والتميز الإنساني والفكري ، المادي والروحي، العبادي والعقائدي والتشريعي " لكم دينكم ولي دين " وهو كذلك ما أعطاها ميزة الامتداد والقبول والإحترام في نفوس المنصفين ،يقول " بول كيندي"  في كتابه " الإعداد للقرن الحادي والعشرين " ( الإسلام ظل لقرون طويلة قبل نهضة أوروبا يقود العالم في الرياضيات والعلوم وعلم الجغرافيا ورسم الخرائط والطب ، وفي الكثير من علوم الصناعة وغيرها ، في الوقت الذي لم تكن أمريكا واليابان تمتلكان شيئاً من ذلك ).

وعلى الرغم من أن التاريخ الإنساني لم يعرف حضارة إنسانية عقائدية قائمة على منهج هو أعدل وأشمل وأرحم وأكثر تفهماً لخصوصية الإنسان ولا أرحب مدى لحريته من الحضارة الإسلامية.

وعلى الرغم من شهادات المنصفين من مسلمين وغيرهم، وعبر أزمنة متفاوتة بأن الحضارة الإسلامية لم تلغ حضارة الآخر، ولم تحاربها ولم تمحو وجودها، ولم تتنكر لحسنها ، ولم تنف الخيرية تماما منها ككل، ولم تنتحل لنفسها ما فعله وقام به وأنتجه غيرها من الحضارات ، إلا أنه يتصاعد من هنا وهناك نغم نشاز يتهم حضارتنا ويقصد الإسلام كدين بما هي وهو منه براء، وتسمع في محافل كثيرة وكبيرة ما لا يسعنا أن نسميه إلا الادعاء ومحض الإفتراء والبهت البين في حق حضارتنا الزاهية الزاهرة المشرقة العادلة.

فهي عندهم حيناً سارقة لتاريخ الأمم وحينا محاربة لتطور الحياة وازدهار مناحيها، وحينا معارضة ومصادمة لكل نتاج إنساني ،بسبب تخلفها العقائدي والتشريعي والأناني [بحسب ادعاءهم] ، وهذا ما ابطله المنصفون واوضحه المهتمون بجلاء الحقائق وإيضاحها، وهو ما نقول به كأصحاب وحملة وصناع وورثة هذه الحضارة العظيمة البنائية الإنسانية بامتياز.

إن القوى التي تسعى للسيطرة على العالم بكل مقدراته البشرية والمادية وفق ما يسمى بالقوى النفعية أو الراسمالية تسعى دائبة الى تزوير الحقائق وقلب الصورة الحقيقية إلى ضدها فتتهم الحضارة الإسلامية بالتعارض والتصادم مع الحضارات الاخرى، وبصورة واضحة وجلية لايتردد أحد منظري الراسمالية وهو " هنتجتون " المنظر الرأسمالي الشهير وصاحب كتاب " صدام الحضارات " أن يجاهر بأن مشكلة حضارته مع الإسلام كدين فيقول في كتابه: ( إن المشكلة ليست مع الأصوليين الإسلاميين وحدهم بل إنها تكمن في الإسلام نفسه ).

 ولقد اصاب هذا المنظر برأيه فطالما أن الاسلام هو مرجعية الأمة فانها لن تكون حقلاً خصباً لهذه السموم المادية أو تلك حتى ولو ارتدت زي التقدم المادي ، والحضارة النفعية وحتى لو تزينت بكل ما يلمع ويبهر من الشعارات الزائفة ،التي تتغنى بحقوق الانسان وسعادة البشرية.

إن موضوع الصدام مع الحضارات ،ورفضها جملة وعدم التأثر والتاثير بها ادعاء فندته ولا تزال، كل تلك الصور من التعايش والتفاعل الإنساني بين الإسلام كدين وحضارة وفكر ،وبين غيره من الأمم والشعوب ، فما يزال قلب أوروبا ينبض بتلك المآثر الفكرية والفنية، ولا تزال تلك المنائر والمنابر تنتصب شامخة في وجه كل دعي كاذب، لتقول للتاريخ من هنا مر قوم قلوبهم عابقة بالتوحيد، وعقولهم عامرة بالإبداع ، وأيديهم صناع ماهرة في رسم وجوه حضارية متميزة للتألق الإنساني في أروع إبداعاته، وأدق تفاصيله الراقية.

تقول للذين يدعون بأن الاسلام عائق أمام الحضارة الإنسانية، حين كانت بلادكم تغط في غيبوبة الوهم وتغرق في مستنقعات الجهل، وتلغ في دماء الأبرياء، وتقتات على شقاء الفقراءوالمكدودين ، كان بنوا ديني يبنون لكم موروثا ثقافيا إنسانياً بكل القيم الرفيعة، ويشيدون في قلب كيانكم إرثا حضاريا مجيدا خالدا، تمشون في مناكبه وتتيهون على الزمان به.

من هنا مر الإسلام بعدله ورحابته، وهنا أقام قرونا، ليعلِم المكبلين بقيود العبودية والاقطاع ، كيف يصوغون جراحهم الحانا تطلب الحرية ،ويعلم المظلومين كيف يقفون طودا شامخا في وجه أمواج الظلم ، وهم يسمعون كلمات الله الخالدة المحررة للأرواح تتردد في جنبات الأندلس ، وتملأ رحاب أوروبا (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) .

الحضارة الإسلامية التي تصنف اليوم على أيدي منظري الرأسمالية بأنها أيديولوجيا مثيرة للكراهية محاربة للتقدم ومتصادمة محاربة للحضارات الاخرى هي الحضارة الوحيدة القائمة على أساس متين من " التقوى " والتي هي قوام العدل البشري، وهي الميزان الذي اعتمدته هذه الحضارة المشرقة في تقرير مايؤخذ وما يرد من الحضارات والمعتقدات الأخرى، فالزبد يذهب جفاء هباء ،ويتلاشى بفعل ظلمه أو جهله أوأنانيته أو تنافره مع مصلحة الإنسان كإنسان.

وأما ما ينفع الناس بكل أطيافه ومشاهده ومشيداته وآثاره ، فيمكث في الأرض ثابتاً القاً مؤثراً ولو كره المبطلون مصداقا لقوله تعالى: (( أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )) .

نعم المشكلة في الإسلام نفسه مع تلك القوانين الظالمة للبشرية ، ولا أسميها حضارات لأن الحضارة هي الحضور الإنساني الباني، والمنتج والراعي والمراعي لمصالح البشرية كلها، وليس لمصالح طبقة أنانية جشعة صنعت نظاما نفعيا جائراً، ثم فرضته كمصطلح حضاري زائف في حركة ردة إلى عصور الإقطاع ولكن بمسميات حديثه.

وعليه فإن عبارة ومصطلح صراع الحضارات هو مفهوم نفعي اجتثاثي لكل ما يمت إلى الحضارة الإسلامية بصلة، وهذا المفهوم غطاء فكري لسياسة الهيمنة الأمريكية الرأسمالية على مقدرات العالم، والتي لاتجد لها معوقاً أشد وأنكى من الإسلام، مهما حاولت تطويعه أوتطويقه أو تسييره عبر تصدير الفكر الليبرالي ، واحتواءها لبعض التيارات المسماة بالإسلامية، تحت مسمى التحديث والتطوير والانسجام مع الآخر، فلا مبدل لكلمات الله .

المصدر: http://www.denana.com/main/articles.aspx?article_no=10823&pgtyp=66

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك