الإسلام والغرب: غيمية الرؤية وإضطراب المفاهيم

محمد الدعمي

 

تنحو الصراعات العالمية الرئيسة اليوم منحى غريباً، وكأنها يمكن أن تختزل على نحو “حرب باردة” جديدة، بين الإسلام والغرب، هذه المرة. وتشير الأنماط السلوكية للإعلام و لاستطلاعات الرأي العام إلى ثمة أيادِ خفية تعمق (على نحو واع أو غير واع) من هذا الإنشطار، وكأن العالم قد إستبدل الكتلة الشيوعية بالعالم الإسلامي كي تدور رحى الصراع القائم اليوم حول محور جديد. واحد من الأدلة على صحة هذه الملاحظة تقدمه اليوم مؤسسة “غلوب” العالمية الأكثر شهرة في حقول إستطلاع الرأي العام، حيث أنها قدمت خلاصات “سوداوية” شديدة التشاؤم حول “الشرخ” بين الإسلام والغرب، بوصفه شرخ متسع، متنوع، مدمر!

على الرغم من أنن الكثير كتب عن تعقيدات هذا الموضوع فإن علينا الإعتراف بأن المقصود في هذا السياق هو تتبع أصول وتبرعمات الصورة الأكثر شيوعاً في الثقافة الغربية للإسلام وللعالم الذي يعتنقه. أما أن تحال الصراعات العالمية السائدة إلى كينونتين مفترضتين غير متجانستين، فإن في ذلك خطأً مفهومياً يستوجب التأشير. الإسلام ليس دولة أو كتلة دولية منافسة قائمة، كما كانت عليه الكتلة الإشتراكية على سنوات الحرب الباردة. كما أن الغرب لم يعد كما كنا نراه في عصر الكولونياليات والوصايات الأوربية وما بعده. لذا ترتكب مؤسسة غالوب خطأً عندما تتحدث عن “العلاقة” بين الإسلام والغرب نظراً لسيولة المفهومين وتجريديتهما الزائدة: فهل أن المقصود بـ”الإسلام” هو الحكومات القائمة في دول العالم الإسلامي، وهي (كما ندرك جيداً) تحتفظ بعلاقات طيبة (عامة) مع مثيلاتها في العالم الغربي. ثم هل أن المعني بالإسلام الحركات الراديكالية الأصولية التي ترجمت أفكارها إلى برامج مضمخة بالدماء وبالعنف والإرهاب؟ هذا سؤال آخر يسري عبر الكثير من التشعبات والإنحناءات. إن الحديث عن “الإسلام” نظاماً دينياً عقائدياً، كما هي عليه الحال مع الأنظمة الدينية الأخرى كاليهودية والمسيحية وسواهما، فإن الموضوع يحتاج إلى شيء من التأمل المتأني، ذلك أننا لا يمكن أن نقرن أو نرصد علاقة بين كينونتين غير متجانستين: يمكن أن ندرس العلاقة بين الإسلام والهندوسية في شبه القارة الهندية، بإعتبارهما دينين شائعين هناك، ولكن من غير اليسير أن ندرس العلاقة بين مفهوم هلامي كـ”الغرب” وبين دين كبير: ليس هناك تجانس يسمح بمثل هذه الدراسة أو المقارنة.

ثمة تعقيد آخر في الشرق العربي الإسلامي: فالغرب في الجزائر عموماً يعني فرنسا، في مراكش هو يعني فرنسا وإسبانيا، في ليبيا هو يعني إيطاليا خاصة، في المشرق العربي الإسلامي كان الغرب يعني بريطانيا وفرنسا حتى دخول الولايات المتحدة الأميركية معترك صراعات الشرق الأوسط لتكسب صفة “الغرب” غير الواضحة. هل أن الغرب هو صفة جغرافية تشير إلى كل ما يمتد إلى اليسار على الخارطة؟ هذا مفهوم مضحك لأنه يلغي كروية الأرض وحركتها الدورانية حيث يكون مفهوم “شرق / غرب” مفهوماً نسبياً متغيراً. ثم كيف يمكن لنا أن نصنف الدول إلى “غربية” و “شرقية”، وأي الأسس يمكن أن تعتمد في هذا السياق: فهناك تعقيد شائك آخر هنا: هل أن الغرب أسلوب حياة وتقنيات عالية وعلاقات مجتمعية من نوع خاص، هل لنا أن نعد اليابان جزءاً من العالم الغربي؛ ثم ماذا عن أستراليا أو نيوزيلاندا وحتى إسرائيل، هل لنا أن نضع هذه الأسماء في “سلة” العالم الغربي، نظراً لمعطيات هذا المعيار، بالرغم من أنها (جغرافياً) تتموضع في الشرق التقليدي القديم؟

أما إذا كان المقصود بـ”الغرب” بعداً روحياً دينياً، بمعنى أن الغرب هو “العالم المسيحي” Christendom، فلماذا نخجل من الكلام عن هذا العالم بصفته الدينية هذه؟ وكيف يمكن لنا أن نصنف المسيحيين الموجودين بين ظهرانينا في العالم الإسلامي؟ وبطبيعة الحال، ثمة إضطراب على الجانب الآخر من هذه المعادلة الإفتراضية الخاطئة، ذلك أن العالم الغربي هو الآخر غير متجانس لأنه مجموعة كبيرة من الدول والحكومات والأمم أو الأقوام التي تدين غالبيتها (ولو إسمياً) بالمسيحية. هذه دول تأسست أو تبلورت على أسس قومية في القرن التاسع عشر كألمانيا وإيطاليا وفرنسا، ولكنها سرعان ما طلّقت الفكرة القومية ثلاثاً كي تحتضن فلسفة علمانية لا صلة لها بالقومية ولا بالأديان. لهذا تكون الحوارات عن الغرب والإسلام بلا أسس فكرية مقبولة، خاصة وإن حكومات الدول الغربية وشركاتها الكبرى لا تعاملنا على أساس ما نعتنق من دين بقدر ما تعاملنا على أساس المصالح وحسابات الربح والخسارة. إن الحكومات القائمة في الدول الغربية من أوربا إلى الولايات المتحدة وحتى اليابان وأستراليا هي حكومات علمانية تخص الأديان عامة بنظرة ملؤها التسوية والتحجيم كي تدفعها إلى الخلف، الأمر الذي يفسر التسامح الواضح حيال إنتشار الإسلام داخل العالم الغربي، خاصة في أوربا وحتى في الولايات المتحدة وكندا.

وتأسيساً على ما تقدم من جدل لا يمكن للمرء أن يجد مسوغاً منطقياً كافياً كي يخدم لتأسيس وتهويل علاقة متوترة بين كينونتين غير متجانستين، حيث يتطلب هذا منا أن ندير ظهورنا لهذا الجدل المفتعل كي نقف بدقة أشد على المفاهيم الصحيحة التي يمكن أن تقودنا نحو إدراك أفضل لما يجري في العالم اليوم. فإذا ما أردنا تسوية الصراع على نحو مفهومي ديني نقع في مطب الكلام عن “صليبية” جديدة؛ أما إذا ما حاولنا أن نبتسر المفاهيم إلى فلسفات دينية مقابل فلسفات علمانية مادية، فإننا نقترب إلى شيء من الصواب، ولكننا نبقى بعيداً عن ملامسة الحقيقة كاملة. ثمة سيولة مرهقة ومربكة في المفاهيم ينبغي أن تباشر بشيء من الثبات والقدرة الواضحة على رؤية الأشياء.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك