أزمة حضارتنا الراهنة وهاجس الآخر

كرم الحلو
 

بينما يخطط العلماء لإرسال رحلة مأهولة إلى المريخ تليها رحلات، بما يمهد لإنشاء مستعمرة بشرية على ذلك الكوكب النائي، وبعد أن حطمت الثورة المعرفية الحدود والمسافات حتى بات عالمنا أشبه بقرية كونية موصولة بشبكة اتصالات عابرة للقارات والأمم والمجتمعات، وبعد قرون على فلسفة الأنوار التي افترضت أن العقل مشترك بين كل الناس، وأنه لا بد أن يفضي إلى مزيد من التقارب والتفاهم، والحد تالياً من التعصب العدواني القائم على الخوف والأحكام المسبقة التي تجعل المرعيري الشر في «الآخر» و «الخير» في الأنا. في هذا الوقت بالذات، وبعد كل تلك الإنجازات الهائلة في العلم والفكر والاجتماع، تأتي مذبحة أورلاندو وقبلها غزوة باريس، لتؤكد أن ثمة إشكالاً تاريخياً لم نفلح بعد في تجاوزه، يتمثل في اتساع الهوة بيننا وبين الآخر إلى حد نبذه وإقصائه، وصولاً إلى قتله واستباحة إنسانيته، دونما مبرر سوى اختلافه في الدين أو المذهب أو الطائفة، أو في التفكير والسلوك ونمط الحياة.

ولعل الأدهى في الأمر تشكّل هذا التوجه في أيديولوجيات مشيطنة للآخر، مؤسطرة للذات، سواء في الغرب أو في العالمين العربي والإسلامي. فلم يكن من دون دلالة صعود أطروحات فوكوياما وهنتنغتون في «نهاية التاريخ» و «صدام الحضارات» التي أعادت إلى واجهة السجال الأيديولوجي، أطروحات إرنست رينان الاستشراقية التي تحيل العرب والمسلمين إلى تخلف لا فكاك منه، لأن ثقافتهم تتناقض مع الحداثة ولا تعترف بالتطور، وستظل تمنعهم من التقدم والاندماج في الحضارة العالمية.

ولهذا، فالصدام الحضاري سيزداد حدة وعنفاً، وسيمنع أي فرضية للحوار والالتقاء بين الغرب الليبرالي ومجتمعات ما قبل التاريخ الممزقة بتناقضاتها القومية والإثنية والطائفية.

هذه الأيديولوجيات التي تنطوي في جوهرها على رفض الآخر، تتــناقــض مع حداثة الغــرب التي اعترفت بحق الاختلاف ونسبية الحقيقة. الأمر الذي عاينه النهضويون العرب، فقد لاحظ الطهطاوي في «تخليص الابريز في تلخيص باريز» 1834 أن «الغالب على أهل باريس البشاشة في وجوه الغرباء، ولو اختلف الدين. فالتعبد بسائر الأديان مباح عندهم»، وكتب فارس الشدياق في «الساق على الساق» 1855: «من يأتِ إلى بلاد الانكليز لا يُــسأَل عن جواز ولا إجازة، لأن كل الناس في الحقوق البشرية عندهم متساوون».

لكن الغرب لم يبلغ هذا الحد من الاعتراف بالآخر، إلا بعــد حروب أهلية وديــنيــة أهــلكت مئــات الآلاف، واستخدمت فيها كل أشكال التنكيل بالمختلف في الرأي والعقيدة، وطاولت العلماء والفلاسفة. وما كان التاريخ العربي في منأى عن رفض الاختلاف ونبذ الآخر الديني والأيديولوجي، إذ أدرجه في إطار «البدعة» أو في خانة المؤامرة على الأمة أو الهوية والثقافة، ما حول المثقـف العربي خـادماً للسلطان غير مسموح له تجاوز الإطار الذي تبيحه الأيديولوجيا السلطانية، وإلا تعرض لهلاك محتم. وقد أجاد ابن المقفع في توصيف حال المثقـف، إذ قــال ناصحاً اياه: «فاعلم أنك تعمل عمل السخرة… تشكر السلاطين ولا تكلفهم الشكر، مؤثراً لمنافعهم، ذليلاً إن ظلموك، راضياً إن أسخطوك، وإلا فالحذر منهم كل الحذر».

ولم يكن تاريخنا العربي الحديث والمعاصر أكثر رحمة للآخر واعترافاً به، فقد مورس العزل للمختلف الأيديولوجي وتم إقصاؤه وتكفيره وصولاً إلى نفيه واغتياله، ولنا في محن مثقفينا النهضويين والمعاصرين عبر نماذج من اغتيال أسعد الشدياق وجبرائيل دلال إلى اغتيال كمال الحاج وحسين مروة وفرج فودة، ومن تكفير فرنسيس المراش إلى تكفير نصر حامد أبو زيد، ومن اغتراب فارس الشدياق القسري إلى اغتراب محمد أركون وهاشم صالح وحليم بركات.

إلا أن تاريخنا العربي مع ذلك لم يذكر إرهاباً جماعياً ضد أقلية طائفية أو دينية على نحو يشبه اضطهادات محاكم التفتيش الإسبانية للمسلمين واليهود، او اضطهادات الكاثوليك والبروتستانت لبعضهم البعض في القرون الوسطى. ولقد استوعب التاريخ العربي، وإن بصورة محدودة التعدّد والاختلاف، بحيث تمكن النصارى من التوسع في القرون الهجرية الأولى، وافتتاح مراكز في الهند والصين انطلاقاً من أرض الإسلام، الأمر الذي عده فيليب حتّي «من أعجب الظواهر في حياة النصرانية».

لكن ما يجري الآن أن في الغرب أو في العالمين العربي والإسلامي، يشكل انتكاسة كبرى على صعيد الاعتراف بالآخر، تُترجم في ضيق الصدر بالآخر وفي الارتداد على فكر الحداثة. وفي محنة أزيديي العراق ومعاناة نصارى العالم العربي في كل اقطارهم، فضلاً عما جرى ويجري في باريس وبركسيل ونيويورك من مذابح للأبرياء، وصولاً إلى مناداة المرشح الرئاسي الأميركي دونالد ترامب بمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، ظواهر مأسوية لهذه الانتكاسة التي تهدد في حال استمرارها في هذا الاتجاه المستقبل الإنساني بأسره. لقد أفضت مآلات الحداثة، على عكس ما حلم به فكر الأنوار من تعاطف بين الناس، يحققون من خلاله حداً من التفهم والتعاون والاحترام المتبادل، إلى مزيد من العداء والكراهية ورفض الآخر. وفي رأينا أنه إذا كان هاجس المجتمع الإنساني زمن الحرب الباردة إنقاذ عالمنا من الكارثة النووية، ليتحول بعدها إلى تأمين سبل الحياة للجياع، والحد من الخلل الطبقي الذي أحال بلايين الناس إلى الضائقة الاقتصادية، فإن الهاجس الأساسي والمركزي يجب أن يتجه الآن إلى إعادة الاعتبار لـ «الآخر» الند في صناعة الحضارة الإنسانية. الأمر الذي أشار إليه ابن رشد قبل ثمانية قرون، إذ رأى أنه «من العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه، وأن يقبل لهم من الحجج النوع الذي يقبله لنفسه».

ترى ألا تكون صورة عالمنا إذ ذاك، أقل قتامة ومأسوية؟

المصدر: http://hewarpost.com/?p=1829

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك