كوجيطو الكراهية
قال فكتور هوغو: "الكراهية شتاء القلب". يبدو أنّنا في شتاء أنفسنا، وتاريخ الشتاء في ثقافتنا، نعني تاريخ الكراهية[1]، ربما يحتاج إلى إعادة كتابة من الداخل. – ولكن إلى أيّ مدى قد يجوز للفيلسوف بعامة أن يدافع عن الكراهية بوصفها فضيلة تأسيسيّة؟ مثلا أن يجزم قائلا: "أنا أكره، إذن أنا موجود" (!)[2]وعندئذ كيف نتخيّل ديكارت، وهو يماهي بين العقل والكراهية، أن يفتتح أحد كتبه قائلا: " إنّ الكره هو أعدل الأشياء توزّعا بين الناس" (!) ربما كان من الأجدر أن نولّي أسئلتنا صوب نيتشه، فيلسوف الضغينة[3]، فهو أنسب انفعالا لهكذا مزاج. فلا مشاحّة في أنّ كتاباته، اللعينة البراءة، قد تظهر لعدد واسع من القرّاء في هيئة كدمات أخلاقية على العقل البشري، وهو أقرب إلى صياغة كوجيطو الكراهية وحتى الدفاع عن إرادة الكره بوصفها إرادة الحقيقة التي لن تخيّب ظنّ أحد. لكنّ نصوصه تفاجئنا بتلطّف رشيق يجعلنا نقف على طرافة التمييز الذي يضعه بين الكره والعداوة. وحدهم العاجزون عن احتمال براءة الصيرورة التي تخلق الحياة هم قادرون على الكره. الكراهية عنده هي فضيلة العبيد. أولئك الذي كفّوا عن خلق أنفسهم منذ وقت طويل. ولذلك، فإنّ أوّل ملامح الكراهية هي كراهية النفس أو "كراهية الأنا" أو "كره الإرادة"، ومن ثمّ "كره الحقيقة". أن نكره أنفسنا هو صيغة مرعبة عن كوجيطو معطّل من الداخل. وحدهم العدميّون يقتاتون على ضرب مريع من "فضيحة الذات". أمّا العداوة، فهي شيء مختلف.
ربّما نحن نشهد راهنا، كما لاحظ ذلك جان لوك نانسي[4]، انتقالا حزينا من أخلاق العداوة إلى ثقافة الكراهية. الأعداء ليسوا بالضرورة موضوع كراهية أو احتقار. مثلا: نحن يمكن أن نكره أنفسنا العميقة (طبقة معيّنة من هويّتنا) دون أن نكون أعداء جيّدين لها. نحن نحتاج دوما إلى أعداء مناسبين. العداوة يمكن أن تكون صحّية؛ لكنّ الكراهية هي انفعال حزين دائما. فنحن لا نحتاج إلى أناس نكرهم كي نتعرّف على أنفسنا. يقول نيتشه: "أن تكون عدوّا، أن تستطيع أن تكون عدوّا هو أمر يفترض على الأرجح طبيعة قويّة...إنّ الانفعال العدائيّ هو جزء ضروريّ من القوّة، مثلما أنّ الإحساس بالثأر والحقد هو جزء لازم من الضعف". لكنّ نيتشه سرعان ما ينبّهنا إلى أمر حاسم هنا: "أنّ قوّة الذي يهاجم هي تجد مقياسها في نوعيّة الخصم الذي يحتاجه؛ كلّ نموّ يرشح منه اختيار خصم أو مشكل هائل: ذلك بأنّ الفيلسوف المحارب هو ينازل المشاكل أيضا في معركة مبارزة". لا معنى لعداوة قائمة على الثأر، وحدها الكراهية تقتات من مشاعر الانتقام. ولذلك، يؤكّد نيتشه على أنّ العداوة لها ناموسها الخاص. هي تختلف عن الكراهية في كونها تقع خارج أفق الضعفاء. الكراهية انفعال حزين يعتاش من أدنى ضعف يشعر به أحدهم ضدّ قويّ ما. ولذلك هي تترجَم دوما إلى شعور بالاحتقار. والحال أنّ العداوة لا تحتقر خصمها، وهي تجري دوما في نوع أصيل من المساواة. لا تقع العداوة الحقيقية - أي تلك التي تنأى بنفسها عن معجم الكراهية - إلاّ بين النظراء، حيث لا معنى لأيّ ضرب من الاحتقار. ومن الطريف أن نورد هنا قواعد العداوة التي فرضها نيتشه على نفسه مثل سيرة خاصة في الحياة.
يقول في كتابه Ecce Homo: "أوّلا- أنا لا أهاجم إلاّ القضايا (Sachen) المنتصرة، - وعند الحاجة أنا أنتظرها حتى تنتصر؛ وثانيا أنا لا أهاجم إلاّ القضايا، حيث إنّني لن أجد أيّ حلفاء لي، حيث أقف وحيدا، - حيث لن أعرّض إلاّ نفسي للخطر...وأنا لم أقم أبدا بأيّة خطوة علنيّة (öffentlich) لا تعرّضني للخطر: ذلك هو مقياسي للفعل الصحيح؛ ثالثا: أنا لا أهاجم الأشخاص أبدا، - أنا لا أستخدم الشخص إلاّ بمثابة عدسة قويّة مكبّرة من خلالها نستطيع أن نجعل حالةَ فتنةٍ (Notstand) عامّة، ولكن متوارية وغير ملموسة، أمرا منظورا... رابعا: أنا لا أهاجم إلاّ الأشياء التي يكون فيها كلُّ فرق بين الأشخاص مستبعدا، حيث تكون كلّ خلفيّة خالية من التجارب المشينة. وذلك، أنّ الهجوم هو عندي على الضدّ من ذلك دليل على الإحسان، وفي بعض الأحيان على نوع من العرفان بالجميل".
هذا تقريظ فلسفيّ للعداوة رأس الأمر فيه أنّه يخرجها من دائرة ما هو شخصي. العداوة ليست أمرا شخصيّا. هي دوما تهاجم "القضايا" وخاصة في لحظة قوّتها. لا معنى لعداوة شيء ميّت في وعي المؤمنين به. لا تحتاج العداوة إلى حلفاء حتى تكون موقفا أصيلا من قضيّة ما؛ إذْ لا معنى لمن يهاجم قضيّة منتصرة، وهو يعوّل على حماية خارجية. كما أنّه لا معنى لعداوة لا تضعنا في موضع الخطر. من يهاجم مصادر أمّة من الأمم (كما فعل نيتشه تجاه المسيحية) لا يجدر به أن يحتمي بأيّة هيئة أخرى غير ذاته. وقد رفع نيتشه التعرّض للخطر إلى رتبة مقياس الفعل الصحيح، وهو صحيح في معنى أنّه شجاع على احتمال إمكانية الحقيقة مهما كانت ثقيلة، وليس في معنى مواقفة الآخرين عليه. ما يهمّ العداوة ليس مهاجمة الأشخاص - فالشخص بحدّ ذاته لا يستحقّ أن يكون موضوعا للعداوة الفلسفية - بل رصد "حالة الفتنة" أو حالة الأزمة العامة التي تلحق ثقافة أو أمّة ما، لكنّ بعض الأشخاص يمكن أن يكونوا عدسة قويّة مكبّرة لاستكشافها. كذلك، فإنّ العداوة لا تستقيم بين أشخاص بينهم فرق أخلاقي جذري. لابدّ لها من ضرب من التساوي في المروءة؛ أي في القدرة على الحقيقة. وعندئذ تكفّ العداوة عن أن تظهر في مظهر التقويض، وتكشف عن وجهها الخفي: كونها دليلا على نوع مخصوص من الإحسان، بل حتى من العرفان بالجميل.
لو أعدنا المشكل من زاوية الكراهية، لرأينا الآن كلّ ما لا تستطيع الكراهية أن تكونه. – إنّ الشعوب القويّة تعادي لكنّها لا تكره بالضرورة، نعني لا تعتبر الكراهية جزءا من تربيتها العميقة. وفي المقابل، فإنّ الشعوب الضعيفة تكره لكنّها لا تستطيع أن تعادي بشكل جيّد. لنقل بشكل لا يخلو من مفارقة: إنّ ما ينقص الكراهية حتى ترتقي إلى رتبة العداوة الأصيلة هو قدر جوهري من المحبّة، نعني من محبّة ذاتها. كان أفلاطون في محاورة الفيدون قد بكّر إلى نحت مصطلح "μισανθρωπία"، "ميزانثروبيا"؛ أي كره البشر الناجم في رأيه عن خيبة أمل عميقة من الإنسان بعد تصوّره صادقا وصلبا وموضع ثقة؛ أي بعد محبّته. لكنّ كلّ كره للبشر بما هو كذلك هو في ذاته كره لأنفسنا. وراء كل كراهية هناك إذن محبّة فشلت في أن تكون نفسها.
تحتاج كلّ كراهية إلى نوع من المحبّة التي تبرّرها وتجعلها متّسقة أمام ذاتها. لا نكره في الحقيقة إلاّ من نحبّ أو من يشبهنا من الداخل لكنّنا نفشل في التطابق معه. ربما كانت الكراهية نوعا رديئا من الألم، وهو ألمٌ غير قابل للتفاوض، لأنّه يتّصل بذواتنا ويخترقها، على خلاف العداوة التي يمكن أن تكون صداقة فاشلة فقط. يمكن أن نكره أنفسنا. ولكن لا يمكن لأحد أن يعادي أو يصادق "نفسه"، لأنّ ذلك يتطلّب قدرا هائلا من الشعور بالمسافة، أو بالمسافة المناسبة حسب تعبير رشيق لبول ريكور. في حين أنّ الكراهية هي مثل الألم أو الحزن لا تحتاج إلى انفعال المسافة. هي تنزع دوما إلى إلغاء المكان. إنّها ذاكرة فقط. الكراهية لا تتطوّر، نعني لا تحتاج إلى مراحل كي تلامس ذاتها. هي مثل الألم أو الحزن تضع ذاتنا موضع سؤال، وتعيش من هذا النوع من التهديد. ومن هذه الناحية تختلط الكراهية بالمحبة، لأنّهما ضربان من الاحتمال لذواتنا خارج المكان. حين نكره أو نحب نحن نلغي ثقل المكان ونتخفّف من كل أنواع الإخلاص التي عشنا عليها إلى حدّئذ. ليست الذات غير ضرب استثنائي من الإخلاص إلى المكان. الذات مكان دوما، وهي ليست زمانا إلاّ عرضا. المكان هو حضن الذات؛ أي ما يقع تحتنا حتى نرى أنفسنا. ولكن حين نكره أو نحب نحن نتجرّد من وطأة المكان، ونصبح ذواتا عائمة على سطح أنفسنا مثل غيمة من الانتظار. يقول لامرتين: "الأنانية والكراهية وحدهما لهما وطن؛ أمّا الأخوّة فلا وطن لها".
ومع ذلك فالكره ليس عنفاً، نعني هو لا يدمّر حالة المكان، لكنّه يجمّد المعنى. الكره، كما قال نانسي في نصّ جميل سنة 2013، "الكره معنى متخثّر"[5]، كما نقول عن دمنا إنّه قد تخثّر. - يلاحظ نانسي أنّ الجذر اللاتيني odi مثل الجذر الألماني hassen يتضمّن معنى المطاردة، بل حتى الصيد وتعقّب الشيء الكريه من أجل القضاء عليه. إلاّ أنّ فعل "كره" في العربية هو ينطوي تقريبا على العكس: كره الشيء اشمأزّ منه ونفر ولم يحتمله وأباه على نفسه. نحن نهرب ممّا نكره، في حين أنّ المعنى اللاتيني أو الألماني يدفع على العكس من ذلك إلى مطارة المكروه والركض وراءه. ولذلك، فالكره هو إرغام وقسر على شيء لا نجري وراءه وإنّما نهرب منه، في حين أنّه في اللغات الأوروبية هو نوع من الثأر. فالناس يكرهون عندما يشعرون أنّ هويتهم في خطر من آخر يهدّد وجودهم. حين يعجز الآخر، أو لا يريد أن يفهم أصالة وجودنا أو "كرامة" كوننا نحن، ولسنا أناسا آخرين، حين لا يعترف بـــ"إطلاقيّة كلّ فرد" بما هو كذلك، هو يكرهنا. قال نانسي: "إنّ الكراهية تفترض دلالات مغلقة. إنّ الكراهية مصنوعة من معنى متخثّر". تتحوّل هويّة الناس إلى دلالة مغلقة حين تخفق في التعبير عن كرامتها الخاصة، حين لا تعثر على الملاقاة أو الضيافة المناسبة، فتتكلّس من الداخل. الكراهية هي انسداد المعنى، معنى الكرامة الإنسانية. ولذلك فهي تشيّئ أي تخرج "الشخص" من باب البشر إلى خانة "الأشياء"؛ أي خانة ما لا يمكن أن نتبادل معه معنى الإنسانية.
علينا أن نميّز تخثّر المعنى عن أيّة رغبة في العنف. من يكره لا يريد بالضرورة تدمير المكروه أو مطاردته. فالمكروه ليس عدوّا دائما. وحدها العداوة تقترح برنامج تدمير مناسب كي تضع حدّا لصداقة فاشلة. لكنّ الكره يصبو إلى شيء آخر. هو يريد أن يجمّد المكروه في هويّة مغلقة، أن يؤبّد ألمه، ولذلك يدّعي الكره دوما أنّه كرهٌ للأعداء وليس للأصدقاء، أي للآخرين بما هم كذلك. لكنّ الصداقة، مثلها مثل القرابة أو الأخوّة، هي لا تمنع الكراهية. كره الأخ هو ظاهرة أخلاقية عريقة وذات براءة مرعبة، بل يمكن الافتراض بأنّ العداوة تحمي الأعداء من كراهيتنا، وتضعهم فقط في خانة العاجزين عن الصداقة بسبب انفعال رديء بالمسافة. لا تحتاج الكراهية إلى العنف كي تشعر بنفسها. العنف صريح ومدمّر ولكنه قابل دوما للتفاوض. والحال أنّ الكره هو صامت ومخرّب وغير قابل للاستبدال. الكره لا يدمّر المكان لكنّه يخرّب معنى المكان. يحتاج العنف دوما إلى القتل كي يحقّق ذاته، هناك دوما قتل تأسيسي حتى يدخل شعب ما في علاقة ميتافيزيقية بنفسه، وعندئذ فقط ينفتح المجال أمام تنصيب الذبيحة المقدّسة وظهور المعبودات. من يقتل يؤسّس عالما لا يراه. ولا تفعل الحضارات غير استخراج كل إمكانيات السكن في العالم التي تنجرّ عن قتل أو عنف تأسيسي. والمؤّسسون هم دوما بوجه من الوجوه قتلة من نوع نبيل. يقتلون مقتولا سرعان ما يتحوّل إلى ضحيّة مقدّسة أية مؤسّسة. ونحن نوجد دوما داخل قصّة ما، تكرّس العنف التأسيسي من أجل أن ننتصر عليه، كما بيّن ذلك بشكل مثير ريني جيرار في كتابه الرائع العنف والمقدّس. أمّا الكراهية، فهي انفعال حزين لا يؤسّس شيئا. لا يوجد كره مقدّس. القتل ليس كرها. والإنسانية استعملت القتل لتأسيس عوالم الحياة، لكنّ تقاليد الكره ظلّت دوما بالنسبة إليها نفايات أخلاقية يجب التخلّص منها خارجاً.
ولكن كيف نفهم عندئذ إصرار كثير من الناس على تأسيس هويتهم على الكراهية؟ ليس فقط كراهية الآخر بل حتى كراهية الذات؟
لنوضّح بادئ الأمر بأنّه من الجبن أو من غير المسؤولية أن نتبرّأ من مصادر أنفسنا العميقة. إذا كنّا نسمّى، مثلا، "مسلمين"، فهذا يعني أنّ كلّ إمكانيات الكيان المسلم هي جزء أصيل من تاريخنا السرّي أو الصامت أو غير المفكّر فيه، ومن المستحيل أن ننجح في إلقاء مصادر أنفسنا في سلّة مهملات تاريخية، وكأنّنا يمكن أن نوجد "خارج" أنفسنا. لا يمكن لأحد أن يتبرّأ من مصادر نفسه كما لا يمكن لأحد أن يتبرّأ من بعض أعضائه وكأنّها جزء من جسم آخر. ولكن علينا أن نسأل: لماذا نتبرّأ من انفعالاتنا السيّئة، وكأنّه يمكن نسبتها إلى شخص آخر؟ إنّ إمكانية الشرّ التي فينا هي تنتمي إلينا بنفس الأصالة التي لإمكانية الخير. إنّ خيباتنا أو إخفاقاتنا هي مكوّنات أخلاقية أصيلة في تاريخ أنفسنا بنفس القدر الذي تكونه آمالنا ونجاحاتنا. ذلك بأنّ إمكانية الكراهية، كما يوضّح ذلك هيدغر، هي إمكانية أصيلة ولا تنضاف إلى أنفسنا من خارج تاريخها الخاص. لكنّ استعمال الكراهية هو الذي يطرح تساؤلات مثيرة. نحن ربما لا نكره أعداءنا، لكنّنا نستعمل كراهيتنا لهم باعتبارها الإجابة المعيارية على سؤال الهوية لدينا. وإلى حدّ الآن، ومنذ قرنين، نحن عطّلنا أنفسنا العميقة ولم نعد نعوّل عليها في تحسين نوعنا. نحن لا نكره الغرب فقط، بل قبل كل ذلك نحن نكره صيغة معيّنة من مفهوم أنفسنا، أو جزءا معيّنا من الإجابة عن السؤال "من نحن؟" راهنا.
إنّ سحب الثقة الميتافيزيقية من أنفسنا العميقة حوّلها فجأة إلى جسم غريب عنّا غير قابل للاستعمال الصحّي. صار وجودنا المعاصر عبارة عن عمليّة "زرع" لأعضاء جديدة لم تنجح إلى حدّ الآن إلاّ تقنيّا فقط. ولذلك نحن نشهد منذ أجيال عديدة نوعا صارما من كراهية الذات لا نجد له علاجا يُذكر. ولا نغالي في شيء إذا تشكّكنا في أن يكون ذلك قد سهّل عمليّة "استعمار عالم الحياة" داخل مجتمعاتنا "الحديثة" والتحوّل بشكل سريع إلى مزرعة كولونيالية لا مخرج منها. نحن ساعدنا الغرب على استعمارنا من خلال كره أنفسنا العميقة وانقلابنا إلى متسوّلين ميتافيزيقيين للمستقبل.
ثمّة مفارقة تنخر كلّ نقاشاتنا حول أنفسنا العميقة: من جهة أنّ مصادر أنفسنا القديمة لم تعد صالحة للسكن أو للاستعمال "كما هي"، والدفاع السياسي عنها يؤدّي غالبا إلى موقف سلفيّ مستغلق على مدوّناته الخاصة يضطرّ أكثر الأحيان إلى التمترس وراء ضروب شتّى من التخثّر الهوويّ ما أيسر ما تنزلق في طرق الإرهاب الموضوعي، وليس الإرهاب الدموي السائد منذ بعض الوقت غير موجته العالية أو ترجمته الخارجية فقط. وهو إرهاب موضوعي سوف يبقى مطمورا تحت أشكال حياتنا المعاصرة إلى أمد طويل. ومن جهة، أنّه لا يمكن تاريخيّا لأيّ مجتمع أن يعيد بناء ذاته بمعزل عن مصادر نفسه العميقة ولا بالتعويل على ثقافة غريبة عنها. إنّ "التحديث" و"التنوير" و"العلمنة"، إلخ... كلّها عناوين إجرائيّة لم تنجح أبدا في مساعدة ذاتنا العميقة في التحرّر من تاريخها الطويل الأمد منذ "عصر الجاهلية". يبدو أنّ الدفاع الهووي عن الموتى لا يختلف كثيرا عن الاستيراد الهووي لأَحياءِ ثقافة أخرى لا تؤمن بنا. نحن لا نرى من الجهتين غير ترتيلتين حزينتين للكراهية. ولذلك لا ترى الفلسفة من حلّ لمفارقة هووية غير تبديل المشكل. علينا أن ننتقل من الدفاع عن الهوية إلى بناء الذات.
يقول سبينوزا: "إنّ الكراهية تزداد حينما تكون متبادلة؛ ولا يمكن القضاء عليها إلاّ بالمحبّة". وفيما يخصّنا هنا لا مخرج من معجم الكراهية، أكان في صيغة سلفية (محبّة هووية لمصادر روحية لم تعد تخاطبنا) أو في صيغة معلمنة (محبّة هووية لحداثة لا تؤمن بنا)، إلاّ باختراع أساليب جديدة في محبّة أنفسنا العميقة: علينا أن نعيد اكتشاف ذواتنا العميقة (من شعر جاهلي وقرآن وتاريخ سياسي للملّة ونحوٍ وأدب عظيم وفقه عقليّ وتصوّف حرّ وفلسفة مبدعة، إلخ...) واستدعائها من الداخل بوصفها مصادر إلهام وعشق للنفوس الحرّة، ما بعد الدينية وما بعد العلمانية، وليس مدوّنات هوويّة مغلقة وإقصائيّة لمؤمنين حزانى بلا أيّة قدرة على الهجرة البهيجة إلى الإنسانية.
لا يتصالح شعب مع ذاته العميقة إلاّ إذا نجح مبدعوه في إعادة اكتشاف مصادر نفسه، وذلك إن استطاعوا كما لأوّل مرّة. عندئذ فقط هو يمكنه أن يستغني عن أجهزة الكراهية ويشرع في اختراع ذاتيّته الخاصة بمرح فظيع. أمّا كلّ من يتمترس وراء حجاب هوويّ، فهو يعتاش على الكراهية ولا يمكنه التحديق في عين ذاته من دونها. ولكن أيضا كلّ من يدفع شعبا إلى التخلي القسري عن مصادر نفسه العميقة باسم أيّ نوع من العوالم التي لا يسكنها أو لا يمكنه أن يسكنها هو يجبره على التعويل اليائس على ثقافة الكراهية كي يدافع عن وجوده. لا تحتاج الشعوب إلى الهوية الجاهزة إلاّ بقدر ما تعجز عن اختراع ذاتيتها الخاصة. إنّ الهوية غير ممكنة من دون ماض أساسيّ؛ أمّا الذاتيّة فهي دوما بمثابة "مشروع" وبالتالي هي تُقاس بمدى قدرتها على المستقبل. الكراهية هي دوما هوية حزينة، ذاكرةُ حدادٍ تحت الطلب. ومن يريد تحرير الشعوب من الكراهية عليه أن يعيد لها قدرتها على محبّة ذاتها العميقة؛ أي قدرتها على التذوّت الحرّ من داخل تاريخ نفسها والتذاوت الحرّ مع آخر يعترف بها. مصادر الذات لا يمكن نقلها. ولذلك، لا يمكن معالجة الكراهية إلاّ من الداخل.
توجد عداوة جيّدة، ولا يوجد كرهٌ جيّد. الذوات الحرة قادرة على العداوة، مثلا معاداة الرداءة في أيّ مستوى من كياننا المعاصر. لكنّ النفوس الحزينة لا تستطيع إلاّ الكراهية. لا يكره إلاّ قلب حزين، أي لم يتحرّر من حداد ذاكرته. العداوة مشكل سياسي، لكنّ الكراهية ظاهرة هوويّة. ومثلما يحتاج الناس إلى مرشد سياحي، هم يحتاجون إلى مرشد ميتافيزيقي: دوره أن يرسم خطّا فاصلا وبيّنا بين ما هو هوويّ وما هو ذاتي. هذا فراغ أخلاقي ملأه الدعاة وحوّلوا العقل السليم إلى تهمة.
يمكن أن نكون هويّة في طور "إعادة البناء"؛ ولذلك، فإنّ الموقف التفكيكي المحض، مثل الموقف التنويري المحض، هو لم يعد صحّيا. لا يمكن تفكيك إلاّ ما هو "تراث" عميق؛ ولكن من دون الانتماء إليه نحن لن نطال إلاّ لحظات وهنه الميتافيزيقي؛ أي ادّعاءاته التي لم تعد تخاطبنا. كذلك، فإنّ التنوير موقف يبدو أنّ وقته قد فاتنا. لا يستنير أيّ مجتمع إلاّ بوسائله الخاصة. وقبل ذلك عليه أن يكون قد شرع في إعادة اختراع ذاته من الداخل. لا يمكن أن يستنير مجتمع يكره نفسه. التنوير بهجة العقل ولا تستسيغه النفوس الحزينة؛ أي التي فقدت شهوة الانتماء إلى نفسها العميقة.
كلّ دين حزين هو سياسة كراهية، وهو يتحوّل إلى ذلك عندما يفقد قدرته على الوعد الكبير منذ وقت طويل. الوعد الكبير الآن هو الهجرة إلى الإنسانية. وعلى جميع أنواع الآلهة أن تعمل في هذا الأفق أو هي سوف تنقرض. لا يستمرّ أيّ شعب في الحياة الكريمة إلاّ بقدر قدرته على الوعد الكبير بالإنسانية؛ أي على تمكين الناس من المستقبل. الأديان هي اليوم مخدّات مريحة للهويات الخائفة. ليس المشكل في أن تتديّن أو لا تتديّن، بل في مواصلة التعويل على السلوكيات الأخروية لإنقاذ الإنسان دون استشارته. لا يكره شعب إلاّ بقدر ما ندرّبه على ذلك. ثمّة أحزاب وتنظيمات وحركات تدرّب الشعوب على الكراهية، نعني على إساءة استعمال الغيرية في بناء ذاتها. ومن يبني الهوية على الكراهية يقرّ عرضاً بأنّه لا يستطيع أن يوجد من دون آخر يكرهه. ولكن في المقابل، لا يمكن لأيّ شعب أن يغيّر ما "بنفسه" بواسطة تراث "نفس" أخرى. أجل، من حقّ أيّ فرد أن يغيّر رأيه أو جنسه أو معتقده أو دينه أو حتى إلهه، إلخ...لكنّه لن ينجح في ذلك الادّعاء، إذا ما أسّس هذا الحقّ على سياسة الكراهية. الكراهية لا تؤسس أيّ حق أصيل لأنفسنا.
[1]- Cf. Jacob Rogozinski, Ils m’ont haï sans raison. De la chasse aux sorcières à la Terreur (Éditions du Cerf, 2015).
[2]- Cf. Michel Crouzet, La Vie de Henry Brulard ou L’enfance de la révolte (Paris: Libr. J. Corti, 1982), p. 28. «L’exaltation du principe haineux comme principe d’existence: je hais donc je suis »; André Glucksmann, Le discours de la haine (Paris: Plon, 2004); "Je hais, donc je suis: la construction sociale du conflit" IVe Rencontre européenne d’analyse des sociétés politiques. www.fasopo.org
[3]- قارن: فريديتش نيتشه، في جنيالوجيا الأخلاق. ترجمة فتحي المسكيني (تونس: دار سيناترا، 2010). عن الكراهية (I، 7، 8، 15، 16) وعن الضغينة (I، 10-11ن 13-14، 16؛ II، 11، 17؛ III، 11، 14-16).
[4]- Cf. Jean-Luc Nancy, La haine, le sens coagulé (2013). http://www.coe.int/documents/16695/1433458/Jean-Luc+Nancy+LA+HAINE.pdf/, p. 1
[5]- Cf. Jean-Luc Nancy, La haine, le sens coagulé (2013).op. cit.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%83%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%B7%D9%88-%D...