أسلمة الغاندية!!.

المفكر الإسلامي السوري "جودت سعيد" نموذجاً

 

مأمون كيوان

 

تصاعدت في سورية خلال السنوات الأخيرة، وبشكل دراماتيكي ظاهرة الجماعات والحركات الإسلامية بمختلف اتجاهاتها ومناهجها (متطرفة- أصولية- سلفية- صوفية) بعضها وافد وبعضها الآخر مقيم. وأعاد غالبيتها طرح قضايا فكرية واجتماعية وسياسية مهمة. وقدم عدد من المفكرين الإسلاميين السوريين رؤى وتصورات متميزة وتنويرية أو تجديدية للفكر الإسلامي عموماً.

ومن أبرزهم: الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، الذي ألف كتباً في علوم الشريعة والآداب والتصوف، والفلسفة، والاجتماع، ومشكلات الحضارة، وجودت سعيد الذي يعد امتداداً لمدرسة المفكريّن الإسلاميين الكبيرين، الأستاذ مالك بن نبي ومحمد إقبال. ومن أبرز مؤلفاته الكتب التالية:" مذهب ابن آدم الأول"؛ " حتى يغيروا ما بأنفسهم"؛ "فقدان التوازن الاجتماعي"؛ "العمل قدرة وإرادة"؛ "الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً"؛ "اقرأ وربك الأكرم"؛ "كن كابن آدم"؛ "رياح التغيير"؛ "الإسلام والغرب والديمقراطية"؛ "الدين والقانون، رؤية قرآنية"؛ "العبودية المختارة" و "لم هذا الرعب كله من الإسلام".

 واستندت أفكاره ومواقفه إلى رؤيته لواقع فكر المسلمين المعاصرين، وهي رؤية ثاقبة تضمنتها كتاباته ومؤلفاته العديدة. واعتقاده أن "الخوف من الحكم الإسلاميّ في البلاد العربيّة ليس في مكانه. ذلك لأنّ الوصول إلى الحكم عن طريق الانتخابات سيسمح للجميع بالتنافس على الوصول، وسيصوّت الشعبُ لمن يخدمُ مصالحه أكثر ويحقّق العدلَ أكثر".

 واكتشف أنه لا يوجد بين المسلمين المعاصرين "من يقبل تحدي الرشد الذي هو اللا إكراه ولا من يقبل تحدي الديمقراطية أي قبول ما يقبله الناس بدون إكراه وبدون اللجوء إلى الإكراه أو التزوير، وإلى الآن لا يوجد في الساحة الإسلامية لا متدينون ولا علمانيون يقبلون الحكم بالإقناع، فالكل يثق بالعنف والإكراه ولا يثق بالرشد وإقناع الناس"، وإذا رفع عن الناس الإكراه والإرغام والقسر فسوف لن يبقى في العالم الإسلامي "إلا النزاع بين الذين يرون العالم جامداً لا يزداد إلى الأفضل وبين الذين يرون التاريخ حركة إلى الأفضل، وأنه يزيد الله في الخلق ما يشاء ويخلق ما لا تعلمون وأن القانون الذي يحكم حركة التاريخ هو أن الزبد يذهب جفاءً وما ينفع الناس يمكث في الأرض وأن الحق إذا جاء وظهر بوضوح يزهق الباطل".

 ولاحظ سعيد إن "التاريخ (أيام الله) يفهم فهماً خاطئاً ومبهجاً من قبل المسلمين، الذين يتصورون أنه مجرد أكاذيب وفواحش ودجل وخداع، ولا يعرفون أنه مختبر سلوك البشر، ومجال فرز الحق من الباطل، وميزان الفوز من الخسران. إنهم يندهشون أيضاً حين أقول لهم: إن التاريخ ليس هو الكذب والدجل، وإنما هو المصير الذي يؤول إليه الكذب أو الصدق. وفي الحقيقة هم لا يعرفون التاريخ، ولا يدركون النور الذي ينبثق من الظلمات، ولذلك فهم يعيشون في الكذب من أدنى المستويات إلى أعلاها، ويشعرون باليأس والشك والمقت والحرمان. وهذا الطغيان والدجل والكذب يحمل بعضنا على مقابلته بالانفجار والتفجير أو الكذب المقابل، ويسجل بهذا الأسلوب الانتحاري احتجاجه على الكذب".

 ويؤكد جودت سعيد أنه "لا زال أكثر المسلمين يظنون أنهم إذا امتلكوا القوة ؛ فيجب عليهم أن يقتلوا المخالفين لهم، وهذا مغروس في أعماقهم جميعاً: المتعلمين منهم والعوام. وحين قلت: إن الجهاد لم يشرع لاستئصال الكفر، لأن الكافر - وإن انتصرت عليه - له الحق في أن يبقى كافراً.. حين قلت هذا تعجب الناس كثيراً، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على عمق الجهل لديهم، وشدة بعدهم عن المعرفة. والخوارج قديماً كانوا على هذه الشاكلة، كانوا يصلُّون كثيراً، ويصومون كثيراً، ويخافون الله خوفاً شديداً ؛ لكنهم كانوا جاهلين، فلم تغن عنهم صلاتهم ولا صيامهم شيئاً، ولم تمنعهم من الوقوع في الأخطاء الجسيمة، فقتلوا علي بن أبي طالب، وسفكوا دماءً حراماً، وكذلك تفعل الأمم الجاهلة بالراشدين من خلفائها".

 ولعل المشكلة الرئيسة التي يعيش تحت وطأتها المسلمون تتمثل في "الجهل الذي يدفع الكثير من المسلمين إلى الاعتقاد بجواز إكراه الناس على الإيمان، وجهلُهم بآيات الله في الآفاق والأنفس؛ هو الذي جعلهم في مؤخرة الأمم، وإذا أردنا أن ندخل - كمسلمين - العصر ؛ فعلينا أن نتجاوز أفكار السابقين، وألا نقف عند فهمهم للنصوص ؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون آيات الله في الآفاق والأنفس، ولم يستطيعوا فهم قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 29/20]، لذلك لم يسر أحدٌ من المسلمين لينظر كيف بدأ الخلق، أما الآن، ومع تطور آيات الآفاق، وتأثير ذلك في آيات الأنفس، فقد أصبح لهذه الآية مدلولات كبيرة، فكما كان البدوي ينظر إلى فم الشاة فيعرف كم عمرها، كذلك العالم المختص اليوم ينظر إلى الجبل وإلى الحجر وإلى الشجرة، فتحدثه بأخبارها، وتنبئه بتاريخها.

الديمقراطية هي اللا إكراه

 أشار جودت سعيد في مقال حمل عنوان "أبو ذر شاهداً على الديمقراطية" إلى أن التطور البشري دفع رغماً عنه إلى هذا الموقف الذي يسمونه الديمقراطية ولبها التحاكم إلى العقل والإقناع وعدم اللجوء إلى الإكراه. وإن المجتمع لن تدخل إليه الديمقراطية ما لم يعترف الجميع بنتائج اختيار الناس لما يرونه الأفضل، "فأولئك هم الذين هداهم الله وهؤلاء هم أولو الألباب، هم الذين تحاكموا إلى ألباب الناس ووجهوا خطابهم إلى الناس ومن قبله الناس بدون إكراه فهو الرشد وهو الشرعية وهو التقوى وهو كلمة السواء وهم أولو الألباب أي يثقون بأن أفكارهم حسنة وأن الناس يمكن أن يتتبعوا هذا الحسن، وأن قبول هذا يحتوي ضمنها على ثقة الإنسان بأفكاره أنها ستقبل إذا كانت حسنة لأن الحق لا يفرض بالقوة وإنما يتقبله الناس بالفهم الراشد".

 وأوضح أنه إذا "كان لا إكراه في الدين فمن باب أولى رفع الإكراه عن بقية الأمور وخصوصاً السياسة لأن السياسة التي تأتي بالإكراه ليست بسياسة وليست برشد وإنما غي وبغي، لهذا سمى المسلمون الخلفاء الذين جاءوا بدون إكراه ولم يجعلوها وراثة في أبنائهم سموهم راشدين، لأن الرشد من الغي يتبين بالإكراه ولم يسموا بعدهم أحداً راشداً ممن جاءوا بالإكراه والوراثة فهو أصل عظيم في الإسلام للشرعية السياسية، وأصل السيادة ونظام المجتمع، علينا أن نعض عليها بالنواجذ، وإن كان السابقون لم يهتدوا إلى إمكانية إعادة الرشد بالرشد فإن آيات الآفاق والأنفس التي بدأت تظهر. وتطور التاريخ ومعاناة البشر كل ذلك جعل من هذه المواضيع مواد دراسة علمية سننيّة تاريخية في نفي جنس الإكراه وعلى قدر الاعتماد على الإكراه يكون الرشد بعيداً والشرعية ناقصة أو معدومة مطلقاً. ويميز سعيد بين ثقافة القتل وثقافة العفو، ويبين أن "الإسلام ليس فيه أن قتل القاتل واجب وإنما يعطي الحق لوليه: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً﴾(الإسراء: 17/33).

 ويجد أنه "ينبغي أن نفهم بعمق أن الديمقراطية ثمرة، شجرتها وعي الأمة وبدون وعي الأمة لا ينفع اقتراع ولا برلمان، (...) وأن "الحل لا يكون بالإكراه والقتل والتصفية الجسدية وإنما بالإقناع بالرشد برفع مستوى وعي الناس لأنه هو رصيد الرشد ورصيد الديمقراطية ورصيد تعميم الرشد وتعميم اللا إكراه وتعميم الديمقراطية التي لن تدخل بلداً إلا إذا اعترف الفرقاء جميعاً بنبذ العنف في صنع السياسة وصنع الحكم". ويعتبر جودت سعيد إن الهيمنة ستزول لأنها تسير ضد قانون الإنسان وعندما تزول وتنتشر فكرة الديمقراطية يفهم العالم الإسلامي، كما بدأت تركيا تسير على طريق الفهم، إن السوق الديمقراطية بحاجة إلى زمن، إلى سنوات، وعلى الناس أن  تذهب إلى الانتخابات لكي تتدرب على الديمقراطية.

 وكرر مرات عدة اقتناعه بأن "اللا عنف هو اللا إكراه وهو الرشد وهو الديمقراطية". والقول: "إن الخيار بينهما يرجع إلى الأذواق وإذا كانت كلمة الديمقراطية يتطور معناها رسوخاً في العمق وامتداداً في السعة فإنها كذلك زيادة في النفع والخير ويمكن أن تساعدنا الكلمات الثلاثة الأخرى في إضاءة معنى الديمقراطية كيف ولدت وتطورت وكيف لا يزال لها مستقبل في التطور في النفع الأعم والأوسع والأعمق فإذا كانت كلمتا الـ"لا إكراه" و"الرشد" كلمات قرآنية راسخة إلا أن كلمة العنف واللاعنف لها رسوخ في ما نقل عن الرسول(ص) من "أن العنف ما كان في شيء إلا شانه ومن أن الرفق ما كان في شيء إلا زانه وإن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" وبهذا الاستخدام للعنف وتعميم أنه شائن في كل شيء وأن عكسه الرفق مزين لكل شيء يتصل به فعلى هذا الأساس نفي العنف ونفي الإكراه وإثبات الرشد معاني قرآنية وإسلامية، راسخة كالطود يتحدى الزمان والمكان التاريخ والجغرافيا".

 ووجد جودت سعيد أنه لا بد من تعميم مبدأ اللا إكراه وذلك لأن "فكرة (ما ينفع الناس) أساسية لأخذ تصور صحيح عن الوجود وطبيعته، لأن أي تصور آخر هو تصور تشاؤمي يأسي قاطع لطريق العمل والاجتهاد، ومثبط للهمم. ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ﴾ (البقرة: 2/255). ولا إكراه في السياسة قد تبين الرشد من الغي. فإذا كان اللا إكراه واجباً في الدين الذي هو أقدس المقدسات، فمن باب أولى ألاّ يكون هناك إكراه فيما دون ذلك، فباستطاعتك أن تقول: لا إكراه في السياسة، لا إكراه في المذاهب، لا إكراه في القناعات، ولا يوجد: افهم هذا وإلا قتلتك، ولكن يوجد: افهم هذا الذي دليله كذا وكذا، وإن لم تفهم فإن على لكلٍّ منا أن يجتهد في توضيح الفهم الذي يتبناه، ولا يجوز له أن يتجاوز إلى: "إن لم تفهم سأقتلك وسأخرجك من ديارك".

لماذا نبذ العنف؟

 يؤكد سعيد أن فكرة اللا عنف لا تشكل تعطيلاً لمفهوم الجهاد فالجهاد "لرفع الإكراه عن الناس وحتى إذا كان الذي يفرض الإكراه على الناس مسلم هو يُجاهد أيضاً(...) وينبغي أن نجاهد الجهاد الفكري لتغيير ما بالأنفس، تغيير ما بالأنفس لن يكون بالقوة.. الحرب ماتت وانتهى دورها ولا يُمارس الحرب إلا الجهلة والذين يستغلون جهل الجاهلين"، وجاهر جودت سعيد قائلاً: "لا أريد أن أنسخ الكتاب، ولا أن أُعطل آيات الجهاد والقتال، حاشا لله أن أفعل ذلك. إلا أنني أريد أن أفرق بين حالين:

1- حال من يدعو إلى إنشاء المجتمع الإسلامي أو إصلاحه والحيلولة دون فساده.

2- وحال من يمثل المجتمع الإسلامي المتميز الذي أسلم وخضع للإسلام". وأكد "إنه بقدر ما تضرر المسلمون من محاولة استعمال الجهاد والقتال في الموضع الأول، حيث المسلمون فيه لا يمثلون المجتمع المسلم المتميز عن غيره، فقد تضرر المسلمون من تقصير الذين يدعون أنهم يمثلون الأمم التي تسمى إسلامية وتفريطهم في إتباع أمر الله بالجهاد، بل كان ضرر هذا التفريط أعظم".

 وعرض عدداً من الشبهات على أسلوب العمل الإسلامي اللا عنفي هذا، ومنها: شبهة التعطيل للجهاد الإسلامي. وشبهة عدم جدوى الأخلاق مع من لا يلتزمها وشبهة عدم التمكن من قول الحق من غير قوة وشبهة إماتة روح الجهاد، وشبهة الخوف وشبهة التَّنَصُّل من المسؤولية وشبهة إرعاب المسلمين وشبهة التهوُّر والتوريط.

تجنب القتل والتهجير

 يدعو جودت سعيد إلى أخذ العبر مما حدث في تاريخ المسلمين من بعد الراشدين، فيرى إن المسلمين "فقدوا الشرعية حتى في التصور أي مجرد تصور إمكانية إعادة الرشد والمنطق والقانون والحالة المدنية المقابلة للحالة العسكرية أداة الحرب فهم أي المجتمع الإسلامي يحنون بغموض إلى عودة الرشد وعودة الخلافة وإن كانوا لا يعرفون كيف يمكن صنع الخلافة الراشدة لهذا استخدمت كلمة الخلافة بدون كلمة الرشد لأن الرشد في الخلافة لا يمكن أن يكون بالإكراه بل باللا إكراه ولكن تصور صنع أو إعادة الخلافة الراشدة غاب عن ذهن المسلمين إلا بالإكراه، فمن هنا دخلنا إلى الغي والبغي والطغيان بدون قدرة على تصور إمكان صنع الرشد بدون إكراه ونسينا أو تناسينا أو عجزنا عن الحدث الأكبر في حياة المسلمين حين هاجروا إلى المدينة وصنعوا مجتمعهم اللا إكراهي بدون إكراه وبالإقناع فقط وبدون أن يقتل شخص واحد حتى في بادرة نزعة جاهلية حيث كانوا مضبوطين ضبطاً محكماً لم يشذّ منه فرد في ممارسة عنف يؤدي إلى قتل أي إنسان من غير المسلمين من قبل المسلمين حيث ظهر لأول مرة في التاريخ المجتمع المدني والمجتمع الراشد والأمة الراشدة وأمة اللا إكراه وأمة الدستور حيث عقد الرسول(ص) معاهدة المدينة ودستور المدينة على تكامل كل المتعاهدين على حماية المجتمع وعدم الخروج على القانون وهذا الدستور الذي كان يحمي كل المنتمين إلى هذا المجتمع مع اختلاف أديانهم -من بنود دستور المدينة - (وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يُوقِعُ إلا نفسه وأهل بيته وأن المؤمنين المتقين على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيمة ظلم أو إثماً أو عدوان أو فساداً بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان وَلَدَ أحدهم) وحالة الحرب وحدوث الهرج والقتل والنهب هو الذي يجعل الحرب شرعية ولكن الذي يمارس الحرب الشرعية هو الذي يمثل الأمة الراشدة أمة اللا إكراه التي تفرز الحكم الشرعي اللا إكراهي وكل الحروب بدون هذا الشرط حروب غير شرعية".

 وتعد "سنن التغيير في الآفاق والأنفس" بوصلة مواقف وأفكار جودت سعيد، إذ كرر مراراً القول: "نحن لم نعرف سُنن التغير، سُنن التغير تصير عقيدة في أنفسنا، عقيدة الله ليس كمثله شيء لكن سُننه ثابتة ويقول الله حتى في السنن الاجتماعية ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ﴾ ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾، حتى يقول انظروا في التاريخ، ماذا فعل الله بالذين لا يعدلون بين الناس والرسول لما يقول "إنما أهلك من كان قبلكم.. أنه إذا سرق شريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد". الرسول لا يقول أنا أقول هذا يقول إنما أهلك من كان قبلهم التاريخ، يقول هذا ولم يقل قال الله هذا وإنما يقول التاريخ والقرآن، يقول لنا انظروا إلى التاريخ إن لم تكفِ الأحداث التي حدثت من قبل ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إرَمَ ذَاتِ العِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ، وثَمُودَ الَذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ، الَذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، في المستقبل أيضاً الله في المرصاد لأجل أن يُنزل نفس العقوبة على الذين يعملون نفس الأعمال".

إشكالية تغيير الحكومات والأفكار

 يؤكد سعيد إن "المشكلة  الأساسية هي الأمراض التي نحملها، وقد ورثناها عن آبائنا الذين فقدوا الرشد والرشاد منذ زمن طويل". ويشدد جودت سعيد على قناعته بالقول: "لا زلت منذ أربعين عاماً أصرح بأن التغيير ممكن، ولكن ليس بالسبل التي يريد المسلمون إحداث التغيير بواسطتها، ليس بالقتل والاغتصاب ولكن بالحب والإقناع، بالعلم والسلم، لا ليس بالإكراه، فالإسلام نسخ الإكراه حين قال: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ﴾[البقرة: 2/256 ]، وصار بإمكاني أن أرى سبيل الرشد وأتخذه سبيلاً، وصار بإمكاني أن أرى سبيل الغي، وأن أهجره وأتبرأ منه ولا أتخذه سبيلاً". وأشار إلى أن "إن دساتير العالم اليوم كلها تحتوي في بنودها الأولى على ما يقرر حرية الاعتقاد، الجميع يسجلون هذا، وإن كان تنفيذه يتفاوت تفاوتاً كبيراً، وعلى الرغم من هذا فإن العالم يتقدم إلى الرشد رغماً عنه: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ﴾، ومن لم يتبين له هذا حتى الآن فسيتبين له هذا طوعاً أو كرهاً، لأن الإكراه زبد لا نفع، والزبد سيذهب جفاءً، ولن يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس". ويعتقد "إن محاولة الإصلاح انطلاقاً من النصوص قليلة الجدوى، ولا بد من صناعة منظومة مفاهيمية جديدة تمكننا من الانتفاع بالكتاب". وأن "التطلع إلى الوصول إلى الحكم من طريق العنف أنموذج آخر لعكس القوانين، وإن المسلمين اليوم قد عكسوا كثيراً من القوانين، وبأشكال مختلفة مع حسن النوايا، وإن تغيير النظر إلى التثقيفية - التغييرية - البسيطة العميقة، والتي لا تقبل النكسات، لا قدرة لنا على رؤيتها".

 والأمر الجوهري المطلوب في نظرية الحكم الإسلامي حسب اعتقاد جودت سعيد يتمثل في إن "العدل المطلوب أن يُحكم به في هذا النص القرآني، بين الناس وليس بين المؤمنين فقط. وإذا تنازع الناس في تحديد العدل، فلا مانع من الأخذ برأي الجمهور. وجمهورُ المسلمين على اعتبار الإجماع مصدراً من مصادر التشريع، سواءً كان هذا التشريع متصلاً بإقامة جهاز للحكم، أو نظام الاقتصاد، أو قانون للعقوبات". وأنه "ينبغي أن نتمسك بالعدل والإحسان، وألا نعيب على الآخرين، وألا نقدسهم أيضاً، بل نذكر حسناتهم وسيئاتهم".

 ويتمثل هدف ودور العدل في أن "السواء والعدل يزيل القاهر، ولكنه يزيل المقهور أيضاً، ولهذا فإن الاحتفاظ بالقهر، والخوف من زواله، أو السعي لجعل المقهور قاهراً، كل هذا يخدع الناس، وكأن هذه اللعبة سرمدية، والتاريخ لم يعطنا نماذج قادرة على الاستمرار في الخروج من دائرة القاهر والمقهور، في الخروج من اللعبة القديمة". وخلص جودت سعيد إلى القول: "عندما تصير لغة الحوار لغة عنف، لغة هيمنة، لغة سخرية – حتى بالرسوم الكاريكاتورية- فإنهم نتيجة لذلك سيسخرون منا، وبينما نحن عندنا قيم: "ولا يسخر قوم من قوم"، "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، والذي يأتي دائماً بأفضل من الذي سبق "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم".

 ولا يجد المفكر الإسلامي السوري جودت سعيد غضاضة في التعلم من المفكرين الإسلاميين المعاصرين والدعوة إلى أفكارهم فنجده حين صدر كتاب "الجهاد في الإسلام؛ كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟" للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، يقدّر إن العالم الإسلامي بعد هذا الكتاب  لن يكون كما كان قبله. إذ "حين يعيد رجل في وزن الدكتور البوطي إلى ساحة المسلمين، فكرة أن الكفر ليس سبباً في جواز قتل النفس التي حرم الله، وان الجهاد لم يشرع لإزالة الكفر، فإن هذا، ولا شك، تقدم ودخول في عملية الإصلاح الإسلامي (...) فإنني أقصد أنه لم يأت بشيء جديد، ولم يبدع أمراً خارقاً، بل أحيا شيئاً ضيعه المسلمون، وأبرز أمراً مستبعداً، وأخرج إلى الوجود سُنَّة منسية، وأعاد إلى حياة المسلمين منهج النبوة. ومهما كثر القيل والقال، ودارت مناقشات واعتراضات، وتداول الناس التأويلات والتفسيرات، فإن هذا تقدم لا ينكر، وسعي إلى الإصلاح لا بد أن يشكر. وأنا لا أشك بأن دراسة هذا الموضوع، وإعادته إلى ساحة النقاش، علامة صحة، وخطوة نحو ترشيد الصحوة، وإزالة الشبهات والالتباسات، وأرى أنه ما لم نحرر هذا الموضوع ؛ فلا يمكن إيقاف الحرب بين المسلمين. وإنني على يقين من أن كل من أراد أن يبحث هذه المشكلة في مصادر الإسلام سيتوصل إلى ما أبرزه الدكتور البوطي في كتابه، وما أظن أن عالماً، مهما كانت درجة معرفته الإسلامية، يقول: إن الحكم الذي يأتي بالغلبة والبغي هو حكم مشروع إسلامياً، والنزاع إنما يدور حول تقدير أي الباغِيَين أفضل، أو أيهما أقل بغياً".

المصدر: https://www.wahdaislamyia.org/issues/176/mkiwan.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك