الإقالة والاستقالة بين ضرورات الواقع وحزازات النفوس

محمد فتحي النادي

 

لا يمكن لمسؤول مهما كان أن يباشر أعماله بمفرده، وكلما توسعت أعماله ازداد عدد من يحتاج إليهم لتسيير أعماله، ومنهم من ينجح فيما يوكل إليه من أعمال ويؤديها على أكمل وجه، ومنهم من يتعثر وتصعب عليه المهمات، فلا يرى صاحب الأمر والمسؤولية بدًّا من الاستغناء عن المتعثرين واستبدالهم بمن يقدر على النجاح.

كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول: “إني لأتحرج أن أستعمل الرجل وأنا أجد أقوى منه”([1]).

وكلما تهاون صاحب الأمر في تغيير المتعثرين ومن صعبت عليهم المهمات فإنه يعمّق الأزمة ويزيدها، حتى إنه يأتي وقت لا يتمكن فيه من إصلاح ما فسد مهما حاول؛ لأن الفساد استشرى وتمكّن.

وقد كان الفاروق عمر يقول: “أيما عامل لي ظلم أحدًا فبلغتني مظلمته فلم أغيّرها فأنا ظلمته”([2]).

والأمانة تستدعي أن يستعفي من لا يقدر على أداء المهمة من تلقاء نفسه، وألا يُطيل فترة عمله حتى لا تتعقد الأمور، ولا يمكن علاجها بعد ذلك.

وإذا طغت العاطفة بحيث يفقد المسؤول قدرته على المحاسبة أو المتابعة، ولا يتمكن من إيقاف المقصّر أو المخطئ في عمله خوفًا من جرحه نفسيًّا، أو مراعاة لشعوره على حساب سير العمل، فإن ذلك من أقصر الطرق إلى الفشل والفساد.

وقد استعمل الفاروق عمر الصحابة في تسيير أمور الدولة الإسلامية، وكان يوصيهم، يقول أبو حصين: “كان عمر إذا استعمل العمال خرج معهم يشيعهم فيقول: إني لم أستعملكم على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على أشعارهم ولا على أبشارهم، إنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بينهم بالعدل، وإني لم أسلطكم على أبشارهم ولا على أشعارهم، ولا تجلدوا العرب فتذلوها، ولا تجمروها فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها، جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن محمد -صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم.

وكان يقص من عماله، وإذا شكى إليه عامل له جمع بينه وبين من شكاه، فإن صح عليه أمر يجب أخذه به أخذه به”([3]).

وفي المقابل كان يوصي الرعية بعماله خيرًا، فقد كتب إلى أهل الكوفة: “أما بعد، فإني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا، وابن مسعود معلمًا ووزيرًا، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- من أهل بدر، فاسمعوا لهما وأطيعوا، واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بابن أم عبد على نفسي”([4]).

وعندما سعى أهل الكوفة بعمار “عزله، ولم يؤنبه”([5]).

ومن طبائع النفس البشرية أن تحزن إذا سعى عليها أحد عند الولاة، أو إذا عزلت من منصبها، ولكن هذه هي سنة الحياة، وليسأل المسؤول نفسه: كيف وصل إلى مكانه هذا، فقد كان قبله واحد فيه.

ورحم الله عمار بن ياسر فقد كان صادقًا مع نفسه حينما قال له عمر: “أساءك عزلنا إياك؟

قال: لئن قلت ذاك لقد ساءني حين استعملتني، وساءني حين عزلتني”([6]).

والإشكال أن بعض منتسبي الحركات الإسلامية يستدعي نصوصًا يؤسس عليها مواقفه دون قراءة واعية للنص وملابساته وتنزيلاته.

فيستشهدون -مثلاً- بموقف عبد الله بن رواحة حينما قال “لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: اشترط لربِّك ولنفسك ما شئت!

قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم وأموالكم.

قالوا: فإذا فعلنا ذلك، فماذا لنا؟

قال: الجنة.

قالوا: ربح البيعُ، لا نُقيل ولا نستقيل، فنزلت: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية [التوبة: 111]”([7]).

أو قول الأعرابي الذي مرّ “على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾ فقال: كلام من هذا؟

قال: كلام الله.

قال: بيع -والله- مربح لا نقيله ولا نستقيله.

فخرج إلى الغزو واستشهد”([8]).

ويعتبرون أن طلب الإعفاء والاستقالة كأنها فرار من الزحف، وليس اعترافًا بالتقصير وعدم القدرة على مواصلة العمل.

أو أن الإقالة هي عدم اعتراف بالفضل والتاريخ الطويل الحافل بالأعمال المشرفة.

لكن ما دخل التاريخ المشرف بالقدرة على مواصلة العمل، أو فهم تطورات الواقع؟!

فالتاريخ المشرف يخص صاحبه، أما موقعه في مسؤوليته فتتعدى آثارها لغيره من الأشخاص.

إن بعض المفاهيم تحتاج إلى إعادة صياغة في تربية الأفراد داخل الحركات الإسلامية؛ فالمسؤوليات والولايات وما يتعلق بها من متابعة ومحاسبة وإعفاء واستعفاء وثواب وعقاب تتدخل بها العواطف كثيرًا، فتتوقف المتابعة للثقة، ولا تتم المحاسبة لعدم القدح في التاريخ البطولي المشرف، ويكون طلب الاستعفاء فرارًا من أرض المعركة، والإعفاء نكران للجميل… إلخ.

والدعوات تحتاج للإصلاح في آلياتها، مثلها مثل السياسة تمامًا بتمام.

فاعتبار الشورى مُعلمة للمسؤول هو إبطال لها، وبذلك نحكم على الحركات بأن تكون أسيرة رؤية الفرد الواحد.

والتأبيد في الولايات ظلم للأجيال الناشئة، وإقصاء لها، وإهدار لطاقاتها.

والواقع متغير، وتغيراته جذرية، ويحتاج ذلك لمواكبته على مستوى التخطيط والآليات والوسائل… إلخ.

والإقالة والاستقالة تجدد الطاقات، وتحفز الهمم، وتبرز مواهب قد لا يعلمها الكثيرون في أصحابها.

والثبات في المنصب يؤدي إلى الترهل والكسل.

والناظر -مثلاً- في الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب لوجد أن القليل هم من بقوا في مناصبهم مثل: سيدنا معاوية بن أبي سفيان، والكثرة الكاثرة تم إعفاؤهم وعزلهم لسبب أو لآخر، حتى إن الإعفاء قد طال رءوسًا لم تقصّر في عملها قط؛ فقد قال بعد عزله لسيف الله المسلول خالد: “إني لم أعزل خالدًا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخشيت أن يوكلوا إليه ويبتلوا، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وأن لا يكونوا بعرض فتنة”([9]).

والدول الحية الفاعلة، والحركات المؤثرة تستفيد من كل الطاقات، ولا تجعل أحدًا معطلاً، ومن لا تجعله في موقع تنفيذي لا تحرم نفسها من خبراته واستشاراته إن أثبت كفاءة وتميزًا.

وفي المقابل تحاسب المقصر والمخطئ، ولا تألو جهدًا في عقابه إن استوجب الأمر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) الطبقات الكبرى، (3/305).

([2]) السابق، نفس الصفحة.

([3]) تاريخ الطبري، (3/273).

([4]) الطبقات الكبرى، (3/255).

([5]) سير أعلام النبلاء، (1/423).

([6]) الطبقات الكبرى، (3/256).

([7]) تفسير الطبري، (14/499).

([8]) تفسير القرطبي، (8/268).

([9]) تاريخ دمشق، (16/268).

المصدر: https://islamonline.net/23790

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك