المواطنة.. صيغة للاجتماع لا وصفة لفض الخلاف

صهيب زهران

 

قد تبدو الدعوة إلى غرس مفهوم المواطنة في الاجتهاد الفقهي السياسي الإسلامي فكرة مغرية وبراقة، ولكن ينبغي البحث أولاً عن الشروط الموضوعية التي تؤمن البيئة المناسبة لمبدأ المواطنة في الفكر الإسلامي، فما يسميه البعض بـ "الربط الذهني الاشتراطي بين المواطنة ومفهوم العلمنة"[i] هو في الأصل ربط واقعي تمليه ضرورة تطوير نموذج علماني واضح المعالم وقابل للتطبيق في المجتمعات الإسلامية يكون إطاراً وأرضية لأفكار كثيرة من ضمنها فكرة المواطنة، فلا تيار العلمنة الحالي ولا تيار الأسلمة قادران على صنع هذه الأرضية لأن الاثنين "ألغيا الواقع من حيث أرادا تغييره ورفعه لمستوى التحدي المفروض وحل مأزوميته. ووقف كلاهما من الواقع موقف الإدانة والمصادرة. فالأول اتهم الواقع بالتخلف، والثاني اتهمه بالجاهلية"[ii] وبالنتيجة فلا الأول قدم رؤية علمانية تنسجم مع النسق والشروط الحضارية للمجتمعات التي يعيش فيها، ولا الثاني تحرر من أيديولوجية الدولة الدينية، ولذا نادى الأول بأنه لا خلاص خارج العلمانية الشمولية، في حين ظل الثاني مقتنعاً أنه لا خلاص خارج الأصولية.

وفي مرحلة لاحقة ينبغي للإسلاميين المهتمين بالفقه السياسي أن يحلو التلازم المتصور بين مفهوم الأمة ومفهوم "الدولة الإسلامية" من جهة، وأن يزيلوا التناقض المتخيل بين مفهوم الأمة ومفهوم المواطنة من جهة أخرى، في الواقع إن الأمة تمثل "اجتماعاُ دينياً قبل أن يكون سياسياً"[iii] ورابطة عقدية لا يمكن أن تختزل بمطابقتها برابطة سياسية هي الدولة، وإذا كانت هاتان الرابطتان قد وجدتا معاً في عصر الخلافة، فإنه لا مجال لإيقاف التاريخ عند نقطة سقوط الخلافة وإجبار عقارب الساعة أن تدور إلى الوراء بعد أن تطور مفهوم الدولة الحديثة وبات واقعاً ينبغي التعامل معه بروح وأدوات الواقع، وبالتالي فإن الهوية الدينية التي تجسدها الأمة لا تتناقض مع الهوية الوطنية التي تمثلها المواطنة وذلك لأن تصور التناقض بينهما إقامة لعلاقة بين مفهومين منتزعين عنوة من سياقهما ومجال تطبيقهما وتفعيلهما.

 تبقى إذن القضية هي قضية ترتيب للأولويات بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، حيث يسود تيار في أوساط الفقه السياسي الإسلامي ينطلق من ضرورة تقديم صيغة إسلامية جديدة للنظر إلى المخالفين في الدين على أنهم في الأساس شركاء في الوطن بدأت في مصر مع محمد فتحي عثمان واستمرت مع فهمي هويدي وسليم العوا وطارق البشري وراشد الغنوشي[iv] وأغلب هؤلاء مصريون والسبب هو الاستجابة الفكرية لترتيب علاقات المسلمين بالأقباط التي شكلت قضية ملحة في ثمانينيات القرن المنصرم في مصر على وجه التحديد، أما اليوم فيعود الزخم إلى هذه المسألة بعد أحداث الفتن الطائفية في لبنان والعراق، وبالتالي ينتهي هذا التيار إلى تقديم الهوية الوطنية على الهوية الدينية باعتبارات فقهية متنوعة لعل أقواها ما اعتمده عبد الرحمن الحاج من الاستناد إلى مقاصد الشريعة[v].

إننا لا نخفي أهمية وواقعية هذا الطرح الفقهي الجديد، لكننا نود الإشارة إلى أنه لا ينبغي التعويل كثيراً والمراهنة على فكرة المواطنة كوصفة سحرية لأدواء الفتن والنعرات الطائفية، وذلك من عدة اعتبارات أهمها أن هناك من ينظر إلى مفهوم المواطنة على أنه التجانس على ثلاثة مستويات تتمثل في المستوى الاجتماعي حيث تصدر المواطنة هنا من العلاقات اليومية للعمل والتبادل وسائر علاقات التقارب، والمستوى التاريخي والثقافي حيث تتمثل مرجعيات الانسجام في التقاليد والماضي والثقافة كطريقة في العيش والتفكير، والمستوى السياسي الذي يقتصر على مجرد الانتماء إلى دولة واحدة تقودها سلطة سياسية[vi]، وبتحليل أبعاد هذه المستويات الثلاثة قد يبدو أن المواطنة السياسية هي أضعفها وأقلها تأثيراً، أيضاً فإن المستوى الثقافي والتاريخي يشمل ولا ريب الانتماء الديني الذي قد يكون الحاضر الأقوى، ومن وجهة النظر هذه يحق لنا أن نتساءل هل تقوى فعلاً الهوية الوطنية حتى لو أعملنا كل أدواتنا الفقهية لتقديمها على أن تتقدم على الهوية الدينية في الوعي الفردي والجماعي العام وليس في وعي المثقفين والمنظرين فقط؟ كما ينبغي لنا أيضاً أن نحدد الممارسات الواقعية لفكرة المواطنة عدا عن مجرد تذكير المختلفين دينياً أنهم يحملون جنسية واحدة، كما يمكننا أن نذكر أن المواطنة التي طبقت في فرنسا على أرضية صلبة من حيث المبدأ من حقوق الإنسان قد تكشفت عن مواطنة مدخولة بنيوياً بعد أن قسمت مواطنيها إلى مواطنين من الدرجة الأولى وآخرين من الدرجة الثانية، هذا التقسيم بالطبع لم نعثر عليه لا في القوانين ولا في الدساتير وإنما يحس به مواطنو الدرجة الثانية في بحثهم عن الوظائف.

أخيراً لا بد من الإشارة إلى أن بداية طرح موضوع المواطنة في الثمانينيات وعودته بقوة إلى دائرة الضوء بسبب العنف الطائفي والمذهبي ينبئ عن أن الفكر السياسي الإسلامي مازال فكر أزمات وفقه نوازل، فعلى الرغم من أهمية تجذير المواطنة في الممارسة السياسية في الدول التي تضم مجتمعات إسلامية فإن التماس العلاج لمشاكل الطائفية والتنوع الديني والعرقي يكمن قبل كل شيء في إعادة الزخم إلى النزعة الإنسانية بتكريم البشر وعصمة الدماء، بإعطاء الأولوية ليس إلى الرابطة "المواطنية" وإنما قبل ذلك إلى الرابطة الإنسانية القائمة على احترام الإنسان ككائن بشري قبل أن يكون مواطناً، وسابقاً قال جان جاك روسو إنه لفرق كبير بين أن تربي مواطناً وبين أن تربي إنساناً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[i] . انظر: عبد الرحمن الحاج، الهوية الوطنية والهوية الدينية ومأزق الاجتهاد الفقهي، الحياة،  10/05/08.

http://www.alhayat.com/classics/05-2008/Item-20080509-ce5aea5a-c0a8-10ed...

[ii] . أنور أبو طه، ؟؟؟؟؟؟

http://www.almultaka.net/majalla00.php?subaction=showfull&id=1093219506&...

[iii] . عبد الرحمن الحاج، الهوية الوطنية والهوية الدينية ومأزق الاجتهاد الفقهي، الموضع المذكور سابقاً.

[iv] . انظر: عبد الوهاب الأفندي، الإسلاميون ومفهوم المواطنة.

http://www.aljazeera.net/NR/exeres/36249DEE-D54E-4F04-8ABD-03FDBBD602C8.htm

[v] . راجع: عبد الرحمن الحاج، الهوية الوطنية والهوية الدينية ومأزق الاجتهاد الفقهي، الموضع السابق.

[vi] . بتصرف من:Eduquer le citoyen, L éducation civique et morale, une exigence renouvelée, 

 http://pagesperso-orange.fr/alain.kerlan/DISCIPLI%206.htm

Consulté le 27 juil. 08

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=650&idC=3&idSC=9

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك