تيارات الإصلاح في المغرب العربي

تيارات الإصلاح في المغرب العربي

أبو القاسم سعد الله*
كان القرن التاسع عشر حقبة تحولات مهمة في البلاد العربية عموما والمغرب العربي على وجه الخصوص. ففي الوقت الذي مر فيه المشرق بالحملة الفرنسية على مصر، وتوسعات محمد علي باشا؛ كان المغرب العربي يشهد الحملة الفرنسية على الجزائر، وتحولات في نظم الحكم في كل من ليبيا وتونس والمغرب، وتغييرات في النظم الاجتماعية والرؤى التعليمية والقيم الثقافية.

ففي 1830م احتل الفرنسيون الجزائر ونفوا حاكمها وألغوا حكومتها، وفرضوا عليها الاستعمار المباشر القائم على إلحاقها إداريا وسياسيا بفرنسا، وتسييرها عسكريا لمواجهة المقاومة الكبيرة التي قادها فترة طويلة الأمير عبد القادر الجزائري الشهير ثم آخرون بعد نفيه.

وقد تميز الاستعمار المباشر هذا بفرض اللغة الفرنسية مكان اللغة العربية، وإحلال المستوطنين الأوروبيين محل الأهالي بعد طرد هؤلاء من أراضيهم الخصبة، وإدخال التشريعات والقوانين الفرنسية مكان الشريعة الإسلامية، واتباع سياسة تجهيل الأهالي بالاستيلاء على مؤسسات الوقف التي كانت تغذي التعليم وتمون العلماء والمدرسين، وجعل المؤسسات الدينية كلها بما فيها المسجد والزوايا والمدارس والأضرحة وموظفيها تحت الإدارة الفرنسية. وقد دام هذا الوضع دون تغيير يذكر إلى مطلع القرن العشرين.

وكان احتلال الجزائر مقدمة لاحتلال تونس والمغرب ثم ليبيا، ولكن قبل الاحتلال تعرضت تونس إلى ضغوط فرنسية من أجل التغيير لخدمة المصالح الفرنسية، فقد كان على حكام تونس أن يعدلوا من سياستهم الداخلية حتى لا تتعارض مع المصالح الفرنسية في المنطقة، وأن يقطعوا أو يخففوا من علاقتهم بالدولة العثمانية، وأن تكون وجهتهم هي أوروبا وفرنسا وليس الشرق. وهكذا قامت تونس قبل الاحتلال بإصلاحات سياسية وإدارية واقتصادية، أشرف عليها المشير أحمد باي أحد أبناء الأسرة الحسينية الحاكمة، ولم يكد ينتهي عهده (1857) حتى ضغط الفرنسيون على خلفه لصياغة وثيقة تدعى (عهد الأمان) أعطى بمقتضاها امتيازات للأجانب المقيمين في تونس، وسمح بالتدخل الفرنسي والإيطالي في مراقبة الميزانية. وأخيرا فرضت فرنسا حمايتها على تونس (1881)، فأبقت على ظل حكومة البايات، ولكنها كانت هي المسيرة للشؤون الاقتصادية والمالية والدفاعية والخارجية، كما أنها فتحت تونس أمام المستوطنين الأوروبيين ورأس المال الفرنسي، وفرضت اللغة الفرنسية إلى جانب العربية، وتدخلت في شؤون جامع الزيتونة وتوجيه التعليم والقضاء. ولكن اختلاف نظام الاستعمار بين تونس والجزائر جعل تطور الأولى السياسي والثقافي يختلف إلى حد كبير حتى مطلع القرن العشرين، كما سنرى.

عرفت ليبيا تحولات إدارية ودينية وغيرها. فبعد أن كانت الأسرة الحاكمة فيها تعترف بالسيادة العثمانية قام الباب العالي كرد فعل على احتلال فرنسا للجزائربفرض الحكم العثماني المباشر عليها، وإلحاقها بالباب العالي وإلغاء حكم الأسرة الحاكمة، وتعيين الباشوات (الحكام) مباشرة من إسطانبول ابتداء من سنة 1835م. وكثير مِـمَّا حدث في ليبيا من تطورات قبل احتلالها من قبل إيطاليا سنة 1911م كان انعكاسا لما كان يحدث في الدولة العثمانية، وكان ذلك يهدف إلى مواجهة الضغوط الفرنسية التي كانت تمارس على ليبيا من الجزائر ومن قبل قناصل فرنسا في طرابلس، مثل دي رينو، وفيرو. ولقد كانت فرنسا تتدخل في شؤون ليبيا العثمانية بشتى الوسائل ولا سيما في إقليمي طرابلس وفزان.

وكانت السنوسية قد بنت لنفسها قاعدة في إقليم برقة (بني غازي) على يد الشيخ محمد بن علي السنوسي، الذي جعل من واحة جغبوب قاعدة لزاويته التي شهدت تطورات هامة بين 1850-1911م سواء على يده هو أو على يد أبنائه وأحفاده. وأهم ما قامت به السنوسية عندئذ إعطاؤها مفهوما مختلفا لدور الطريقة الصوفية، فلم يعد دور الطريقة هو العزلة والابتعاد عن الأحداث، بل التربية والتعليم والتكوين الروحي والعسكري وتنقية الدين الإسلامي من شوائب البدع. وهكذا فإنه لم تحن سنة 1914م حتى كانت ليبيا مهيأة سياسيا وروحيا لصد الغزو الإيطالي رغم انسحاب القوات العثمانية من الميدان.

أما المغرب الأقصى (مراكش) فقد بدأ التحول فيه منذ منتصف الأربعينات من القرن التاسع عشر، ذلك أنه لم يستطع أن يبقى بعيدا عن أحداث الجزائر المجاورة؛ فالسلطان إذا ساند المقاومين الجزائريين واجه غضب الفرنسيين، وإذا رفض حماية الجزائريين واجه غضب شعبه، ولم يكن في استطاعته البقاء على الحياد، وكانت سنة 1844م سنة حاسمة في تاريخ المغرب إذ انهزم جيشه على يد القوات الفرنسية التي عاقبته على تدخله في شؤون الجزائر. فإذا بسلاطين المغرب يكتشفون ضعفهم ويقررون الدخول في مرحلة التحديث. وهكذا بدأ السلطان عبد الرحمن بن هشام هذه العملية وواصلها وطورها بعده السلطان الحسن الأول.

ولكن تصميم المغرب على الخروج من التخلف الإداري والعسكري والمالي لم يرق للفرنسيين الذين كانوا يتدخلون في شؤونه لخلق الطائفية وتشجيع القبلية والإقليمية حتى لا يستطيع السلاطين إحكام قبضتهم والسيطرة على الأوضاع في البلاد، وبذلك يسهل على فرنسا فرض استعمارها الذي أعطته اسم الحماية سنة 1912م. فكان المغرب آخر قلعة عربية إسلامية استولى عليها الأوروبيون (فرنسا وإسبانيا) ومنعوا تطورها الطبيعي.

وقد أطلق بعض الباحثين اسم «اليقظة» على مرحلة التحول الذاتي في المغرب، وهي اليقظة التي شملت تحديث الإدارة و الجيش والنظام المالي، وجوانب تعليمية وثقافية هامة.

كانت الحرب العالمية الأولى إذن مرحلة هامة وتكاد تأثيراتها تكون مشتركة بين أقطار المغرب العربي. وإذا كانت ليبيا قد دخلت في حرب شعبية مستعرة مع الإيطاليين فإن الأقطار الثلاثة الأخرى (الجزائر وتونس والمغرب) قد عاشت تجربة متشابهة. فالدولة المستعمرة واحدة (عدا إسبانيا في شمال المغرب). وقد فرض الفرنسيون التجنيد الإجباري على شباب هذه الأقطار لكي يخدموا في جيشها ضد الدولة العثمانية المتحالفة مع ألمانيا. وكان الاضطهاد والهروب من الخدمة العسكرية والغيرة الوطنية قد ساعدت على خروج عدد من قادة هذه الأقطار إلى المشرق وإلى أوروبا وتأليف لجان وجمعيات لتحرير بلدانهم. وكان ذلك مدعاة للتنسيق فيما بينهم والبحث عن الأنصار في الدول الأخرى، ومخاطبة الرأي العام العربي والإسلامي بخطاب الاستغاثة والتعاون.

ويمكن القول: إن الحرب العالمية الأولى كانت «مدرسة» تعلم فيها الشباب الوطنية وقيادة الأحزاب، والاعتماد على الإعلام والبحث عن الأصدقاء. وقد تشجع هذا الشباب بتصريح ويلسون عن تقرير المصير والثورة الروسية على الرأسمالية والاستعمار، ومعاشرة الأوروبيين في بلدانهم في ميادين القتال. ولذلك كانت سنوات 1919-1939م تمثل مرحلة النضج لدى الحركات الوطنية والإصلاحية في المغرب العربي.

ورغم ما قيل عن سلبيات الاستعمار فإنه كان للكثير من الشعوب الصدمة التي أيقظتها لتكتشف هويتها ومصيرها. ونحن نجد ذلك واضحا لدى شعوب المغرب العربي. فابتداء من الجزائر نلاحظ يقظة الطرق الصوفية التي أخرجت أمثال الأمير عبد القادر ليصبح بطلا إسلاميا وقوميا، ومعظم الثورات التي حدثت بعده ضد الفرنسيين كان قادتها من صفوف هذه الطرق. وقد تأخر ظهور القادة السياسيين في الجزائر نظرا لقضاء الفرنسيين على نخب المدن واتباع سياسة التجهيل.

بينما اختلف الأمر في تونس، فسياسة المشير أحمد باي قد تولدت عنها فئة اجتماعية مسيسة ومتعلمة. وهذه الفئة هي التي ستواجه الاحتلال حين بدأ سنة 1881م. وهكذا فإننا في تونس لا نكاد نجد دورا يذكر للطرق الصوفية في مواجهة الفرنسيين. وكان لعلماء جامع الزيتونة دور آخر مهم في قيادة النضال السياسي، بينما لا نجد لعلماء الجزائر مثل هذا الدور لسببين: الأول: عدم وجود مؤسسة تعليمية كالزيتونة، والثاني: أن الشؤون الدينية في الجزائر كانت كلها بيد الفرنسيين.

وقد كانت ليبيا أقرب إلى الجزائر من حيث الدور الذي لعبته الطريقة (السنوسية) سواء في ميدان التربية والتعليم، أو في مواجهة الاحتلال عسكريا. حقيقة، إنه كان لليبيا دور آخر وهو التعاون مع الدولة العثمانية سياسيا أيضا قبل 1911م، ويظهر ذلك من تعيين ليبيين في مجلس الأمة (المبعوثان) في إسطانبول، وهي تجربة لم تعرفها أقطار المغرب العربي الأخرى.

أما المغرب فقد جرب الحياة السياسية الجديدة متأخرا نظرا لتأخر احتلاله 1912م. أما تجاربه قبل هذا التاريخ فقد كانت منصبة في معظمها على الشؤون العسكرية والإدارية، ومع ذلك كانت للمغرب كوادر سياسية تقليدية تمثلت في موظفي القصر وحكام الأقاليم وكبار العلماء المرتكزين في جامع القرويين. ويمكن أن نضيف إلى ذلك فئة من أهل المدن، وبعض الطرق الصوفية، ولكن هذه العناصر لم تستيقظ أيضا إلا على دقات الاحتلال.

إن مرحلة اليقظة قد اختلفت من قطر إلى آخر كما أن مرحلة الإصلاح قد اختلفت تبعا لذلك. ولكن ما اليقظة؟ وما الإصلاح؟

إن البعض قد يخلط بين اليقظة والنهضة. ونحن ندرس في الجامعات النهضة الإسلامية والنهضة العربية، وقلما نستعمل اليقظة في نفس المعنى، وكأننا نستقل هذه اللفظة (اليقظة)، ونريد أن نقفز إلى النهضة؛ لأنها ربما توحي بتجاوز مجرد الشعور إلى العمل، فالنهضة لا تعني الازدهار والإنجاز العظيم. بينما استعمل الأوروبيون تعبير النهضة في معنى اليقظة عندنا، وهو شعور لا يعني العمل والإنتاج ولا الازدهار والإنجاز العظيم، إِنَّهُ مجرد فتح العينين والتعرف على الأشياء من حولنا، ولو كنا متواضعين في استعمالنا اللغوي لاكتفينا باليقظة إلى الوقت الحاضر، فنحن أبعد ما نكون عن النهضة وأقرب ما نكون إلى اليقظة.

ولذلك فإن الجزائريين سنة 1830م قد استيقظوا على الاحتلال يطيح بحكومتهم، ويستولي على أملاكهم، ويغتصب أراضيهم؛ فقاموا يتحسسون مواقعهم ويجمعون شملهم لمقاومة الأجنبي. وكذلك فعل التونسيون والليبيون والمراكشيون، ولكن وسائل التحسس والجمع قد اختلفت من قطر إلى آخر، وربما كانت تونس أقرب إلى مرحلة اليقظة المبكرة؛ أي السابقة للاحتلال خلافا لجاراتها، نظرا لسبقها في التغيير قبل الاحتلال. فإلى جانب التغيير الذي أحدثه أحمد باي؛ هناك إسهام خير الدين التونسي الذي جسد تجربته في كتابه: (أقوم المسالك في أحوال الممالك) الذي نشر سنة 1867م. وقد ضمن كتابه اقتراحات وتوصيات لو أخذ بها المسلمون في نظره لنهضوا وصلح حالهم، وقد استقى ذلك من مشاهداته في أصقاع أوروبا الغربية، ولكنه لم يدع إلى استنساخ التجارب الأوروبية، بل كان يعرف الحدود بين تعاليم الإسلام وتجارب أوروبا، سيما وأن الأفكار التي تضمنها كتابه صاغها علماء متنورون من جامع الزيتونة، منهم: محمد بيرم الخامس، وسالم بوحاجب، ومحمد السنوسي.

وإذا كان جامع الزيتونة رغم إصلاح مناهجه يمثل قلعة القديم فإن المدرسة الصادقية كانت تمثل المنشأة الحديثة، بمفهوم ذلك الوقت؛ لأنها جمعت بين الثقافتين العربية والفرنسية، وهي التي أخرجت قيادات «الشباب التونسي».

وكانت الصحافة في تونس تلعب دور الموقظ أيضا. فإلى جانب صحافة الاحتلال ظهرت الصحف الوطنية ممثلة في الزهرة والحاضرة والتونسي. وتعاون علماء الزيتونة مع المثقفين المتخرجين من الصادقية، فكان عبد العزيز الثعالبي وصالح الشريف ومحمد الخضر حسين، إلى حانب علي باش جانبه وأخيه محمد.

وكانت زيارة الشيخ محمد عبده (لا سيما الثانية سنة 1903م) قد وجدت تونس مهيأة للدخول في مرحلة النهضة لولا وقوع الحرب العالمية الأولى وكبت الحريات وتشريد القادة.

ومن جهتها عرفت الجزائر مرحلة اليقظة التي أشرنا إليها، وكادت أيضا تنطلق في مرحلة جديدة اصطلح عليها منذ العشرينات من القرن العشرين بالنهضة. ففي مطلع هذا القرن تقاربت وجهات نظر العلماء المحافظين العاملين في سلك الإدارة الفرنسية والعلماء المستقلين أو الأحرار مع وجهات نظر خريجي المدارس الفرنسية من النخبة التي أصبحت تعرف بالمتطورة. وكانت حاجتهم إلى التلاقي والتكاتف قد فرضها التجنيد الذي فرضته فرنسا على الشباب للخدمة العسكرية في جيشها. وهكذا نجد عبدالحليم بن سماية وعبد القادر المجاوي والمولود بن الموهوب من العلماء الموظفين ينسقون جهودهم مع متطورين من أمثال: محمد بن رحال وأحمد بوضربة والشريف بن حبيلس. وبدأ الحديث عن ظهور جماعة «الشباب الجزائري» على غرار الشباب التونسي والشباب المصري والشباب التركي، وهو مصطلح وارد على العالم العربي والإسلامي من أوروبا، روجت له وسائل الإعلام الغربي/الاستعماري عندئذ؛ وكان الهدف منه إبراز دور النخب المتكونة في المدارس الغربية على حساب النخب التقليدية (العلماء) الذين فاتهم ركب الحداثة، ولا يفهمون روح العصر. وقد أدت هذه النظرة الغربية إلى عزلة واضطهاد عدد من العلماء التقليديين؛ فاختاروا الهجرة أمثال: حمدان الونيسي، أو الانسحاب من الميدان.

وكان للنوادي والجمعيات والصحافة وزيارة الشيخ محمد عبده (1903م)تأثير واضح على مسيرة اليقظة في الجزائر كما في تونس، ودخولها عهد النهضة الذي كان عليه أن ينتظر نهاية الحرب العالمية الأولى.

وكانت التجربة الليبية تختلف عن تجربة الجزائر وتونس في هذا المجال، فقد بقيت ليبيا إلى سنة 1911م، وهي على صلة بتطورات الدولة العثمانية -كما أشرنا- رغم أن نشاط الحركة السنوسية كان يحاول ألا يرتبط بهذه الدولة، وكان يفضل العمل المستقل وربما السري؛ أي: الذي لا يستطيع العثمانيون مراقبته خشية احتواء الحركة سياسيا.

وعندما وقع الانقلاب ضد السلطان عبد الحميد سنة 1908م أحست به ليبيا، وقدمت نوابا عنها للبرلمان العثمانيكان منهم: سليمان الباروني باشا، وكان الباروني قد درس في الجزائر على الشيخ محمد بن يوسف اطفيش في واحات بني مزاب حيث معهد بني يسجن الذي أسسه الشيخ اطفيش نفسه. كان وجوده بالجزائر بين 1896- 1899م، وهي فترة انتقالية في الجزائر نفسها. ومن الجزائر تنقل الباروني بين تونس ومصر، وأسس جريدة الأسد الإسلامي، والمطبعة البارونية في مصر، قبل أن يصبح عضوا في البرلمان المذكور. وكان الباروني بحكم القناعة والوظيفة من أنصار الجامعة الإسلامية التي كان رائدها جمال الدين الأفغاني؛ بل إِنَّهُ ظل على هذه العقيدة حتى بعد صعود أتاتورك إلى الحكم وإلغاء الخلافة. ومن جهة أخرى بقي الباروني على ولائه للاتحاديين وتعاون معهم ضد الإيطاليين خلال الحرب العالمية الأولى، وكان ذلك يعني التعاون أيضا مع الألمان حلفاء الاتحاديين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت السنوسية نشطة في ليبيا بطريقتها، وقاومت الاحتلال الإيطالي بوسائلها، ومن أنصارها الذين لعبوا دورا هاما في المقاومة في هذه الأثناء الشيخ عمر المختار. وظهرت في ليبيا شخصيات أخرى مقاومة بالسلاح أو بالقلم، فكان مصيرها التشريد والاضطهاد، وهو المصير الذي لقيه الباروني نفسه.

ومن المعروف أن المغرب كان مستقلا عن الدولة العثمانية، فعاش تجربته الخاصة سواء قبل مرحلة اليقظة أو بعدها. وقد كان عهد السلطان الحسن الأول يشبه عهد السلطان عبد المجيد العثماني، كلاهما كان تحت ضغط الدول الأجنبية لإجراء «التنظيمات» التي تعني فتح المجتمع وحماية مصالح الرعايا الأجانب، وإدخال النموذج الغربي في الجيش والإدارة.

ففي نهاية القرن التاسع عشر كانت الدول الغربية تتنافس على المغرب مما مد في عمر استقلاله ولو ظاهريا؛ لأن كل دولة أوروبية كانت تريد أن تنقض هي الأولى عليه أو على الأقل يكون لها سهم وافر منه. وكان الضغط الفرنسي على المغرب أكثر الضغوط وقعا نظرا للعامل الجغرافي، وكان الفرنسيون حريصين على أن يحكم المغرب حكومة موالية لهم وقادرة على الاستجابة لمطالبهم الاقتصادية والأمنية.

ومنذ أوائل القرن العشرين توجه إلى المغرب عدد من الفرنسيين والمبعوثين الجزائريين فهيأوا التربة بإنشاء المدارس ودراسة الموارد، واكتساب القصر والنخبة؛ بل والطرق الصوفية إلى جانبهم. وقد عرف المغرب الصحف والاتصال بمعاهد المشرق قبل الحماية. أما بعد الحماية فقد انشغل أهل المغرب بالمقاومة التي قادها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في جبال الريف، والوقوف في وجه (الظهير البربري) الذي هدف الفرنسيون من ورائه إلى تقسيم سكان المغرب. غير أن الجيل الذي تعلم في المدارس الفرنسية، سواء في المغرب نفسه أو في باريس كان بطيئا في أخذ زمام الأمور، وكان معظم أفراده من العائلات الموسرة (الأرستقراطية) في المدن. ومنذ الثلاثينات من القرن العشرين ظهرت الحركة الوطنية واتصلت بمثيلاتها في الجزائر وتونس، وكان للأمير شكيب أرسلان دور في تنشيط هذه الحركة لا سيما في الشمال (المنطقة الإسبانية).

وهكذا وجدت الحرب العالمية الثانية المغرب على استعداد، لا سيما الأحزاب والرأي العام، للمطالبة بالاستقلال. وكان لكتلة العمل الوطني ثم حزب الاستقلال دور بارز في المطالبة برفع الحماية الفرنسية عن كاهل المغرب. أما الشخصيات التي هيأت الأجواء في المغرب فهي: الشيخ شعيب الدكالي بدروسه السلفية، ومحمد العتابي بنضاله على المسرح الدولي، وعلال الفاسي بزعامته لحزب الاستقلال.

وفي الجزائر عرفت فترة ما بين الحربين العالميتين ظهور أحزاب وجمعيات قادت البلاد إلى الثورة فالاستقلال. فالأمير خالد حفيد الأمير عبد القادرطالب بتطبيق تقرير المصير على الجزائر، واستمر في نضاله حتى نفاه الفرنسيون إلى خارج الجزائر. وقد ظهر سنة 1926م«نجم الشمال الأفريقي» الذي طالب زعيمه مصالي الحاج باستقلال الجزائر في مؤتمر عالمي انعقد في بلجيكا سنة 1927م.

وعندما منعت فرنسا النجم من النشاط تأسس حزب الشعب الذي خطط للثورة ضد الفرنسيين، وهناك أحزاب أخرى توفيقية لم تطالب إِلاَّ بالاستقلال الداخلي أو دولة متحدة مع فرنسا. ولكن (جمعية العلماء) التي تأسست سنة 1931م بزعامة عبد الحميد بن باديس هي التي كان لها الفضل في بعث الروح القومية والروابط الإسلامية مع المشرق، وتحضير الشعب لغويا وفكريا واجتماعيا للاستقلال؛ إذ نافست الجمعية بمدارسها المدرسة الفرنسية في التربية والتعليم، وأحيت في الشباب الروح الوطنية والاعتزاز بحضارته العربية الإسلامية.

وكذلك كان لتونس قيادتها ونهضتها بين الحربين أيضا؛ فلم تكد تنتهي الحرب العالمية الأولى حتى ظهر عبد العزيز الثعالبي على المسرح مؤسسا الحزب الدستوري، ومناديا برفع الحماية عن تونس. وكان الثعالبي من خريجي الزيتونة وممن زار المشرق عدة مرات، وتأثر بمبدأ تقرير المصير، ولكن السلطات الفرنسية نفته، وبقي الميدان لأتباعه، وهم جيل جديد من خريجي المدرسة الصادقية والمدارس الفرنسية، وكانت رؤية بعضهم في النهضة والإصلاح تختلف عن رؤية شيخهم، فقاموا في الثلاثينات بتأسيس حزب دستوري جديد وانتخبوا على رأسه الحبيب بورقيبة الذي قاد تونس إلى الاستقلال سنة 1956م.

وقد عرفت تونس بالإضافة إلى ذلك نشاطا ملحوظا في الأدب والمسرح والصحافة والجمعيات المدنية، ويكفي أن نشير هنا إلى اسم أبي القاسم الشابي الشاعر الرومانتيكي الرقيق.

وفي الختام نقول: إن بلدان المغرب العربي قد عرفت يقظة منذ أوائل القرن التاسع عشر، وسرعان ما تحولت اليقظة إلى تنظيمات في المغرب وتونس وليبيا، وإلى وعي نهضوي في الجزائر. وقد لعبت النخب المحافظة والنخب الجديدة دورا في التنافس وإدخال ما أسموه بالإصلاح في مختلف المجالات، بما في ذلك مجال المرأة والتطلع إلى تعلم اللغات والعلوم، والدعوة إلى تقليد اليابان، ونادى آخرون بنبذ الخرافات وتحرير الأفكار.

*************

*) باحث ومؤرخ من الجزائر.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=35

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك