قراءة في التراث الاقتصادي لمالك بن نبي
المفكر و الفيلسوف المسلم مالك بن نبي أحد الذين اهتموا بشكل جذري بالتأصيل لمشكلة الحضارة ودورها في تشكيل وعي الشعوب ومواجهة تحديات التنمية والبناء، ويعتبر بن نبي أن مشكلة الحضارة في العالم الإسلامي وما ينبثق عنها من تحديات تواجه العقل المسلم في مجالات الحياة المختلفة تحتاج للكثير من التحليل والدراسة للوقوف على الأسباب الحقيقة التى تعيق العقل المسلم عن الإبداع والنهوض.
وفي إطار مقارباته حول مشاكل الحضارة استطاع بن نبي أن يقدم إطارا منهجيا للعلاقة بين المسلم والاقتصاد وهذا الإطار المنهجي الإيجابي الذي استمد أصوله وقواعده من التحليل الاجتماعي لعقلية المجتمع المسلم مبني على التخطيط العلمي والاستثمار الاجتماعي الإنساني الذي يعتبره بن نبي أهم من الاستثمار المالي.
سنحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء على بعض جوانب الثراث الاقتصادي في فكر الفيلسوف مالك بن نبي.
الاقتصاد المزيف (الاقتصادانية)
يطلق مالك بن نبي مصطلح الاقتصادانية على حالة التشويه والتيه التى يعرفها الاقتصاد في بلدان العالم الثالث بشكل عام والمسلم منه بشكل خاص، ف “الاقتصادانية” مظهر من مظاهر الاقتصاد المزيف الذي يناقض التنمية ويهمل الإنسان كعنصر أساسي في عملية الإنتاج وهكذا فإن غياب المنهج السليم المستوحى من عقلية المجتمع وضعف بناء وتكوين الإنسان المسلم كنواة حقيقة لعملية التنمية تسبب في تشكل ظاهرة الاقتصادانية بما تحمله هذه الظاهرة من فوضى في التسيير وعشوائية في التنظيم وضعف في الأداء.
وسبب تنامي ظاهرة الاقتصادانية حسب بن نبي هو أن الوعي الاقتصادي لم ينمو في ذهنية الإنسان المسلم كما حدث في الغرب حيث أن الوعي الاقتصادي شكل جزء من شخصية الإنسان الغربي وأصبح الواقع الاقتصادي دعامة أساسية للحياة الاجتماعية وقاعدة جوهرية لتنظيمها ، ونتيجة لغياب هذا الوعي في عقلية المسلم يقول مالك بن نبي أن الفكر الإسلامي مسرح من مهامه التاريخية أو معطل في بعض النواحى ومنها الجانب الاقتصادي ذالك أن اتجاها أو مذهبا اقتصاديا إسلاميا خاصا لم يكن ليقوى على البزوغ ، وهو ما جعل المسلم بين فكرة (الربح الحر) الرأسمالية أو (الحاجة) الماركسية.
الفكر الإسلامي في مواجهة المشكلات الاقتصادية
يرى المفكر مالك بن نبي بأن الفكر الإسلامي يضيق على نفسه في مجال الاجتهاد في حل المشكلات الاقتصادية ويشمل هذا التضييق نقطتين أساسيتين: الأولى : أن الفكر الإسلامي يتعامل مع الموجود من المناهج الاقتصادية على أنه هو ما يمكن إيجاده وبالتالي يحد من الخيارات الكثيرة بما فيها العمل على استحداث منظومة اقتصادية جديدة.
النقطة الثانية : هي أن المال هو أساس النشاط الاقتصادي وهذا النشاط إما أن ترعاه جهات خاصة أو سلطة سياسية ومن هنا يواجه الفكر الإسلامي حسب مالك بن نبي صعوبات تنشأ من طبيعة موقفه من الأشياء وليس من طبيعة الأشياء ذاتها. وهكذا فإن حتمية الإختيار بين الرأسمالية والاشتراكية تجعل الإختيار الإسلامي يواجه مشاكل فنية أو مذهبية أو حتى أخلاقية. ففي حالة تبني النمط الرأسمالي سيصطدم الإسلام بعدم أخلاقية هذا المذهب والتى عبر عنها آدم سميث بمقولته الشهيرة : “دعه يعمل دعه يمر” وهكذا يكون الفكر الإسلامي أمام تحديات كبيرة تواجه لإيجاد أو صياغة منظومة اقتصادية سليمة تناسب المجتمع الإسلامي وتقدم له حلول نابعة من موروثه وثقافته وفي حالة فشل القائمون على مؤسسات الفكر الإسلامي في طرح هكذا منظومة فإن المجتمعات المسلمة ستظل تائهة بين المنظومات الوضعية الأخرى تستورد منها نمط الإستهلاك والإنتاج.
الاستثمار المالي والاستثمار الاجتماعي
يشير المفكر مالك بن نبي إلى أن الاستثمار الاجتماعي هو رأس مال المجتمعات وهو القادر على السير بها نحو النهوض والتطور عكس الإستثمار المالي ، ويورد مثالا في هذا الإطار حيث يقول لو أفترضنا أن مدينة نيويورك دمرت بفعل زلزال شديد فإننا بكل تأكيد سنرى إعادة بنائها من جديد وهناك يتبادر إلى الذهن السؤال عن أي وسيلة يمكن إعادة بناء هذه المدينة ، بالنظر إلى الاستثمار المالي للولايات المتحدة الأمريكية لا يكفي لشراء مدينة مثل نيويورك بمصانعها ومبانيها وجسورها لكن تستطيع بامكاناتها الاجتماعية بناء عشرات المدن مثل نيويورك وترتكز تجربة الاستثمار الاجتماعي هذه على ما حدث لألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية ،حيث أضطر المجتمع الألملني إلى العودة للحياة بدون أي سلطان مالي وقد رأينا ألمانيا تعيد بناء مدنها المدمرة ومنظومتها الصناعية الضخمة فقط بما تبقي لديها من إمكانات اجتماعية وبناء على هذه التجربة فإن الاستثمار الاجتماعي هو الذي يقرر مصير الشعوب والمجتمعات والدول حسب بن نبي.
في العالم الثالث بشكل عام وعالمنا الإسلامي بشكل خاص كانت تجربة البناء الاقتصادي فاشلة بسبب الإعتماد على الإستثمار المالي وإهمال الاستثمار الاجتماعي الذي هو محرك التنمية الذاتية. ونجد العكس في جمهورية الصين فالصين تقدمت اقتصاديا بشكل سريع وملفت ،لأنها قامت منذ البداية بتطبيق سياساتها التنموية على مبدأ الإتكال على الذات أي بالتعبير الاقتصادي اتبعت منهج الاستثمار الاجتماعي الذي هو الإنسان الصيني والارض الصينية والزمن المتوفر في كل مكان.
وهكذا وضعت الصين تبعات التنمية على الشعب الصيني فعوضت بطاقاته الحيوية الطاقات الميكانيكية المفقودة أي أنها عوضت النقص في الاستثمار المالي بالاستثمار الاجتماعي.
يرى بن نبي أن الفكر الاسلامي يجب أن يتخلص من بعض العقد التى تستولي عليه وتورثه الجمود خاصة فيما يتعلق بالإجتهاد في مجال الاقتصاد ، فالفكر الإسلامي عليه مواجه التحديات الكبرى التى تواجه المسلمين في عالم الاقتصاد وعليه أن يخوض غمار هذه التحديات بصفته رجلا حرا لا يطأطأ الرأس أمام عجل الذهب (الرأسمالية) ولا أمام زخرف القول الماركسي. فالإسلام قادر على رسم طريقه الخاص به في عالم الاقتصاد.
المصدر: https://islamonline.net/25449