الأفيون والحدود أو من قال إنّ الحجر لا عالم له؟

فتحي المسكيني

 

كيف يجدر بنا أن نعيد فهم قولة ماركس الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" في ظلّ "مجتمعات ما بعد علمانية"؟ - حيث تحوّل "المؤمنون" إلى مواطنين صنف ب؛ نعني مواطنين لا تقتصر مصادر أنفسهم على المعايير "العلمانية" للدولة الحديثة (مصادر التشريع الوضعية)، مثل المواطنين صنف أ، بل نجحوا في تنشيط المضامين الدلالية للتجارب الدينية التقليدية (مصادر التشريع التي ترتبط بسردية مقدّسة)، وعملوا بشكل لافت على ضخّها في نقاشات الفضاء العمومي بوصفها هي أيضا تمتلك أنواعا موجبة من ادّعاءات الصلاحية؛ كيف نتأوّل عندئذ طبيعة العلاقة بين الأفيون (كجزء من ظاهرة المخدّرات الحديثة) والدين (في ثوبه "ما بعد العلماني"؛ أي كنوع مواز من الحجج والممارسات الخطابية التي تعوّل على طاقتها الإنجازية أكثر ممّا تعوّل على قدسيّتها التقليدية)؟

يقول شارل بودلير سنة 1857 في قصيدته "السمّ" من ديوانه أزهار الشرّ:

"يوسّع الأفيون ما لا حدود له

يمدّ في اللامحدود

يعمّق الوقت، يحفر الشهوة،

وبلذائذ سوداء كئيبة

يملأ النفس فوق ما تسع"

إنّ الشاعر هنا يرسم مسافة المشكل دون أن يراه؛ هو يمنحنا البُعد الذي يصبح فيه التفكير ممكنا، ثمّ ينسحب. لا يهمّنا هنا استهلاك الأفيون، بل علاقة الأفيون بالحداثة، ومن ثمّ تاريخ استعارة الأفيون بالواقعة البيو-سياسية للغرب ونظرته إلى الثقافات غير الغربية أو "التقليدية". لقد مثّل الأفيون في القرن التاسع عشر واجهة "الشرق" في أدبيات الأوروبيين؛ وهو شرق رومانسي يمتدّ من الصين إلى البلاد الإسلامية، مثل مصر أو الشام أو تركيا.[1] إنّ الشرق مادّة مخدّرة وشبقيّة يتطلّع إليها كلّ أديب أوروبي ينخرط في ما سُمّي "أدب الفراغ"[2]، لكنّه يدخل أيضا بنفس القدر في تاريخ الألم كما في تاريخ اللذة، وهذه الصورة المزدوجة تجعل الأفيون لا يحتوي بالضرورة على مضمون ديني. إنّ الدين هو الذي يأتي إلى تاريخ الأفيون وليس العكس، بل إنّ أوروبا القرن التاسع عشر كانت تنظر إلى الأفيون بوصفه مادّة مفيدة وطبيّة، ولاسيّما بالنسبة إلى الفقراء الذين لا يملكون المال للذهاب إلى الطبيب. وكما توجد "حروب الأديان" توجد أيضا "حروب الأفيون"، وهي حروب استعمارية ضدّ الصين في القرن التاسع عشر من أجل شرعنة تجارة الأفيون[3]. إنّ الأفيون هو الذي أدّى إلى سقوط الصين الإمبراطورية وانطلاق الحداثة في أفقها.

وإنّه في هذا السياق غير المسبوق، الذي يكشف عن العلاقة الخطيرة بين الحداثة والأفيون، أتى ماركس الشاب سنة 1843- والذي كان يستعمل الأفيون بشكل منتظم لتخفيف آلام الإرهاق- إلى قولته الذائعة الصيت: إنّ "الدين أفيون الشعوب" (مقدّمة من أجل نقد فلسفة القانون لدى هيغل). كلّ حدس كبير يولد في رحم ميتافيزيقي مخصوص. وإخراج الدين من نطاق السجال اللاهوتي إلى نقد المخدّرات هو شطحة أدبية وفلسفية رشيقة في معجم الحداثة لم نفكّر بها كثيرا.

إنّ ما يمسك الشعوب إذن داخل الحدود، أيّ حدود أكانت مرئية بالأسلاك الشائكة أو غير مرئيّة في مخيال الناس أو في تاريخ أجسادهم، هو أفيون ما، قد لا تسمّيه كذلك. وحده أفيون جيّد يكبّر الحدود، يخلق المدى الذي يتّسع لما لا حدود له حتى يبقى داخل حدود أنفسنا. وجه المفارقة هنا ليس هو أنّ الحدود لا يمكن الانتصار عليها إلاّ بما لا حدود له، بل إنّه من دون أفيون مناسب لن يكون بإمكان أيّ حدود أن تصمد. تحتاج الشعوب المحبوسة داخل تصوّر معيّن لنفسها، أو داخل دولة أصغر من قدرتها على الحياة، أو في أرض مفتوحة على انتماء أكبر منها، - تحتاج إلى سياسة مكان محتملة، نعني تمتلك طرقا لائقة للتفاوض مع ثقل الحدود وبرودة حضورها الأجوف.

لقد قرأ المعاصرون قولة ماركس عن مفهوم الدين دون استبصار تاريخ استعارة الأفيون تحتها؛ فهي قولة توجد داخل سلسلة سردية وأخلاقية لها علاقة بتاريخ المخدّرات أكثر منها بتاريخ الأديان. لا نتحرّر من سطوة الدين إلاّ بقدر ما نؤرّخ جيّدا لما يخدّرنا.

قال هردر سنة 1785 في كتابه أفكار حول فلسفة تاريخ الإنسانية (الكتاب 8، الفصل 5): "إنّه من العبث أن نتخيّل أنّ كلّ سكّان العالم يجب أن يكونوا أوروبيين حتى يكونوا سعداء؛ ونحن أنفسنا، هل كنّا لنصبح، خارج أوروبا، ما نحن عليه الآن؟ إنّ من وضعنا حيث نحن، هو بلا ريب قد أعطى للذين يحتلون أمكنة أخرى، حقّا مساوياً في مباهج الحياة." يؤكّد هردر بذلك، أنّ هوية الشعوب ليست اختيارا أخلاقيا. "نحن" نكون أنفسنا بقدر ما ننتمي سلفا إلى مكان ما من الأرض: نحن توقيعات أرضية على مكان ما باعتباره "نحن". وهكذا لا تمتاز أوروبا عن غيرها من الأماكن بأيّ شيء هووي. هي فقط سمة جغرافية لنوع من الأجساد التي تشكّلت على تربتها منذ زمن بعيد. ومن ثمّ هي لا يحق لها أن تدّعي أكثر من حضانة نوع خاص من البشر لا مكان له خارجها، وليس له أيّ تميّز هوويّ على غيره من أنواع البشر. كلّ مكان من الأرض له "حق مساوٍ" من كميّة الانتماء إلى نفسه. ولذلك يقول هردر: "إنّ سعادة الإنسان هي دوما خيرٌ فردي أو خاص". لا يمكن لأيّ شعب أن يستلف سعادته من شعب آخر. وهذا يعني أنّه: "لا يحقّ لأيّ طرف آخر أن يفرض عليّ أن أتبنّى مشاعره كما لا يستطيع أن ينقل إليّ نمطه الخاص في الإدراك أو أن يجعل هويّته هويّتي". إنّ الفكرة العالية هنا هي دفاع هردر عن حق رومانسي لجميع الشعوب في الانتماء إلى نفسها، ومن ثمّ إلى اعتناق نمط السعادة الذي يخصّها. في تقديره لا توجد قيم كونيّة يمكنها فرضها على شعب آخر؛ مثلا: إنّ تفاخر الأوروبيين بتأنّقهم الأخلاقي هو حسب هردر ليس تميّزا بالضرورة، بل قد يكون سبب تعاستهم؛ وهنا نبلغ إلى الجملة التي ننتظرها:

"إنّ التأمّل، مثلا، لا يمكن أن يعجب إلاّ عددا ضئيلا من الناس الفارغي البال؛ تماما مثل أفيون الشعوب الآسيوية، يتعلق الأمر غالبا بلذّة من شأنها أن تهلك العقل وتهيّجه في غمرة أمواج ورؤى خاملة".

إنّ هردر يشبّه "التأمّل"، وهو أعلى قيمة كونية في التقليد الفلسفي الغربي، باستهلاك "الأفيون"، وهو أقصى هلاك للعقل لدى الأسيويين. ومن المفيد أن نشير إلى أنّ الربط السردي في كتابات الأوروبيين بين الأفيون والشرق، ثمّ بين الأفيون والدين (في معنى الحديث عن "لذّات إلهية" و"صحة إلهية" و"كنوز روحانية" و"جوّ فردوسي"، إلخ...) هو موضوعة أدبيّة منتشرة، كما نرى ذلك خاصة في كتاب الإنجليزي توماس دي كينساي، اعترافات إنجليزي آكل للأفيون[4] الذي تعود طبعته الأولى إلى سنة 1821 وفي كتابات بالزاك ("الأفيون" في جريدة الكاريكاتور، 1830) أو بودلير في كتابه الجنّات الاصطناعية (1860).

لكنّ ما قاله هردر عن هوية الشعوب قد فهمه كانط، باعتباره نوعا من التحدّي الرومانسي للفكرة الأساسية لبرنامج التنوير: أنّ الإنسانية هي فكرة أخلاقية تشترك فيها جميع الشعوب على نحو لا يحقّ لأيّ انتماء هووي أن يدّعي الاستقلال المعياري عنه. قد تسعد الشعوب بطرق جماليّة مناسبة لتقاليدها الخاصة، لكنّ لا يمكن أن تحكم على مستوى ادّعاء الصلاحية الأخلاقية لفكرة الإنسانية التي تشارك فيها إلاّ بالتوفّر على مقاييس كونية. هذا يعني أنّ أفيون الشعوب لا يوجد في آسيا، بل في ضمير كل مؤمن بما هو كذلك؛ أي بما هو إنسان. وإنّ "إعطاء الأفيون إلى الضمير" يحتاج إلى تنوير من نوع خاص، يتخطى أفكار هردر عن فلسفة التاريخ التي تعيد الإنسانية إلى مكانها. إنّ المكان الجغرافي لا يكفي كي نعيد الأفيون إلى حدوده.

قال: "إنّ قصد الذين يطلبون حضور القساوسة عند نهاية الحياة هو أمر معهود: أنّهم يريدون أن يحصلوا منه على نحو ما من العزاء؛ وليس ذلك بسبب العذابات الفيزيائية التي يحملها المرض الأخير معه، من قبيل الخوف الطبيعي أمام الموت (إذْ إنّ الموت نفسه الذي يُنهي الحياة يمكن أن يكون ضربا من العزاء والمواساة)، بل بسبب العذابات الخلقيّة، نعني تأنيبات الضمير؛ إلاّ أنّه هاهنا إنّما يجب على الأرجح أن يُستفزّ هذا الضمير وأن يُشحذ شحذا، وذلك حتى لا يغفل المرء عن القيام بما تبقّى من خير أو عن إزالة شرّ ما (واستدراكه) في سائر نتائجه الباقية... أمّا أن نعمد بدلا عن ذلك إلى إعطاء الأفيون إلى الضمير، فهو ذنب في حقّ نفسه والذين يعيشون من بعده؛ إذْ هو أمر بعين الضدّ من الغاية النهائية، التي يمكن من أجلها أن يؤخذ ذلك النحو من عون الضمير بوصفه شيئا يُحتاج إليه عند نهاية الحياة." (الدين في حدود مجرّد العقل، القطعة الثانية، 1، د).

إنّ استدعاء رجال الدين هو بلا ريب، ظاهرة عامة ولها أشكال عديدة لدى كافة الشعوب. لكنّ التوقيت المثير هو دوما "نهاية الحياة". ثمّة بين التديّن والشعور بنهاية الحياة علاقة مرعبة. كلّ تديّن، مهما كان شكله، هو تفاوض صامت مع الشعور بالنهاية. كلّ دين هو استثمار طويل الأمد في آلام الفانين. ومن ثمّ لا يوجد مضمون آخر للدين غير سياسات العزاء. الدين هو سياسة عزاء نسقيّة لنوع من البشر من العبث خوض أيّ جدال ضدّهم على أساس تنويري. إنّ التنوير لا معنى له طالما أنّ المؤمن لا يفكّر خارج سرديته؛ التنوير ليس إلحادا. فإنّ القصد هو تعقّب الأفيون داخل الضمير والانتصار عليه، لكنّ المؤمن غير جاهز من نفسه لهكذا مناظرة داخلية، وهو ينتظر دوما أفيوناً ما لمساعدته على أداء طقوس العبور. وعلى الرغم من أنّ المسيحية وحدها تعوّل على القساوسة في معالجة الضمير المعذّب، نعني تعوّل على مؤسسة الكنيسة من أجل توفير الأفيون، فإنّ الإسلام السياسي يقدّم نفسه في كل نقاشاتنا العمومية حول الدين، نعني حول سياسات العزاء التي تتعلق بنهاية الحياة التي يشعر بها كلّ فرد على حدة، - بوصفها وصيّا نهائيّا حول علاقتنا بالله بعامة. صحيح أنّ الإسلام السياسي لا يملك حقّ الغفران لأحد، لكنّ سياسة الوصاية على الناس لا تختلف في شيء عن سياسات العزاء المسيحية. ولذلك، فما تقترحه الفلسفة ليس أقلّ من تعطيل مؤسسة الأفيون برمّتها، أكان تتعلق بالعزاء أم بالوصاية.

ما يريده كانط هو إبطال الحاجة إلى تناول الأفيون وليس استدعاء القساوسة. ولا تجد الفلسفة طريقة أخرى أكثر ملاءمة للذات البشرية من تحميلها مسؤولية سيرتها في الحياة، وليس الاكتفاء بمساعدتها على تحمّل هول الموت الشخصي. هذه الطريقة هي: شحذ الضمير على التحلي باليقظة على الحياة الحرّة التي لا تحتاج إلى قساوسة، نعني تلك الحياة التي لا تفعل إلاّ ما شرّعته بنفسها. وعندئذ لا فائدة من دين يعطّل قوانين الحرية الإنسانية في ضمائر الناس من أجل عزاء يقع خارج أفقهم. ومن ثمّ يتوضّح السياق الذي يمكننا داخله أن نفكّر في دين عمومي أو في استعمال عمومي للدين: إنّه فكرة "الدين في حدود مجرّد العقل"؛ أي الدين في حدود لا يحتاج فيها الناس إلى تناول الأفيون.

لكنّ ما يصبو إليه كانط يبدو غير ممكن إلاّ في نطاق إنسانية تحوّل فيها جميع أعضائها إلى ذوات حرة. والحال أنّ عالم الحياة منذ القرن التاسع عشر قد تمّ استعماره بأدوات غليظة أدّت آخر المطاف إلى طمس كل معالم الطريق إلى تنوير الشعوب. إنّ تنوير الشعوب غير ممكن طالما هي محتاجة إلى مؤسسات الأفيون، نعني إلى سياسات العزاء أو مؤسسات الوصاية على الضمير.

إنّ الأفيون ليس حيلة الآسيويين فقط وليس داء باطنيا في الضمير المسيحي، بل هو حسب تشخيص ماركس ظاهرة روحية يجب سحبها بلا حدود على كل الشعوب. كلّ الشعوب يمكن أن تستهلك الأفيون الآسيوي ولكن هذه المرة من دون حاجة إلى التدخين. إنّ الدين هو أفيون الشعوب. – لكنّ الفهم السائد لهذه العبارة قد حرمها من بسط دلالتها الموجبة وحوّلها إلى شعار لا يفكّر. طبعا، كلّ استعمال للأفكار خارج طرافتها الخاصة يحوّلها إلى فاحشة ثقافية. وهذا قد حدث حتى للنصوص المقدسة؛ لكنّ فهم الشعوب لما يُقال عنها ليس نهائيّا أبدا. إنّ الفهم هو في كل مرة عمل إنجازي، نعني نوعا متفوّقا من سياسة الحياة قد يتمّ الاستيلاء على مقاليدها لفترة معيّنة، لكنّ ذلك ليس دليلا على أيّة حقيقة قد تتجاوز أفق الهوية الذي تقتات منه تلك الشعوب قدرتها على المعنى. ولو أعدنا عبارة ماركس إلى الخدمة لأصبح لدينا مشكل من نوع آخر.

يقول ماركس الشاب: "إنّ أساس النقد المضاد للدين هو هذا: أنّ الإنسان هو الذي يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان...إنّ الإنسان هو عالم الإنسان وهو الدولة وهو المجتمع."

تبدو عبارة "النقد المضاد للدين" (die irreligiöse Kritik) أو "النقد اللاديني" وكأنّها قد حسمت المسألة. لكنّ قصد ماركس هنا ليس بالضرورة هو نقد الدين بالمعنى اللاهوتي؛ فهو يقرّ صراحة بأنّ الدين هو "وعي الإنسان بذاته، تلك التي فقدها أو التي لم يكتسبها بعد". والدين هو "النظرية العامة للعالم" حين يكون "عالما مقلوبا"؛ أي لم يجد من طريقة لتحقيق ماهية الإنسان إلاّ بشكل وهمي. نقد الدين إذن لا يقصد الدين، بل العالم المقلوب الذي يدّعي تأسيسه. "الصراع مع الدين هو بشكل غير مباشر صراع مع هذا العالم الذي يمثّل الدين رحيقه الروحي"؛ وذلك أنّ "البؤس الديني هو في نفس الوقت تعبير عن البؤس الواقعي واحتجاج ضدّ البؤس الواقعي. الدين هو زفرة المخلوق المكبّل، روح عالم بلا قلب...إنّه أفيون الشعوب". ومن الطريف أنّ هذه العبارة عندما تُرجمت إلى الروسية في العهد السوفياتي تحت قلم لينين قد فُهمت وكُرّست تحب عبارة مختلفة قليلا: ليس الدين أفيون الشعوب، بل هو "الأفيون للشعب" (opium for the people). والقصد هو أنّ الشعوب ليست متديّنة في أصلها، بل تمّ فرض الأفيون عليها؛ أي تمّ فرض الدين عليها بوصفه حسب تعبير لينين "خمرة روحانية"[5].

لا تفيد جملة ماركس بالضرورة نقد الدين بالمعنى التنويري، بل ربما هي تحتوي على تعاطف عميق مع الشعوب التي لا تملك أيّة طريقة أخرى لتحقيق ذاتها المفقودة أو التي لم تكتسبها بعد إلاّ من خلال "سعادة وهمية". الدين سياسةُ وهمٍ تساعد الشعوب المكبّلة خارج وعيها بذاتها على تحقيق نوع من السعادة.- علينا أن ننسى هنا أمر الدين وأن ننتبه إلى خطورة حق الشعوب في السعادة. في قرننا الجديد أصبحت المطالبة بالحق في السعادة مشكلة أخلاقية بلغت حدّ التحوّل إلى مطلب دستوري. لقد ابتعدنا عن منطق الإلحاد الأجوف، الذي هو مشكل لاهوتي تقليدي، يتمّ بين متديّنين أو داخل معجم الملة، ودخلنا عصر أسئلة من نوع غير مسبوق: أسئلة عن حق الشعوب في مستوى معيّن من السعادة، أي من الرضا بشكل الحياة أو بنموذج العيش الذي أقامت عليه هويتها.

وهكذا، لم تعد مسائل الدين مطروحة على مستوى مجرّد الاعتقاد أو الشهادة على وجود الله بل صارت تُحسم على مستوى قيمة الحياة التي تدّعي تأسيسها. - وقد عرفنا منذ نيتشه (1887) أنّه "لا يوجد أبدا سوء فهم أكبر وأشنع من أن يبدأ السعداء والأسوياء والمقتدرون جسدا وروحا، في الارتياب من حقّهم في السعادة" (في جنيالوجيا الأخلاق، III، 14). لو نظرنا إلى "أفيون الشعوب" من زاوية حقّ الشعوب الأصلي في السعادة لظهر لنا مشكل نقد الدين في ضياء آخر. إنّ ما يؤرق الشعوب ليس الدين بل الحدود. "الحدود" في معانيها جميعا، أكانت تعني الحواجز أو النهايات أو الأحكام أو العقوبات أو الخطوط الفاصلة أو حتى التعريفات النهائية للأشياء وتكريس دلالتها المألوفة وفرض نمط من اللياقة إزاءها- هي التي تؤلم الشعوب الحرّة وتحوّلها إلى جثث عمومية.

لا تحتاج الشعوب إلى الأفيون، أي إلى الدين، إلاّ بقدر ما تحتاج إلى جرعة كافية من الوهم الصحّي كي تستمرّ على قيد الحياة. إنّ الدين بالمعنى التقني- أي عبادة الإله التوحيدي على أساس تجربة الوحي- قد انطمس منذ وقت طويل وانتصب مكانه اللاهوتُ السياسي بوصفه شكل السلطة الممكنة على أساس ديني. لكنّ حاجة الشعوب إلى تقدير ذاتها هو مطلب معياري لم يجد إلى حدّ الآن حضنا تداوليّا أكثر نجاعة من الدين. الدين هو سياسة التوهّم الأخيرة التي تلجأ إليها الشعوب كي تحافظ على قدر مقبول من البقاء الروحي. وإذا ما فشلت الدولة الحديثة في شيء فهي قد فشلت في تعويض الحاجة إلى الدين أو في ترتيب إوالية مناسبة وصحّية للاستغناء عن خدماته. وكل ضجيج التنويريين- التنوير، هذا الواجب اللعين على عقول الأحرار اليوم- لم يفد في أيّ تجاوز معياري حقيقي وحاسم لسياسات الوهم، والتي يشكّل اللاهوت السياسي آلتها النموذجية.

ويذكر فوكو في مقالاته عن الثورة الإيرانية في أواخر السبعينيات أنّ كثيرا من الإيرانيين قد قالوا له إنّ قولة ماركس عن "أفيون الشعوب"، إمّا خاطئة أو أنّها لا تنطبق على ثورة تبرّر ادّعاءها الأخلاقي باسم الدين. ويعترف فوكو بأنّ المسيحية قد لعبت مثل هذا الدور في بدايات الحداثة.[6] ونحن نلاحظ راهناً أنّ المقاومة الفلسطينية لم يعد لها من سند أخلاقي سوى نوع معيّن من الحقوق الدينية على أرضها المحتلة مادام العدوّ لا يستند في نواته الأخيرة إلاّ إلى ادّعاءات رمزية من نوع ديني.

لا يمكن كسر الحدود إلاّ بواسطة أفيون مناسب. وإنّ إلقاء الحجر على المحتلّ بشكل عابر للحدود هو اختراع فلسطيني علينا أن نحوّله إلى شخص مفهومي. لا علاقة للمقاومة الفلسطينية بأيّ نقاش لاهوتي-سياسي حول الدين حتى ولو كان المعجم الذي تستثمره يحمل رطانة دينية.

قال هيدغر في أحد دروسه (المفاهيم الأساسية للميتافيزيقا. العالم - التناهي - التوحّد[7]): "إنّ الحجر لا عالم له؛ إنّ الحيوان فقير العالم؛ إنّ الإنسان مشكِّلٌ للعالم". يعني "العالم" هنا المدى المفتوح حيث يظهر معنى الكينونة بالنسبة إلى الكائن القادر على طرح السؤال عنه. العالم هو ما "يعلُم" لنا، أي يتجلى. وهذا يعني أنّ الحجر لا عالم له في معنى أنّه لا يرى العالم أو أنّه لا يحتمل أيّ انكشاف لحقيقة الكينونة. يبدو الحجر وكأنّه يمارس كينونة مغلقة، محجوبة بلا رجعة.

لكنّ الفلسطينيين يكذّبون هيدغر حين يلقون بالحجر على المحتل، وهو يحتمي بحدود الدولة الحديثة، دولة استعمار الأرض بواسطة كتلة بشرية تمّ استجلابها للغرض، من أجل تصريف نوع معيّن من السيادة على المكان. إنّ الفلسطيني الذي يلقي الحجر على المحتلّ هو يلقي بالعالم عليه، يقذفه بكميّة العالم التي بحوزته؛ لكنّ المثير هو أنّهم يبرّرون إلقاء الحجر على المحتلّ بمعجم ديني يتمّ استعماله بطريقة ما-بعد-علمانية تدعو إلى التساؤل. لماذا لم يبق للمقاومين إلاّ المفردة الدينية كي يصمدوا على الحدود؟ ألا تتوفّر أيّة قوة طوباويّة أخرى لهذه الأجيال الجديدة من الغرباء؟

إنّ البشر يحتفظون بذاكرة المكان ويحتاجون إليها لأداء طقوس العبور. يظنّ هيدغر أنّ الحجر لا ذاكرة له لأنّه بلا عالم؛ فالحجر لا يعيش ولا يموت. هو أقلّ من حيوان، هو لا يملك مقولة "له" (Haben)؛ فهو لا يحتوي من الكينونة على أكثر من القيمومة المجردة. ومن ثمّ، فإنّ نقل الحجارة من موضع إلى موضع لا يؤثّر على علاقتها بالمكان أو أنّ الحجر لا مكان له.[8] لكنّ هيدغر بذلك هو يريد أن يفصل بين الأشياء والحياة ولكن خاصة بين الحياة والعالم: إنّ "أشياء" الأرض المحتلة ليست "أشياء" بالمعنى الفيزيائي؛ كما أنّ "الحيوان" المحتلّ ليس حيواناً بالمعنى البيولوجي، كما توهمنا بذلك النظرة الوضعانية الحديثة. والفصل الفينومينولوجي بين الشيء والعالم أو بين الحيّ والكائن-في-العالم ليس ممكنا إلاّ على نحو مقولاتي.

لكنّ الحجر في أيدي الفلسطينيين "ما-بعد-العلمانيين" ليس مجرّد حجر بلا عالم، تماما كما أنّ الحيوان الذي يرعونه أو يصاحبهم (مثل حصان درويش الذي تركه وحيدا) هو ليس حيوانا "فقير العالم". إنّ المشكل الذي سيزعج هيدغر هو أنّه من المستحيل أن نفصل الحجر عن عالمه، ولا أن ننجح في تفقير الحيوان من معنى العالم الذي ينتمي إليه. إنّ الفصل الذي اخترعه هيدغر بين "الدازين" - الكائن الوحيد الذي ينجح في الانتقال من مجرّد الكينونة (السؤال ماذا؟) إلى مهمّة الوجود (السؤال من؟) - وبين "الحجر"، الكائن القائم أمامه بلا عناية بالنفس، هو فصل أنطولوجي مصطنع ولا يؤدّي إلاّ إلى مواصلة ادّعاء الذات الغربية بأنّه من حقّها أن تنظر إلى "الآخر" على أنّه "خارج" ذاتها. وحسب دريدا، فإنّ هيدغر قد فشل في تقديم فهم أصيل لكينونة الحيوان وبقي في هذا الأمر ديكارتيّا.[9] إنّ ما يجدر بنا أن نؤكّده أكثر من ذلك ليس فقر العالم لدى الحيوان، بل هشاشة ادّعاء هيدغر بأنّ الحجر هو بلا عالم: ثمّة مفارقة هنا، حيث إنّه لا يمكن أن يكون الحجر بلا عالم إلاّ بالنسبة إلينا؛ أي بالنسبة إلى كائن يتّصف بالعالم. لا يمكن تجريد الحجر من العالم إذا كان هو لا يملكه أصلا.[10] إلاّ أنّها مفارقة مثمرة هنا: لا يمكن للحجر الفلسطيني أن يُلقى به على الأرض المحتلة إلاّ من أجل أنّ رابطة العالم بين الموضعين لا تزال تهيّئ المجال لظهور معنى الكينونة.

ويبدو أنّ هيدغر لم يبلغ إلى التوضيح المناسب للعلاقة مع كينونة الحجر إلاّ في مقالته "أن نبني، أن نسكن، أن نفكّر" المنشور سنة 1951.[11] ههنا يكشف هيدغر عن أنّ المعنى الأصلي للفعل الألماني "bauen" ليس فقط يشير إلى المقام والإقامة والسكن (wohnen)، بل إلى الكينونة أيضا. نحن لا نبني إلاّ ما يحمل بصمة المقام أو السكن، حيث يصبح السكن ممكنا، حتى بالنسبة إلى البنايات غير المجعولة للسكن، مثل القنطرة أو الطريق. نحن نكون ما نسكن. وحين نبني لا نفعل غير تهيئة "المكان". - إنّ إلقاء الحجر على حدود الاحتلال هو أيضا نوع من البناء العالي للكينونة، أي هو تهيئة للمكان حتى يصبح ظهور معنى الكينونة ممكنا بالنسبة إلى شعب جُرّد من مكانه في العالم. هو تمرين على التذكير بأمر ميتافيزيقي دفين يهمّ حقيقة الكينونة: أنّ المعنى الأصلي لاستعمال الحجر هو تهيئة "المكان" أي تهيئة نمط المقام في أفق الكينونة التي تخصّنا.

وهذه هي المعاني التي أحصاها هيدغر في مقالته: 1. أن نبني هو على وجه التخصيص أن نقيم؛ 2. أنّ المقام هو نمط كينونة الفانين على الأرض؛ 3. أنّ البناء، في معنى السكن أو المقام، هو ينبسط في نمط من البناء الذي يوفّر نوعا من العناية أو الإنقاذ. لكنّ ما يجمع بين هذه المعاني هو فهم المقام بوصفه تهيئة لمكان "آمن" حيث تتوفّر "السلامة" أو "السلام" (Friede)؛ وأصل السلام حسب تخريجات هيدغر هنا هو "الحرية" (Freiheit): السليم هو الحرّ. وهكذا، فإنّ الإقامة في الأرض هي تمرين على تحقيق سلامتها؛ أي على "تحرير" المكان. إنّ خاصيّة البشر أو الفانين هي تهيئة المكان "فوق الأرض"، وهذا يعني أيضا "تحت السماء"، "أمام الآلهة" و"مع البشر".

قال هيدغر: "في تحرير الأرض، وفي استقبال السماء، وفي انتظار الآلهة، وفي سيرة الفانين، ينكشف المقام بوصفه تهيئة الجهات الأربع (das Geviert). التهيئة تعني: حراسة كينونة الجهات الأربع."

إنّ الطفل الفلسطيني، إذْ يلقي الحجر على حدود الاحتلال هو يحرس الكينونة من الضياع، وبلمسة رشيقة يخرج من فلك الدين إلى ملامسة فضاء المقدّس. فهو يحرّر الأرض من الحدود ويهيّئ المكان السليم للشعب الأخير، النهائي لأنفسنا العميقة، ذاك الذي لا يزال وحده مكلّفا بحراسة الجهات الأربع. لكنّ هكذا مهمّة سوف تتطلّب دوما أكثر من تناول الوجبات السريعة للفرد ما بعد الحديث. سوف تتطلّب جرعة كبيرة أخرى أو ما-بعد-علمانية من أفيون الشعوب كي يصبح عبور الحدود حالة أيكولوجية مستعصية للأطفال الذين يهيئون اليوم طقوس "العودة الكبرى" إلى الأرض.

وقديما قال تميم ابن مقبل: "ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر". الحجر الذي يمكنه أن يعبر الحدود إلى حرّيته، إلى الحرية الحرة بوصفها فضاء "المقدّس" الممنوع، الذي يكون دوماً على مسافة حجر؛ ذاك الذي عمل اللاهوت السياسي راهنا على رفع عصا ميتافيزيقية غليظة ودموية في وجهه، إذ ليس له من مهنة سوى وأد الحياة بواسطة أكثر ما يمكن من قطّاع طرق الملة، ومنع الأجيال ما بعد العلمانية من اكتشاف أنفسهم على نحو جديد، نعني بلا حدود جاهزة لأنفسهم.

 


[1]- Cf. Urbain Gaulay, Considérations Générales sur les effets de l’opium. Paris, 1808, p. 7-10

[2]- Charles A. Laughlin, The Literature of Leisure and Chinese Modernity. University of Hawai’I Press, Honolulu, 2008, p. 26 sq.

[3]- Cf. W. Travis Hanes III, Frank Sanello, Opium Wars. The Addiction of One Empire and the Corruption of Another, Sourcebooks, 2004.

[4]- Thomas De Quincey, Confessions of an English Opium-Eater, Oxford: Oxford University Press, 1985

[5]- Roland Boer, «Religion: opium of the people?», in: Culture Matters, Tuesday, 12 December 2017.

[6]- Janet Afary, Kevin B. Anderson, Foucault and the Iranian Revolution: Gender and the Seductions of Islamism. Chicago and London, The University of Chicago Press, 2005, pp. 76 sq.

[7]- Cf. M. Heidegger, Gesamtausgabe, Bd. 29/30: Die Grundbegriffe der MetaphysikWelt – Endlichkeit – Einsamkeit. Vorlesung Wintersemester 1929/30, Frankfurt-am-Main, V. Klostermann, 1983. § 42, p. 263: “Der Stein ist weltlos, das Tier ist weltarm‚ der Mensch ist weltbildend‘‘.

[8]- Henri Maldiney, «La dimension du contact au regard du vivant et de l’existant», in: Penser l’homme et la folie. p. 142

[9]- J. Derrida, L’animal que donc je suis, Paris, Galilée, 2006, p. 201

[10]- S. Jollivet et C. Romano (éd.), Heidegger en dialogue 1912-1930. Rencontres, affinités, confrontations. Paris, Vrin, 2009, p. 277.

[11]- M. Heidegger, « Bauen Wohnen Denken (1951)“, in: Vorträge und Vorsätze. (1954). Gesamtausgabe Band 7. Vittorio Klostermann GmbH, Frankfurt am Main, 2000, p. 145 sq.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D9%8A%D9%88%D9...

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك