ما بعد الجهادية: تفاعلات أولية

منتصر حمادة

 

هذه ملاحظات وخلاصات من وحي أشغال المؤتمر الدولي الذي احتضنته مدينة مراكش المغربية، يومي 6 و7 أبريل 2018، في موضوع: "ما بعد "داعش": التحدّيات المستقبلية في مواجهة التطرّف والتطرّف العنيف"، والذي نظمته مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" ومعهد غرناطة للبحوث والدراسات العليا، في لقاء تميز بمشاركة أكاديميين وخبراء وباحثين من أوروبا، والعالم العربي، وأفريقيا، والولايات المتحدة.

يُفيد السياق الزمني لانعقاد المؤتمر، أنه يأتي بعد الاندحار الميداني لتنظيم "داعش" في المشرق العربي، دون أن يُصاحبه اندحار الأرضية النظرية التي تغذي هذا التنظيم أو الظاهرة الجهادية بشكل عام.

ويُفيد السياق المعرفي والمنهجي لانعقاد المؤتمر، الاشتغال على لائحة أسئلة، جاءت مفصلة في أرضية المؤتمر، من قبيل: مستقبل "التطرف العنيف" في مرحلة ما بعد القضاء الميداني على تنظيم "داعش"؛ الاستراتيجيات المرتقَبة لتنظيمات "التطرف العنيف" في المنطقة العربية والدول الأوروبية؛ معالم السياسية المثالية في التعامل مع مَن يُصطلح عليهم "المقاتلون الأجانب العائدون إلى بلدانهم"؛ دور الثورة الرقمية في تغذية الظاهرة، وسُبُل توظيف هذه الثورة للتقليل من خطر الظاهرة، وأسئلة أخرى بالطبع، كانت محط مداخلات وتعقيبات وجلسات المؤتمر.

فهل توفق المشاركون في تمرير مفاتيح نظرية على الأقل، تساعد المتلقي على قراءة ظاهر تزداد تعقيداً، من فرط تشعبات محدداتها الدينية والثقافية والسياسية وغيرها؟

للإجابة عن هذا السؤال، يجدر بنا التذكير بمضامين مقالة نحسبُ أنها مفيدة في هذا السياق، ولو أنها كانت تهمّ التعامل النظري مع الظاهرة الإسلاموية بشكل عام، سواء أكانت دعوية أم سياسية أو قتالية ["جهادية"]، والحديث عن مقالة "في المقاربة المُرَكبة للظاهرة الإسلاموية: منهجياً ومعرفياً"، وصدرت شهران بالضبط قبل موعد أشغال مؤتمر مراكش، في موقع "مؤمنون" التابع للمؤسسة التي نظمت المؤتمر، لعل المقالة حينها، تساعد بعض المشاركين، على الأقل من مجالنا التداولي، على الاقتراب أكثر من مقام قراءات فردية أو جماعية أكثر تفسيرية.

أشرنا حينها إلى أن الحديث عن الحركات الإسلامية يُفيد الخوض في ظاهرة مجتمعية مُركبة تأسست في غضون العام (1928) في مصر بالتحديد؛ وأنه إذا سَلمنا بأننا إزاء ظاهرة مُجتمعية مُركبة، فمن باب أولى أن يكون تناولها مُركباً، وبالنتيجة لا يمكن أن نختزل الظاهرة في بُعد تفسيري واحد، حتى لا نلج الباب الذي كان يُحذّر منه الراحل محمد أركون؛ أي السقوط في مأزق "السياجات الدوغمائية المُغلقة".

واختتمنا المقالة بالإشارة إلى أنه كلّما اتسعت دائرة المُحدّدات التي تتناول الظاهرة اقتربنا من نموذج تفسيري مُركب يساعد الباحث المعني، بلْه المتلقي، على القراءة والتفاعل. وواضحٌ أن إحدى أهم المُعضلات المنهجية ذات الصلة بقراءة الظاهرة ترتبط بموضوع المقاربة التفسيرية المُتبعة في البحث، فكانت النتيجة فورة في "الكم التفسيري"، البحثي والإعلامي، العربي والغربي، الذي يشتغل على الظاهرة، مع تواضع في "النوع التفسيري"، وبالنتيجة، نحن إزاء مفاتيح نظرية ذات صلة بالعُدّة المعرفية والمنهجية، ولا يمكن لوم باحث مّا إن ارتأى الظفر بمفتاح واحد منها لكي يتفاعل بحثياً مع الظاهرة [مشروع جماعة الاخوان المسلمين أنموذجاً]، ولكن الوجه الآخر لهذا الخيار يُفيد أن قراءة الظاهرة ستتمّ بشكل أفضل لو ارتأى الباحث نفسه الظفرَ بأكبر عددٍ من هذه المفاتيح من باب تأهيل المقاربة المنهجية وتغذية الأرضية المعرفية[1].

آن الأوان للتوقف عند بعض الخلاصات التي طالت مؤتمر مراكش سالف الذكر:

ــ لم يسبق أن عاينا مؤتمراً مدافعاً من حيث يدري أصحابه أم لا، بجرعات مرتفعة من المكاشفة والمصارحة، أخذاً بعين الاعتبار أن بعض المتدخلين ابتعدوا بشكل واضح عن خطاب المجاملة، ومن ذلك، الإشارة الصريحة إلى بعض المحددات الخارجية التي تغذي الظاهرة "الداعشية"، سواء كانت سياسية أو أمنية أو استراتيجية، على اعتبار أن السائد في العديد من المؤتمرات والدراسات التي تطال الظاهرة كانت تركز على المحددات الذاتية، من قبيل المُحدد الديني، نسبة إلى الأدبيات الجهادية، أو المحدد السياسي المحلي، والحديث عن الإصلاح السياسي (وهذا مُحدد حاضر بقوة في خطاب جماعة الإخوان لأسباب متوقعة).

ــ تفعيلاً لشعار المكاشفة، تم التطرق بشكل صريح إلى التطرف الشيعي (موازاة مع التطرف السني)، كما تمت الإحالة على السياسات الرأسمالية والليبرالية، إضافة إلى نقد السياسات الإسرائيلية المتبعة، ومعها السياسات الأمريكية في المنطقة[2]، ومن ذلك التحذير من الرهان على "ديمقراطية الدبّابات الأمريكية" كما تمت بشكل دموي في العراق بعد إسقاط صدام حسين، وليبيا بعد إسقاط معمر القذافي، بكل الخراب الذي طال العراق وليبيا بالأمس واليوم، وليس صدفة أن عنوان المؤتمر يتحدث عن "التطرف والتطرف العنيف"، ولم يتوقف عند "التطرف العنيف وحسب"، كما لو أنه يُحيلنا بشكل غير مباشر على اجتهادات العديد من الرموز البحثية المنصفة في التداول الغربي، والتي تبنت خيار النقد المزدوج في التعامل مع الظاهرة، من قبيل جان بودريار ونعوم تشومسكي[3] وإدوارد سعيد [الذي تحدث عن "صدام الجهالات"[4]] وأسماء أخرى.

ــ حظيت القراءات البحثية الصادرة في التداول الفرنسي، والمُخصّصة للظاهرة "الجهادية"، بنقد واضح في مداخلات بعض الحضور، أو في جلسات المناقشة مع المتدخلين، ونخص بالذكر أعمال الثلاثي أوليفيه روا وجيل كيبل وفرانسوا بورغا: يرى الأول أننا أمام أسلمة الانحراف، ويرى الثاني أننا أمام انحراف إسلاموي صرف، مرتبط بالنصوص الدينية الصادرة عن الرموز "الجهادية"، بينما يرى الثالث أن أصل الأزمة يكمن في الأنظمة العربية والسياسات الغربية، ونادراً ما يُحيل على مسؤولية الإسلاموية.

ــ من بين المشاكل التي تطال النماذج التفسيرية التي يُروجها الثلاثي الفرنسي سالف الذكر، أنها تنتصر للقراءات النصية أو التاريخية، وهي قراءات أحادية، لا زالت عاجزة عن تفسير الظاهرة تفسيراً يشفي غليل المتتبع، بله صانع القرار، ولذلك تمت الدعوة في أكثر من مداخلة، إلى البحث عن سرديات جديدة أو براديغمات جديدة، من أجل مواكبة التحولات التي تطال الظاهرة "الجهادية" بشكل عام، ولا تقتصر على الجديد المرتبط بالمستجدات المرتبطة بتنظيم "داعش"، خاصة أن أغلب مؤشرات الساحة الإقليمية والدولية تفيد أن الظاهرة تتمدد.

ــ على الرغم من أن مداخلات مجموعة من المشاركين، من المنطقة ومن الغرب (أوروبا وأمريكا)، كانت أحادية المقاربة، لأنها تدافع عن رواية المؤسسة التي ينتمي إليها المعني، إلا أن الوجه الآخر لهذه الرؤية الأحادية، يكمن في خيار التجميع، وهذه ميزة مثل هذه المؤتمرات، ونقصد بذلك أن المعني بهذه المقاربة الأحادية، يطلع بشكل مباشر على مقاربات مغايرة أو موازية لمقاربته، وبالتالي، من المفروض نظرياً، أن يُعيد النظر في الخيار التفسيري الأحادي الذي يتبناه، وهذا أمر ينطبق على الفاعلين الذين يشتغلون في المؤسسات الأمنية أو بعض المراكز البحثية التي تنتصر لحقل علمي مُعين دون سواه، من قبيل علم السياسة أو علم الاجتماع أو علم النفس.

ــ أكدت أشغال المؤتمر تواضع العدة البحثية في الساحة العربية بخصوص التعامل مع بعض تفاصيل الظاهرة، وعاينا ذلك في المداخلة التي تطرقت لواقع الدراسات البحثية التي تشتغل على ظاهرة "الذئاب المنفرد"، حيث اتضح أن الأداء البحثي العربي يقترب من درجة الصفر، لأنه متواضع جداً مقارنة مع الأداء البحثي الغربي، وتشهد على ذلك المراجع المتوفرة في الموضوع، سواء كانت ورقية أو رقمية، ولو أن هذه الخلاصة متوقعة، أخذاً بعين الاعتبار تواضع الاستثمار العربي في الحقل العلمي والمعرفي.

ــ من النقاط الإيجابية في أشغال المؤتمر، مشاركة بعض الإسلاميين الذين انخرطوا فيما يُصطلح عليه بـ"المراجعات"، ويتعلق بالأمر بثلاثة أسماء من مصر والمغرب. نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار أن الباحث في هذه المواضيع، غالباً ما يشتغل انطلاقاً من أرضية نظرية (معطيات، مؤشرات، أرقام، مرجعية... إلخ)، ولكن يمكن لبعض معلومات أو بضع قراءات صادرة عن المتديّن الذي مرّ بتجربة "جهادية" أن تجعل الباحث المعني يُعيد النظر جزئياً أو كلياً في مضامين أعماله، وهذه ملاحظة لا ينتبه العديد من الباحثين في الملف، على قلتهم.

ــ الإشارة سالفة الذكر، كانت حاضرة بشكل دال في تعقيب أحد "الجهاديين" سابقاً، عندما طالب الحضور ــ وبعضهم قضى عمره في الاشتغال على الظاهرة ــ الاجتهاد في الإجابة عن السؤال التالي: "كيف يُفكر الإرهابي؟"[5]، وبدا للمتتبع، كما لو أن السؤال يندرج في باب اللامفكر فيه، بتعبير ميشيل فوكو، خاصة أنه حذر بعض المشاركين الغربيين، من أن مضامين العديد من الدراسات الغربية في الموضوع، تُقابلُ بسخرية الفاعل "الجهادي"، لأن هذا الأخير يزداد يقيناً أن تلك الدراسات لا زالت بعيدة عن الظفر بمفاتيح نظرية نوعية تساعد صانع القرار على تعامل نوعي معها.


[1] منتصر حمادة، في المقاربة المُرَكبة للظاهرة الإسلاموية: منهجياً ومعرفياً، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 9 يناير 2018، على الرابط:

http://www.mominoun.com/articles/في-المقاربة-المركبة-للظاهرة-الإسلاموية-منهجيا-ومعرفيا-5598

[2] انظر في هذا السياق، على سبيل المثال لا الحصر: قراءة في كتاب "داعش القادرة على كلّ شيء"، بقلم الباحث التيجاني بولعوالي، في مقالة جاءت بعنوان: "كيف تُغذّي السياسة الأمريكيَّة في الشرق الأوسط ظاهرة الإرهاب؟"، وصدرت يوم 9 مارس 2018، في موقع "مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، على الرابط:

http://www.mominoun.com/articles/كيف-تغذي-السياسة-الأمريكية-في-الشرق-الأوسط-ظاهرة-الإرهاب-5722

[3] انظر، على سبيل المثال لا الحصر:

نعوم تشومسكي، "قراصنة وأباطرة: الإرهاب الدولي في العالم الحقيقي"، دار حوران للطباعة والنشر والخدمات الإعلامية، دمشق، ط 1، 1996

[4] Edward W. Said, The Clash of Ignorance, October 4, 2001, in: https://www.thenation.com/article/clash-ignorance/

[5] الإحالة هنا على مداخلة نبيل نعيم، وهو "جهادي" مصري سابق، قضى حوالي 3 سنوات مع أيمن الظواهري، و3 سنوات معه في السجن أيضاً، ضمن 16 سنة، اعتقال فيها على هامش ملف "العائدين" من "الجهاد"، كما شارك في أغلب الجبهات الإسلامية "الجهادية" في العالم، وفي مقدمتها الجبهة الأفغانية، كما رافق لسنوات أسامة بن لادن هناك، وتورط حينها في استقطاب آلاف من "المجاهدين".

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%A7%...

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك