المسلمون والمسيحيون في ظلّ ثقافة حوار الحضارات

المسلمون والمسيحيون في ظلّ ثقافة حوار الحضارات

رضوان السيد*

أودّ في البداية الإشارة إلى أنّ مصطلح "حوار الحضارات" مثل تعبير "صراع الحضارات" لا يعنيان شيئاً كثيراً ولا كبيراً. فالحضارات لا تتحاورُ ولا تتصارع، لأنّها ليست عواملَ فاعلةً أوظاهرةً أومؤثرةً في الأحداث الجارية. وإنّما يمكن الحديث في المنتدَيات الطويلة عن علاقاتٍ بين الحضارات والثقافات، أوبين حضارتين وثقافتين، تتسم بالغنى أوالبرودة. والحديث الذي يمكن أويحسن الخوضُ فيه هوالعلاقات التاريخية بين الأديان، أوبين المسيحية والإسلام تأثراً وتأثيراً، واستطراداً العلائقُ بين المسيحيين والمسلمين في المنطقة العربيّة أوالأوروبيّة أوفي العالم المعاصر مع بعض التجوُّز. لكنني عندما أقدر هذا الفهم النقديَّ في بداية الحديث، لا أعني بالطبع أنّ هذا صحيحٌ على المستويات كلها. فلا شكَّ في أنّ هناك صراعاً اليوم بين الأصوليّين الأميركيين والأصوليين المسلمين؛ وهذا في وعي الأميركيين حاضرٌ، كما هوالمقال في وعي الإسلاميين المتشدّدين. ويكاد يكون مؤكداً أنّ الوعْيَ يؤثر في الواقع، من خلال أعمال الأفراد أوالجماعات. وذلك من مثل إغارة إسلامي مثل ابن لادن -انطلاقاً من وعيٍ معينٍ- على الولايات المتحدة في 11/9/2001-ومن مثل "الحرب على الإرهاب" التي تشنُّها الولايات المتحدة- ومن مثل انطباعات بعض الفرنسيّين والرئيس شيراك عن الحجاب الإسلامي. هذه الأمور الصراعية كلها نتائج وعيٍ معينٍ نحسب لأول وهلةٍ أنه ينطلق من الواقع، لكنه يتجاوزُهُ في الحقيقة، إذ إنّ عوامل كثيرةً تشاركُ في صناعة ذاك الوعي؛ ربّما لا يكونُ الواقع غير جزءٍ صغير فيها، ولا يكونُ للدِّين الإسلاميّ دور فيها إلاّ بالمعنى الرمزيّ والانطباعي، وليس أكثر. وما أقصدُهُ بهذا كلِّه أنّ الوقائع الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية التي تقرّر الصراعَ أوالحوار تتجه في العادة إلى اتخاذ أغطيةٍ أيديولوجيّة أوثقافية بقصد الاستهجان أوالاستحسان. ولتقريب ذلك بعض الشيء إلى واقعِنا المعيش تذكرتُ في أثناء كتابة هذه المداخلة فتىً قريبا لي من ترشش بالمتن، أصيب في حادث سيارةٍ أواخر الستينات فذهبنا به إلى مستشفى تلّ شيحا. وبعد العمليّة الجراحيّة التي أجريتْ له أضربَ الفتى عن التعامل مع الممرّضات المدنّيات، بحجّة أنّه لا يأمَنُهُنّ، ويريد أن تكون السيدة التي تتعاملُ معه راهبة؛ لأنه يطمئنُّ إلى ورعِها وتقواها وخوفِها من الله عندما توليه العناية. وهكذا فإنّ الشاب كان يملِكُ وعيا إيجابيا تجاه لباس الراهبة الأسود؛ مع أنّ تلك كانت تجربته الأولى مع المستشفيات. ومثلٌ آخرُ مطران ميونيخ الكاثوليكي الذي صرّح قبل شهرٍ أنّه يستقذرُ غطاء الرأس لدى نساء المسلمين، ويعتبره تخلفاً وقصوراً عقلياً؛ بخلاف ما زعمه رئيس الجمهورية الألماني بهذا الصدد بل بخلاف ما رأته وتراه الكنيسةُ الكاثوليكية كلها- مع أنه كما قال ما رأى غطاءَ الرأس هذا إلاّ في التلفزيون!

لكن إذا تجاوزنا إشكاليّات الوعي الإنسانيّ وأصوله وعلاقاتهِ بالواقع أجدُني غير مطمئنٍّ أيضا إلى الحديث عن الحوار الحضاري بين المسلمين والمسيحيين؛ لأننا لسنا حضاراتٍ ولا ثقافاتٍ بالمعنى الذي يقصده شبنجلر(Spengler) أوتوينبي(Toynbee) أوجماعات ما بعد الحداثة للحضارات والثقافات. ودون خوضٍ تفصيليّ في عوالم المصطلحات أرى أنّنا نعيشُ في عصرٍ جديدٍ، وموقفٍ جديدٍ، ووجوه وعي جديدة؛ لا تكادُ تفيدُ فيها حتى الخبرة التاريخية إيجابيةً كانت أم سلبية. ولأعُدْ إلى الذكرياتِ هنا أيضا لتوضيح ما أقصدُه.

عندما كنتُ أدرسُ بجامعة توبنغن(Tubingen)، في ألمانيا الاتحادية، في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي كان المعهدُ الذي نتعلم فيه يقعُ على شاطئ نهرٍ على ضفته الأخرى مدرسةٌ ثانويةٌ ألمانية، يقصدُها ذكورٌ وإناثٌ ألمان وأتراك. وقد رأيتُ فتيات تركيات بغطاء رأس، وأخريات بدون ذلك، دون أن يثير الأمر انتباه أحد. أمّا الآن فقد تغيَّر الوضعُ تماما، وقيل لي: إنّ كلًّ طالبةٍ تغطي رأسها في تلك المدرسة تثير مشكلة، ليس لدى الإدارة فقط، بل لدى الطلاب والطالبات الألمان أيضاً. وهكذا فقد تغيّرنا نحن المسلمين، كما تغّير الألمان والأوروبيّون الآخرون. ولماذا نبتعدُ بالمثال إلى ألمانيا؟ حتى بداية حربنا الأهليّة الضّروس، ما كنتَ تستطيع التمييز بين المسلمات والمسيحيات في قريتنا بالجبل. فقد كنَّ جميعاً يغطين رؤوسهن، ويعملن معاً في الحقول. أمّا الآن، وبعد خراب البصرة، فلن تجد مسيحيةً تغطي رأسها حتى لوكانت عجوزاً وفي عزّ الشتاء، كما لن تجد مسلمةً تجرؤ على كشف رأسِها في القرية حتى في عِزّ الصيف!

لاحظ الكاتب الترينيدادي نايبول(Naipul)، الحاصل على جائزة نوبل عام 2001م، في كتاب له عام 1981م بعنوان: "بين المؤمنين"، أنّ المسلمين في شرق آسيا وجنوبها حريصون على هويتهم وخصوصيتهم وطهورية معتقداتهم. ومع أنّ ذلك الهمَّ كان أدنى إلى التوجس والانعزال، فقد زعم الكاتب ذوالأصل الهنديّ، والذي يعتقد أنّ المسلمين دمَّروا حضارة الهند بسبب بداوتهم أنَّ هذا التوجس الانعزاليّ يمكن أن يتحول عنفا في ظروف معينة. بيد أنّ ملاحظة نايبول الأخرى التي قد تكون صحيحة أنْ ليس من داعٍ لهذا التخوف في بلدانٍ أكثريةُ سكانها من المسلمين من مثل إندونيسيا وماليزيا وباكستان وبنغلادش. على أنّ الذي لم يدركهُ نايبول الهندوسي الأصل أنّ ديانات التوحيد الثلاث تجتاحها في ظروف المتغيرات العاصفة موجاتٌ تأصيلية وتطهرية. وقد تجاوز الأمرُ الآن ديانات التوحيد إلى سائر الأديان. فهناك الآن أصولية عنيفة بل مدمرة في الهندوسية، والبوذية، بالإضافة إلى البروتستانتية والإسلام. والمعروف أنّ المسلمين العرب على الخصوص يطلقون على هذه الظاهرة الإحيائية في صفوفهم مصطلح "الصحوة"، التي لا يشكل العنف ولا العزلة أبرز سماتها، بل الإقبال على أداء الفرائض بطرائق احتفالية ورمزية، والاهتمام بالشكل واللباس حسب السنة القديمة، فيما يعتقدن ويعتقدون، والرؤية الأخرى للعلائق بين الرجل والمرأة؛ وأخيراً وليس آخراً العلائق المختلفة بالآخر العربي والغربيّ.

على أنّ هذه الظواهر الجديدة لا نجدها في لبنان بين المسلمين، بالقوةِ نفسها والسعةِ نفسها التي نجدها في مجتمعاتٍ إسلامية شبه خالصة مثل مصر وسورية والأردن وبلدان المغرب العربيّ. ويرجع ذلك إلى الاختلاط الحاصل مع المسيحيين، واقتباس كثير من العادات عنهم، وفي الحياة العامّة بالذات؛ ثمّ إلى ضعف الحركات الإحيائية لدى السنيين في النصف الثاني من القرن العشرين لأسبابٍ سياسيةٍ وثقافية. أمّا بين الشيعة فلأنّ طرز الألبسة مقتبسة رأساً من إيران، فقد شكلت ظاهرةً شبه حزبيةٍ لم تنتشر كثيراً.

والواقعُ أنّ الفروق بين السّنة والشّيعة، أوبين الإحيائيتين السّنية والشّيعية، تظهر هنا بالتحديد. فالإحيائية الشّيعية رغم مظاهرها الجماهيرية الهائلة، ليست ثورية قاطعة، بل هي أدنى إلى أنّ تكون تقليدية جديدة أومتجددةً تتواصلُ مع السابق التاريخي والاجتماعي، بينما هي عند السّنة ثورية جارفة ضربت التقاليد المذهبية وهيكلية المؤسسات العريقة الموروثة، دونما بدائل واضحة. الإيرانيون، في حركتهم الضخمة أواخر السبعينات، اختاروا في النهاية لقيادتهم المؤسسة الدينية التقليدية. بينما ضرب الإحيائيون السّنة المرجعيات المذهبية في الأزهر والقرويين والزيتونة، وتفتتوا شراذم عصبية، تقرب من الجمهور الصّحوي دون أن تستوعبه أويستوعبها.

وفي حين يجتمعُ السنة والشيعةُ في ذلك التّوق إلى إحلال الإسلام في حيواتهم الخاصة والعامة، تتواصلُ النخب الدينية بالنخب السياسية لدى الشيعة مع شيءٍ من التجاذُب الذي لا يصل إلى درجة الصراع؛ في حين تحدث القطائعُ لدى الأكثرية السّنية بين النخب الدينية الجديدة وتلك التقليدية، وبين النخب الدينية الإحيائية، والنخب السياسية المستقرة على رؤوس الأنظمة منذ عقودٍ وعقود. ومرةً أخرى لا تبدوهذه الظواهر النموذجية واضحةً لدى المسلمين في لبنان؛ لكنها حاضرةٌ بقوةٍ وإن اختلفت الأشكال والتجليات.

والمسيحيون اللبنانيون والعرب تغيّروا أيضاً، وسادت في أوساطهم إحيائياتٌ دينية وثقافية. وفي حين بدوا على شيءٍ من الانكماش والإحساس بالقلة وليس بالذلة على المستويين الديني والسياسي، فلقد تميّزوا وازدهروا في مستويات الثقافة والأعمال والمؤسسات التربوية والاقتصادية والاجتماعية. وفي حين برزت زعاماتٌ دينية لدى المسلمين في مجال العمل العامّ، تعبيراً عن قلة الثّقة بالقيادات السياسية، تبرزُ الزعامات الدينية لدى المسيحيين اللبنانيين والعرب، تعبيراً عن تضاؤل أدوار نخبهم السياسية. وما تضاءلت مساحات العيش المشترك في المجتمعات والأسواق، لكنّ تعبيراتها السياسية والثقافية ليست على ما يرام لميل سائر الفئات إلى تمتين خصوصياتها المستجدة، وإثبات اكتفائها بذاتها، قبل الانطلاق للتواصل مع الآخرين وطمأنتهم إلى أنها لا تضمر لهم شراً. ويتجلى ذلك في الوعي دون الواقع في صورة صراعٍ بين الذّاكرة والتاريخ، والذاكرة والحاضر. فالذّاكرة قصيرة المدى، وتبقى فيها الجراحات. والتّاريخ طويل المدى، ويعمل على التّوازن. وفي الأزمات يمكن أن يهدئ من جزع الوعي. بيد أنّ القرن العشرين غالباً ما شهد انتصاراً للذاكرة والوعي على استشعار وثائر التاريخ، حسبما ذكر هوبسباوم(Hobsbawm) في كتابه: Invention of Tradition)) عن ابتداع الذاكرة حتى للتقليد.

ولا يكمن الخطر في عدوانية أحد الأطراف، أوإرادته السيطرة على الآخرين في لبنان أوالوطن العربيّ، بل في هذا الإحساس العميق لدى سائر الفئات بالاكتفاء، وانتظار الذي يأتي ولا يأتي.

ماذا يريد المسلمون من المسيحيين، أوماذا يريد المسيحيون من المسلمين؟ أرى أنّ السؤالين سؤالٌ واحدٌ في الحقيقة. المطلوبُ والمرغوب المبادرة في شتى أشكالها ومستوياتها، في ظواهر ثلاثٍ أومجالات ثلاثة، يجب التعاون بين سائر الفئات من أجل إصلاحها أوالنجاح فيها: الفشل اللبناني والعربيّ في إدارة الشّأن العام، وتطورات التّفاهم بين المؤسسات الإسلامية والمسيحية في العالم في العقدين الأخيرين في محاولات استنقاذ صورة العرب وموقعهم في المجال العالمي، والضغوط الأميركية الساحقة على منطقتنا بالذّات بحجة ضرب الخطر الذي يمثله التطرف الإسلامي على سلام العالم وأمنه.

لماذا تنشئ الأمم والشعوب دولاً؟ تفعلُ ذلك من أجل صون وجودها ومصالحها. والأوضاع القائمة لا تصونُ هذا ولا ذاك، وتتسببُ في زيادة الشكوك والهواجس لدى سائر الفئات بعضها تجاه بعض، وتعطي للإحيائيات والأصوليات الاحتجاجية هالاتٍ شعبية. وما لا تستطيع بعض الفئات الإقدامَ عليه، تهجم به وفيه الولايات المتحدة واضعةً بعسكرها وقواتها الاقتصادية والمالية مجتمعاتنا وكياناتنا على شفا الانهيار. ولذا يبدوبابا الفاتيكان، وتبدوالكنائس الكبرى الساعية لعلاقةٍ سوية معنا، في صورة الصارخ في البرية.

لقد أردتُ لهذا الحديث أن يكون مطالعةً في ضرورات المبادرة لإنقاذ اجتماعنا الإنساني والثقافي والدينيّ والسياسيّ. لكنْ وسط هذا الخراب الكريه في منطقتنا وفي مجتمعاتنا، بدا لي التشخيص لحال السفينة وركابها أجدى وأنفع. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فقال الذين في أسفلها: لوأنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ مَنْ فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً".

فلنهب جميعاً لاستنقاذ السفينة، لاستنقاذ وجودنا، أوتطويها وتطوينا الأمواج العاتية.

**************

*) أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية، بيروت، ومستشار التحرير بمجلة التسامح.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=135

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك