كنّا نعيش رقابة سياسيّة، وأصبحنا نعيش رقابة دينيّة وأخلاقيّة

فاطمة بن سعيدان

كنّا نعيش رقابة سياسيّة، وأصبحنا نعيش رقابة دينيّة وأخلاقيّة، لم نخف من السّلطة ولن نخاف

أسامة سليم
 

فاطمة بن سعيدان، أيقونة المسرح التونسي، فنّانة بسيطة، هادئة، واستثنائية، مبدعة، تترك بصمتها في أيّ عمل مسرحي أو سينمائي تشارك فيه. تعمل في صمت، فهي ثائرة على خشبة المسرح وأمام كاميرا السينما ومنعزلة عن وسائل الإعلام، عُرفت فاطمة بن سعيدان كمسرحيّة، سينمائية، ولكن عرفت أيضًا كمثيرة للجدل لعديد من المواقف والقضايا الرّاهنة المتعلّقة بالحريّات الفردية والخاصّة، وخاصة المثليّة الجنسية، والدفاع عن المرأة المعنّفة والمساواة في الميراث، وغيرها من القضايا الراهنة والحارقة، استضفنا فاطمة بن سعيدان، وفتحت لنا في أكثر من ساعتين قلبها وحدّثتنا عن تجربتها الفنيّة والعمليّة، وعن عطاء للفّن التونسي يناهز الأربعين سنة، حدّثتنا بحرقة عن فراق صديقها المخرج التونسي الطيب الوحيشي، وصديقتها المناضلة والنسويّة التونسية، نورة البورصالي، كان لي شرف اجراء هذا الحوار مع الفنّانة فاطمة من أجل ابراز جوانب مخفيّة من حياتها، من أجل بلورة هذا البورتريه الّذي يوضّح العديد من تفاصيل حياتها، في هذا الحوار، حدّثتنا  عن بدايتها المسرحيّة صلب “المسرح الجديد” مع الفاضل الجعايبي متمثّلةً في مسرحيّة “عرب” بمشاركة  الفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري، إلى آخر  أعمالها “الخوف”، للفاضل الجعايبي، وعن السينما، وعن الحريّات…

في البدء، أريد أن أرحّب بكِ، وسنفتتح هذا الحوار بسؤال كلاسيكي للغاية، حول اختيارك للمسرح/ السينما؟

في الحقيقة، علاقتي بالمسرح كانت كجميع أبناء جيلي (المسرح المدرسي) ذلك كان هواية وفنّ أكثر ممّا هو احتراف، ثمّ انطلقت في تجربة مسرح الهواية مع حمادي المزي، وكذلك مسرح الطفل مع فاطمة سكندراني ومختار الوزير، ثمّ دخلت المسرح من أوسع أبوابه، حين شاركت في مسرحية ’’عرب” في الثمانينات، والتي تحوّلت إلى فيلم، وتتالت بعدها العروض، بين مسرح وسينما، شاركت في العديد من الأفلام التونسيّة…

إذن، كان لديك تكوين أكاديمي في المسرح، أين درست، وما هو تكوينك العلمي؟

بعد اجتيازي لمناظرة الباكلوريا، درست العربيّة في الكليّة، لكن لم أنهِ دراستي في العربيّة، نجحت في السنة الأولى، ورغم ذلك وجّهت بوصلتي نحو المسرح، وانضممت إلى مركز الفنون الدراميّة، حيث اجتزت ثلاثة اختبارات بنجاح (كتابي، شفاهي، تطبيقي)، من سنة 1972 إلى سنة 1974، ومن سنة 1974 إلى سنة 1975، درست بفرنسا، في مدرسة تانيا بالشوفا للمسرح، كذلك مع المنصف ذويب في المسرح العربي للمهاجرين، قضيّت خمسة عشرة سنة بأكملها بين تربّصات في مختلف صنوف المسرح، من المسرح المدرسي إلى مسرح الهواة، فمسرح الطفل، بين تونس وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، لم أستطع يومًا العيش بعيدة عن تونس، ورفضت جميع العروض من الخارج، كانت تونس هي بدايتي، وستكون نهايتي، كذلك، كي لا أنسى، لقد نشأت في الجنوب أيضًا، في تطاوين (في تلك الفترة كانت تطاوين تابعة لولاية مدنين) وأعتبر نفسي إبنة الجنوب، زوجي كان نقابياً، وخاض عديد الإضرابات في قطاع التعليم الثانوي، فتعرّض إلى نقلة تعسفيّة، انتقلت معه إلى الجنوب أمّا في مسيرتي المهنيّة والعملية، وحين عدت إلى تونس، انخرطت في مسرح الهواية مع حمّادي المزّي، ومن الثمانينات إلى الآن مع فاضل الجعايبي، أوّل عمل لي كان مسرحية عرب، وقد كانت النقلة النوعيّة في مسيرتي كما حدّثتك.

إذن، فمشاركتك في مسرحيّة عرب، ساهمت في تسليط الضوء حول موهبتك في الفنّ الرابع؟

نعم، ساهم ذلك في فتح باب المسرح على مصرعيه، فاضل الجعايبي ساهم في تكويني، فمن مسرحية عرب (أول عمل مسرحي لي) إلى مسرحيّة الخوف (آخر أعمالي المسرحيّة) لم أشتغل سوى مع فاضل الجعايبي، أعتبر نفسي إبنة المسرح، إبنة الخشبة، فاضل الجعايبي وجليلة بكّار كانَا أسرتي الفنيّة وأعتبر المسرح فضاء حريّة بالنسبة لي، خلافاً للسينما التي أتعامل فيها مع النصّ حيث يكون جاهزاً، قد أتناقش مع المخرج حول النصّ لكن المخرج هو صاحب الكلمة الأخيرة، في المسرح أتعامل مع شخص، في المسرح أنا سيّدة نفسي..

سبب  اختيارك للفاضل الجعايبي وجليلة بكّار، لماذا؟

رؤية فنيّة، مشروع فنّي، تعامل بحرفيّة، عين ثاقبة، كل هذا جعلني لا أختار سوى فاضل الجعايبي، كانت جميع أعمالنا تنمّ عن جديّة ووضوح، وواقعيّة، استغرقت مسرحيّة عرب على سبيل الذكر لا الحصر سنتين، بقيّة الأعمال المسرحيّة الاخرى، كانت فترة انجازها بين العشرة أشهر والسنة، وأعتبر أنّ مشاركتي صلب هذه المجموعة انتماء أكثر ممّا هو مجرّد عمل، أنا أتحدّث عن مشروع فنّي وليس عمل عابر، سنحت لي فرصٌ لأعمال مسرحيّة مع مخرجين آخرين، لكننّي رفضت باستثناء عمل واحد وهو “بلاتو” للمخرج الشاب غازي الزغباني، ورفضي لم يكن بسبب الغرور والتكبّر والنرجسيّة، وإنّما لالتزام مهنيّ، فتعاملي مع فرقة المسرح الجديد، وأعتبرها أسرتي الفنيّة، ممّا يأخذ وقتي بأكمله لأننّا ننتج مسرحيّات بصفة دوريّة، وفي تلك المسرحيّات أتحدّث عن تونس، التونسي والتونسيّة، وهذا هو جوهر أعمالي.

تحدّثت عن الواقعيّة فاطمة، هل تعني هنا انتماءك للتيّار الواقعي كتيّار فكري؟ أمّ أنك تقصدين أنّ أعمالك مستوحاة من قصص واقعية ومنبثقة من رحم الواقع؟

أعمالي جميعها منبثقة من رحم الواقع، مسرحيّة عنف مثلاً مستوحاة من وقائع تونسية حقيقية، وتحدّثت عنها الصحافة، عن المرأة الّتي قتلت ابنها في الطابونة، من هموم ومشاكل الإنسان التونسي وتونس، ولكن هذا لا يعني تقوقع أعمال على محيط خصوصي، أعمالي في جانب منها تمسّ نحو الأفق الكوني، أنا أتحدّث عن الإنسان مهما كان لونه، دينه، جنسه، ميولاته الجنسية، تصوّراته الفكريّة والأيديولوجية، هنالك خصوصيّة ولكن هنالك نفس المشاكل بتفاوت، حين ارى تفاعل الجماهير في مصر أو بلجيكا مع مسرحيّة ما، يُخيّل لي أنّ هذا العرض أمام جمهور تونس، نفس مشاكل التونسي، هي مشاكل العربي، وهي مشاكل الإنسان في جميع أنحاء العالم.. المشاكل خصوصيّة، لكن الآفاق كونيّة، عن الإنسان، ولأجل الإنسان.

 إذن، فالفنّان ملتزم بقضايا واقعه، ويقوم بشكل من أشكال النضال على خشبة المسرح أو في شاشة السينما، حين يغني أو يعزف إلخ؟؟

الفنّ عمل نضالي، أعتبر أنّ الفنّ والنضال توأمان، ومن مشاكل الواقع رجّ صداهما، هذا هو جوهر الفنّان، الأديب، الموسيقار، التشكيلي، البلدان تُعرف بفنّانيها، يخلّدون بلدانهم، وليس السياسيين، كلّ بلاد تُعرف بمدعيها وفنّانيها…

إذن، تعتبرين أنّ الفن الفعلي، هو شكل من أشكال النضال، ويجب أن يكون الفنان إبن بيئته ومحيطه وأزماته؟

نعم، شخصيًا يسببّ ذلك لي نشوة، أنا أعيش الدور وأتقمّص الشخصيّة، وإلى جانب الالتزام بالنصّ، دائمًا أرتجل حسب السياق، وحسب فئة المتقبّل، أحاول أن أقوم بصياغة محاورة بيني وبين المشاهدين، في مسرحيّة جنون وكوميديا، ناقشنا انفصام شخصيّة التونسي، جميع أعمالي مستلهمة من واقع التونسي، وكل عمل كأنّه أول عمل أقوم به بشغف وحبّ، وكذلك الأمر بالنسبة للسينما..

من عرب إلى الخوف، كيف تشاهدين مسيرتك الفنيّة، طبعًا لم يكن أول عرض مثل آخر عرض، أتحدّث هنا عن انخراطك في العرض والتوتّر الذي يصاحب الممثل قبل العرض وغيره؟ كيف يمكنك تلخيص العقود  الأربعة من العطاء الفنّي؟

ستفاجئك إجابتي؛ أنا ما زلت أخاف في كلّ عرض، ربّما الخوف من الجمهور بتفاوت منقطع النظير بين أوّل عرض”عرب” وآخر عرض “الخوف” لكن الخوف ملازمٌ لي، خلاف على الممثلين الأخرين، لا يصيبني توتّر أو قلق في العرض الأوّل لأي عمل جديد، أكون حينها كاملة التركيز، يزداد خوفي مع تتالي العروض، دائمًا ما أشبّه الأعمال المسرحيّة بالمولود الجديد، كلّما تتالت أيّامه، تصبح مسؤولية على عاتقي ويزداد خوفي تبعًا لذلك.

إذن، هل كان مصدر هذا الخوف من النقّاد أم من المتفرّجين؟

لم أخف يوماً من النقّاد، كانت ومازالت لديّ ثقة في عمل يكون مخرجه فاضل الجعايبي وجليلة بكّار، الخوف كان من المشاهدين، لا أريد أن أخيّب ظنّ المشاهد أو أمله، فنياً وفكرياً، هذا التزام وامتحان، قد تعتبرها نرجسيّة، لكننّي أعتبر أنّ هذا الجمهور يثق فيّ، ويجب أن لا أخيّب ظنّه. أريد جعل المتفرّج يفكّر قبل شيء.

هل سبق لك أن ارتجلتِ في عروضك؟ أن تتخلي عن الخطاب المجهّز لك وترتجلين لما يتناسب مع السياق أو مكان العرض أو غيره؟

ارتجلت، دائماً ما أرتجل، لمن يشاهد نفس العرض أكثر من مرّة، يكتشف ذلك، لا أنسى الخطاب أو الحوار أو الدور، لكن بتكرار العرض، أتقمّص الشخصيّة وأتعايش معها، أتفاعل مع الدور، حيث تتشابك وتتقاطع الأفكار فيما بينها، فأتخلى عن شخصي وأصبح ذلك الدور الّذي أعرضه، دائماً ما أقّدم اضافات في عديد من العروض، وكان الفاضل الجعايبي يتفاعل معي حين أرتجل في بعض العروض، ودائماً ما التزم بالنصّ

هل توقّعت مثل هذه الشهرة، أن تكون لأعمالك رواج وأن تكوني محبوبة بهذا الشكل، وأن يتابع أعمالك الآلاف؟

سعادة، نشوة، غبطة، أعتبر أنّني أقدّم أعمالاً ترضي الجمهور، قدّمت تضحية من أجل المسرح، ووفّقت في هذا الاختيار، أستحضر دائمًا ذكريات انجاز الاختبار الشفاهي في مركز الفنون الدرامية، سألني أحد أعضاء اللجنة حينها وهو السيد الهادي البالغ؛ (لماذا تريدين مزاولة المسرح، هل تسعين وراء الشهرة؟) استغربت سؤاله، حينها لم تكن هنالك صالات سينما كما هو الحال  الآن، والتلفاز كان مقتصراً على فئة بعينها، لم أختر المسرح من أجل الشهرة، بل لأنّ المسرح مثله مثل أيّ فن واختصاص أخر، يقدّم ويتقدّم بالمجتمع، كانت الشهرة معطى نسبياً، لم أفكّر في الشهرة، لكننّي وجدت الشهرة أمامي، لم تكن صدفة، ربّما كانت موهبة، ربّما احتراف..

ما هو أكثر عمل فنّي صادم شاركت فيه؟

جميعها، ربّما كانت مسرحية “جنون” استثنائية، أو “كوميديا”، في “جنون” ناقشنا انفصام شخصيّة التونسي، ربّما كانت “جنون” موغلة في التفكيك والنقد، لكن جميع الأعمال لم تخلُ من بعد فكري.. وجميعها أيضاً كانت بنفس الشغف والحماس، مازلت أمثّل كل عرض كأنّه أوّل عرضٍ لي. أنسى أيّ مشاركة قدّمتها في السابق، وأشارك في العرض كأنني ممثّلة جديدة، حتى لا أصاب بـ”التخمة الفنيّة”، أنا أيضاً أخاف حين أمثّل في مسرحيّة…

إذن، من الركح إلى الشاشة، كيف كانت هذه النقلة، هل كانت متوقّعة أم فجئية، من فاطمة المسرحيّة، إلى فاطمة السينمائية؟

من الركح إلى الشاشة، في الحقيقة لم تكن صدفة، أو مفاجئة، كانت مسرحية “عرب”  قد تمّ تحويلها إلى شريط سينمائي، كان مختلفًا في تفاصيله عن المسرحيّة، أتحدّث هنا عن الصورة، عن البعد الفرجوي، عن ملامح الوجه والفضاء المكاني، التفاصيل كانت مختلفة، كان إبداعًا حقيقة، المسرحيّة أو الفيلم، في السينما المسؤوليّة أكثر للمثّل، قد تكون هنالك لقطة تهدف إلى ابراز ملامح الوجه، ممّا يجب تشذيب الملامح، لكن في المسرح، أنا أعلم كيف تبدأ الشخصيّة، لكن لا أعلم نهايتها، لأنّني لم أنطلق من نص جاهز…

تتالت بعدها أعمالك السينمائية إذن، حتى عرفك البعض كممثلة سينمائية، لا مسرحيّة؟

بالفعل، كثيرون من  يعرفونني كممثلة سينمائيّة، لا كمسرحيّة، شاركت بعد فيلم عرب، في فيلم مجنون ليلى، لصديقي الراحل الطيب الوحيشي، كان ذلك أن شاهدني الطيّب في عرب، فقدّم لي دورًا في مجنون ليلى، واِعتبر أنّه لا يوجد من هو أنسب منّي لهذا العمل، ومن ثمّة خضت العديد من التجارب، شاركت في جميع أفلام فريد بوغدير، ومع المنصف ذويب كذلك، سنية الشامخي، وغيرهم من المخرجين التونسيين والأجانب، وقد يخفى على الكثير أنني ممثلة تلفزية كذلك، ساهمت في أربعة مسلسلات تلفزية، ثلاثة منها لفاطمة سكندراني، وواحد منها للمنصف ذويب وهو الفيلم التلفزي، التلفزة جاية….

شخصياً، هنالك بعض الافلام العالقة في ذاكرتي، والّتي تركت انطباعاً جيداً في تكويني، من بين هاته الأعمال، “التلفزة جاية”، و”صيف حلق الوادي”، هل لديك أيّ تعليق حول هذه الأعمال؟

ناقشنا في فيلم حلق الواد، التّعايش الجماعي بين اليهود، المسلمين والمسيحيين، مثّلت حينها دور امرأة يهوديّة، وأردنا أن نستقطب المشاهد نحو السلام والتعايش الجماعي والسلمي، أنا إبنة الحفصية، وعشت مع اليهود، سابقاً كانت أغلبيّة سكان الحفصيّة  يهوداً، والى ذلك في لافيات وحلق الواد، كنّا نتعايش جميعاً، سوياً، في وئام، أتذكّر حين كانت الحرب بين الصهاينة والعرب في أوجّها،ـ وأقول الصهاينة لا اليهود. كانت جميع العائلات ترسل أبناءها  كي يناموا لدى اليهود، واليهود يرسلون أبنائهم ليناموا عندنا، كي لا تحدث لهم مشاكل، المجتمع تطوّرا علمياً وتأخرّ فكرياً وأخلاقيا الأن، هذه الممارسات الّتي نراها الأن، لم نكن نسمع عنها في السابق. العلاقات الإنسانيّة كانت قويّة في السابق، والى ذلك، الفيلم كان مستوحى من قصّة حقيقيّة، أردنا أن نظهر الجانب المشرق من تونس الحبّ، تونس التي تتسّع للجميع. أمّا بخصوص فيلم “التلفزة جاية”، فقد كان نقدا فكاهيا لتجربة الاشتراكية، في ذلك الزمن، كان المسؤول يعلم الادارة بزيارته قبل شهر أو أكثر، ثمّ تُقدّم زيارته على أنّها زيارة فجئية، كان الفيلم دعوة للثورة على الادارة البالية، كانت تجربة التعاضديّة فاشلة في تقديرنا، وأردنا أن نسلّط عليها الضوء. التعاضديّة خدمت الأغنياء لا الفقراء، في الفيلم، لم يلتفت المسؤولون إلى قرية الملقى إلّا حين علموا بأنّ التلفزة الألمانية قادمة للتّصوير، لذلك كان اسم الفيلم (التلفزة جاية) لم ننقد التعاضديّة بل ممارسات تجربة التعاضد.

بهذه المسيرة الزاخرة بالعطاء والإبداع، هل تعرّضتِ للتضييقيات، الرقابة، الصنصرة، وغيرها من المشاكل الّتي كان يتعرّض لها كل من ينتقد النظام، أو يسلّط الضوء حول ما تشهده البلاد من أزمات ومخاضات عسيرة؟

’’أحنا عمرنا ما كان عندنا خوف من السلطة،، من عرب إلى هذا اليوم، لو خاف الفنّان من السلطة فهذا أشبه بالموت بالنسبة له وبالإفلاس الفنّي بالنسبة للمجتمع، كانت هنالك رقابة، صنصرة، تضيق خناق، كانت الرقابة تتمثّل في قراءة النصّ قبل أن نتدرّب عليه، ومن ثمّ يشاهدون العرض قبل أن يرى النور ويتأكدون من مدى مطابقته للنصّ، كنّا دائماً نتحايل على السلطة، ونحاول التملّص من الرقابة، أوّل عمل وقعت صنصرته، هو عمل (خمسون) أحدث العمل ضجّة كبيرة، وقد وقع في البدء رفض عرضه تماماً، ولولا وقوف المجتمع المدني، الفنّانين، النقابيين، وأيضاً الأجانب الذين شاهدوا أعمالنا، وقّع العديد عريضة تنوّه بما حدث، المؤسف في الأمر، أن مسرحيّة خمسون رحّبت بها فرنسا ورفضتها تونس، فلقد وقع تكريمنا آنذاك، بأن وقع اختيارنا ضمن عشرة أعمال دوليّة أخرى لتكون خمسون إحدى مسرحيّات افتتاح مسرح الأوديون بفرنسا، وبقينا نعرض طيلة أسبوع، لم يكن الأمر سهلاً أن تكون مسرحيّة تونسيّة ضمن افتتاح مسرح فرنسي، ويقع اختيارنا من بين مئات الاعمال لنفتتح المسرح، وإثر النّجاح الّذي حقّقته خمسون هناك، عدنا إلى تونس، قصد عرضهِ، فرفض الوزير آنذاك.

لماذا أحدثت خمسون هذه الضجّة؟

المسرحيّة كانت على غير المعتاد والمتوقّع، فهي مسرحية تطرح قضية التّشدد الإسلامي والحريات في تونس بجرأة غير مسبوقة. وقد جاءت أحداث المسرحية مترابطة حيث تروي قصة شابة تدعى أمل انقلبت حياتها رأسا على عقب بعد أن تحولت من الاشتراكية إلى الفكر المتشدد لتجد نفسها متورطة في قضية تفجير قامت بها صديقتها ”جودة“ في معهد ثانوي.

تحدث هذه الفاجعة اضطرابا في كامل البلاد محركة بذلك آليات مقاومة الإرهاب البوليسية وواضعة وجها لوجه النظام السياسي الصارم والديمقراطيين المغلوبين على أمرهم والمواطنين الراضخين غير المبالين، البعض من اليسار هاجمنا، والبعض من الاخوان المسلمين هاجمنا، وبعض الأساتذة هاجمونا، البعض قال أنّه لا يوجد إرهاب في وطننا، النظام هاجمنا بشدّة ووقعت صنصرتها، كان من غير المعقول بالنسبة لنا، أن يقع تكريم خمسون في فرنسا وترفض في تونس، أحسسنا بالغبن والغلبة على أمرنا حينها، البعض لم يتطرّق الى مضمون المسرحيّة واكتفى بمشاهدتها عن بعيد ومهاجمتنا، خمسون كانت تتحدّث عن اليساريّ الذي خفت صوته، في اشارة منّا الى تراجع دور اليسار، وكانت تتحدثّ عن الاغتراب والاستلاب، عن مشاكل التونسيّ، وعن الإرهاب، وكانت إلى ذلك تكريم للمناضل الكبير نور الدين بن خضر.

وبعد الثورة؟ هل تحسّن الوضع بالنسبة للفنّانين؟

للأسف ليس كثيرا، كنّا نعيش رقابة سياسية قبل الثورة، والآن نعيش رقابة أخلاقية ودينيّة، أحداث قصر العبدليّة، الاعتداء على نادية الفاني، مسرحيّة “ألهاكم التكاثر” وغيرها كثيرون ممّن وقعت صنصرت أعمالهم والاعتداء عليهم للأسف، فمثلاً مسرحيّة ألهاكم التكاثر، وقع التّنديد بها بسبب عنوانها فقط، وهي ليست مسرحيّة، وانما عرض راقص، الجميع الآن يريد أن يتموقع في خانة مّا، وكلٌ ينصّب نفسه وصياً على الدين أو الأخلاق أو العادات أو السياسة، مثل عادل العلمي الآن، يحددّون موقعهم ويريدون إثبات وجودهم على حساب الفنّ الّذي يتقدّم بالمجتمع، وليس هنالك حماية للفنّانين، هنالك بوادر للاعتداء على الفنّانين من قبل العديدين، المجتمع هو من خلق تعاليم وقوانين دينيّة، سياسية وأخلاقيّة بالية، هذه الأصنام خلقها جزء من المجتمع الرجعي ويدافعون عنها، ويكفّرون من يحاول نقدها.

 ما هي المعركة المستقبليّة التي سيخوضها الفنّان؟

ههه، أظنّ أنّ معركة الفنان المستقبليّة سيخوضها ضدّ نفسه، الفنان إبن المجتمع، على غلاء المعيشة، على الفساد، على جميع العادات الّتي عفى عنها الزمن.

ماذا عن دور الفنّان فيما يتعلّق بالحريّات الفرديّة، لطالما عُرفت بمناصرتك لحقوق المرأة والحريّات الجنسية والدينيّة، كيف ترين مثلاً المساواة في الميراث في ظلّ هذه الموجة الحقوقيّة المتزامنة مع دعوة الرئيس الباجي قائد السبسي؟

ما أقوله هو ما أؤمن به، إن كان لي مبدأ لن أتنكّر له أولاً، أول شيء تعلّمته أن أكون إنسانا، وأكثر مقولة أؤمن بها  هي حديث الصحابي عمر بن الخطّابّ؛ (متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا) ودرست الفلسفة وتعلّمت أنّ حريتي تنتهي حين تبدأ حريّة الآخرين، فالحريّة هي مسؤولية؛ أنا حرٌ يعني أنا مسؤول، يمكنني أن أكون حرّة وأن تَكُونَ حرّا  في شيء مخالف لي، ونستطيع العيش سوياً، حين أقبل نفسي وأتسامح مع نفسي وذاتي يمكنني أن أفهم الأخر، وحين أفهم الأخر أفهم نفسي، للأسف في مجتمعنا لسنا متصالحين مع ذواتنا، نحن نريد أن نعيش لا كما نحبّ، ولكن كما يحبّ المجتمع، لا نملك قراراً على ذواتنا، لذلك أنا أدافع عن الآخرين والمضطهدين، في الدستور الفصل السادس ينصّ على حريّة الضمير، لكن لا وجود فعلي لهذه النقطة، يجب أن تكون هنالك رغبة سياسيّة، والأهمّ من ذلك يجب أن يكون هنالك وعي معمّم، وعي جمعي، لا فئوي، لذلك نعيش بعض من المشاكل، بن علي فقّر الجيوب والعقول، لذلك نحن نبني ما خرّبه ذلك النظام، رغم اختلافي مع بورقيبة إلّا أنّه استثمر في التّعليم وحقوق المرأة وغيرها من الميادين الأخرى رغم نقائصه، نحن نريد حريّة التعبير والديمقراطية، هنالك ضوابط للحريّة والديمقراطية، لكنّني أرفض الوصاية والسلطويّة، لذلك بقينا متأخرين.

لقد كنت عضو هيئة التحكيم بمهرجان موجودين للأفلام الكويريّة، كيف كانت تلك التجربة، ما هو تصوّرك للساحة الثّقافية على ضوء مشاركتك في مهرجان يُقام لأوّل مرة في بلد عربي؟

سأجيب على سؤالك، لكن قبل ذلك، أردت أن أتوجّه بتحيّة للمربّين والجامعيين والباحثين والأكاديميين القائمين على الجامعة التونسيّة بصفة عامّة، وعلى كليّة  الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة،  حيث تم ّفتح اختصاص ماجستير جديد، وهو بحث النوع، الثّقافة والمجتمع، وهو ما ساهم في تسليط الضّوء علمياً حول وضع الأقليّات والدراسات الجندريّة، ولذلك أثمّن دور المناهج العلميّة والتربويّة في بث الوعي والاختلاف، ولم تكن هذه المسألة بمنأى عن مدار اهتمام السينما، ومن هنا مان مهرجان موجودين للأفلام الكويريّة، والتي كنت عضو  هيئة التّحكيم في الدورة الأولى هذه السنة ( 15-18 جانفي 2018) والّتي ضمّت ضمن برمجتها عرض أفلام تونسيّة، عربية وأوربيّة، وقد طرحت هذه الأفلام موضوع الأقلّيات.

على صعيد فنّي كانت العروض قد تطرّقت إلى عديد المشاكل والصّعوبات الّتي يعانيها مجتمع الميم، والضغوطات المسّلطة عليهم اجتماعياً وقانونياً، حيث لم يقع التعامل معهم كإنسان بجوهره وقيمه، له حقوق وعليه واجبات، وإنّما فقط لميولاتهم المختلفة، ولذلك وقع نبذهم.

الدورة كانت ناجحة جماهيريا، وكان الجمهور من مختلف الفئات والشّرائح، فقد كانت مفتوحة للجميع، حيث وقع التّفاعل مع العروض من قبل المشاهدين خلال مناقشة الأفلام، والأفلام في حدّ ذاتها كان مبادرة من المبدعين والحقوقيين الّذين يؤمنون بالإنسان وقضاياه، بأن لكلّ إنسان الحقّ في حياة كريمة مهما كان نوعه وجنسه، نحن أردنا أن يشاهد المجتمع عن كثب ما تعانيه هذه الفئة من إقصاء وتهميش، رغم ما يملكونه من طاقة وتفكير يمكنهم أن يساهموا به في بناء تونس أفضل لولا هذا النّبذ.

أتمنى أن يبقى هذا المهرجان مستمرًا، وتنتشر في مختلف مناطق الجمهوريّة، وتكون ركيزة نحو اثراء المشهد الثّقافي التونسي الّذي يتميّز بالاختلاف.. وهذه مسؤولية الفنّ في طرحه للمسائل المسكوت عنها، ومسؤولية الفنّان الّذي يسعى إلى الحريّة، فالحريّة مسؤولية، والمسؤلية حريّة.

في علاقة بالمساواة  في الميراث، هنالك سجال كبير في هذا الموضوع وخلّف ردود أفعال مختلفة، ما هو موقفك وتصوّرك؟

دائماً ما أقولها، المرأة للأسف عدوّة نفسها، المرأة هي المسؤولة عن تكوين المجتمع وتربية الأجيال، فهي المدرسة الأولى، لا أريد التطرّق للمسألة الدينيّة، لكن أيضا المساواة ليست في الميراث فقط، المساواة عليها أن تكون شاملة، في الحقوق والواجبات، وقبل كلّ شيء، علينا أن ندافع عن المرأة العاملة، المرأة الريفيّة، هنالك مناطق لا ترث فيها المرأة شيئاً، على المساواة ان تشمل جميع المجالات، وأيضاً جميع المناطق، لا فرق بين الذكر والأنثى في نظري، لمذا يأخذ الذكر أكثر من الأنثى، وشخصياً لا أعتقد أنّ الذكر حين يساوي مع الأنثى، لن يكون سبب في غضب الله، على الأب أن يعطي لابنته مثل إبنه، أستغرب أن يثور البعض على المساواة في الميراث ولا يثور على قطع يد السّارق وتعدّد الزوجات، علينا أن نكون واضحين ومبدئيين. المساواة ولو رمزياً هي تكريم للمرأة، تكريم للمرأة التونسيّة الّتي كابدت الصعوبات في جميع المجالات، تكريم للفلّاحة، للعاملة، لربّة المنزل، هو تكريم قبل كل شيء، وردّ اعتبار  بعيد عن ثنائية حلال وحرام، هذه مسألة نسبيّة ونحن نعيش في دولة مدنيّة، هذا أمر لن يسببّ دخول من ينادي بالمساواة أو يطبّقها الى (جهنّم)..  وبطبيعة الحال، بما أننّا في دولة مدنية تحمي الحريّات وتتكفل بالمساواة، وعلى المساواة أن لا تكون جزئية، بل يجب أن تكون شاملة، وليكون حقّ المساواة مضمون، هنالك العديد من القوانين الّتي يجب أن نناضل من أجل تغيير بعض من القوانين كالمساواة في الميراث على سبيل الذكر لا الحصر.

في النهاية، هل هنالك توصية أو رسالة للقرّاء، للفنانين الشبّان، للسياسيين.؟

شكرًا لك أسامة على هذا الحوار الهادئ الّذي طرحت فيه أسئلة تنمّ عن اهتمام بالشأن العام، لا أريد أن تكون هذه الكلمة توصية بقدر ماهي رسالة، أنا أكره أن أنصب نفسي وصيّة على أحد، أنصحكم جميعاً بالمحبّة، الاحترام، الصّدق، تونس هي مسؤوليتنا جميعاً، وعلينا أن نكون في مستوى هذه الأمانة، أن تكون مثلي، ملحد، مسيحي، يهودي، سلفي، أو غيره، لا ينقص من جوهرك كإنسان، الاختلاف هو ما يثرينا، أتوجّه بهذه الكلمة للآباء والأمّهات، أحبّوا أبنائكم، حين أرى شابا مثلياً يقع طرده من منزله لا لسبب سوى لكونه مثليا يحزّ ذلك في قلبي، للفنّانين الشبّان، مهنة الفنّان مهنة نبيلة، مهنة رائعة، هي مسؤولية، عليكم أن تكونوا أصحاب مشروع، مشروع من أجل وطنكم، من أجل تونس، تقاسموا أحلامكم مع المجتمع، حتّى يكون لكم حسّ نابض وشغف، وبذلك تضيفون لذاتكم، لفنّكم، لعائلتكم، توصيتي هي أن لا تتركوا وصياً عليكم، وأن لا تكونوا أوصياء على غيركم، ققط كونوا أحرار بما في الكلمة من مسؤوليّة…

المصدر: https://www.alawan.org/2018/09/06/%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B9-...

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك