الحوار والاحترام المتبادل بين الحضارات

د‏.‏ محمود حمدي زقزوق

 

لقد أصبحت قضية الحوار بين الحضارات والثقافات من القضايا ذات الأولوية القصوي في العالم المعاصر‏..‏ فلم يعد الحوار أمرا ثانويا أو هامشيا وإنما أصبح اليوم ضرورة حياتية لكل الشعوب‏..‏ فقد تقاربت المسافات وتشابكت الثقافات وتداخلت الحضارات وأزيلت الحواجز بفضل ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية‏,‏ وماصاحب ذلك من التيار الجارف للعولمة‏.‏

والسؤال المطروح الآن بإلحاح هو‏:‏ هل نحن مقبلون علي عالم أحادي الجانب تسود فيه حضارة معينة بقيمها وعاداتها وتقاليدها وثقافتها‏,‏ الأمر الذي من شأنه أن يؤثر سلبا علي خصوصيات الشعوب والحضارات الأخري؟

هل يمكن أن يصل الأمر إلي أن يصبح العالم كله مجتمعا واحدا يتم صبه في قوالب حضارة معينة تذوب فيها بقية الحضارات والثقافات؟
أم أن عالما من هذا القبيل يعد ضربا من الخيال الذي يدخل في عداد المستحيلات نظرا لتناقضه الصارخ مع طبيعة الحياة القائمة علي التفاعل الايجابي بين مختلف التنوعات والاتجاهات علي جميع المستويات؟

إننا لانتصور قيام مثل هذا المجتمع الأحادي‏.‏ الذي يراد له أن يكون عالميا تذوب فيه كل التنوعات الحضارية الأخري ـ ولايجوز أن يكون هدفا للبشرية في سعيها لتحقيق السلام في العالم‏.‏
إن الأصل هو التنوع الذي هو سنة الحياة والذي ينبغي أن نحرص علي حمايته‏..‏ وهذا يعني التعددية علي جميع المستويات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والحضارية وهذا التنوع يؤدي إلي التفاعل الخلاق الذي يؤدي بدوره إلي الابداع المستمر والتجديد المتواصل والتقدم في جميع المجالات‏.‏

وعلي الرغم من أن كل الناس ـ طبقا لتعاليم الأديان السماوية ـ ينتسبون إلي أصل واحد فإن الله قد خلق كل إنسان بشخصية خاصة يتميز بها عن الآخرين بشكل أو بآخر وأعطانا رمزا معبرا عن هذه الحقيقة يتمثل في عدم اتفاق شخصين في هذا الوجود في بصمة إبهام كل منهما‏.‏
وإذا كان الأمر كذلك فإن كل أمة سوف تحتفظ في عصر العولمة بخصوصياتها الحضارية التي تتمثل في الدين واللغة والثقافة والتاريخ والتقاليد الأصيلة‏,‏ وبمعني آخر سوف تحتفظ بحضارتها وهويتها‏,‏ ومن هنا تأتي أهمية الحوار بين الحضارات والثقافات للاتفاق علي القواسم المتشركة التي يمكن ان تشكل أساسا للإسهام المشترك في صنع السلام والرخاء في هذا العالم الذي نعيش فيه‏,‏ والذي هو عالمنا جميعا‏,‏ والذي هو أيضا مسئوليتنا التي ينبغي أن نؤدي حقها ونتحمل أعباءها‏.‏

واذا كان الحوار يشكل ضرورة حياتية لبلوغ الأهداف المشتركة فإنه من ناحية أخري قد أصبح لغة العصر التي لم يعد هناك مفر في عالمنا المعاصر من التعامل بها علي جميع المستويات المحلية والعالمية‏,‏ وعلي الرغم من هذه الأهمية البالغة للحوار فإنه لن يكون هناك حوار حقيقي علي أي مستوي دون أن يكون هناك أساس راسخ من الاحترام المتبادل بين أطراف الحوار‏..‏ فدون هذا الاحترام المتبادل يفقد الحوار أهميته‏,‏ ويصبح بلامعني‏,‏ ولايحقق أي فائدة‏.‏
ولكن كيف يمكن التوصل إلي هذا الاحترام المتبادل لاقامة حوار بناء بين الحضارات والثقافات؟

إن هناك ـ في تصورنا ـ خطوات أساسية لابد من مراعاتها لتحقيق احترام متبادل ومتكافيء بين أطراف الحوار‏..‏ وتتمثل هذه الخطوات فيما يلي‏:‏
أولا‏:‏ ضرورة تعرف كل طرف علي الطرف الآخر‏..‏ علي آرائه وأفكاره ومعتقداته وأسلوب تعامله‏,‏ وبصفة عامة علي حضارته‏.‏

ومن هنا وجدنا الإسلام يجعل التعرف علي الآخرين شرطا أساسيا للدخول في أي تعاملات تتم بين الأمم والشعوب‏,‏ فمع تأكيده علي حقيقة أن الناس جميعا ينتسبون إلي أصل واحد‏,‏ يؤكد الإسلام في الوقت نفسه علي حقيقة أخري تتمثل في اختلاف الناس في جوانب كثيرة‏,‏ ومع الاقرار بهاتين الحقيقتين فإن الإسلام يؤكد أن هذا الاختلاف‏(‏ وبلغتنا المعاصرة الاختلاف الحضاري‏)‏ لايجوز أن يكون منطلقا للنزاع والشقاق بين البشر‏,‏ بل ينبغي أن يكون بالأحري منطلقا للتعارف الذي يعد الخطوة الأولي والأساسية للدخول في أي حوار‏,‏ ويعبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله‏:‏ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا‏..‏
والصيغة التي استخدمها القرآن الكريم لتعرف كل طرف علي الطرف الآخر تدل علي التفاعل‏,‏ بمعني أنه ينبغي أن يكون هذا التعارف من الطرفين لا من طرف واحد‏.‏

ثانيا‏:‏ إن التعرف علي الآخرين لن يكون مكتملا ومؤديا للغرض المقصود إلا اذا كان كل طرف علي استعداد تام للاعتراف بحق كل مخلوق بشري في الكرامة الإنسانية بصرف النظر عن أي اختلافات أخري تتصل بالجنس أو اللون أو أي اعتبار آخر‏..‏ فالكرامة الإنسانية التي منحها الله للإنسان عند خلقه لاتخضع لأي اعتبارات أخري لاصلة لها بجوهر الإنسان من حيث هو إنسان‏.‏
وإدراك هذا المعني علي حقيقته يؤدي إلي تجنب الميل نحو النزعات الاستعلائية أو عقد التفوق العرقي أو الحضاري التي من شأنها أن تقضي علي أي فرصة لأي حوار بناء‏.‏

ولاشك في أن التعرف علي الآخر من منطلق الإقرار بما له من كرامة إنسانية سيؤدي بدوره إلي احترام الآخر‏..‏ فهذا من منطلق الاقرار بما له من كرامة إنسانية سيؤدي بدوره إلي احترام الآخر‏..‏ فهذا الاحترام في حاجة إلي اساس يرتكز عليه‏,‏ وإلا كان مجرد مجاملة دبلوماسية فارغة من المعني‏.‏
ثالثا‏:‏ يرتبط احترام الآخر بشكل أساسي باحترام الذات‏,‏ فاحترام الذات من شأنه أن ينعكس بشكل ايجابي علي النظرة إلي الآخر باحترام‏,‏ وقد أكد الفيلسوف الألماني كانت هذه الناحية‏..‏ وعلي أساس من احترام الذات يدرك المرء أن الآخر مساو له‏,‏ وهذا الاعتراف بالمساواة يعني الاعتراف للآخر بنفس الحقوق التي يطلبها الإنسان لذاته‏..‏ وعلي ذلك تتأسس قيمة الاحترام المتبادل بين الناس‏.‏

رابعا‏:‏ إن التعرف الحقيقي علي الآخر وعلي حضارته علي النحو المشار إليه من شأنه أن يؤدي إلي تأكيد فيمة التسامح الإيجابي إزاء الآخرين‏,‏ وليس مجرد التسامح الحيادي‏..‏ وهذا يعني الإقرار بالتعددية الحضارية ويعني أيضا احترام حضارة الآخر وثقافته مهما يكن مستواه من الرقي المادي‏,‏ لأن احترام الآخر والتعرف عليه من شأنه أن يؤدي إلي تفهم كل الظروف المحيطة به‏,‏ ومن شأنه كذلك أن يقضي علي الكثير من الأحكام المسبقة والمفاهيم المغلوطة علي كلا الجانبين‏.‏
وبناءعلي ذلك نستطيع أن نقول ان النظـرة الاستعلائية أو عقدة التفوق أو الأفضلية في الجنس أو اللون أو المستوي الحضاري قد أصبحت نظرة متحفية تنتمي إلي الماضي‏,‏ ولم تعد تتناسب بأي حال من الأحوال مع عالمنا المعاصر‏.‏

ومن هنا فإن الرؤية المعاصرة المتفتحة علي الآخر‏,‏ والمتفهمة للظروف المحيطة به‏,‏ لايجوز أن تقف عند حد المظاهر الشكلية أو التقدم المادي‏,‏ وإنما ينبغي أن تتمحور بشكل أساسي حول جوهر الإنسان بما هو إنسان‏.‏
ولن يتحقق حوار مثمر بين الحضارات إلا علي أساس هذا الاحترام المتبادل والمتكافيء‏.‏ أما إذا غاب هذا الأساس‏,‏ وغابت النظرة إلي جوهر الإنسان‏,‏ وتركزت علي المظاهر الشكلية فإن ذلك يعني غياب الاحترام المتبادل وبالتالي غياب الحوار الإيجابي المثمر‏.‏

ومن شأن ذلك أن يؤدي إلي السقوط في هاوية الصراع الحضاري الذي ينبني علي عدم فهم الآخر‏,‏ وعدم احترامه أو احترام حضارته‏,‏ ومحاولة فرض الهيمنة عليه‏,‏ واجباره بطريق مباشر أو غير مباشر علي التخلي عن قيمه لمصلحة قيم أخري يعتقد أصحابها أنها وحدها التي ينبغي أن تسود العالم كله‏,‏ الأمر الذي يؤدي إلي العولمة السلبية التي تعمد إلي إلغاء الآخر‏,‏ أو علي الأقل تعمل علي إلغاء خصوصياته الحضارية‏.‏
وهذا بدوره يؤدي إلي صدام لامفر منه‏,‏ وحينئذ يصبح مستقبل العالم في مهب الريح‏..‏ وهذا مالايرضاه عاقل في هذا الوجود‏.‏

وعلي الرغم من أنه من منطلق وحدة الجنس البشري ينبغي أن يكون احترام الآخر من الأمور البديهية التي لاخلاف عليها‏,‏ والتي لاتحتاج إلي جهد في اقناع الناس بها‏,‏ فإن الواقع يبين لنا أن ما ينبغي أن يكون شيء‏,‏ وماهو كائن شيء آخر‏,‏ وللوصول إلي ماينبغي أن يكون في هذا الصدد لابد من بذل جهود كبيرة لترسيخ الوعي بقيم الاحترام المتبادل بين الشعوب والحضارات عن طريق العديد من الوسائل الفعالة ومن اهم هذه الوسائل مايأتي‏:‏
أ‏)‏ التعليم‏:‏ إن هدف التوصل إلي تفهم حقيقي واحترام متبادل بين الحضارات لايمكن بلوغه إذا اقتصرت مناهج التعليم علي مجرد التعريف بالحضارات والثقافات الأخري‏,‏ وإنما ينبغي أن تشتمل علي خطوة أخري متقدمة علي هذا الطريق تتمثل في غرس الوعي بالقيم الحضارية المشتركة‏,‏ ومن أهمها بطبيعة الحال قيمة احترام الآخر واحترام حضارته وثقافته مهما اختلفنا معها‏.‏

ولعله من نافلة القول ان نؤكد أن احترام الحضارات الأخري لايعني القبول المطلق بها أو مجرد عدم الرفض الحيادي لها‏..‏ وإنما يعني تفهم مواقفها واتجاهاتها والظروف المحيطة بها‏..‏ فهذه الحضارات هي في النهاية جهد بشري بذله أصحابه من أجل ترقية الحياة‏,‏ كل بطريقته الخاصة وبوسائله المتاحة‏,‏ وهو أيضا حلقة في سلسلة جهود أخري علي مدي التاريخ ومن هنا فإن البشرية تدين لمن بذلوا هذه الجهود بالفضل‏,‏ فقد اسهموا بشكل أو بآخر في تطوير الحياة وتقدمها وازدهارها علي جميع المستويات‏.‏


واحترام الحضارات الأخري هو تقدير لكل هذه الجهود التي بذلت‏,‏ وللعقول التي خططت‏,‏ وللسواعد التي قامت بالبناء والتشييد من أجل خير الإنسان‏.‏

وهذه أمور ينبغي أن تعمل كل الأطراف علي غرسها في عقول الناشئ في مراحل التعليم المختلفة لأنها سوف تساعد علي إيجاد المناخ الملائم لإجراء حوار حضاري مثمر‏,‏ فأي حوار في حاجة إلي مناخ صحي ليكون مفيدا ومثمرا‏.‏
ب‏)‏ الإعلام‏:‏ وبجانب التعليم يأتي الإعلام في مقدمة الوسائل المهمة لغرس قيم الاحترام المتبادل بين الحضارات في نفوس الأفراد والجماعات‏..‏ ونعني هنا الإعلام المسموع والمقروء والمرئي‏,‏ وما استجد من تطورات في وسائل الاتصالات والمعلومات‏..‏ فإذا كانت مناهج التعليم يقتصر أثرها علي حدود الدولة التي تطبقها فإن الوسائل الإعلامية الحديثة قد ألغت الزمان والمكان وأصبحت تصل بما تحمله من معلومات إلي كل مكان في العالم‏,‏ وفي اللحظة ذاتها التي يحدث فيها الحدث‏,‏ ومن هنا فإن لهذه الوسائل تأثيرا بالغ الأهمية وعميق الأثر علي قطاع عريضة من الشعوب في جميع أنحاء العالم‏.‏

ج‏)‏ المؤسسات الدولية‏:‏ لاشك في أن المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة بمنظماتها المختلفة وأهمها منظـمة اليونسكو تستطيع أن تقوم بدور فعال علي مستوي العالم من أجل التوعية بالدور الذي قامت به الحضارات علي مدي التاريخ‏,‏ وما أسهمت به من تطوير للحياة والارتقاء بها‏,‏ الأمر الذي يجعل هذه الحضارات جديرة بالاحترام والتقدير‏,‏ ويجعل هذا الاحترام متبادلا ومتكافئا بين الحضارات والثقافات‏,‏ ويعمل في الوقت نفسه علي نشر ثقافة السلام في العالم التي أصبحت اليوم ضرورة لا غني عنها إذا أريد لعالمنا أن ينعم بالسلام والاستقرار من أجل خير البشرية‏.‏
وقد كانت الأمم المتحدة واعية بمسئوليتها حين جعلت من عام‏2001‏ عاما للحوار بين الحضارات‏,‏ ولكن الأمر في حاجة ماسة إلي القيام بحملة دولية للتوعية بدور الحضارات في تاريخ البشرية وإشاعة الاحترام المتبادل فيما بينها‏,‏ والعمل المشترك من أجل صنع السلام في العالم‏,‏ هذا السلام الذي ــ كان ولايزال وسيظل ــ هدف البشرية من أجل خير الإنسان وسعادته‏.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك