الحوار... لماذا أصبح أزمة؟!

اعتبره الإسلام الأسلوب الأمثل للدعوة إلى الله وأرسى له قواعد وحدد له آداباً وقيماً ومنهجاً أخلاقياً
عبدالله متولي
 

الاختلاف بين الناس، فطرة انسانية، وحقيقة طبيعية اقرها الاسلام بقوله تعالى في كتابه العزيز «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...» (الحجرات 13).



فقد خلق الله الناس مختلفين اجتماعياً وثقافياً ولغويا، على الرغم من انهم في الأساس امة واحدة، قال تعالى: «كان الناس امة واحدة فاختلفوا» (يونس 19)، وهذا يعني ان الاختلاف بين الناس لا يلغي الوحدة الانسانية... وهذا مفهوم غاية في الأهمية لابد ان يكون راسخاً في اذهان الجميع خصوصاً عند الدخول في القضايا الجدلية او فتح ابواب الحوار حول قضية من القضايا المختلفة عليها لان القاعدة الاسلامية كما حددها الرسول صلى الله عليه وسلم انه: «لا فضل لعربي على عجمي ولا اسود على ابيض الا بالتقوى».



ومن ثم فان احترام الآخر كما هو (لوناً ولساناً) يشكل قاعدة من قواعد السلوك الديني في الاسلام.



وفي ثقافتنا الاسلامية «ان رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، وعليه فان الحوار الجاد يتطلب احترام الآخر، واحترام حقه في الدفاع عن رأيه او موقفه، وتحمل مسؤوليته فيما هو مقتنع به.



لقد ارسى الاسلام قواعد للحوار وجعله الأسلوب الامثل في الدعوة الى الله، قال تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن» (النحل 125)، وقال تعالى: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن» (العنكبوت:46).



وقال تعالى: «فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر او يخشى (طه 44) والامثلة في القرآن الكريم على ذلك كثيرة وتفوق الحصر والعد، وفي السيرة النبوية العطرة تطبيق رائع لقواعد الحوار، وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاور المشركين لاقناعهم برسالته ونبوته، وكذا فعل مع الوفود التي كانت تفد اليه، وكيف كان يحاور اصحابه، معلماً ومرشداً وهادياً.



وكما اسس الاسلام قواعد للحوار يرتكز عليها، فقد حدد له اداباً وقيما ومنهجاً اخلاقياً يحترم الانسان وحريته في الاختيار كما يحترم حقه في الاختلاف والمجادلة...



يتضح من ذلك ان الحوار نعمة عظيمة انعم الله بها على الناس يستطيعون من خلالها التفاهم والتقارب والوصول الى حدود مشتركة من وجهات النظر التي تكون دافعاً للبناء لا الهدم... كما ان الحوار من الوسائل المهمة لتحصيل المعارف واكتساب الثقافات والعلوم... كما انه من الأهمية يمكننا من الوصول الى حلول للمشكلات التي قد تمثل عوائق في الحياة... اذ ان الناس تستطيع ان تزيل بالحوار الحواجز بينهم، وتحقق الالفة والود وتقرب وجهات النظر... وللحوار غاية عظيمة تتمثل في اقامة الحجة ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي والوصول الى الحق.



هذا اذا ما سلك المتحاورون الطرق العلمية في الحوار، وسلم كلام كل منهم وادلته من التناقض، وتجردوا من الاهواء الشخصية وقصدوا الحق وابتعدوا عن التعصب، والتزموا بآداب الحوار، ورضوا جميعاً وقبلوا بنتائج الحوار، والتزموا القول الحسن وتجنبوا منهج التحدي، والتزم كل طرف بموقف محدد في الكلام، وخلصت نواياهم..



لكن اذا ما اعجب المرء بنفسه، وتمسك برأيه، وظن ان ما يأتي به جديد على الناس، واستهان بآراء الآخرين، واصر على موقفه، فهو بذلك ليس اهلاً للحوار وقد يترتب على ذلك آثار سلبية كثيرة وكبيرة، تصل أحياناً الى قطع العلاقات، والخصام والشقاق واحداث نوع من الفتن بين الناس...



وكل هذه الامور قد تحدث نتيجة اختلاف في الآراء وحوار دار بين اطراف غير مؤهلين لذلك وعلى غير دراية بقواعد واصول وآداب الحوار.



وهذا ما نهى الاسلام عنه وحذر منه لانه مدعاة للفرقة والتشرذم وانتشار البغضاء والاحقاد بين الناس وتوسيع هوة الخلاف بين الناس في الوقت الذي امرنا فيه الاسلام بالابتعاد عن كل اسباب الخلاف وتنمية اسباب الألفة والمحبة والوحدة، وتوطيد اواصرها وتوثيق عراها.



لقد اصبح الحوار في الآونة الاخيرة يشكل ازمة كبيرة نظراً لعدم قبول البعض بالآخر...



ما ادى الى كثير من الاختلافات التي اخذت اشكالاً كثيرة كلها سلبية... منها رفع الصوت بشكل غير لائق... كثرة السباب والشتائم... توجيه الاتهامات بالعمالة والانحياز والتبعية... تقسيم الناس الى فرق متناحرة...



فما الذي جعلنا نصل الى هذا الحد من العصبية وعدم القبول للآخر... والى متى ستستمر هذه الحالة، ومتى نفق من غفلتنا ونعود الى رشدنا... والى منهجنا الرباني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه...؟







الحوار ظاهرة انسانية عالمية، وهي سنة إلهية نظراً لتفاوت البشر في عقولهم وأفهامهم وأمزجتهم، قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين * اِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ...) سورة هود: الآيات (118، 119).



ونتيجة لهذا الاختلاف في الرأي جاء الحوار وسيلة للوصول الى الحق والصواب، وقد ضرب الله لنا المثل برجلين تحاورا، حيث كان لأحدهما جنتان مثمرتان وفيهما نهر، واغتر بذلك فحاور صاحبه المتواضع فأخبرنا الله عن حوارهما، فقال تعالى: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) سورة الكهف: من الآية (24)، فكان جواب صاحبه: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) سورة الكهف: الآية (37).



وقد جاءت خولة بنت ثعلبة تشتكي زوجها الى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهي تقول: يا رسول الله أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى اذا كبرت سني، وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم اني أشكو اليك، فما برحت حتى نزل جبريل بقوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي اِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا اِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) سورة المجادلة: الآية (1). 



فالحوار اذاً له أصل ثابت في منهاج الله قرآناً وسنة، وهو ينطلق من تأثيرات وأحاسيس تجيش في النفس لاظهار مبدأ، أو تصحيح خطأ، أو نصرة حق أو غير ذلك ما جبلت عليه النفوس البشرية، والمحاورة والمناظرة والجدل ألفاظ قريبة من بعضها.



والحوار من أهم وسائل التفاهم بين الناس، وهو من أهم وسائل المعرفة والاقناع مهما كانت الثقافات والتوجهات، وكذلك من أهم وسائل الدعوة الى الله، قال تعالى (ادْعُ اِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) سورة النحل: من الآية (125).



الحوار العقلاني... والحياة



ان من أعظم النعم التي خص الله تعالى بها الانسان وميزة على الحيوان هي قدرته على تعلم اللغة فاللغة هي أداة الانسان الرئيسية في التفكير واكتساب المعرفة وتحصيل العلوم فاللغة باعتبارها رموزا للمفاهيم، قد مكنت الانسان من تناول جميع المفاهيم في تفكيره بطريقة رمزية... ما ساعده على ان يحقق ما حققه من تقدم هائل في اكتساب المعرفة وتحصيل العلوم والصناعات المختلفة.



ومن فضل الله تعالى على الانسان ان زوده باستعداد فطري للتعلم واكتساب المعرفة والعلوم والمهارات والصناعات بالاضافة الى نعمة الادراك الحسي والتفكير ما يزيد من قدرته على تحمل مسؤولية الحياة على الأرض وعمارتها، وما يمكنه من تنمية قدراته مما يكفل له بلوغ ما شاء الله تعالى له من الكمال الانساني.



ويكتسب الانسان العلم أو المعرفة من مصدرين رئيسيين:-



- مصدر الهي: وهو العلم الذي يأتينا من الله سبحانه وتعالى مباشرة عن طريق الوحي أو الالهام أو الرؤيا الصادقة.



- مصدر بشري: وهو ذلك النوع من العلم الذي يتعلمه الانسان من خبراته الشخصية في الحياة ومن مجهوده الخاص في الاستطلاع والملاحظة ومحاولة حل ما يجابهه من مشكلات عن طريق المحاولة والخطأ أو عن طريق التربية والتعلم من والديه ومن المؤسسات التعليمية أو عن طريق البحث العلمي.



وهذان النوعان من العلم متكاملان... ويرجعان أساسا الى الله سبحانه وتعالى الذي خلق الانسان وأمده بأجهزة وأدوات للادراك واكتساب العلم.



ولما كانت للغة - وهي الأداة الرئيسية في التفكير واكتساب المعرفة - هذا القدر العظيم من الأهمية في حياة الانسان، وفي تمكينه من التقدم المستمر في تعلمه وتفكيره، فقد كان أول شيء علمه الله تعالى لآدم عليه السلام هو أسماء جميع الأشياء.



« وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يأدم انبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم اقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون» (البقرة 31-22) 



ومن ذلك نفهم من قوله تعالى «وعلم آدم الأسماء كلها» انه علمه اللغة التي يسمى بها الأشياء كلها... أي علمه الأسماء التي ترمز الى مفاهيم.



ويتعلم الانسان في الحياة بطرق مختلفة.. فقد يتعلم من طريق التقليد، فالطفل عادة يقلد والديه ويتعلم منهما كثيرا من العادات وانماط السلوك... ويتعلم الانسان أيضا عن طريق التجربة العملية أو المحاولة والخطأ،كثيرا من الحلول المفيدة لمشكلات حياته وما ينفعه في أمور معاشه وقد يتعلم الانسان أيضا عن طريق التفكير والاستدلال العقلي.



وبدون الحوار والتفاهم يحدث نوع من انواع الانعزال ما يخلق حالة من القلق والشك والريبة،تنتهي بالبغضاء والكراهية التي تؤدي الى الكثير من الأمراض النفسية.



والغاية من الحوار كما يقول الدكتور حسن خليل الباحث الشرعي بمشيخة الأزهر:هو اقامة الحجة، ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي.



وهذا يعني انه تعاون بين المتناظرين على معرفة الحقيقة والتوصل اليها؛ ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول الى الحق. هذه هي الغاية الأصلية، وهي جلية بيِّنة كما تلاحظون، وثمت غايات وأهداف فرعية، أو ممهدة لهذه الغاية منها:



1/ ايجاد حل وسط يرضي الأطراف.



2/ التعرف على وجهات نظر الطرف الآخر، أو الأطراف الأخرى.



3/ التنقيب والبحث من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرؤى والتصورات المتاحة من أجل الوصول الى نتائج أفضل وأمكن.



أصول الحوار



أما أصول الحوار فتتمثل في الآتي:



الأصل الأول: سلوك الطرق العلمية والتزامها



عندما يدخل المتحاوران في الحوار فانهما يلتزمان بالطرق العلمية، من هذه الطرق مثلاً: تقديم الأدلة المثبتة، بمعنى: ان كل طرف يُقدِّم أدلته المثبتة أو المرجحة للدعوى، أما ان يكون كلاماً في هواء، وكلاماً هباءً، فهذا معلوم انه بعيد عن الحوار، فمن أصول الحوار ان تأتي بأمر واضح بيِّن في نفسك اما بجلاء عباراته، أو بجلاء دليله.



ثانياً: صحة النقل في الأمور المنقولة لا بد منها، وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة: ان كنت ناقلاً فالصحة، وان كنت مُدَّعياً فالدليل.



هذه قضية لا يجوز ان يدخل المتحاوران الا وقد تسلحا بها، لان المادة التي معهما أو يريدان ان يطرحاها في ما بينهما لا بد ان تكون مُدعمة بدليل ان كانت قضايا عقلية، واذا كانت أخباراً لا بد ان تكون مثبتة، وفي التنزيل جاء قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:111) وقد جاء ذلك في أكثر من آية، وجاء قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} (الانبياء:24) وجاء في آية أخرى في بني اسرائيل: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا اِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران:93) هذا هو الأصل الأول. الأصل الثاني: سلامة كلام المناظر ودليله من التناقض



لا بد في المتناظرين ان يكون كلامهما وأدلتهما سالمةً من التناقض، فالمتناقض ساقطٌ بداهةً، ومن أمثلة ذلك: وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله: {وَفِي مُوسَى اِذْ أَرْسَلْنَاهُ اِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذاريات:38-39) وهو وصف قاله الكفار لكثير من الانبياء بما فيه كفار الجاهلية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فوصفوه بالوصفين: ساحر ومجنون، وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان؛ لان الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء، أما المجنون فلا عقل معه البتة، وهذا منه تهافتٌ ظاهر، وتناقض بيِّن، ومثله أيضاً في ما ذكر بعض المفسرين، وقد تكون مسألة تحتاج الى نظر، لكني سآتي بها للتمثيل فقط، نعت كفار قريش لآيات محمد صلى الله عليه وسلم بانها سحر مستمر في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَاِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (القمر:1-2).



قال بعض المفسرين: وهو تناقض، فالسحر لا يكون مستمراً، والمستمر لا يكون سحراً. الأصل الثالث: ألا يكون الدليل هو عين الدعوى



لانه اذا كان كذلك لم يكن دليلاً، ولكنه اعادة للدعوة بألفاظ وصيغ أخرى، وعند بعض المحاورين من البراعة في تزيين الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بانه يُورد دليلاً، وواقع الحال انه اعادة للدعوى بلفظ مغاير، وهذا تحايل في أصول الحوار باطل، بل هو حيدةٌ عن طلب الحق وسبيلٌ لاطالة النقاش من غير فائدة.



الأول مثلاً: لو ان أحداً عنده ولدان سعد وسعيد، فأعطى سعداً ولم يُعطِ سعيداً، فقيل له: لماذا أعطيت سعداً؟ قال: لانه ولدي، وهذا تعليل ساقط؛ لانه سيقال له: وسعيد أيضاً ولدك، فمثل هذا التعليل غير مقبول.



الأصل الرابع: الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مسلمة



وهذا الأصل مهم جداً، وهو الذي أشرت اليه في مقدمة الحديث: وهو الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة، أو بعبارة أصح: لا يجوز الخوض في المسلمات، نقول: هذه المسلمات والثوابت قد يكون مرجعها العقل، أي: انها عقلية بحتة لا تقبل البحث عند العقلاء متجلية، مثلاً: حسن الصدق، ان يكون الصدق حسناً «متفقٌ عليه»، قبح الكذب، شكر المحسن، معاقبة المذنب، هذه قضايا لا يختلف عليها أحد.



الأصل الخامس: التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب والالتزام بأدب الحوار



ان اتباع الحق والسعي للوصول اليه، والحرص على الالتزام به هو الذي يقود الحوار الى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، ويحول دون الانسياق وراء الهوى سواء كان هوى النفس، أو هوى الجمهور، أو هوى الأتباع، والعاقل -فضلاً عن المسلم الصادق- طالب حق، باحث عن الحقيقة ينشد الصواب، ويتجنب الخطأ، يقول أبو حامد الغزالي: التعاون على طلب الحق من الدين، ولكن له شروط وعلامات:



منها: ان يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين ان تظهر الضالة على يده، أو على يد معاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره اذا عرفه الخطأ وأظهره له.



ومن مقولات الامام الشافعي رحمه الله المحفوظة: ما كلَّمتُ أحداً قط الا أحببت ان يُوفق ويُسدد ويُعان وتكون عليه رعاية الله وحفظه، وما ناظرني فباليت أظهرت الحجة على لساني أو على لسانه.



الأصل السادس: أهلية المحاور



اذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه، فمن الحق ألا يُعطى هذا الحق لمن لا يستحق، كما ان من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً، ولا يدخل في ما ليس هو فيه كفواً.



من الخطأ ان يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل، وهذا ما يفعله كثيرٌ من المستشرقين، يظنون انفسهم انهم مدافعون عن الاسلام، ومن هنا جاءت الزلات من المستغربين حينما تبعوا آثار المستشرقين.



الأصل الثامن: الرضا والقبول بالنتائج الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل اليها المتحاورون، والالتزام الجاد بها وبما يترتب عليها، فهذا الأصل لا بد ان يكون متفقاً عليه بينهما وهو الرضا والقبول بالنتائج، واذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء.



آداب الحوار



ينتقل الدكتور حسن خليل الى الحديث عن آداب الحوار فيقول: هذه آداب الحوار وهي ليست أصولاً تقدم بمعنى قواعد، لكنها آداب اذا لم يتسلح بها المتحاورون، فغالباً يطول نقاشهم، وتسوء صدورهم، وتضيق قلوبهم.



الأول: التزام القول الحسن وتجنب منهج التحدي والاقحام



ان من أهم ما يتوجه اليه المحاور في حواره هو التزام الحسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (الاسراء:53)، وقوله سبحانه وتعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125)، وقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (البقرة:83).



فحق العاقل اللبيب الطالب للحق ان ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والتهزئة والسخرية وألوان الاحتقار والاثارة والاستفزاز.



ومن لطائف التوجيهات الالهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: الانصراف عن التعنيف في الرد على أهل الباطل حيث قال الله لنبيه: {وَاِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الحج:68-69) 



الثاني: توضيح عبارات المحاور



من غاية الأدب واللباقة بالقول، وعبارة الحوار: ألاَّ يفترض في صاحبه الذكاء المفرط، فيكلمه بعبارات مختزلة، أو اشارات بعيدة، ومِنْ ثمَّ فلا يفهم، كما لا يظن فيه الغباء والسذاجة، أو الجهل المطبق، فيبالغ في شرح ما لا يحتاج الى شرح، وتبسيط ما لا يحتاج الى تبسيط، ولا شك ان الناس بين ذلك درجات في عقولهم وفهمهم، فهذا عقله متسعٌ بنفسٍ رحبة، وهذا ضيِّق العقل، وآخر يميل الى الأحوط في جانب التضييق، وآخر يميل الى التوسع، وهذه العقليات والمدارك تُؤثر في فهم ما يُقال، فذو العقل اللماح يستوعب ويفهم حرفية النص وفحواه ومراد المتكلم وما بين السطور، وآخر دون ذلك بمسافات، ولقد قال أبو جعفر المنصور للامام مالك لما أراد تصنيف الموطأ: تجنب شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.



الثالث: الالتزام بموقف محدد في الكلام



ومن الآداب: الالتزام بموقف محدد في الكلام فينبغي ان يستقر في ذهن المحاور ألا يستأثر بالكلام، ويستطيل في الحديث، ويسترسل بما يخرج عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع ومن المفيد ان تعلم ان أغلب أسباب الاطالة في الكلام، ومقاطعة أحاديث الرجال يرجع الى ما يلي:



أولاً: اعجاب المرء بنفسه.



الثاني: حب الشهرة والثناء.



الثالث: ظن المتحدث ان ما يأتي به جديدٌ على الناس.



رابعاً: قلة اللامبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم.



والذي يبدو ان واحداً من هذه الأربعة اذا استقر في نفوس السامعين، كافٍ في صرفهم وصدودهم ومللهم واستثقالهم لمحدثيهم.



الرابع: الاخلاص



هذه الخصلة من الأدب متممة لما ذُكِرَ، من أصل التجرد في طلب الحق الى آخره، ومن أجلى المظاهر في ذلك ان يُدافع المناظر والمتحاور عن نفسه حب الظهور، والتميز على الأقران، واظهار البراعة، وعمق الثقافة والتعالي عن النظراء والانداد.



ان قصد انتزاع الاعجاب والثناء واستجلاب المديح مفسدٌ للأمر، صارف عن الغاية.



المنهج القرآني في الحوار 



بنى القرآن الكريم نهجه في الحوار على مجموعة من القواعد التي تضمن سلامة الحوار وتحقيقه لأهدافه والغايات المرجوة منه، وتتمثل هذه القواعد كما ذكرها أهل العلم في ما يلي:



1 - امتلاك الحرية الفكرية: 



لابد لكي يبدأ الحوار ان يمتلك أطرافه حرية الحركة الفكرية التي يرافقها ثقة الفرد بشخصيته الفكرية المستقلة، فلا ينسحق أمام الآخر لما يحس فيه من العظمة والقوة التي يمتلكها الآخر، فتتضاءل ازاء ذاك ثقته بنفسه وبالتالي بفكره وقابليته لان يكون طرفاً للحوار فيتجّمد ويتحول الى صدى للأفكار التي يتلقاها من الآخر.



لذلك أمر الله رسوله ان يحقق ذلك ويوفره لمحاوريه: (قُلْ اِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى اِلَيَّ) «(الكهف:110)، «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا الاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ اِنْ أَنَا الا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (الأعراف:188).



2 - مناقشة منهج التفكير: 



فاذا امتلك أطراف الحوار الحرية الكاملة فأول ما يُناقش فيه هو المنهج الفكري - قبل المناقشة في طبيعة الفكر وتفاصيلها - في محاولة لتعريفهم بالحقيقة التي غفلوا عنها ؛ وهي ان القضايا الفكرية لا ترتبط بالقضايا الشخصية، فلكل مجاله ولكل أصوله التي ينطلق منها ويمتد اليها: «وَاِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَ نَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ولا يَهْتَدُونَ» (البقرة:170) ) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ الاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا اِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَ نَا عَلَى أُمَّةٍ وَاِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قُلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءكم قَالُوا اِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ» (الزخرف:23-24).



3 - الابتعاد عن الأجواء الانفعالية: 



من عوامل نجاح الحوار ان يتم في الأجواء الهادئة ؛ ليبتعد التفكير فيها عن الأجواء الانفعالية التي تبتعد بالانسان عن الوقوف مع نفسه وقفة تأمل وتفكير، فانَّه قد يخضع للجو الاجتماعي، ويستسلم لا شعورياً مما يفقده استقلاله الفكري: «قُلْ اِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ اِنْ هُوَ اِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» (سبأ:46)، فاعتبر القرآن اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون خاضعاً للجو الانفعالي العدائي لخصومه ؛ لذلك دعاهم الى الانفصال عن هذا الجو والتفكير بانفراد وهدوء.



4 - التسليم بامكانية صواب الخصم: 



ولا بد لانطلاق الحوار من التسليم الجدلي بانَّ الخصم قد يكون على حق، فبعد مناقشة طويلة في الأدلة على وحدانية الله تأتي هذه الآية من سورة سبأ: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ والأرض قُلْ اللَّهُ وَاِنَّا أَوْ اِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، (سبأ: 24)، فطرفا الحوار سواء في الهداية أو الضلال، ثم يضيف على الفور في تنازل كبير بغية حمل الطرف الآخر على القبول بالحوار: « قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا ولا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ». (سبأ: 25)، فيجعل اختياره هو بمرتبة الاجرام على الرغم من انه هو الصواب، ولا يصف اختيار الخصم بغير مجرد العمل، ليقرر في النهاية ان الحكم النهائي لله: «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ(26)» (سبأ: 26).



5 - التعهد والالتزام باتباع الحق: 



لا بد من التعهد والالتزام باتباع الحق ان ظهر على يديه، حتى ولو كان التعهد باتباع ما هو باطل أو خرافة اذا افتُرِض انه ثبت وتبين انه حق: «قُلْ إنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ» (الزخرف:81).



6 - الانضباط بالقواعد المنطقية في مناقشة موضع الاختلاف: 



فاذا تم الالتزام بهذه الأسس فانَّ الحوار ينطلق معتمداً على قواعد العقل والمنطق والعلم والحجة والبرهان، والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن: فما أكثر ما يرد في القرآن: «هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ» (البقرة:111، الانبياء:24، النمل:64، القصص:75)، وقال تعالى مرشداً الى اعتماد العلم والحجة في الحوار: «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ» (الحج:8، لقمان:20)، «هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ «، (آل عمران:66)، «إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ الاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ» (غافر:56)، «أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ، فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (الصافات:156-157).



7 - ختم الحوار بهدوء مهما كانت النتائج: 



اذا سار الحوار جادَّاً وفق هذا المنهج من قبل جميع الأطراف ؛ فلا بد ان يصلوا جميعاً الى ما التزموا به في بداية الحوار من الرجوع الى الحق وتأييد الصواب، فاذا رفض المحاور الحجج العقلية كان لم يقتنع بها ؛ فانه بذلك يمارس حقاً أصيلاً كَفِلَه له رب العزة، وسيكون مسؤولاً عن ذلك أمام الله تعالى.



وفي هذه الحالة ينتهي الحوار بهدوء كما بدأ دون حاجة الى التوتر والانفعال: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ اإجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ» (هود:35)، وَاِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُواعَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (القصص:55).



8 - التأكيد على استقلالية كل من المتحاورين ومسؤوليته عن فكره: 



قبل الانفصال بين المتحاورين يتم التأكيد على استقلالية كل ومسؤوليته عن نفسه ومصيره: «إنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ، قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ اِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»، (الانعام:134-135).



9 - الاشهاد على المبدأ وعدم تتبع الأخطاء الناتجة عن الانفعال أثناء الحوار: 



وفي آخر الحوار يتم اشهادهم على المبدأ والتمسك به: «فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (آل عمران:64).



ولا حاجة في ان يُتَابَعَ الخصم على ما بدر منه من اساءات في الحوار، وليكن العفو والصبر أساساً وخلقاً في التعامل مع الجاهلين:) خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ» (الأعراف:199)، «اصبر على ما يقولون» (طه: 130، ص:17)، «فاصبر على ما يقولون» (ق:39)، «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ اِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ «(السجدة:30)، «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ الاّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا» (النجم:29)، «وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً» (المزمل:10). هكذا يرشد المنهج القرآني في الحوار الى انهائه بمهمة وأداء رسالة يبقى أثرها في الضمير ان لم يظهر أثرها في الفكر، انه أسلوب لا يسيء الى الخصم بل يؤكد حريته واستقلاليته، ويقوده الى موقع المسؤولية ليتحرك الجميع في اطارها وينطلقوا منها ومعها في أكثر من مجال.



الحوار مع المشركين نموذجاً: 



وصف القرآن حالة المشركين النفسية تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان موقفهم انفعالياً فجعلوا يردون بالتهم والتعجب ؛ ليريحوا انفسهم من عناء التفكير بالاتكاء على تقليد الآباء: «وَعَجِبُوا أَنْ جَاء هُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الآلهة اِلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، وَانطَلَقَ الملأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ اِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخرة إنْ هَذَا إلا اختلاق» (ص:4-7).



فقابلهم الرسول بكل هدوء، وطلب منهم ابداء الدليل على ما هم عليه من شرك: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (الأحقاف:4)، «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ الظَّنَّ وَإنْ أَنْتُمْ اِلَّا تَخْرُصُونَ» (الانعام:148).



ولما عجز المشركون عن اقامة الدليل، اذ مستندهم التقليد واتباع الظن أقام الدليل عليهم: «أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ، (الانبياء:21-24).



ولما لم يُجدِ الدليل العلمي العقلي على بطلان مُدَّعَاهم، أتاهم بأدلة حسية مادية من الواقع تثبت بطلان ألوهية الأصنام: «أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ، وَإنْ تَدْعُوهُمْ اِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ، اِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ اِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ، أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِي، (الأعراف:191-195).

الحوار منهجاً نبوياً

لقد اهتم النبي (صلى الله عليه وسلم) بأسلوب الحوار، وجعل منه منهجاً في خطاباته للناس ودعوته لهم، لما له من أثر وتأثير بالغين في نفوس المدعوين وعقولهم، ولما له من تحفيز على الطاعات وترك للمعاصي، ولما فيه من تلقين توجيه تربوي لكل الدعاة والمربين إلى يوم القيامة.



ومن أبرز حواراته صلى الله عليه وسلم تلك التي كانت بينه وبين قومه المشركين ما يروي ابن هشام عن ابن إسحاق أن عتبة بن ربيعة كان في نادي قريش فقال: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ فقالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه، فجاء عتبة حتى جلس إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة والمكانة في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمرٍ عظيم فرّقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد، أسمع.



قال: يابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم... قال: فاسمع منى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ...) سورة فصلت: الآيات (1 2 3 4).



ومضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في القراءة وعتبة يسمع حتى وصل إلى قوله تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود) سورة فصلت: الآية (13).، فأمسك عتبة بفيه وناشده الرحم أن يكف عن القراءة، وذلك خوفاً مما تضمنته الآية من تهديد.



ثمّ عاد عتبة إلى أصحابه، فلما جلس بينهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم.



قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.



ثمّ إن أشراف قريش عادوا فكرروا المحاولة التي قام بها عتبة بن ربيعة، فذهبوا إليه مجتمعين، وعرضوا عليه الزعامة والمال، وعرضوا عليه الطب إن كان الذي يأتيه رئيّاً من الجان.



فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه إليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.



وإنّ الحوار الذي وقع في صلح الحديبية بين النبي (صلى الله عليه وسلم) ورجالات من قريش يمثلون وفوداً للتفاوض مع النبي (صلى الله عليه وسلم) وكان على رأسهم بديل بن ورقاء الخزاعي، ومنهم عروة بن مسعود، ومنهم سهيل بن عَمْرٍ الذي كتب الصلح مع النبي (صلى الله عليه وسلم)، كل ذلك قد مثّل فتحاً مبيناً للإسلام والمسلمين.

الحوار الجاد يتطلب احترام الآخر وحقه في الدفاع عن رأيه وتحمل مسؤوليته في ما هو مقتنع به

مكانة الكلمة في الإسلام


لقد اعتنت الشريعة الإسلامية بآداب الكلام والحديث، فأمرت بحفظ اللسان ولزوم الصمت ولين الكلام، ولخطورة اللسان فقد ركزت الشريعة على آداب الكلام والمحادثة، وألف العلماء المصنفات المستقلة في هذا الباب، وبينوا آداب الحديث والمناقشات والمناظرات العلمية؛ فالإسلام يريد أن يميز المسلم بعقيدته وعبادته وأخلاقه وآدابه ومظهره.



بين الإسلام خطورة الكلمة، قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) (سورة الانفطار: الآيات 10-12). 



وعن بلال بن الحارث المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه).



وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالا يرفعه الله بها في الجنة).



وقد يتكلم المرء كلمةً توبق دنياه وآخرته، وقد يقول كلمةً يرفعه الله بها درجات ودرجات. ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، فيزل بها في النار أبعد ما بين المشرق)، وفي رواية: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة يُضحكُ بها جُلساءَهُ يهوي بها من أبعد من الثُّريا).



حفظ اللسان



ولما كانت الكلمة بهذه الأهمية لما لها من خطورة كان ما ينبغي على المسلم أن يعتني بلسانه غاية الاعتناء، فيجتنب القول الباطل، وقول الزور، والغيبة، والنميمة، والفاحش من القول، وجماع ذلك أن يصون لسانه عما حرم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم. وفي سؤال معاذ بن جبل رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عن العمل الذي يُدخل الجنة ويباعد من النار، ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام، وبعض أبواب الخير، ثم قال له: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟» قلت: بلى يا نبي الله. فأخذ بلسانه، قال: (كف عليك هذا). فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: (ثكلتك أمك يا معاذ وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجوههم - أو مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم).



بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد ضمن الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة لمن صان لسانه وفرجه، فقال: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).



شروط الكلام النافع



قد ذكر الماوردي رحمه الله شروط الكلام النافع في أربع نقاط، هي: 



1 - أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما في اجتلاب نفع، أو دفع ضر. 



2 - أن يأتي به في موضعه ويتوخى به إصابة فرصته. 



3 - أن يقتصر منه على قدر حاجته. 



4 - أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به.



آداب الكلام والحديث



أولا: المخاطبة على قدر الفهم: 



وهذا من مهمات الآداب، خصوصًا للعلماء والوعاظ، فينبغي أن يكون الكلام متناسبًا مع ثقافة السامعين. ففي صحيح البخاري رحمه الله عن علي رضي الله عنه موقوفًا: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!». وفي مقدمة صحيح مسلم رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».



ثانيا: قل خيرًا أو اصمت:



وهذا أدب نبويٌ قولي للذين يهمون بالكلام أن يتريثوا ويتفكروا بكلامهم الذي يريدون أن يتكلموا به، فإن كان خيرًا فنعم القول هو وليقله، وإن كان شرا فلينته عنه فهو خيرٌ له. كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت). قال ابن حجر: «وهذا من جوامع الكلم لأن القول كله إما خير وإما شر وإما آيل إلى أحدهما، فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها، فَأَذِنَ فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إلى الشر فَأَمَرَ عند إرادة الخوض فيه بالصمت».



ثالثا: الكلمة الطيبة صدقة:



دلنا الحديث السابق على أن المرء مأمورٌ بقول الخير أو الصمت، ثم رغب الشارع في قول الخير لأن فيه تذكيرًا بالله، وإصلاحًا لدينهم ودنياهم، وإصلاحًا لذات بينهم... وغير ذلك من وجوه النفع. ورتب على ذلك أجرًا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، ويعينُ الرجلَ على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة). وربَّ كلمة طيبة أبعدت قائلها من النار، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوذ منها، ثم ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوذ منها، ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة).



رابعا: فضل قلة الكلام وكراهية كثرته:



جاء الترغيب في الإقلال من الكلام في أيما حديث، وذلك لأن كثرته يكون سببًا في الوقوع في الإثم، فلا يأمن المُكثر منه من فلتات لسانه وزلاته، فمن أجل ذلك جاء الترغيب في الإقلال من الكلام، والنهي عن كثرته. روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال). وقوله: (وكره لكم قيل وقال)، فهو الخوض في أخبار الناس وحكايات ما لا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم، قاله النووي.



وكثرة الكلام مذمومة في لسان الشرع، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة، الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون).



قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من كثر كلامه كثر سقطه».



وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «لا خير في فضول الكلام».



قال الشاعر: 



يموت الفتى من عثرة بلسانه



فعثرته بالقول تودي برأسـه



وليس يموتُ المرء من عثرة الرِّجلِ



وعثرته بالرِّجل تَبْرَأ على مهل

أهمية الحوار للإنسان

الحوار هو «محادثة بين شخصين أو فريقين حول موضوع محدد لكل منهما وجهة نظر خاصة به هدفها الوصول إلى الحقيقة أو أكبر قدر ممكن من تطابق وجهات النظر، بعيدا عن الخصومة أو التعصب بطرق تعتمد على العلم والعقل، مع استعداد كلا الطرفين لقبول الحقيقة ولو ظهرت على يد الطرف الآخر».



للحوار أهميه كبيرة، فهو من وسائل الاتصال الفعالة حيث يتعاون المتحاورون على معرفة الحقيقة والتوصل إليها؛ ليكشف كل طرف منهم ما خفي على صاحبه منها، والسير بطريق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق.



والحوار مطلب إنساني، تتمثل فيه أهمية استخدام أساليب الحوار البناء لإشباع حاجة الإنسان للاندماج في جماعة والتوصل مع الآخرين، كما يعكس الحوار الواقع الحضاري والثقافي للأمم والشعوب، حيث تعلو مرتبته وقيمته.



الاختلاف بين البشر حقيقة فطرية، وقضاء إلهي أزلي مرتبط بالابتلاء والتكليف الذي تقوم عليه خلافة الإنسان في الأرض قال تعالى: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».



فالاختلاف والتعددية بين البشر قضية واقعية، وآلية تعامل الإنسان مع هذه القضية هي الحوار الذي يتم من خلاله توظيف الاختلاف وترشيده بحيث يقود أطرافه إلى فريضة التعارف، ويجّنبهم مخاطر جريمة الشقاق والتفرق.



وإنما يعالج الحوار قضية الاختلاف من خلال كشفه عن مواطن الاتفاق ومثارات الاختلاف ؛ لتكون محل النقاش والجدل بالتي هي أحسن لمعرفة ما هو أقوم للجميع؛ ولابد ليؤدي الحوار وظيفته كما يجب أيضا من أن ينضبط بمنهج يضمن عدم تحوله إلى مثار جديد للاختلاف.



وإذ أرشدنا القرآن إلى أنَّ الاختلاف حقيقة واقعية، ودعانا إلى التعامل مع هذه الحقيقة بالحوار، فما المنهج الذي رسمه القرآن والسنة لذلك؟



لقد اعتبر الإسلام الحوار قاعدته الأساسية في دعوته الناس إلى الإيمان بالله وعبادته، وكذا في كل قضايا الخلاف بينه وبين أعدائه، وكما أنه لا مقدسات في التفكير، كذلك لا مقدسات في الحوار، إذ لا يمكن أن يُغلق باب من أبواب المعرفة أمام الإنسان.



وقد أكَّدَ القرآن وكذلك السنة هذا المبدأ بطرق عديدة، فقد عرض القرآن حوار الله مع خلقه بواسطة الرسل، وكذا مع الملائكة ومع إبليس، رغم أنه يمتلك القوة ويكفيه أن يكون له الأمر وعليهم الطاعة، وكذلك مع موسى عليه السلام ومع عيسى عليه السلام في الآخرة كما أنَّ دعوات الرسل كلها كانت محكومة بالحوار مع أقوامهم، وقد أطال القرآن في عرض كثير من إحداثيات هذه الحوارات بين الرسل وأقوامهم وأيضا حوار سليمان عليه السلام مع الهدهد والذي انتهى بإسلام ملكة سبأ ودولتها أضف إلى ذلك حوار الملائكة مع بعض الأنبياء كإبراهيم عليه السلام، ولوط عليه السلام وزكريا عليه السلام ومريم والأمثلة كثيرة جدا في القرآن الكريم.



وفي السنة النبوية حوار الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين كصلح الحديبية وكحواره مع عتبة بن عامر وسائر المشركين وأيضا مع اليهود ومع المنافقين ومع الأنصار ومع الملوك والوفود ومع زوجاته وأصحابه والأمثلة في السنة كثيرة جدا.



ورغم أهمية الحوار فإن المعوقات الحقيقية له في غالبها أمر عارض وليست أمرا موجودا أصلا وليس التخلص من تلك المعوقات أمرا صعبا إذا ما أدركنا تلك المعوقات ومنها: الخوف، الخجل، المجاملة، الثرثرة، الإطناب، التكرار والإعادة، التقعر، استخدام المصطلحات غير المفهومة مثل الإنكليزية، أو الفرنسية، أو غيرها أمام محاور لا يفهم معانيها، رفع الصوت من غير موجب، الصراخ، التعصب، وإظهار النفس، وعدم الرغبة في إظهار الحق. ويقول الإمام الشافعي في هذا: ما حاورت أحداً إلا تمنيت أن يكون الحق إلى جانبه، ويمكن اختصار تلك المعوقات بأمرين أساسيين وهما:



1 - الجهل بأصول الحوار وآدابه.



2. - عدم تطبيق أصول الحوار وآدابه على الرغم من معرفتها.

محظورات في الحوار

هناك أمور قد يقع فيها اللسان فتورد صاحبها الموارد، وقد تهوي بالحوار وتعطل سيره أو تحوله إلى جدل عقيم أو تبادل سباب وشتائم، ولذلك ينبغي للمحاور أن يحذرها. ومنها:



1 - اختيار الألفاظ والمعاني التي تقود إلى الجدل، أو تستثير الفتن والمشكلات.



2 - إظهار التفاصح والتشدق في الكلام تيهًا على الآخرين واستعلاء.



3 - الغيبة: فإن المناظر لا ينفك عن حكاية كلام خصمه ومذمته، فيحكي عنه ما يدل على قصور كلامه وعجزه ونقصان فضله، وهو الغيبة.



4 - الكذب: ربما لا يقدر المناظر على محاورة خصمه، فيلجأ إلى الكذب عليه، فينسبه إلى الجهل والحماقة وقلة الفهم، تغطية لعجزه فيقع في الكذب.



5 - تزكية النفس والثناء عليها بالقوة والغلبة والتقدم على الأقران، كقوله: لست ممن يخفى عليه أمثال هذه الأمور ونحو ذلك مما يتمدح به على سبيل الادعاء.



6 - الاستئثار بالكلام دون الطرف الآخر، والإطالة الزائدة على حدها وعدم مراعاة الوقت في أثناء الكلام.



7 - اللوم المباشر عند وضوح خطأ الطرف الآخر، كقوله: «أخطأت»، «سأثبت لك أنك مخطئ جاهل» ونحو ذلك مما يجرح الطرف الآخر.



8 - رفع الصوت أكثر مما يحتاج إليه السامع، ففي ذلك رعونة وإيذاء.



9 - الهزء والسخرية، وكل ما يشعر باحتقار الطرف الآخر.



10 - استعمال الألفاظ الغريبة، والأساليب الغامضة، والعبارات المحتملة تلبيسا على الطرف الآخر، تمويها للحقيقة.

الاهتداء إلى الحق

المناقشة والحوار واستشارة أهل الرأي من العوامل التي تساعد على توضيح التفكير، مما يؤدي الى الاهتداء الى الحق، والوصول الى حلول سليمة للمشكلات التي تبحث... وقد حث القرآن على الشورى، ونوه بفضل المؤمنين الذي يتشاورن في أمورهم بغية الوصول الى الحق وتحقيق العدل في المجتمع، قال تعالى: «وشاورهم في الأمر» (ال عمران:159)

ولذلك فان المناقشة والحوار من العوامل الهامة في الفكر للوصول الى الحلول السليمة للمشكلات، كذلك فانها من العوامل المهمة في التعلم وصقل الفكر الانساني.

المصدر: http://www.alraimedia.com/Home/Details?Id=2baed719-a54d-43ff-aa10-998abf...

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك