هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم أم الحرب؟

عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
 

الحمد لله والصلاة على رسول الله .. وبعد :

فإن دين الإسلام، دين الرحمة بالناس أجمعين "هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون" [سورة الجاثية 20] ."وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [سورة الأنبياء 107]وهو دين الخير للعالمين مؤمنهم وكافرهم، لا يجحد ذلك إلا من جهل الحقيقة "ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [سورة الروم 30] أو كان من المستكبرين "وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور" [سورة لقمان 32] .أما خيرية الإسلام للمسلمين فهي كما قال الأول : 

فليس يصح في الإفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل

وأما خيريته لغير المسلمين، فلأنه حفظ حقوقهم، وصان كرامتهم وعاملهم بالحسنى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن". [ سورة العنكبوت 46 ]. ولم يتخلف هذا التعامل الراقي حتى في ساعة الانتصار، ونشوة الشعور بالعزة والغلبة .

وكانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرائه الذين يبعثهم على الجيوش والسرايا : اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً" 
(1) .

وأما خليفته الصديق رضي الله عنه فقد أوصى مبعوثه قائد جيش الشام يزيد بن أبي سفيان بقوله : إني موصيك بعشر : لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكله، ولا تحرقن نخلاً، ولا تفرقنه ولا تغلل، ولا تجبن 
(2) . وهذا السمو في التعامل في ساعة الحرب، هو ما امتثله المسلمون في عصورهم المختلفة، وبالأخص في العصور الزاهية الأولى.

وهو ما اعترف به عقلاء ومنصفوا أعدائهم، قـال "ول ديورانت" : (لقد كان أهل الذمة المسيحيون والزردشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الدولة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد نظيراً لها في البلاد في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم ... وكانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لعلمائهم وقضاتهم وقوانينهم) 
(3) .

وقال الفيلسوف المؤرخ الفرنسي"غوستاف لوبون" : (ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب) 
(4) .

وهذه المعاملة الحسنة من المسلمين لمخالفي دينهم، ليست طارئة ولا غريبة، لأنها منبعثة من أسس دين الإسلام الذي يقوم على حفظ كرامة الإنسان لكونه إنساناً، ولهذا لما جهلت هذه الحقيقة في هذه الأيام، سمعنا أصواتاً نشازاً تتعالى في الإعلام باتهام دين الإسلام وأهله بانتهاك حقوق الإنسان، ومن هنا تأتي أهمية بحث هذه المسألة [هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم الحرب أم السلم ؟!!] .

وقبل الخوض في غمار هذه المسألة الهامة، أشير إلى بعض الوقفات التي أرى أهميتها قبل البدء بالمقصود :

الوقفة الأولى :

حاجة البشرية الماسة لدين الإسلام ومُثُلِه وأخلاقه وتعاليمه وقيمه، إذ هو وحده الكفيل بحل أزمات وصراعات الحضارات، وهو القادر – دون غيره – على علاج مشكلات الأمم، ومعاناة الشعوب، ومستعصيات الزمن، لأنه دين يُعنى بالفرد والمجتمع، وبالروح والجسد، وهذا ما تفتقر إليه جميع المجتمعات التي تئن تحت وطأة الظلم والضياع، وتكتوي بلهيب فقده كل الأمم التي لا تعرف إلا الشقاء والضنك في الحياة، بل لقد أصبح الإسلام ضرورة من ضروريات الحياة الهانئة السعيدة، وهذا ما صرح به بعض الأوربيين الذين درسوا الإسلام أو قرأوا عنه، يقول المستشرق الفرنسي "غستاف دوكا" 
(5) : (للدين الإسلامي أثر كبير في تهذيب الأمم وتربية مشاعرها ووجدانها، وترقية عواطفها، فإذا قرأت تاريخ العرب قبل البعثة، وعلمت ما كانت عليه، اعتقدت أن للشريعة السمحة في تهذيب الأخلاق التأثير الأكبر، إذ ما كاد يتصل بالأمة العربية ذلك الإصلاح الروحي المدني، حتى انتشر العدل وزال النفاق والرياء والعدوان) (6) .

الوقفة الثانية :

عالمية الإسلام، وأنه دعوة إسلامية لكل الإنسانية، هو دين الله إلى الناس كافة، ورسالته عالمية بكل ما تحمله معاني العالمية ،” قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً” [سورة الأعراف 158]. ورسول هذا الدين العالمي بعث إلى كافة البشر" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [سورة سبأ 28 ]، وإنما كانت دعوة هذا الدين عالمية، لأنه جاء لتحرير البشرية كلها من الانحرافات والضلالات والعبوديات لغير الله، ولم يكن الإسلام يوماً من الأيام خاصاً بقبيلة أو جنس أو طائفة، وإنما هو دين الله إلى الناس كافة. ولأنه دين مشتمل على منهج حياة متكامل في جميع مناحي الحياة، لم يكن هذا المنهج ناتجاً عن ردة فعل لسوء أوضاع بيئة معينة، كما هو شأن المناهج البشرية الوضعية، وإنما هو منهج عام شامل كامل، أراده الله ليكون للبشرية جمعاء في كافة ديارها وشتى أقطارها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (وعلى كل أحد أن يصدق محمداً صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ويطيعه فيما أمر تصديقاً عاماً وطاعة عامة، وقد بعث الله رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بأفضل المناهج والشرائع، وأنزل عليه أفضل الكتب، وأرسله إلى خير أمة أخرجت للناس، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وحرم الجنة إلا على من آمن به وبما جاء به، ولم يكن يقبل من أحد إلا الإسلام) 
(7) .

الوقفة الثالثة :

تتجلى عظمة الإسلام وشموليته وعالميته في جوانب كثيرة من التشريعات، منها جانب تنظيم العلاقات، سواء في علاقة المسلمين بربهم، أو علاقة بعضهم ببعض، أو علاقتهم بالآخرين ممن لم يعتنقوا دينهم على أي وجه كان، وصدق الله إذ يقول: ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين"( سورة النحل – 89)، وقد جاء تنظيم العلاقة مع الآخرين في منتهى الروعة والكمال والجلال، في كافة شؤون الحياة، وفي مختلف الظروف والأحوال سواء في حال الحرب، أو في حال السلم، وسواء كانوا أهل ذمة أو مستأمنين أو معاهدين أو حربيين أو مرتدين، نظمها تنظيماً دقيقاً راعى فيه تحقيق المصالح والعدل، وحفظ حق الدين والإنسان، ومن أتي في شئ من هذا الباب، فإنما أتي لعدم تنزيله النصوص على الأشخاص أو الأحوال على وجهٍ صحيحٍ.

الوقفة الرابعة :

تعاملات المسلمين مع الكفار – وبالأخص في هذا الزمن – لا يلزم أن تمثل منهج الإسلام في التعامل معهم، لأن نظرات الناس وتصوراتهم نحو العلاقة بالكفار متباينة، كما أن واقعهم الفعلي متفاوت بين انفتاح وانغلاق، وبين انقباض وانبساط، من المسلمين اليوم من لا يفرق بين الكافر الحربي، وبين الذمي والمستأمن، ويرى أن العلاقة معهم جميعاً، قائمة على العنف والغلظة والمباينة المطلقة في كل معاملة، حتى في العقود المالية، والبيع والشراء، ولربما استند من هذا شأنه إلى قول الله تعـالى :” محمد رسول الله والذين معه، أشداء على الكفار" [سورة الفتح 29] وإلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه"
(8).

ومنهم من يرى أن العلاقة بالكافر كالعلاقة بالمسلم في الجملة، وهذا الفهم يكثر عند من يعيش من المسلمين في أحضان الكفار، بسبب الانصهار في مجتمعاتهم، والاندماج في بيئاتهم .

كما يوجد هذا التمييع والتفريط عند بعض المسلمين في بلاد الإسلام بسبب الجهل أو رقة الديانة، أو الإعجاب بالكفار وا لانبهار بحضارتهم، ولذلك وجدنا من المسلمين اليوم من ينادي بالمساواة بين الأديان السماوية، وعدم التفرقة بين اليهودية والنصرانية والإسلام، والمؤمن المنصف يعرف – بداهة – تساقط هذين الرأيين، فأما الرأي الأول المتبني للغلظة والعنف مطلقاً، فهو يتنافى مع سمو الإسلام وسماحته وعالميته، ويتنافى أيضاً مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه، وعموم تعاملات النبي صلى الله عليه وسلم وتعاملات صحابته مع اليهود والمشركين تثبت تهافت هذا الرأي وسقوطه من ذلك :

1- قصة الرهط من اليهود الذين دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم، فرد" وعليكم" فقالت عائشة - رضي الله عنها -:"وعليكم السام واللعنة" فقال صلى الله عليه وسلم "مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله 
(9) .

2- ولما قيل له صلى الله عليه وسلم ادع على المشركين قال :” إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة" 
(10) .

3- ولما قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله إن دوساً عصت وأبت فادع الله عليها، فقيل : هلكت دوس قال : اللهم اهد دوساً وات بهم" وفي رواية قال : "لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً 
(11).

وأما حديث” لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا وجدتموهم في طريق، فاضطروهم إلى أضيقه"
(12).

فهو كناية عن عزة المسلم، فلا يكون ذليلاً أمام الكافر، فإذا لقيه فلا يبدأ بالسلام، ولا يفسح له في الطريق ويذل نفسه .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : (والمراد منع ابتدائهم بالسلام المشروع، فأما لو سلم عليهم بلفظ يقتضي خروجهم عنه، كأن يقول : السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين فهو جائز، كما كتب النبي -صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل وغيره : سلام على من اتبع الهدى .. قال القرطبي في قوله :" وإذا لقيتموهم في طريق ...." معناه لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراماً لهم واحتراماً، وعلى هذا فتكون الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى طرفه حتى يضيق عليهم، لأن ذلك أذى لهم، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب) 
(13) . هذا ما يتعلق بالرأي الأول .

أما الرأي الثاني – الذي تبدو فيه الميوعة والتمييع لأصول الإسلام وثوابته، فهو أظهر ضعفاً، وأبين عوارا،ً ومصادمته لثوابت الشريعة لا تخفى على ذي إنصاف، إذ البراءة من الكفر وأهله، من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة قال تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون" [سورة الزخرف 26-28] .

والكلمة الباقية : هي لا إله إلا الله في قول كثير من المفسرين 
(14) .

يقول ابن كثير : (يقول تعالى مخبراً عن عبد الله ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث من بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال: "إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه” أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله، أي جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام)
(15) .

وجاء تفصيل موقف إبراهيم من أبيه وقومه في سورة الممتحنةفي قوله سبحانه :” قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء" [سورة الممتحنة 4] .

والبراءة المذكورة في هذه الآية تعني الأمور الآتية :

1- إنكار الباطل والتبري منه :

والباطل وإن كان يشمل كل ما ضاد الحق مما لا يريده الله ورسوله من كفر وفسوق وعصيان، إلا أن المراد به هنا : الكفر، فلا بد من إنكاره باليد أو باللسان أو بالقلب .

هذا مع أن الإنكار القلبي هو الأساس، وهو مستقر في قلب المؤمن، وإن لم يستطع الإنكار باللسان أو باليد .

2- البغض والعداوة، وهما من أهم معالم البراءة :

وقد دلت عليهما نصوص كثيرة، كقوله تعالى في موقف إبراهيم عليه السلام من قومه: "وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده” [الممتحنة 4] .

وقوله : "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم” [المجادلة 22] .

3- عدم الموالاة مطلقاً :

قال الله عز وجل : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً" [سورة النساء 144] .

وقال : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" [ سورة المائدة 51] .

وقال : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير" [سورة آل عمران 28] والآيات كثيرة .

أما الموالاة، فقال الراغب في مفرداته 
(16) : (الولاء والتولي أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد، والولاية : النصرة) أ.هـ.

فهي تشمل : الموالاة القلبية، وهي ميل القلب إلى الكافر تعظيماً وحباً أو اعتقاداً بصحة ما هو عليه، ومن ذلك التشبه به .

والموالاة العملية : وهي الميل والاقتراب من الكافر في الأمور العملية : كمعاشرته، ومداهنته، وتقريبه، وجعله بطانة، وطاعته في غير ما شرع الله ومناصرته، والإقامة بين ظهراني المشركين من غير حاجة، ومشاركتهم في الأعياد. وهذه الموالاة متفرعة من الموالاة القلبية، لأنها - أي الموالاة العملية – لا تتم في الغالب إلا بميل القلب وإصغائه .

فكل ذلك موالاة ممنوعة، وهي تتفاوت في المفسدة، ولذلك كان منها ما هو مخرج من الملة، ومنها ما هو معصية كبيرة، ومنها ما هو صغيرة
(17)، ولا شك أن مقتضى البراءة عدم الموالاة مطلقاً .

الوقفة الخامسة : 

يجب اعتبار حال المسلمين في القوة والضعف، وحال ظروف زمانهم، وملابسات قضاياهم، والنظر في مصالحهم الكبرى، وبذل الجهد في دفع المفاسد العظمى عنهم .

ولذلك نجد القرآن زاخراً وحاشداً بالآيات التي فصلت العلاقة بالكفار، وراعت أحوال الظروف والمواطن والزمن واتخذت المواقف المتناسقة معها، والمتأمل في ذلك يلحظ أن هذه المواقف جاءت على مرحلتين :

المرحلة الأولى : العهد المكي، وجملة الموقف منهم يتلخص في :

أ - المفاصلة الشعورية و تنافر القلوب بين المؤمنين والكافرين .

ب- الهجر الجميل، أو المقاطعة للكفار .

كما في قوله تعالى: "فاصبر على ما يقولون واهجرهم هجـراً جميلاً" [سورة المزمل 10] .

ج- أمر المؤمنين بالصبر على الأذى .

كما في الآية السابقة، وكما في قوله تعالى : واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون" [سورة النحل 127] .

د - الأمر بالعفو والصفح .

كما في قوله تعالى: فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون [ سورة الزخرف 89] .

هـ- الأمر بكف اليد وعدم القتال .

كما في قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب" [سورة النساء 77]
(18) . الآية .

و - الاستمرار في الدعوة والنذارة، كما في قوله : "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين" [سورة الحجر 94] .

المرحلة الثانية : العهد المدني :ويتلخص الموقف في :

أ - تمييز المسلمين واستقلالهم في إقليم، وإعلان وحدتهم، ولذلك تكاملت التشريعات والأحكام العملية مع قصر هذا العهد .

ب- المواجهة مع الكفار، بالقوة البيانية، والقوة الاجتماعية، والقوة المادية .

ج- تشريع الجهاد . 

وبه تحددت العلاقة مع الكفار على اختلافهم إلا أن هذا التشريع جاء على مراتب كما ذكر ابن القيم- رحمه الله - 
(19) ، وقد روعي في هذه المراتب واقع حال المسلمين وظروفهم وإمكانياتهم، ثم استقر أمر الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول "براءة" على ثلاثة أقسام : محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة .

د-منع موالاة المؤمنين للكافرين مطلقاً.

الوقفة السادسة :

لا بد من معرفة أنواع الكفار من حيث علاقة المسلمين بهم وأنهم :

1- إما أهل عهد .

2- وإما من ليس له عهد .

وأهل العهد ثلاثة أصناف :


أ - أهل الذمة (20) :

وهم الذين يعطون عقداً مستمراً للبقاء في دار الإسلام إذا أعطوا الجزية والتزموا أحكام الإسلام .

ب- المستأمنون :

وهم الذين يعطون عقداً مؤقتاً للبقاء في دار الإسلام لغرض شرعي، كسماع كلام الله، أو تجارة أو سفارة .

ج- أهل الصلح والهدنة :

وهم الكفار الذين بينهم وبين دولة الإسلام عهد، إما عهد هدنة، وهو الاتفاق على إيقاف الحرب لمدة معلومة، وإما معاهدة مطلقة 
(21).

والذين لا عهد لهم صنفان في الجملة :


أ - إما كفار أصليون محاربون(22):

وهم الذين لا عهد لهم ولا ذمة، سواء أكانوا محاربين فعلاً أم لا، فإن من ليس له عهد لا يستبعد منه الحرب للمسلمين .

ب - وإما مرتدون عن الإسلام (23) . 

هذه هي أنواع الكفار من حيث علاقة المسلمين بهم، ومسألة هل الأصل في علاقة المسلمين بالكفار السلم أو الحرب شامل لجميع هذه الأنواع السابقة .

والآن قد حان الشروع إلى المقصود وأقول مستعيناً بالله :

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :

القول الأول :

أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو الحرب، وبهذا قال كثير من علماء المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة
(24).

واستدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة من القرآن والسنة والمعقول .فأما الأدلة من القرآن فهي على نوعين :

النوع الأول :

آيات تأمر بقتال الكفار مطلقاً كقوله تعالى : "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير" [سورة الحج 39]، وقولـه : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم" [سورة البقرة 216]، وقوله : " يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال"[سورة الأنفال 65]، وقوله :"واقتلوهم حيث ثقفتموهم" [سورة البقرة 191] ، وقوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" [سورة البقرة 193]، وقوله "واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [سورة التوبة 5 ]، وهذه تسمى آية السيف، قيل إنها نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية من الآيات التي تأمر بالإعراض عن المشركين والصفح عنهم
(25)، وكقوله تعالى أيضاً : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" [سورة التوبة 36] وهذه الآية من أهم أدلة أصحاب هذا القول لأن فيها الأمر – كما يرون – بالقتال الجماعي للمشركين كافة، وشبيه بها قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" [سورة التوبة 123]، وكذلك قوله عز وجل: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ..."[ سورة التوبة 29] .فهذه الآيات وما شابهها مما لم يذكر، تدل على وجوب قتال الكفار مطلقاً دون قيد أو شرط، لأن هذا الفريق يرون أن قتال الكفار هو دعوة إلى الإسلام، وحمل للمخالفين على نبذ كفرهم، واعتناق الإسلام.فإذا كان القتال دعوة إلى الدين فلا يحل تركه مع القدرة عليه بحال من الأحوال .

النوع الثاني :

الآيات التي ورد فيها النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء أو القاء المودة إليهم مطلقاً كقوله تعالى:" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" [سورة آل عمران 28]، وقوله :"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم" [سورة المائدة 51]، وقوله : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة" [سورة الممتحنة 1]، وقوله :"لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ..." [سورة المجادلة] .

ففي هذه الآيات دلالة على وجوب أن لا يكون للمسلمين مع الكفار محالفة أو موالاة أو مودة واطمئنان وثقة. لانطوائهم على الغدر والحقد، وتبييتهم الخيانة والنقض، وانتظار الفرصة المواتية للنيل من المسلمين .

-وأما الأدلة من السنة، فقد ورد الأمر فيها بالقتال حتى تتحقق الغاية من القتال وهي اعتناق الإسلام، ومن الأحاديث الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري"
(26) ، ومعنى هذا – عند أصحاب هذا القول - أن للسيف المقام الأول في تقرير دعوة التوحيد، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... (27) .

وهذا يدل على أن الأمر بقتال الناس هو من أجل الدخول في الإسلام، فالقتال إذن هو الطريق الأول للدعوة إلى الإسلام وترك الكفر، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة بهذا المعنى .

- وأما الاستدلال بالمعقول، فتقريره : أن من دعوا إلى الإسلام على وجه صحيح لا عذر لهم في البقاء على كفرهم، لأن الله أقام الأدلة القاطعة على وجوده ووحدانيته، وأن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يقبل الله سواه، فلا بد من حملهم عليه قسراً امتثالاً لما ورد في النصوص التي سبق ذكرها .

القول الثاني :

أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم، وبهذا قال سفيان الثوري وسحنون من المالكية، ونسب لابن عمر – رضي الله عنه -، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ،ومن المعاصرين محمد رشيد رضا، ومصطفى السباعي .واستـدل أصحاب هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .

فأما الأدلة من كتاب الله فهي على أربعة أنواع :

النوع الأول :

الآيات التي أمر الله تعالى فيها بالسلم، وحث فيها على قبوله من الكفار حين اللجوء إليه كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ..." [سورة البقرة 208]، وقوله : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله [سورة الأنفال 61]، وقوله : فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" [ سورة النساء 90]، وقوله :” ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا” [سورة النساء 94] .

فهذه الآيات البينات، جاء فيها الأمر بقبول السلم من الكفار إذا جنحوا إليه .

النوع الثاني :

الآيات التي قيد الله فيها الأمر بقتال الكفار في حال اعتدائهم وظلمهم للمسلمين كقوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا، فإن الله غفور رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين [سورة البقرة 190-193]، وقوله : "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالمي أهلها، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً" [سورة النساء 75]، وقوله :"أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير، الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق، إلا أن يقولوا ربنا الله" [سورة الحج 39 – 40] .

النوع الثالث :

الآيات التي أباح الله فيها صلة وبر الكفار الذين لم يقاتلونا كقوله تعالى :” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” [سورة الممتحنة 8] .

النوع الرابع : 

قوله تعالى : "لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي .." قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

(جمهور السلف على أنها ليست بمنسوخة ولا مخصوصة، وإنما النص عام فلا نكره أحداً على الدين، والقتال لمن حاربنا، فإن أسلم عصم ماله ودينه، وإذا لم يكن من أهل القتال لا نقتله، ولا يقدر أحد قط أن ينقل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اكره أحداً على الإسلام، لا ممتنعاً ولا مقدوراً عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا، لكن من اسلم قبل منه ظاهر الإسلام) 
(28).

أما الأدلة من السنة لأصحاب هذا القول – الذين قالوا بأن الأصل مع الكفار السلم – فكثيرة منها :

1-قول النبي صلى الله عليه وسلم :” لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا 
(29) . حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرغبة في الحرب وتمني لقاء العدو، وهذا يدل على أن حالة الحرب حالة طارئة، لا يشرع للمسلم أن يتمناها إلا إذا قامت أسبابها، وتوافرت دواعيها، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بسؤال الله العافية والسلامة، فإن قدر للمسلم لقاء عدوه فالمشروع حينئذ الصبر والثبات، وكل هذا يفيد أن الأصل في العلاقة مع الكفار السلم .

2- حروب النبي صلى الله عليه وسلم التي خاضها ضد المشركين، [27 غزوة] كان المشركون فيها هم المعتدين أو المتسببين بأسباب مباشرة أو غير مباشرة، وهذا يؤكد أن الأصل مع الكفار السلم لا الحرب، ولو كان الأصل معهم الحرب لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبدؤهم بذلك والمتواتر من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يبدأ أحداً بالقتال 
(30).

3- رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء، ودعوته لهم بالدخول إلى الإسلام 
(31)، يدل على أن الأصل السلم، ولو كان الأصل الحرب لما أرسل إليهم رسائل، وإنما بعث إليهم جيوشاً للمحاربة .- واستدلوا أيضاً بالإجماع، حيث نقل اتفاق المسلمين(32) عملاً بالثابت من السنة، انه لا يجوز قتل النساء والصبيان – وزاد الحنفية والمالكية والحنابلة ـ: الرهبان والشيوخ، والعميان والزمنى والعجزة والأجراء والفلاحين في حرثهم، إلا إذا قاتلوا أو شاركوا برأي أو إمداد، قالوا لوكان الأصل مع الكفار الحرب لحملهم على الإسلام، ما ساغ استثناء هؤلاء، واستثناؤهم برهان على أن القتال إنما هو لمن يقاتل دفعاً لعدوانه، قال شيخ الإسلام رحمه الله : (الصواب أنهم لا يقاتلون، لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين الله فلا يباح قتلهم لمجرد الكفر) (33) .

- واستدلوا أيضاً بالمعقول : ووجهه : ان وسائل الإكراه والقهر لا يمكن أن تنجح لفرض الدين في النفوس، لأن الدين أساسه القناعة، وهو شيء قلبي، واعتقاد داخلي، وما كان كذلك فطريقه الحجة والبرهان والإقناع لا القوة والقهر قال تعالى :” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [سورة يونس 99] .

وقال تعالى : لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي [سورة البقرة 256] .

هذه أبرز أدلة أصحاب القولين، ولهم عليها مناقشات وردود، أغضيت عنها اختصاراً، والذي يمكن استنتاجه بعد هذا الاستعراض السريع لنصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو دعوتهم إلى دين الإسلام كمرحلة أولى لا يسبقها غيرها، بل هي البوابة لتحديد نوع العلاقة 
(34)، لأن الأمة مخاطبة بنشر دينها وعقيدتها، فإذا ما قامت بهذا الحمل الدعوي الكبير، ودعت أمم الكفر لدين الإسلام ففي هذه الحالة ينقسم الكفار إلى أقسام ثلاثة :

القسم الأول :

من يستجيب منهم لدعوتنا، ويعتنق ديننا، فهؤلاء اخواننا لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، قال تعالى : (( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين )) {سورة التوبة ـ 11} وقال تعالى: (( فإن تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)) {سورة التوبة ـ 5}.

القسم الثاني :

من لا يقبل الدخول في الإسلام، لكن لا يقف في طريق دعوته، ولا يقاتل من يدعو إليه، ويلقي الينا السلم سواء كان من أهل العهد أو لم يكن فهؤلاء الأصل في حقهم المسالمة، ما لم يعتدوا بقول أو فعل، وعلى هؤلاء تحمل الآيات التي أمر الله فيها بالسلم، وأباح فيها الإحسان للكفار كقوله تعالى :"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” [سورة الممتحنة 8]، وقوله :” وإن جنحوا للسلم فاجنح لها” [سورة الأنفال 61]، وقوله: "فإن اعتزلوكم، فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" [سورة النساء 90] .

قال الشوكاني رحمه الله على هذه الآية : ( فإن اعتزلوكم ولم يتعرضوا لقتالكم وألقوا إليكم السلم أي استسلموا لكم وانقادوا، "فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً” أي طريقاً، فلا يحل لكم قتلهم ولا أسرهم ولا نهب أموالهم، فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرمه)
(35) .

القسم الثالث :

من يرفض الدخول في الإسلام، ويقف في طريق دعوته، أو ينقض عهداً مع المسلمين، أو يعتدي على أحد منهم بقول أو فعل، أو يخطط لذلك مستقبلاً، فهؤلاء الأصل في حقهم الحرب – وهي المرحلة التالية لدعوتهم إلى دين الإسلام – وعلى هؤلاء تحمل الآيات الواردة بقتال المشركين كقوله تعالى :"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" [سورة البقرة 193]، وقوله : "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ..." [سورة التوبة 29]، وقوله : "واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [سورة التوبة 5]، وقوله : "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" [سورة البقرة 193] والمراد بهؤلاء الذين أمر الله بقتالهم في هاتين الآيتين كفار مكة الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وأخرجوهم منها 
(36)، لأنه قال بعد قوله :"واقتلوهم حيث ثقفتموهم" :"واخرجوهم من حيث أخرجوكم" فأمر الله بقتالهم أنى كانوا، لأنهم آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته – رضي الله عنهم-، و أخرجوهم من ديارهم، ووقفوا في طريق دعوتهم للإسلام .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين الله، كما قال تعالى : "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين” [سورة البقرة 190])
(37) وقال أيضا (وأما النصارى فلم يقاتل أحداً منهم حتى أرسل رسله بعد صلح الحديبية إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الإسلام .... فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم، فالنصارى هم حاربوا المسلمين أولاً، وقتلوا من أسلم منهم بغياً وظلما فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل سرية أمَّر عليها زيد بن حارثة ثم جعفر ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون للنصارى بمؤتة من أرض الشام ،واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الأمراء رضي الله عنهم)(38).

وقال الإمام النووي رحمه الله : (الناس صنفان فأما الذين قاتلوا أهل الإسلام أو أجلوهم عن أوطانهم أو أعانوا على شيء من ذلك فمن الظلم المنهي عنه أن يتولاهم المسلمون، ويحسنوا إليهم، ولهؤلاء وأمثالهم شرع القتال ليفسحوا للدعوة سبيلها، وأما الذين لم يفعلوا شيئاً من ذلك فلا على المسلمين في الإحسان إليهم والبذل لهم، ولو كان هؤلاء ممن أمر بقتالهم لما ساغ ذلك، فعسى أن يكون فيه قوة لهم، مع أن إضعاف العدو بكل وسيلة من أخص ما يعنى به المحاربون) 
(39) .

وأما قوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [سورة التوبة 36 ] فهذا من طريق المقابلة الجماعية أمام تكتل المشركين الجماعي وهو أمر لكافة المسلمين المُقاتلين بمحاربة كافة المشركين المقاتلين .

قال ابن كثير رحمه الله على هذه الآية : (كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم، فاجتمعوا أنتم أيضاً لهم إذا حاربتموهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم) 
(40)

وقال ابن عطية رحمه الله : (لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ألزم الأمة جميعاً النفر، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله :” كما يقاتلونكم” فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم) 
(41) .

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - : (قاتلوا جميعكم المشركين، فيكون فيها وجوب النفير على جميع المؤمنين، وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة )
(42).

وهذا هو رأي ابن عباس رضي الله عنهما كما ذكر ذلك ابـن أبي حاتم في تفسيره 6/1803 – والبيهقي في سننه (ح17938) – وروى أبو داود في سننه في الجهاد، باب في نسخ نفير العامة بالخاصة (ح2505) – والبيهقي في سننه أيضاً، في السير، باب النفير وما يستدل به على أن الجهاد فرض على الكفاية (ح17937) – من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال في قوله : "إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً "[سورة التوبة 39]، وقوله : "ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله" [سورة التوبة 120] قال نسختها الآية التي تليـها : "وما كان المؤمنون لينفروا كافة" [سورة التوبة 122] .

وبهذا التفصيل السابق تجتمع الأدلة، ويتم إعمالها جميعاً، وتُنزل النصوص في محالِّها، فأما كون الأصل الأول الذي يتحدد به نوع العلاقة، دعوتهم إلى الإسلام قبل قتالهم فهذا محل اتفاق بين أهل العلم 
(43) لأدلة كثيرة منها :

1- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب يوم خيبر : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" 
(44) .



2-كان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال :اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ..."
(45) .



3- قال ابن عباس رضي الله عنهما : (ما قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قوماً قط إلا دعاهم)
(46). قال الطبري : (أجمعت الحجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لم يقاتل أعداءه من أهل الشرك إلا بعد إظهاره الدعوة، وإقامة الحجة، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أمراء السرايا بدعوة من لم تبلغه الدعوة)(47) . ومعنى هذا أن دعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم أمر واجب إن كانت دعوة الإسلام لم تبلغهم، ومستحبه إن تكن قد بلغتهم، هذا إذا كان المسلمون هم الذين قصدوا الكفار في ديارهم، أما إذا كان الكفار هم الذين قصدوا المسلمين ففي هذه الحالة للمسلمين أن يقاتلوهم من غير دعوة، لأنهم بذلك يدافعون عن أنفسهم وحريمهم .(48).



وإلى هنا انتهى المقصود – باقتضاب شديد – والله أعلم .

 


(1) أخرجه مسلم في صحيحه 5/139، والترمذي (ح 1617)، وابن ماجه (ح2858) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه . 

(2) أخرجه مالك في الموطأ، في الجهاد، النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو (ح1292) عن يحيى بن سعيد مرسلا. 

(3) حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام، للعايد ص 6 – نقلاً عن قصة الحضارة 13/131. 

(4) معاملة غير المسلمين في الإسلام 1/256 – إعداد : المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – الأردن . 

(5) مستشرق فرنسي، كان يدرس اللغات الشرقية في باريس، له العديد من المقالات عن جغرافية البلدان الإسلامية، وألف كتاباً اسمه :"تاريخ فلاسفة المسلمين وفقهائهم". انظر : الأعلام للزركلي 5/120 . 

(6) ينظر : هداية المرشدين، لعلي محفوظ ص 531، ومنهج الداعية في دعوته لغير المسلمين، لأسماء الوهيبي ص 13 . 

(7) الحسبة في الإسلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 13 . 

(8) أخرجه مسلم في صحيحه، في السلام، باب النهي عن ابتداء أهـل الكتـاب بالسـلام (ح2167) – من حديث أبي هريرة . 

(9) أخرجه البخاري في صحيحه في الأدب، باب 35- ومسلم في صحيحه في السلام (ح10) – من حديث عائشة . 

(10) أخرجه مسلم في صحيحه في البر والصلة (ح87) – من حديث أبي هريرة . 

(11) أخرجه البخاري في صحيحه، في المغازي، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو (ح4392) ، ومسلم في صحيحه في فضائل الصحابة (ح2524) – من حديث أبي هريرة . 

(12) أخرجه مسلم في صحيحه في السـلام، بـاب النهي عن ابتداء أهل الكتـاب بالسـلام (ح2167) – من حديث أبي هريرة . 

(13) فتح البارىء 11/40 . 

(14) انظر : تفسير الطبري 25/63 . 

(15) تفسير ابن كثير 4/136 . 

(16) ص 533 . 

(17) يراجع في تفاصيل ذلك : الولاء والبراء في الإسلام / للقحطاني . والموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية / للجلعود . والاستعانة بغير المسلمين ص 51 – 86، وفقه الاحتساب على غير المسلمين ص 33 – 36 كلاهما للدكتور عبد الله الطريقي . 

(18) ويراجع في تفسير الآية : تفسير ابن كثير 1/538 . 

(19) زاد المعاد 3/158- 161 . 

(20) الذمة : بمعنى العهد والأمان والضمان والحرمة والحق . ومثلها : الذمام . ( انظر : النهاية في غريب الحديث 2/168 ) . 

(21) على أنه ينبغي أن يعلم بأنه لا يجوز عند الفقهاء عقد معاهدة أبدية، انظر أحكام المعاهدات في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة د / إسماعيل العيساوي . 

(22) يجوز عند المالكية والحنفية عقد الذمة مع جميع أصناف الكفار واستثنى الحنفية منهم عبدة الأوثان من العرب، انظر حاشية الدسوقي للدردير 2/206، شرح الســير الكبير للسرخسي 5/1692، الموسوعة الفقهية – مصطلحات أهل الذمة - . 

(23) ينظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/414، وفقه الاحتساب على غير المسلمين ص 4 – 5 – 14 – 15 . 

(24) انظر : كشاف القناع 3/28، 32 – 36، فتح القدير لابن الهمام 4/277-282، البدائع للكاساني 7/100، مغني المحتاج للشربيني 4/2-9 – 219، اللبـاب في شرح الكتاب للميداني 4/115، معاملة غير المسلمين في الإسلام 1/249 . 

(25) الناسخ والمنسوخ في القرآن لابن خزيمة ص 264، والناسخ والمنسوخ لابن حزم 2/179، والناسخ والمنسوخ للنحاس ص 264، وتفسير المنار 10/199 . 

(26) أخرجه أحمد (ح5115)، وابن أبي شيبة 5/313، والبيهقي في الشعب (ح1199) – من حديث ابن عمر، وإسناده ضعيف لأنه من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وهو ضعيف . 

(27) أخرجه البخاري في صحيحه في الاعتصام بالكتاب والسنة (ح7284)، ومسلم في الإيمان (ح20 – 21) – من حديث أبي هريرة . 

(28) السياسة الشرعية ص 123 – 125 . 

(29) أخرجه البخاري في صحيحه، في الجهاد (ح2966)، ومسـلم في صحيحه في الجهاد (ح1741) – من حديث أبي هريرة . 

(30) انظر : رسالة القتال لابن تيمية ص 125 . 

(31) كهرقل وكسرى والمقوقس والمنذر بن ساوى وملك عمان وصاحب اليمامة هوذة بن علي والحارث الغساني وغيرهم من ملوك وأمراء المناطق انظر : نصوص هذه الرسائل في صحيح مسلم بشرح النووي 12/103، 111 زاد المعاد3/688ـ697، وحياة الصحابة للكاندهلوي 1 / 31، 124 . 

(32) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 28/ 414، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 201. 

(33) السياسة الشرعية ص 123 . 

(34) ويرى بعض الباحثين المعاصرين أنه لا يسوغ طرح هذه المسألة على أن العلاقة مع الكفار سلم أو حرب، لأن فيه إيهاماً يؤدي إلى اللبس في شأن هذه العلاقة هل هي قبل تبليغ الدعوة ورفض الاستجابة أو بعد ذلك، لأن الفرق بينهما مختلف . انظر : أحكام المعاهدات في الفقه الإسلامي للعيساوي ص 50 – 51، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1/828 – رسالة دكتوراه، د محمد خير هيكل . 

(35) فتح القدير 1/742 . 

(36) تفسير الطبرى 2/109، تفسير ابن عطية 8/132، تفسير البغوي 1/162 . 

(37) الفتاوى 28/354 . 

(38) رسالة القتال لابن تيمية ص 125 . 

(39) شرح مسلم 1/98 – 99 . 

(40) تفسير ابن كثير 2/469 . 

(41) المحرر الوجيز 8/178 . 

(42) تفسير السعدي 2/244 . 

(43) انظر : المبسوط 10/3، البحر الرائـق 5/81، حاشية ابن عابديـن 4/128، المغـني 9/172-173، كشاف القناع 3/40، مطالب أولي النهى 2/509، روضـة الطالبين 9/259، الفواكه الدواني 1/396، شرح صحيح مسلم للنووي 1/197 – 12/36، سبل السلام 4/45، الموسوعة الفقهية 16/143، موسوعة الإجماع لابن تيمية ص 340 . 

(44) البخاري (ح3701)، ومسلم (ح2406)، وأحمد 5/333– من حديث سهل بن سعد . 

(45) أخرجه مسلم في صحيحه 5/139، والترمذي (ح1617)، وابن ماجه (ح2858) – من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه . 

(46) أخرجه أحمد (ح2105)، والدارمي (ح2444)، وأبو يعلى (ح2591) – من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه عن ابن عباس، وسنده صحيح . 

(47) اختلاف الفقهاء ص 2 . 

(48) انظر : أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/5 .

المصدر: http://www.islamtoday.net/bohooth/artshow-86-4230.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك