استشراق واستغراب

عبد الله مكسور

 

مَن هو المُستشرق؟ ولِمَن يكتُب؟ وهل آراؤه مبنية على اتجاهات فكرية ومعرفية أم أنها انطباعية من الخارج؟ هل يقرأ العربُ ما يُنتِجه المستشرقون؟ وكيف ينظر المثقفون العرب لهم ولإنتاجهم؟ كيف يرى المستشرقون العربَ أيضاً؟ وما هي دوافع وضوابط الدراسة والأبحاث عندهم؟

باب الاستشراق وتعاريفه المتنوعة يضعُ أمامنا أسئلة كثيرة معظمها يظل بلا إجابات واضحة، فالعلاقة العربية مع أيّ مستشرق لا تُبنى على أساس ما يُقدِّم غالباً، بل تتجه نحو مدى انغماسِه بالثقافة العربية أو الإسلامية بعمومها، بلغتها، أطعمتها، عاداتها، وغيرها، هذا ما لمستُه من خلال بعض اللقاءات التي يسمح الوقتُ بها بين حين وآخر، فهل تخلَّص المستشرق من إيمانه بمركزيَّتِه الأوربية؟ وصار الهامش الذي كان هامشاً -قبل حالة الاستشراق- مركزاً أو جزءاً من المركز يدور في المسارات ذاتها ويضيف إليها أيضاً.

يرى إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، أن الغرب لا يسمح للمثقف العربي أن يمثِّل نفسه، لا يراهُ إلا من الزاوية التي يحتاجهُ منها وفيها، السبب في هذه النظرة أن المثقف الغربي يرى أن المثقف العربي غير قادر على تقديم نفسه أو القضايا التي يحملها بأدواتِه التي يمتلكها اليوم أو في الماضي، لذلك فهو بحاجة لمَن يقوم بهذا الدور نيابة عنه، طبعاً لهذه الرؤية الاستعلائية ما يبررها، الإرث الاستعماري والتأسيس الفكري لمفهوم النهضة بعزل الدين عن الدولة، أو بمعنى أنّ الأهداف لا توضَع لأجل غاية دينية في المقام الأول حسب المفهوم الغربي، بل الغاية الإنسانية تتقدم على الثانية، بينما يرى جورج طرابيشي في كتابه “شرق وغرب، ذكورة وأنوثة” أن القضية في العقل البشري تنطلق من أن “الشرق شرق والغرب غرب”، والعلاقة بينهما مؤسسة على هذه الصورة كما تبنى علاقة جسدية بين ذكر وأنثى.

في حوار سابق تم بيننا عارَضَ أستاذ الأدب العربي في جامعة بروكسل البروفيسور إكسافير لوفن، فكرةَ إدوارد سعيد بأنَّه لا يُسمَح في الغرب للمثقف العربي بتمثيل نفسه لأنَّ هناك من يقوم بهذه المهمة عنه، يقف لوفن ضدّها تماماً، ودافعه في ذلك أنَّ “حوار الحضارات” الموجود في كتاب “الاستشراق” منقوص الرؤية، فسعيد بحسب لوفن يعرف أنَّ الغرب يحمل صورة مسبقة عن الشرق ولكنه لا يذكر أن للشرق تصوراته المسبقة عن الغرب أيضاً، رغم علمه ومعرفته ودراسته لذلك، البروفيسور البلجيكي قال أيضاً إنه يلمس تلك الصورة غير الحقيقية للغرب في الذهنية الشرقية خلال أسفاره الكثيرة إلى دول الوطن العربي.

لستُ بوارد معالجة تفصيلية لهذه الآراء بقدر عرضها، فمفهوم الاستشراق بعالميَّته متوحِّد تقريباً من حيث الهيكل العام لمَن يتَّخِذ منه أسلوب بحث ودراسة وحياة، لكنَّه مختلفٌ في التفاصيل وفي الأهداف، بمعنى أن الاستشراق الفرنسي يختلف عن الاستشراق الألماني، وبدوره هذا يختلف عن الروسي والبلجيكي والهولندي والياباني أو الصيني والأميركي، بينما يقف الاستشراق الإسباني منفرداً باعتبار أن مُتبنِّي ذهنيَّتَه لا يعيدون اكتشاف الثقافة العربية أو الإسلامية، فهذه جزء أصيل وأساسي له استناد تاريخي في الهوية الأندلسية وهذا بابٌ آخر يستحق البحث والتفصيل.

لكن أمام مفهوم الاستشراق بعالميته وكونيَّتِه المطلقة تبرز فكرة الاستغراب التي يقودها أو يشتغل عليها كتَّاب وشعراء عربٌ باتوا لإقامتهم الطويلة في الغرب يعرفون المجتمعات الأوربية من الداخل، فأنتجوا كتابات تتضمَّن تمسُّكاً بالثقافة الأولى التي وُلِدوا فيها قبل انتقالهم إلى الفضاء الأوروبي، وفي ذات الوقت تتضمن هذه الكتابات صورة المجتمعات الحديثة وبالتالي هي تتحدث عن ثنائيات “الهوية، اللغة”، “القالب الغربي للأدب، المدارس الشرقية”، “الحداثة، الكلاسيكية العربية”.

هذا الإنتاج الإبداعي يُعمِّق التنوع في الصورة الأوروبية لأنه يقدِّم مجتمعات بعيدة بذهنية عربية حاضرة، لكن في حالة “الاستغراب” قد يقع المثقف العربي فريسة الشعور بالاستعلاء على ثقافة مجتمعه الأصلي، فيُجري محاكمات مبنية على أسس الفكر الأوروبي لقضايا تمسّ بالدرجة الأولى المجتمعات العربية أو ينساق كليَّاً لإنتاج أدبيّ الهدف منه في جوهره هو محاباة الذهنية الأوروبية في منافاةٍ واضحة لكلّ النشأة الأولى.

بالحديث عن أهداف الاستشراق فإن دوافعه تقوم في جوهرها على الرغبة بالاكتشاف، لكن أهدافه قد تكون دينية أو سياسية أو اقتصادية أو علمية بحثية بحتة، وعودةً للأسئلة الأولى التي أوردتها في صدر الحديث فإنه لا أجوبة واضحة أو قاطعة في هذا الإطار، لكن الثابت أن كثيرا من العرب لا يقرأون ما ينتجه المستشرقون الذين في غالبيَّتِهم يتحدثون لغات قديمة بعضها انقرض أو تتحدث به ألسنة معدودة بالمئات أو الآلاف من أبناء الأرض في الشرق.

المصدر: https://alarab.co.uk/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%88%D...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك