لا بد من تنوير مفاهيمنا الدينية بالأخلاق فكراً وسلوكاً من دون التورّط بجعل المنظومة الأخلاقية نفسها موضع اختلاف بين المتحاورين, ومن أدب الحوار أن يجري بروافع القيم لتكون الأخلاق مرجعيته الفكرية والعملية, وذلك بتوكيد أثرها وفاعليتها الاجتماعية والثقافية في نظم الاجتماع الديني وأنسنة التديّن المنفتح على بعضه وئاماً وسلاماً ومحبة .

وإذا كانت الرمزية الإبراهيمية بوصفها محوراً للإيمان المشترك بين الأديان التوحيدية قد ساهمت في توطين واحدة من المرجعيات العليا للحوار الديني, فإن الأخلاق بامتدادات قيمها العالمية من شأنها تتويج الحوار بموقع عظيم الأهمية لا في بسط المكونات الأساسية لنظام القيم وعولمته فحسب, بل في إزاحة المعوقات المحيطة باختلاف المتحاورين وانقساماتهم.

إن استصلاح الحوار الديني على الصورة التي تفرضها التحديات الراهنة يستدعي البحث والاهتمام بنقد الحوار التقليدي بعيداً عن المبالغة في إنكار الدين وإقصائه تحت شعار أن تكون مرجعية العلم وريثة للدين, لأن جوهر الأزمة الحضارية ليس في اضطراب العلاقة بين الدين والعلم, بل في اختلال نظام القيم وغياب الأخلاق عن أولويات المؤسسات الدينية ومناهجها التعليمية في واقع فتح شهية الأهواء السياسية للاستثمار في الدين والعلم لأغراض تنتهي عادة باستلاب الذات الإنسانية وإسقاط أخلاقها في حلبات الصراع وملاعب القطع والكراهية, هذا من جهة, ومن جهة ثانية, لا يمكن حسم الجدل في أمر التعارض بين الفكر الديني الغيبي والعقل التاريخي العلمي إلا بالانحياز إلى مرجعية الأخلاق ومحتواها المعرفي والإنساني بملاحظة أن المواقف النقدية الداعية إلى فصل الدين عن السياسة أو فصل السياسة عن الدين لا تستبطن شيئاً من الدعوة إلى فصل السياسة عن الأخلاق.

وبمعزل عن التنظير الفلسفي والديني لمرجعية الأخلاق فإن حوار الحياة في الدين والفكر والسياسة هو من مستلزمات التأسيس لحوار حداثي ناقد لربط السياسة بمشاريع الاستبداد والطغيان أو ربط الدين بمشاريع الجهل والتخلف والجاهلية .

إن سؤال البحث عن مرجعية الأخلاق في الحوار الديني يختلف تماماً عن مقاربة الدكتور «غيضان السيد علي» في دراسته العلمية لفلسفة الدين عند – كانط – الذي بشر بدين واحد للإنسانية يكون بديلاً عن الأديان التاريخية, لأن الإيمان التاريخي من وجهة نظر الفلسفة الكانطية يمزق وحدة البشرية من خلال أشكال إيمانية متعارضة ومتصارعة ترى الواحدة منها الأخرى أنها ليست على حق, ومن هنا ينشأ الصراع الذي يضرب بقوة جذور استتباب الأمن والسلام العالمي.

ولئن كانت فرادة الإنسان بعقله وأخلاقه, فإن الاحتكام إلى مرجعية الأخلاق هو احتكام إلى مرجعية العقل, وفي هذا المساق نجد من الضروري وضع فاصلة للتمايز عن بعض المصطلحات العرفانية التي استخدمت مصطلح القلب محل العقل وانتهت بنظرتها إلى إقصاء العقل عن المرجعية الأخلاقية حيث النزوع الصوفي إلى الفناء بوجدانها وسلوكها لا يستقر في حضرة الحب الإلهي وأحواله إلا بقطع كل صلة بعلائق الدنيا بما في ذلك العلاقة مع الإنسان والمجتمع.

وغني عن البيان أن ارتباط الأخلاق بالمعنى الإنساني وهويته وقيمه من شأنه تصحيح المنهج الموضوعي للحوار الديني في مجالين:

أحدهما: مجال الوعي بالمسؤولية المشتركة.

ثانيهما: مجال الالتزام بثابتة أن الدين من أجل الإنسان أي من أجل كماله وجماله واستنهاض الروح الرباني في صورته التي اختصها الله سبحانه بشرف الأمانة وخصائصها الكاشفة عن المضمون الجوهري لاستخلاف الإنسان على الأرض بفريدة الضمير الأخلاقي ومعناه .

وبذلك يمكن القول: إن رد الاعتبار لتمركز الأخلاق في مناهج العلوم الدينية من شأنه أن يعالج أزمة الوعي بوظائف الحوار من جهة, وأزمة التطبيقات الدينية وانعكاسها الإيجابي على الحوار من جهة ثانية, ولاسيما في المجال الحيوي من إدارة الاختلاف الديني وضبطه بالأصول الأخلاقية لا من منظور التأكيد على ثوابت القيم في الاستقامة والعدل والحكمة, فحسب بل في تحصين هوية الذات الإنسانية المهددة من هذا الوحش القادم إلينا باسم الدين.

وما من شك في أن البحث عن المرجعية الأخلاقية للحوار لا يكمل إلا في ضوء الإجابة عن معيارية الخير والشر في الأخلاق, وهل هناك في تراثنا الديني المشترك ثوابت لا تختلف أفهامنا حولها لنطلق عليها عنواناً واحداً هو عنوان المرجعية الأخلاقية للحوار… ؟.

المصدر: http://tishreen.news.sy/?p=121938