كيف دخل الله إلى الفلسفة؟
سأل هيدغر مرة قائلا: "كيف دخل الله إلى الفلسفة؟"، والمعنى هو: هل الله مسألة فلسفية أصيلة في الأمر الذي قامت من أجله الفلسفة منذ أوّل أمرها، أم هو مشكل عرض لها من خارج واضطرت إلى إقامة التفكير المناسب حوله؟ هل توجد شرعية أصيلة للقول الفلسفي في معنى الله أم هو قول يحتاج إلى تبرير صلاحيته أو إلى تعليل الحاجة الوجودية إلى الخوض فيه؟
يُقال الله على وجوه شتّى: فهو "موجود" طُرحت الأسئلة حول ماهيته (أرسطو، الفارابي، ابن سينا) ولطالما أُقيمت الأدلة على وجوده (ابن رشد، ديكارت، سبينوزا)؛ وهو "اسم" تارة يُحرّم النطق به، كما عادة اليهود، وتارة هو خالق تبلغ أسماؤه المئة، كما هو حال المسلمين؛ وهو لدى المحدثين "فكرة" رأى ديكارت أنّها تخطر في الذهن من الذات نفسها، وذهب كانط إلى أنّها فكرة ترنسندنتالية تنبع من طبيعة العقل ولا تأتيه من أيّة جهة غريبة عنه، وقال هيغل إنّها فكرة تأمّلية تقود تاريخ العالم؛ بل هي لدى نيتشه "شخص" سردي ومفهومي يبدو أنّه مات في ضمير أوروبا، وصار ينبغي اختراعه من جديد، وعلى البشر أن يشرئبّوا إلى "علامات" آتية على ألوهة من نوع آخر، "فكم من آلهة جديدة ما تزال ممكنة"، كما كتب في بعض شذراته الأخيرة.
موجود واسم وفكرة وشخص سردي أو مفهومي أو علامة، إلخ...قالت اللغات جميعا شيئا ما يشبه الله - وحسب ابن عربي كل اسم على معبود من المعبودات هو بوجه من الوجوه ضرب من الإله - ومن ثمّ، فإنّه لا يمكن لأيّة جماعة أو ثقافة ولا يحق لأيّ شعب أن يحتكر معنى الله أو مفهوم الله أو اسم الله. ينتشر معنى الألوهية في كل الثقافات، فليس لمعناه حدود لاهوتية أو دينية جاهزة أو نهائية أو وحيدة؛ ويمكن لأيّ عقل متفلسف أن يبني فكرة الله بناء مفهوميا، ولا تخلو فلسفة كبيرة من تصوّر ما عن فكرة الله؛ كما يحق لأيّ شعب أن يسمّي شيئا في أفق كينونته باسم الله أو الربّ أو الإله، أم ما شاء من التسميات التي يمكن أن تدلّ عليه أو تشير إليه حسب مزاج سردي أو أخلاقي مفرد وغير قابل للتوريد أو التصدير. وفي الهند، يبلغ عدد الآلهة المئات أو الآلاف؛ فهل في ذلك أيّ دليل قاطع على تهافت معنى الألوهة في أفقها الأخلاقي؟ وبعبارة أخرى: هل ثمّة فرق فلسفي حقيقي بين إله وثني وإله توحيدي؟ نعني أيّ فرق في ماهية كلّ منهما؟ وليس في اعتقاد المؤمنين بهما من الجهتين.
لا يمكن لأيّة جماعة أو ثقافة ولا يحق لأيّ شعب أن يحتكر معنى الله أو مفهوم الله أو اسم الله
لا تهتم الفلسفة منذ أوّل أمرها وطبقا لمقصودها الخاص، بأيّ دين بعينه، ومن ثمّ لا يوجد أيّ اتفاق فلسفي مسبق حول وجود هذا الإله أو ذاك، ولا حول حقيقته أو ماهيته أو مفهومه. يبحث المتفلسف في ما يرى العقل البشري بعامة في حقبة ما وفي أفق ثقافة ما أنّه جدير بان يُقام السؤال عنه بوصفه هو "الله" في أفق الإنسانية الحالية. وما لا ينجح المتفلسف في بلورة معنى "كلّي" عنه، فهو ليس من الفلسفة في شيء، بل هو قيمة ثقافية. والكلي هو ما يحقّ لأيّ عقل من عقول الإنسانية أن يشار في البحث فيه وامتحانه بشكل مفهومي. وهكذا، فإنّ إله الفلاسفة هو ذاك التصوّر الذي تجوز معاملته بوصفه مفهوما كلّيا، نعني قابلا للامتحان الإشكالي في أفق الإنسانية بما هي كذلك، وليس في نطاق هذه الثقافة أو تلك.
والإنسانية حين تتفلسف هي لا تطرح على نفسها من الأسئلة إلاّ ما يقبل الامتحان الكلي لدى أيّ نوع من الناس. ما هو الله؟ هو سؤال كلّي. أمّا السؤال: هل المسيح إله أم لا؟ فهو سؤال لاهوتي وخاص بجماعة روحية محدّدة، وفي أفضل الأحوال هو تساؤل ثقافي. ومن ثمّ، فإنّ البحث في ماهية الله أو في معنى الإله أو في مفهوم الألوهة، إلخ...هي مهامّ نظرية فلسفية، وليست سجالا لاهوتيا أو نزاعا حضاريا أو خصومة هووية. كلّ شعب يحق له أن يخوض معارك حول مصادر ذاته، ومنها المعارك حول وجود الله أو صحة النبوة أو قدسيّة الكتب الدينية أو حقيقة الوحي أو معنى الإيمان، إلخ... لكنّ الشعوب لا تخوض معارك فلسفية أو نزاعات تأويلية حول مفهوم الله أو فكرة الإله. تحرير فكرة الله من الأديان القائمة، أكانت وثنية أو بدائية أو توحيدية، هي نفسها مهمة فلسفية من الطراز الرفيع.
تحرير فكرة الله من الأديان القائمة، أكانت وثنية أو بدائية أو توحيدية، هي نفسها مهمة فلسفية من الطراز الرفيع
والسؤال الهادي هو: أيّ معنى للألوهة يمكن أن ينجم عن البحث الفلسفي بما هو كذلك أي بقطع النظر عن أيّ دين ودونما حاجة إلى أيّ تملّق جماعوي مثل الذي وقع فيه ابن رشد حين خاطب "معشر المسلمين" دون سواهم؟ أيّ مفهوم عن الإله يمكن أن يتكوّن في أفق العقل الفلسفي بمجرده؟ وهل ثمة حاجة فلسفية أصلية للبحث في معنى الألوهية؟ - حاجة فلسفية محضة للبحث في المقدّس بما هو كذلك؟ وذلك بصرف النظر عن أيّ تجربة إيمانية أو التزام لاهوتي أو دعوة دينية في مجتمع بعينه.
وهل ثمة اليوم معنى لعبارة من قبيل "الإله الصانع"؟ أو "المحرك الأول"؟ أو "الإله الشخصي"؟ أو "إله قومي"؟ أو "فكرة الله" أو "دين الإنسانية" أو "الإله الواحد" أو "الإلحاد"؟ أو "موت الإله"؟ أو "نزع السحر عن العالم"؟ أو "الإله الأقصى"؟ أو "انسحاب الآلهة"؟ أو "عودة الديني"؟
بأيّ معنى يكون الإله بمثابة "الأب" للعالم أو للبشر، الذي صنع الموجودات؟ الذي يحرّك الموجودات ولا يتحرك؟ وبأيّ معنى يمكننا أن نفكّر في إله - شخص، يحب ويغضب؟ أو إله يختار شعبا بعينه ويعقد معه "عهدا" دون غير من الشعوب؟ وهل يمكن استنباط معنى الله من معدن فكرة، تخطر بالبال؟ بال الكوجيطو البشري - وكل كوجيطو هو بشري - الذي نجح في إثبات وجوده في فطرة ذاته بناء على أفكار واضحة ومتميزة يستمدّها من نفسه العميقة؟ وهل يحمل النوع البشري حاجة ماسة (جينية مثلا) إلى الإيمان بالآلهة؟ إلى أيّ مدى يمكن التعايش الميتافيزيقي بين إلهين أو بين مجموعة من الآلهة؟ أيّ معنى فلسفي لأن يكون المرء ملحدا بهذا الإله أو ذاك؟ أو حتى بجميع الآلهة؟ متى كانت الفلسفة إيمانا أصلا؟
وخاصة: هل يموت الإله كما بشّر بذلك نيتشه، وهو يتمثّل بأنشودة مسيحية عن المصلوب؟ هل ثمّة معنى فلسفي للتفكير في ما أطلق عليه هيدغر الثاني اسم "الإله الأقصى" أو الأخير(der letzte Gott)؛ أي جملة إمكانية معنى الألوهية المتاح في أفق السؤال عن حقيقة الكينونة في عصر التقنية؟ وأيّ معنى فلسفي يمكننا أن نعزم على التفكير فيه متى أخذنا بأطروحة "نزع السحر عن العالم" (فيبر)؟ ما الوجاهة الفلسفية للكلام عن انسحاب الألوهة من واجهة البشر الحاليين، كما أشار إلى ذلك هيدغر الأخير؟ وأخيرا، - كيف هو حال "الله" بعد عودة الديني؟ أليس الله بطلا دينيّا تهمّه عودة الأديان إلى التحكم في مصير البشر، ليس فقط على مستوى شكل الحياة، بل على مستوى طريقة الموت أيضا؟ هل ثمّة صلة أو وجه قرابة أكيدة بين الله والقتل باسم الله؟ بين الألوهية والعنف؟ بل بين الله وبين المؤمنين به أو المتكلمين باسمه؟
وما الفرق بين مواطن له إله؟ ومواطن "بلا إله"؟ واللغات الغربية، تساوي بين "ملحد" و"بلا إله"؟ بين مواطن ينظر إلى نفسه بوصفه "رعية" ومواطن يرفض منزلة الرعية ويطالب بأن يُعامل، باعتباره "شريكا" مدنيا في الحكم؟ وأيّ دور لمفهوم الإله في أيّ نزاع سياسي حول السلطة؟ أو حول الجمال؟ أو حول العلم؟..........
ولكن ما هو أصل معنى الإله ودلالته؟ بل كيف دخل الإله إلى الفلسفة أصلا؟
يقترح كلّ من برغسون وهيدغر طريقتين طريفتين لتخريج أصل فكرة الإله/السبب في الفلسفة، وهما طريقتان تبدوان لأوّل وهلة على تباين كبير، والحال أنّهما تعودان جميعا إلى اجتهاد من نفس الجنس، وإن كانتا تصدران من منطقتي تفكير جدّ متباعدتين.
مثال 1: الإله /الأيدوس
في الفصل الرابع من كتابه مصدرا الأخلاق والدين، ينبّهنا برغسون إلى أنّ الفلاسفة لا يملكون أيّ طريق موصلة إلى تخريج مسألة وجود الإله أو طبيعته؛ وذلك أنّ تلك الطريق توجد أصلا في أفق آخر. فإذا كانوا لا يحكمون على شيء ما بأنّه موجود إلاّ متى شهدوا أنّه مدرَك أو يمكن أن يُدرك في تجربة فعلية أو ممكنة، فإنّ مشكل الإله سوف ينقلب بالضرورة إلى سؤال عن إمكانية معرفة موجود ما يختص بالتميّز عن بقية الموجودات الأخرى بأنّه "لا يمكن أن تبلغ إليه تجربتنا"، ورغم ذلك هو لا يقلّ "فعلية" عن الموجودات التي لدينا؛ هذا الموجود يُشار إليه باسم الإله.
علينا أن نلاحظ أنّ لفظة "الإله" لا تشير هنا إلى المعنى المتداول له بين الناس، حيث يفترض برغسون، ساخرا، أنّه لو حدثت معجزة ونزل هذا الإله في "حقل التجربة"، وذلك "ضدّ رأي الفلاسفة"، فإنّ النتيجة أنّه "لا يمكن لأيّ شخص أن يتعرّف عليه"! وإذا كان إله الدين ميزته الأولى أنّه "يستطيع أن يدخل في علاقة معنا"، فإنّ هذا هو بالتحديد "ما يعجز عنه" إله أرسطو، وهو إله الفلاسفة من بعده.
ما هو هذا الإله الفلسفي؟
من المعلوم أنّ أرسطو قد حدّد الإله بوصفه "محرّكا أوّلا"، ووصفه في ماهيته بأنّه "العقل الذي يعقل نفسه" أو بلغتنا الحديثة "التفكير الذي يفكّر في نفسه". كيف استطاع أن يجمع بين الأمرين؟ ولم سمّى ذلك إلها؟
تعود العلة في ذلك، في رأي برغسون، هيمنة نظرية "المثل" الأفلاطونية على الفلاسفة منذ أرسطو؛ وذلك أنّ العلاقة بين الإله والعالم لدى أرسطو هو العلاقة بين المثال والشيء حسب أفلاطون.
لكنّ وجه الطرافة في عمل برغسون هو محاولته إرجاع هذه المفاهيم الفلسفية اليونانية إلى معجم الحياة اليومية الذي يقوم الفكر الفلسفي على استبعاده. فالإنسان العادي يسعى دوما إلى التغلّب على معطيين لابد أن ينتصر عليهما، هما: الكثرة والتغيّر. الأشياء كثيرة، ولا يمكن أن نعرفها إلاّ إذا وقفنا على وجوه من "التشابه" الدائم بينها رغم تكثّرها؛ والأشياء متغيّرة، ولا يمكن أن نعرفها إلاّ إذا التقطنا لها "مناظر ثابتة" رغم تغيّرها. هذا الجهد هو أصل "الأفكار" التي لدينا عن الأشياء في الوقت الذي لا تكفّ فيه هذه الأشياء على السيلان والتفلّت من قبضتنا.
لكنّ الأمر الخطير في ذلك هو أنّ تلك الأفكار التي هي نتاج "للصناعة البشرية"، سوف يتمّ "تخزينها في اللغة" بشكل يضفي عليها نحوا من الاستقلال والتجريد.
بعد كلّ هذا العمل الذي أنجزه المجتمع الإنساني وفرغ منه، يأتي الفيلسوف متأخّرا ويصاب بإعجاب وانبهار بسحر هذه "المنظومة من الأفكار" التي يجدها مخزونة ومثبّتة في اللغة ومقطوعة عن أصلها الحسّي المتكثّر والمتغيّر.
ما هو الاستنتاج الذي سيقوم به هذا المتفلسف الذي ظهر بعد أن انتهى عمل المجتمع؟
إنّه يتصوّر أنّ الأفكار هي "نماذج" ثابتة، ينحصر دور الأشياء المحسوسة في "محاكاتها" من أجل أن يكون لها معنى. فجأة أصبحت الأشياء الزائلة والمتكثّرة تجري وراء ثبات الفكرة ووحدتها. وهكذا افترض أفلاطون أنّ مثال المثل، أي مثال الخير، هو في الحقيقة يفعل في الوجود لأنّه "يسحر ويجذب" الأشياء المحسوسة بفضل "كماله". وهذا هو معنى فكرة "الصانع" (dēmiourgos) الأكبر الذي صنع العالم بمحاكاة المثل.
ولكن إذا كان أفلاطون لم يجعل مثال الخير هو الصانع للعالم، فإنّ أرسطو قد حوّل "العقل الذي يعقل نفسه" إلى إله هو محرّك أوّل للعالم. من أين أتت هذه الفكرة؟
ينبّهنا برغسون إلى أنّ "إله أرسطو ليس له أيّ قاسم مشترك مع ما كان يعبده الإغريق". ولا شبه له مع إله التوراة. لكنّ الغريب هو أنّ الفلسفة اليونانية لم تبحث عن أصل هذا الإله، التي جاءت من "انضغاط كلّ الأفكار في فكرة واحدة". ولم تقف على أنّ هذا الأفكار إنّما "تصلح قبل كلّ شيء لتهيئة فعل الفرد والمجتمع في الأشياء، وأنّ المجتمع هو الذي يوفّرها للفرد لهذا الغرض، وأنّ رفع عنصرها الخالص إلى مصافّ الألوهية إنّما يتمثّل بكلّ بساطة في تأليه المجتمع"، وهي لم تنتبه إلى أنّ الرغبة في تبسيط العمل وتيسير التعاون بين بني البشر هي التي تكمن وراء "ردّ الأشياء إلى عدد صغير من المقولات أو الأفكار التي وقعت ترجمتها في شكل ألفاظ".
إنّ ما تاهت عنه الفلسفة هو أنّ كلّ فكرة هي "خاصية أو حال ثابت" وقع انتزاعه من "صيرورة" و"حركة دائبة" في نطاق "مزاولة الصناعة" التي هي ركيزة "الذكاء الإنساني" عامة، فليس التفكير غير عملية "تثبيت لمحطات" افتككناها من حركة الواقع، وهذه "اللحظات من التوقّف" و"السكون" اعتبرناها هي "الواقع والجوهري" الذي يساعدنا على الفعل في الأشياء. وهكذا، نحكم على ما "ديمومة" الحركة بأنّها "تقهقر للوجود" ونحكم على الزمان بأنّه "حرمان من الأبدية".
كلّ هذه العناصر تكمن في رأي برغسون في تصوّر أرسطو للألوهية.
يقول: "إنّها تتمثّل في تأليه كلّ من العمل الاجتماعي الذي هو تحضيري بالنسبة إلى اللغة، والعمل الفردي للصناعة (fabrication) التي تتطلّب أمثلة أو نماذج: إنّ أيدوس[1] (مثال أو صورة) هو ما يقابل هذا العمل المضاعف؛ فشأن مثال المثل أو عقل العقل أن يكون عندئذ هو الألوهة ذاتها."
وإنّ عدم التحرّر من هذا الأصل الخفي لفكرة الإله لدى الإغريق هو الذي جعل الفلسفة الحديثة تسقط في مشاكل لا حلّ لها حول وجود الإله وحول طبيعته.
مثال 2: الإله /اللوغوس
في الفصل الثاني من كتابه الهوية والاختلاف، والذي عنوانه الهيئة الأنطو-ثيو-لوجية للميتافيزيقا، وفي معرض ندرة حول منطق هيغل، يقترح هيدغر أن نقف عند إشارة مثيرة أطلقها هيغل إلى أنّ "الإله هو الذي له الحقّ الذي لا جدال فيه في أن نبدأ به" في تخريج ماهية العلم المطلق، يعني الفلسفة، ولكن لماذا الإله بالتحديد؟
يفترض هيدغر أنّ السؤال الجدير بالطرح هو: "كيف دخل الإله في الفلسفة؟"؛ ذلك أنّ الفلسفة ليست دينًا، وعلى ذلك هي لا تتورع عن اعتبار الإله هو الموضوع الأوّل لها. وعلينا أن نؤرّخ لذلك، متى أردنا أن ندرك ماهية القول الفلسفي بما هو كذلك، وخاصة طبيعة علاقته بالأديان.
يقترح هيدغر أن نعود إلى الوقوف على الكيفية التي تمّ بها بلورة ميدان بحث مستقل خاص بالفلاسفة. هذا الميدان هو منذ اليونان القول في الموجود بما هو موجود؛ وذلك هو تعريف الميتافيزيقا: إنّها "السؤال الذي يقصد الموجود بما هو كذلك وفي جملته. والكلّ الذي تؤلفه هذه الجملة هو وحدة الموجود، التي توحّد بصفتها الأساس المنتج".
في هذا التعريف بالذات أبصر هيدغر بشيء "غير مفكَّر فيه" يثوي بعدُ في ماهية الميتافيزيقا، وعلينا مساءلته. ولذلك، فكلّ قول معاصر في الإله، إمّا أن يخوض في هذا الجانب غير المفكّر فيه أو فليصمت، وليس من طريقة لهذا الخوض غير الانخراط في مناظرة عتيدة مع التراث الذي جعل تفكيرنا في الإله ممكنا.
إنّ أوّل شيء ينبغي تسجيله هو أنّه ما كان للإله أن يدخل إلى ماهية الفلسفة لو لم تكن بها وداخلها حاجة جوهرية إليه. علينا إذن أن نقوم "بخطوة إلى الوراء" أي أن نتحرر قليلا مما تقوله الفلسفة عن نفسها اليوم، حتى نستبصر ما قيل في ماهيتها ولم تشعر، كيف ذلك؟
ما كان للإله أن يدخل إلى ماهية الفلسفة لو لم تكن بها وداخلها حاجة جوهرية إليه
يعتبر هيدغر أنّ حرص فيلسوف مثل هيغل على عرض ماهية الوجود في نطاق "المنطق" كمقام مطلق للعقل هو علامة على قرار بعيد علينا استجلاؤه. إنّ "المنطق" هو الصيغة العليا من معنى "اللوغوس" اليوناني، وقد تحوّل إلى "أساس" يعلّل به معنى الموجود ومن ثمّ يؤسّسه. وليس المنطق غير التفكير الذي يقدّم الأساس الذي يؤسّس القول في الموجود بإطلاق. كذا انفلق اللوغوس اليوناني إلى معنيين حاسمين: اللوغوس بما هو قول عقلي، واللوغوس بما هو أساس أو علة أو سببعليه يقوم وجود الموجود.
كيف ينسحب ذلك على الميتافيزيقا؟
من أجل أنّ الميتافيزيقا تفكّر في الموجود بما هو كذلك، أي بما هو كلّ، فهي تفكّر فيه بمعنيين متمايزين: من جهة، هي تفكّر في وجود الموجود من جهة ما هو صادق صدقا كلّيا على كلّ موجود، ومن جهة، من جهة ما هو الأساس الذي هو أعلى من كلّ موجود. وجود الموجود هو في نفس الوقت ما هو كلّي منسحب على كل موجود، وما هو أساسي هو أعلى وأكمل وأسمى وأقوى من كل موجود. بذلك، تكون الميتافيزيقا هي "التأسيس الذي ينزّل الأساس منزلته، ويكشف عن سببه وفي آخر المطاف يعلّله". وفي هذا المعنى، ينبغي أن نفهم معنى "لوجيا" في عبارة "أنطو-لوجيا". لوجيا من لوغوس ولكن في معنييه: لوغوس بما هو، من جهة، قول في جملة الموجود بما هو كذلك، ومن جهة، تأسيس لهذا الموجود داخل الوجود في جملته. إنّ العنوان الكبير هنا هو فهم الوجود في ضوء اللوغوس أو بما هو في ماهيته لوغوس.
هذا الازدواج استلف له هيدغر من كانط عبارة أنطو-ثيو-لوجيا، قاصدا بذلك بيان دخول الإله إلى الفلسفة بوصفه استجابة لماهية السؤال الفلسفي عن وجود الموجود وليس انحرافا لاهوتيا أصاب الفلسفة من خارج.
ولكن ما هو مستقبل الآلهة؟ أو أيّة علاقة مناسبة بين الفلسفة وبين التصوّف ما بعد الحديث الذي صار يداهمنا في مفردات ولغات شتى؟
لقد بدأ لنا أنّ الفلسفة منذ كانط قد حاولت استكشاف ميدان الألوهية كما هي تجربة ممكنة في أفق البشر، وليس كما ترويها السرديات الدينية التي فقدت شطرا حاسما من وجاهتها، وهو موقف قاد المتفلسف إلى استشراف جملة من الملامح الطريفة في معنى الإله، نذكر منها خاصة أنّ الإله "مثال" يؤدي دور السبب دون أن يكون سببا (كانط)، وأنّه عنصر كلّي لتجربة الوعي فيه تقف على أنّ واقعة "موت الإله" المسيحية هي البنية النموذجية لتجربة الألوهية (هيغل)، وأنّ "الإلهي" ما يزال ممكنا ما وراء حدث موت الإله المسيحي، إذ هو لا يعدو أن يكون موتا للإله الأخلاقي فحسب(نيتشه)، وأنّ "الله هو طاقة" صوفية في قلب أيّ كان وأنّ المشروع الحقيقي للتألّه لم يبصر به إلاّ نوع من المتصوّفة الذين دعونا إلى خوض غمار البحث عن "إنسانية متألّهة" (برغسون)، وفي نهاية المطاف أنّ علينا أن نلقي بنظرنا فيما أبعد من مزاعم الحداثة في العلمنة ونزع القداسة عن العالم، لأنّ "فرار الآلهة" (هيدغر) من وجه العالم البشري هو الخطوة اللازمة لتحقيق المنعطف نحو إمكانية انبجاس "الإله الأخير" في أفق الحقيقة الذي نرنو إليه.
[1]- باليوناني في النص.
المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AF%D8%AE%D9%84-...