الدعوة إلى الحوار سياسة غربية وتشويه للإسلام
أضافه الحوار اليوم في
محمود عبد الكريم حسن
من الكلمات ما يعبر عن عقائد أو مفاهيم، ويروج لها حملتها والمؤمنون بها، ويعملون على تحسين وقع هذه الكلمات في الأذهان لتصبح مسلمات. وإذا كانت المفاهيم التي تحملها هذه الألفاظ ساقطة متهافتة، يعتمد دعاتها على الشكل والبهرجة للكلمة مغفلين المضمون ومضللين عن حقيقته. وقد يكون بعض الداعين لتلك الكلمة من الذين لا يؤمنون بمفهومها، ولكن الانهزام النفسي للمغلوب أمام الغالب مع سوء فهم الواقع يدفعانهم إلى التمييع والتعمية ومن ثم التضليل.
من هذه الألفاظ: الاشتراكية والديمقراطية وحرية العقيدة والحرية الشخصية والتعددية الحزبية وحقوق الإنسان وغيرها من مفاهيم الكفر وعناوينه.
ومن العناوين التي يدعى إليها بشكل مركز هذه الأديان وتعقد لأجلها المؤتمرات الدولية وتهتم بها مؤلفات حديثة وجهات إعلامية عديدة: الدعوة إلى الحوار وتصوير الحوار بأنه بديل عن الإرهاب والأصولية والعنف المرفوض.
وقد تقع هذه الكلمة (الحوار) موقعاً حسناً في الذهن فيروج لما يقصد بها محرمات دونما إنعام نظر، وقد يفتقد البعض أداة الحكم الصحيحة على هذه المعاني نتيجة البعد عن تحكيم الشرع، ونتيجة التأثر بمفاهيم الكفر السائدة في ظل هيمنة الحضارة الغربية الكافرة أو نتيجة الثقة بعلماء يفتون بغير الحق.
لذلك وجب حين البحث في أي فكرة كالحوار أو الديمقراطية وغيرهما أن يحدد واقع هذه الفكرة تحديداً صحيحاً دقيقاً، ثم بعد ذلك يعرض هذا الواقع على شريعة الإسلام باستدلال شرعي صحيح بقصد الوصول إلى الحق والصواب، لا أن نقرر شرعية الفكرة ثم نبحث عن نصوص توافق ما نحب، أو لنؤولها كما نشاء لتشريع ما نهوى.
فكيف نفهم فكرة الحوار المطروحة اليوم؟ وهل الحوار دائماً هو الصواب والأولى؟ وما هو واقع دعاته؟ أخطأ من ظن أن الإسلام يحكم الحوار في كل اللقاءات والمواجهات، وكذلك أخطأ من ظن أن الإسلام ضد الحوار، أو مع العنف والصراع بديلاً عن الحوار، ويخطئ الذين يلقون أوصافاً – جميلة بنظرهم – على الإسلام دين السلام ودين الرحمة ودين الحب والود والألفة أو دين اللين والتسامح. وكذلك لا يصح القول أن الإسلام دين الغلظة والشدة والقتل وما شابه ذلك.
فالإسلام هو الدين الذي أنزله الله تعالى للبشر ليحكم حياتهم، وليوجههم إلى ما خلقهم لأجله، وهو يشرع لكل فعل أو حالة أو واقعة حكماً. فقد شرع الشدة وشرع الرحمة وشرع العقوبة والقتل والقصاص، وشرع العفو والصفح والتسامح، فالإسلام يطلب الأمر نقيضه، ولكل طلب موضعه.
قال تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، فلا يجوز التعميم بأن الإسلام يدعو إلى الشدة ولا التعميم بأنه يدعو إلى الرحمة، وكذلك لا يجوز تبديل المواضع لتصبح الشدة في موضع الرحمة أو العكس.
يقول تعالى آمراً باللين والرحمة، ناهياً عن الغلظة والفظاظة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)، وفي مواضع أو حالات أخرى يأمر بنقيض ذلك: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً).
وقد أمر سبحانه وتعالى بالتواضع ونهى عن الكبر والخيلاء: (وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)، وقال تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). وهذا في مواضعه أو حالاته، وفي موضع آخر عندما شاهد النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه يمشي مختالاً في المبارزة أمام الكفار قال: «هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع».
هذه أمثلة نلفت النظر من خلالها إلى أن الحوار ليس هو العنوان الأوحد في التعاطي مع الكفار، هناك مواضع للحوار، وهناك مواضع للصراع، هناك مواضع للجدال بالتي هي أحسن وهناك مواضع للجدال بالتي هي أخشن، وهناك مواضع لا ينفع فيها إلا حد السيف أو ما يقوم مقامه، وقد قال الشاعر:
ووضع الندى في موضع السيف في العلا
مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى
والدعوة إلى الحوار التي يروج لها اليوم دعوة مشبوهة تنادي بالحوار حيث لا يصح ولا يجوز، ودعاة هذا الحوار لا يلتفتون إلى الحوار ولا يتجاوبون معه في موضعه وحيث يجوز.
دعاة الحوار هذا يدعون إلى حوار الأديان: الإسلام والنصرانية واليهودية لتشكيل وحدة في وجه اللادين ويرفضون فكرة أن الإسلام هو وحده الدين عند الله، ويعتبرون اليهود والنصارى مؤمنين، ويدعون إلى تجديد الإسلام تجديداً يبيح محرماته ويجعل الأفكار والقوانين الغربية مقاييس جديدة له، ويدعون إلى التخلي عما لم يعد مجدياً ومناسباً بنظرهم، وإلى الاستفادة من الأنظمة والقوانين الاجتماعية الحديثة التي ظهرت في الغرب نتيجة التطور في علوم الإنسان وعلاقاته، ويدعون إلى تشريعات جديدة بحجة المصالح والمقاصد العامة للشريعة.
وينخدع بهذا التوجه في الحوار وينادي به من كان جاهلاً أو يائساً أو لا يحسن فهم الواقع فتراه يتناول السم ويجرعه أمته ظاناً أنه الترياق.
إن هذه الدعوة إلى الحوار جزاء من خطة استعمارية غربية شيطانية لضرب الإسلام، فالغرب أدرك رفض المسلمين لواقعهم وله ولعقيدته ومفاهيمه وأفكاره، وأن الأمة لا ترضى بديلاً للإسلام، وهي في طور تحويل القوة الكامنة فيها إلى قوة فاعلة لإيجاد سلطة إسلامية، مما يهدد مصالح الكافر المهيمن وحضارته ووجوده ونفوذه، فعمد إلى هذا التخطيط للقضاء على كل خطر عليه من المسلمين، بل ولاستغلال كل الطاقات الإسلامية لمصالحه، ومن خطته القضاء على كل صوت أو فعل إسلامي مخلص ومؤثر، يعمل لقلع الكفر وإقامة دولة الخلافة، وتصوير الذين يعملون لهذا الأمر كإرهابيين ومجرمين، ومن جهة أخرى يعمل على إيجاد عملاء له وتلميعهم وإبرازهم على أنهم دعاة إسلام ودعاة تغيير لهذا الواقع من كفر إلى إسلام، وعلى إعطائهم دوراً سياسياً يحفظ مصالح الكافر المستعمر وينفس ويجهض المشاعر والجهود الحقيقية لإيجاد الحكم بما أنزل الله.
والدعاة إلى هذا الحوار المشبوه فئتان:
الفئة الأولى: الذين يتظاهرون بالدعوة إلى الإسلام وهم يشوهونه، رضوا بأن يعملوا على تحريف الإسلام وتثبيت العلمانية بعد تسميتها إسلاماً، ويطلقون من دعاويهم وأفكارهم ما لا يصدر عن مؤمن، وينسبون ذلك كذباً وتلفيقاً إلى الإسلام وعلمائه، ويظنهم الساذج والمضلل دعاة إسلام، فمنهم من ينادي بالتحريف جهاراً نهاراً ويدعي عجز الإسلام بشكله الحالي عن مجاراة العصر، ومنهم من يدعو إلى الحضارة الغربية بعجزها وبجرها، ويهاجم دعاة الإسلام بعصبية في حين لا ينكر أن بينه وبين الأميركيين خطوطاً إلا أنه يسمي ذلك حواراً، ويقول في أحد كتبه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) صفحة 362، بشأن الذين يحرمون التحالف مع أحزاب الكفر وحركاته والذين يحرمون المشاركة في حكم الكفر ما نصه:
[أمثال هؤلاء يسدون على المسلمين باباً من أبواب الخير لمجرد اجتهاد منهم]، ثم يقول:
[إن أمثل خيار أمام هؤلاء هو التحالف مع الجماعات الديمقراطية العلمانية لإقامة حكم علماني ديمقراطي تحترم فيه حقوق الإنسان].
الفئة الثانية من دعاة هذا الحوار المشبوه هم الذين نحسن الظن بهم، ولا نزكي على الله أحد، ولم يصدر منهم صراحة ما يجعلهم في خانة الفئة الأولى، ولكنهم متأثرون ببعض أفكار الحضارة الغربية، فتراهم يدعون إلى ما هو كفر أحياناً ويأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وقد تراهم علماء، إلا أن اليأس من نهضة الأمة قد استحوذ عليهم.
هذه الفئة قد تطلق على نفسها اسم دعاة التيسير أو الوسطية أو العلانية…، المضمون دائماً هو تبرير تشريع الحرام حيث يلزمهم ذلك، وهم يسمون الأشياء بغير أسمائها كي تنطلق خدعة التبرير، بل ويخترعون أصولاً جديدة للتشريع مثل فقه الموازنات وفكرة التجديد، فلا يقف في طريقهم حرام إلا لووا عنقه وأحلوه إذا لزم.
هؤلاء لمسوا أن دول الكفر المهيمنة تتحسب لصحوة المسلمين وتفكر باحتمالات المستقبل، ولمسوا من الكافر المستعمر أنه يتعامل مع المسلمين كفئتين: أصوليين إرهابيين يجب استئصالهم، ومعتدلين متأثرين بالغرب وثقافته يحملون له ولاء، ويدعون إلى حضارته، يجب إعطاؤهم دوراً سياسياً.
هذا النوع من التفكير – وهو بلاء – جعل هؤلاء يسارعون إلى الكفار أن يا أيها الغرب نحن ديمقراطيون، ونؤمن بالحريات العامة، ونؤمن بحرية العقيدة والحرية الشخصية، وديننا مرن، حاورونا وسترون ذلك، ديننا ليس جامداً ولسنا جامدين، نحن دعاة تطوير وتجديد لفقهنا، يا أيها الغرب نحن ندعو إلى الحوار ونأخذ كل ما نراه حسناً، فالحكمة ضالة المؤمن، ونحن لم نعد نرى الجهاد إلا دفاعاً، فنرجوكم أن تتحرروا من عقد أجنادين واليرموك، يا أيها الغرب مع أننا مسلمون وندعو إلى الإسلام كما عهدتمونا، فنحن نؤمن بحق وجود أحزاب علمانية لا تمت إلى الإسلام بصلة، وبحقها في طرح آرائها وفي العمل للوصول إلى الحكم.
هذه الفئة الثانية، وهم أصحاب المنهج الانبطاحي أمام الكفر والكفار، ولأن هذه الأفكار ليس لها أدلة شرعية يعمد أصحاب هذه الأفكار إلى التبرير فهم دعاة منهج انبطاحي تبريري.
ولا بد من التذكير أن الإسلام طلب الحوار وحث عليه، ولكن في موضعه، فقد أنزل تعالى هذا الدين للبشر ليؤمنوا به ويلتزموا أحكامه، وأمر بحمله لمن لم يؤمن به وحث على إقناعهم به وإدخالهم فيه، قال صلى الله عليه وسلم : «لئن يهدي الله بك رجلاً خير لك من خير النعم».
وهذا حث على الحوار والنقاش والجدال في الدعوة إلى الله، وقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). فالحوار يجب أن يكون في سبيل الله، لا في سبيل الشيطان، ويجب أن يكون حيث أمرنا به لا حيث نهينا عنه. فهو ليس غاية لذاته، ولا جميلاً وحسناً لذاته، وإنما للحوار غاية، فإن كان لإقناع الكافر بالإسلام أو لإخضاع الديار لسلطان الإسلام أو أمراً بمعروف ونهياً عن منكر فهو مشروع محمود.
فلا بد أن يكون الحوار لتحقيق معنى طلبه الشرع وفي موضعه، فلا يصح أن نلقي السلاح أو نستسلم أو أن نلغي الجهاد في الإسلام أصلاً، ثم نبرر فعلنا بالحوار وبإيماننا بضرورة الجدال بالحسنى، وبأننا لا نؤمن بالعنف مستشهدين بالآية: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً)، أو (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) كما يفعل علماء السلاطين ومفتوا الأنظمة في عصرنا حيث يستدلون بقوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)، في الموضع الذي يجب أن يستدل فيه بقوله تعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ)، والاستشهاد بالنصوص في غير مواضعها إن كان عن علم، دجل وتضليل وخيانة. ومن الممكن تصور قيام الداعية بالحوار مع حاكم من حكامنا، أو من حكام الغرب أو مع مستشرق أو مع عدو حاقد لئيم عسى الله أن يهديه. ولكن يجب أن يكون الحوار لتحقيق ما تصدرت به الآية (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ) أي أن يكون دعوة إلى الإسلام، فلعل الحوار يفيد والمرء يسلم، ومن الممكن تصور حوار مع حاكم من حكامنا أو بطانته وذلك لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتذكيره بالطاعات.
ولكن الحوار الذي يدعون إليه ليس من هذا القبيل، وإنما هو لإقناع حكامنا وحكام الغرب وصناع القرار فيه بأننا لسنا ضدهم، وبأننا ديمقراطيون ودعاة حرية شخصية وحرية اعتقاد وتعددية حزبية، وإننا لا نريد قتالهم لأن القتال أجيز في الزمن الماضي لأسباب، وقد زالت هذه الأسباب اليوم.
ورد في كتاب (أولويات الحركة الإسلامية) تحت عنوان الحوار مع عقلاء الحكام، صفحة 173:
[ولكن هناك نوع من الحكام لا يكره الإسلام بل يخافه، وكثيراً ما يكون هذا الخوف ناشئاً من الجهل بحقائق الإسلام وأحكام شريعته] ثم يقول:
[وكثير من الحكام يكون خوفه من الإسلام ودعوته من وساوس بطانة السوء في الداخل أو من كيد الأبالسة في الخارج].
هؤلاء الحكام يدعو صاحب الكتاب إلى طمأنتهم على كراسيهم في مقابل حرية الدعوة لتربية الشباب على الحق والخير، ثم يقول:
[لا مانع من عقد مثل هذه الهدنة أو هذه الاتفاقية مع الحكام وإن كان الحركة لا ترضى عن وجهتهم وسلوكهم، ولكن في ضوء فقه الموازنات رأت أن هذا الموقف أولى من المقاطعة الصارمة أو المعاداة الدائمة].
هذا هو معنى الحوار مع الحكام الذي يدعو إليه هؤلاء، إنه ليس لأمرهم بالمعروف ولا لنهيهم عن المنكر، وإنما هو لعقد هدن معهم، فلنسم الأشياء بأسمائها، إذاً هذا ليس حواراً.
وأين الحوار مع الحكام هنا، إنه دعوة للدعاة والمسلمين لمصالحة الأنظمة، وهو يحقق للأنظمة ما تريده من القضاء على دعوة الإسلام، وكيف نظمئنهم على كراسيهم؟ والواجب قلعهم وقلع كراسيهم، والغريب ما قدم به صاحب الكتاب لهذه الدعوة حيث قال إن كثيراً من الحكام مرد خوفه من الإسلام وساوس بطانة السوء، وأن هناك حكاماً لا يكرهون الإسلام بل يخافونه لأنهم يجهلونه، فيجب أن نسكت على منكراتهم إذن لكي نصالحهم ونعلمهم الإسلام.
هؤلاء الحكام لا يخرجون عن أن يكونوا كفرة أو فسقة فجرة على الأقل، وعلاقة الأمة معهم يجب أن تكون علاقة صراع لاقتلاعهم، وقد نكلوا بالمسلمين ولا يزالون، وهم أعداء للإسلام ولأمته، خبثاء ماكرون، فهل تراهم يتركون الشباب يتربون على الإسلام، وعلى أي إسلام سيتربى الشاب في ظل حاكم بالكفر مطمئن إلى كفره، وعلماء الأمة يدعون إلى المحافظة عليه وعلى ملكه، ولا يهمهم من الشباب إلا حسن الخلق.
إن هذه الدعوة تناقض قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ)، وتدل على أن صاحب هذه الآراء لم يجعل الإسلام مصدراً لأحكامه وأولوياته وإنما جع لضغط الواقع هو المصدر والموازنات العقلية هي الشرع. يقول صاحب الكتاب المذكور في صفحة 175:
[لا غنى عن الحوار مع الغرب، فالغرب هو الذي حكم العالم منذ قرون، وهو صاحب الحضارة التي تسود دنيانا اليوم، شئنا أم أبينا، وقد حكم ديارنا] ثم يقول: [ولم يعد في وسع مجموعة من الناس أن تعيش بعقيدتها ومبادئها وحدها معزولة عن العالم من حولها… ] ويقول: [ولهذا كان الحوار مع الغرب فريضة وضرورة لنا، حتى يفهم ماذا نريد لأنفسنا وللناس، وأننا أصحاب دعوة لا طلاب غنيمة، ورسل رحمة لا نذر نقمة ودعاة سلام لا أبواق حرب…].
إنه اعتراف بأن الغرب يحكمنا وحضارته الكافرة تسودنا شئنا أم أبينا، وبدل أن يدفعنا هذا للتفكير والتخطيط للتخلص من حكمه وحضارته النتنة وللعمل على إحياء النفوس بالإسلام لمصارعة الكفر واقتلاعه، بدل هذا يصبح العدو الكافر الذي يستعمرنا ويستغل بلادنا ويمص دماءنا، الماكر الذي يعمل للقضاء على الإسلام وحملته، والذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: (قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)، يصبح وكأنه الحكم العادل المنصف الذي يجب إفهامه أن لنا حقوقاً نريدها وأننا دعة سلام ورسل رحمة… الخ.
إنها ظاهرة خلل ومرض أن تكون هذه قواعد تفكير وأولويات عند حركة إسلامية، ولا نريد أن نناقش هذا القول من كل جوانبه، وإنما نلفت النظر – فقط – إلى معنى الحوار المقصود في هذه الدعوة، فهو كما ترى – أخي القارئ – ليس منطلقاً من قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ)، وإنما من اليأس والاعتراف بسيادة الحضارة الغربية، ومقصوده التوسل إلى الأبالسة، كما سماهم هو في الصفحة 174، أن يسمحوا لنا بالدعوة إلى ديننا، إنه لا يستثير النخوة ولا يشحذ الهمة لاقتلاع الكفر وإعلاء كلمة الله، بل يحاول إقناع الأمة بأن العمل لا يكون إلا من خلال أبالسة الغرب وبعد إذنهم، والحق يقال إن هذه ليست أفكاراً تعطى للأمة لإحيائها، وإنما هي استسلام ودعوة إلى الركون إلى الظالمين الذين قال فيهم سبحانه وتعالى: (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ)، وقال أيضاً: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً)، فهل استحضر الكاتب هذه الآيات وأمثالها عندما كتب ما كتب وقال ما قال؟
والأغرب أن يقول صاحب الكتاب تحت عنوان (الحوار السياسي مع الغرب) في الصفحة 186: [وهنا لا أنكر عقد الحقد على الإسلام والخوف من الإسلام وأمته لا تزال تحكم عامة الساسة في الغرب ولا زالت ذكريات اليرموك وأجنادين، وشبح الحروب الصليبية، وفتوح العرب والعثمانيين، وأسماء خالد بن الوليد وطارق بن الزياد وصلاح الدين ومحمد الفاتح، تقلقهم وتفزعهم. ومع هذا لا ينبغي أن تحكمنا نحن عقدة الخوف من هذه العقدة، ولا بد من كسر الحواجز النفسية، ومحاولة التحرر من العقد قديمها وحديثها، وقد تقاربت أوروبا على ما كان بينها من حروب ودماء، وتقارب الأميركان والسوفييت، فلم لا يجوز التقارب مع المسلمين؟] إن التدقيق في هذا الطرح وإنعام النظر في خلفيته الفكرية يدل على أن هم قائله أن يقبل سياسيو الغرب التقارب مع المسلمين، وأن لا نيأس من إزالة عقدة الخوف منا عنده، وأن هذا التاريخ الإسلام يجب أن لا يحول دون قبول الغرب بنا، فهل يريد منا الكاتب أن نتنكر لهذا التاريخ وأن نعتبره إرهاباً وأصولية يجب رفضها.
وعلى كل حال فإذا سلمنا بتقارب أوروبا فهي كلها ذات عقيدة واحة، وإذا تحدثنا عن التقارب – إن صح التعبير – الذي حصل بعد سقوط الشيوعية فما ذلك إلا سقوط عقيدة ونظام لصالح عقيدة ونظام آخر، وكذلك يقال عما سماه تقارباً بين الأميركان والسوفييت.
وحتى يقنع سياسيي الغرب بإمكانية التقارب يقول: [إن منطق الغربيين معروف: إنه لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة إنما توجد مصالح دائمة، ولا مانع عندنا أن ننطلق من مبدأ رعاية المصالح المشتركة بيننا وبين القوم].
إن مصالح القوم عندنا هي أن نتخلى عن ديننا وعن عقيدتنا والدعوة إليها، هي أن نرجع كفاراً، أفلم نقرأ كتاب الله: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ)، (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا)، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ).
هذه هي مصالح القوم، ومصالحهم أيضاً أن يستعمرونا ويستأثروا بثرواتنا ويستغلوا جهودنا، وأن يبقونا جهلاء تابعين لهم في كل مجالات الحياة، إن مصالحهم أن نكون كالعبيد لديهم فأين تقع المصالح المشتركة؟
ويستبق صاحب هذه الدعوة الأمور فيقول في صفحة 185: [وهناك من يسيء الظن بكل من يحاول الاتصال بالغرب أو الحوار معه بأي صورة من الصور ومن يستغل أي نوع من هذا الاتصال ليقذف أصحابه بالتهم الجاهزة: العمالة الخيانة… الخ].
إن الذين يبحثون عن رضى الغرب ويحرفون الإسلام ويضللون أتباعهم لأجل ذلك يائسون من نهضة الأمة الإسلامية بالإسلام، ولذلك فهم يبحثون عن السلطة والنصرة والسند وشد الأزر في مكان آخر خارج الأمة. والأنظمة السياسية مهما كانت وجهة نظرها في الحياة لا يمكن أن تقوم وتستمر ما لم تمتلك سلطة تحافظ بها على وجودها واستمرارها وتطبيق وجهة نظرها.
وإذا افترضنا أن الأمة مستعدة فكرياً لتطبيق الإسلام عليها اليوم، فالواقع أنها لم تمتلك سلطة نفسها بعد، ولذلك فهي تحكم بالكفر ويحكمها شرار الحكام يلعنونها وتلعنهم. والذين يسعون اليوم لإقامة الخلافة والحكم بما أنزل الله يفتقرون إلى السلطة أو النصرة التي تمكنهم من ذلك، ولو استعرضنا بشك لموجز وسريع مواطن السلطة، لوجدنا أن هناك قوة مهيمنة على الأمة هي قوة الكافر الغربي الذي يحكم بلادنا ويمد سلطانه إلى معظم أنحاء الكرة الأرضية، ولوجدنا أيضاً أن المواطن الأهم للسلطة هو الأمة، فالقوة الحقيقية كامنة فيها، وإنما يجب أن تحرك الأمة وأن تدفع إلى التحرك، بعد أن تم – بفضل الله – زرع الفكرة الإسلامية فيها.
وحقيقية الواقع أن حكامنا ومن وراءهم من شياطين الأنس قد اغتصبوا السلطة بالمكر والخديعة وبالقوة، والذين يئسوا من الأمة ولم تسعفهم إمكانياتهم لمعرفة الطريق يريدون أن يمن عليهم الكافر المستعمر بهذه السلطة، وهو لن يعطيهم إياها، وإنما قد يعدهم ويمنيهم ليخدعهم وليكونوا أدوات بيديه (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا @ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا).
وإن أخذ هؤلاء من الغرب سلطة، فلن تكون إسلامية ولا شرعية. لن تكون إسلامية لأنهم لن يستطيعوا أن يطبقوا فيها إلا ما عاهدوا الغرب عليه، ولن تكون شرعية لأنها لم تؤخذ من الأمة وإنما من مستعمريها ومغتصبي حقها في السلطان.
أما الذين غايتهم رضوان الله تعالى فيتخذون من القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم منهجاً، ويريدون السلطة لتطبيق الإسلام، ولا يقدمون أن تنازل ثمناً لذلك، ولذلك فهم يسيرون في الطريق الصحيح الذي يعتمد على الأمة لا إلى الغرب. فإن كانت الأمة أصلاً لا تتقبل الإسلام وتحمل مفاهيم الكفر متوهمة أن ذلك إسلام أو لا يتناقض مع الإسلام فيجب أن ينصب العمل حينئذ على إقناع الأمة بمفاهيم الإسلام وتلقينها وتحميلها إياه وتثقيفها به، وذلك بالعمل للقضاء على كل أثر أو تأثير للكفر في الأمة، وليس بإقناعها بأفكار الغرب والكفر وحضارته، فإذا ما بلغت الأمة مستوى من الوعي على الإسلام وأفكاره يؤهلها لأن تنقاد له طائعة وتضحي في سبيله بما لديها، وجب العمل حينئذ على إعطاء سلطانها للإسلام، مما يوجب انتزاعه انتزاعاً ممن يغتصبه بالكذب والدجل والتضليل والخداع، وبالقتل والتنكيل والإشاعات، وبمقدار ما يغرس الإسلام في الأمة بمقدار ما تستعد الأمة لانتزاع السلطة ولإعطاء قيادها لمن يسوسها بالإسلام، وبمقدار ما تكتشف الأمة وتقتنع أن هؤلاء الذين يسيطرون على مراكز القوة فيها، سواء أكانت ثروات أو أراضي أو جيوشاً أو أسلحة، هم أعداء لها وليسوا من جنسها بنفس المقدار سيكون تحرك الأمة ومراكز القوة فيها لانتزاع حقها انتزاعاً أي بالقوة.
والذين يدفعون الثمن للغالب، لعلة يلقي إليهم ببعض الفتات، لا يبنون أمة تنقاد بالإسلام وتحمله قيادة فكرية إلى العالم، وإنما هم معاول هدم في هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، هكذا كانت وهكذا ستثبت للدنيا عما قريب بإذن الله.
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ).
ولا يستغربن دعاة المناهج التبريرية أن نحاورهم ونبين بطلان ما يدعون إليه، وعسى أن يقبلوا بالحوار معنا لا مع عدوهم وعدونا.
(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).
الحوار الداخلي: