الديمقراطية والإسلام
د. يونس شناعه
تتخذ بعض المفاهيم في أذهان غالبية المسلمين شكل البديهيات والمسلمات على أنها حقائق منتهية، والنقاش فيها إضاعة للوقت والجهد؛ حتى أن بعضها انتقل من الذهن إلى النفس، وتحول إلى قناعة قلبية تصعب زعزعتها أو زحزحتها؛ كل ذلك على الرغم من خطئنها وضعف ما تستند إليه من حجج عقلية، وعلى الرغم من فشلها على ارض الواقع.
وعلى الرغم من كثرة هذه المفاهيم المغلوطة إلا أنني رأيت (لغايات التوضيح) أن أحصر البحث وأقصر مقالتي هذه على ثلاثة منها فقط، راجيا أن يفي ذلك بالغرض.
فمن المفاهيم المهيمنة على أفكار أبناء المسلمين، أن الديمقراطية أساس راسخ من أسس الإسلام؛ ويرجع السبب في هذا الفهم إلى اعتقادهم أن (الديمقراطية) ليست مبدأ في حد ذاتها، بل هي (العدالة). وحرية التعبير، خصوصاً فيما يتعلق بالحاكم والرعية. وهم ينطلقون في هذا من اعتبار المعنى المجازي للكلمة، والأخذ به، فكلمة (الديمقراطية) بمفهوم (الشارع الإسلامي) وفي عرف عامة الناس لا تعني أكثر من ذلك! إذن فلقد (أخرج) الجمهور المعنى (الرسمي) للكلمة وجهله أو تغاضى عنه أو (أريد له أن يجهله)، ليحتضن (اصطلاحاً) جديداً لا تعنيه الكلمة أصلاً.
وإذا كان هذا هو فهم الجمهور في النهاية، فمن أولى من الإسلام بالديمقراطية تبعاً لذلك؟ وكيف لا تكون الديمقراطية بالمفهوم (الاصطلاحي) شعار نظام الحكم في الإسلام. والإسلام أعطى الفرد في المجتمع الإسلامي من حرية التعبير، حيال الحاكم ما لم تشهد الدنيا مثله من قبل ولا من بعد. أولم (يمسك) أعرابي فظ الكلام بتلابيب رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ويشده إليه شداً أثر في عنقه وهو يقول: (اعطني يا محمد. فإنك لا تعطيني من مالك بل من مال الله!)؟ أو لم يطلقها خليفة الإسلام الأول صريحة واضحة (إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني)!؟.
أولم يكن خليفة الإسلام الثاني مضرب المثل عبر القرون في حرية تعبير الفرد المسلم أمام رهبة الحاكم، وجبروته ولو كان عمر؟ أولم (يبالغ) عمر في ذلك حتى (أتعب الذين يجيئون من بعده)؟
لكل ذلك وأمثاله، استقبل جمهور المسلمين تعبير (الديمقراطية) بالمعنى الاصطلاحي الذي ذكرنا، واعتبروه وساماً يليق به صدر الإسلام! غير إننا إذا تعاملنا مع الحقيقة وأمعنا النظر وعدنا إلى جذور الكلمة وجدناها تتكون من شقين يونانيين هما: ـ ديمو (س) (S) Demo وتعني (الناس)، وكراسي Cracy وتعني (الحكم)، فيصبح معنى الشقين مجتمعين في كلمة (ديمقراطية) (Democracy) (حكم الناس)؛ ومع الأيام أصبح المعنى (حكم الشعب)؛ ثم تطور معنى هذا التعبير اصطلاحاً إلى (حكم الشعب بالشعب ومن الشعب) أي أن تتولى فئة من الناس في المجتمع حكم المجتمع كله، بأنظمة يسنها المجتمع (أو فئة منه)، نيابة عن مجموع الناس. وما زال هذا المعنى قائماً، ومتفقاً عله حتى يوم الناس هذا. فالديمقراطية إذن ليست (العدالة)، ولا (حرية التعبير)، ولا… إنما هي نظام حياة تلخصه عبارة (حكم الشعب بالشعب).
نقيضان لا يجتمعان:
أما كيف تتناقض الديمقراطية مع الإسلام فأمر ذلك بسيط: فالإسلام نظام حياة متكامل مصدره رب السموات والأرض ورب الناس؛ والناس الذين يطبقون هذا النظام يدركون تماماً حقيقة أنه من عند الله، نزل به الروح الأمين (جبريل) على قلب (محمد بن عبد الله) قرآن وسنة جرت على لسان محمد رسول الله، وعلى جوارحه، رحمة للعالمين.
إذن فالنظام الذي يطبق على المجتمع الإسلامي ليس من عند الناس، وفي (الديمقراطية) يضع الناس أنظمتهم بأنفسهم. هذه واحدة.
أما الثانية فهي أن الحاكم في النظام الديمقراطي أجير عند الشعب بموجب القانون، ولمدة معينة لا يجاوزها إلا بإجراء جديد يعيد المسؤولية سيرتها الأولى؛ وفي كل (دورة) يعمل هذا الحاكم جاهداً أن يمكن لنفسه في الأرض، بتسخير واستغلال منصبه الفعال، ليعود إلى هذا المنصب، ويجتاز (امتحان) الدورة القادمة بنجاح منقطع النظير. على طريق النظام الديمقراطي في (ترقيع) عباءته كلما انفتق منها جانب، فقد أدرك سدنة النظام وأربابه هذا العيب المتأصل فيه، فحددوا في بلد مثل الولايات المتحدة الأميركية عدد الدورات لرئيس الجمهورية، فأصبح لا يترشح لمنصب الرئاسة إلا مرتين ومن سخريات القدر أن يضع (المقننون) لدستور الولايات المتحدة هذه استثناء واحداً يبيح للرئيس المقيم في دورته الثانية أن يجدد رئاسته للدورة الثالثة إذا كانت البلاد في حالة حرب مع دولة أخرى، وأن يستغل هذا الاستثناء أبشع استغلال ويكون الحافر لمسرحية (بيرل هاربر) Pearl Harper ـ مرفأ اللؤلؤ ـ إبان الحرب العالمية الثانية ليبرر الرئيس (روزفلت) لنفسه إعلان الحرب على اليابان وتجديد ولايته الرئاسية للمرة الثالثة تلقائياً بلا انتخابات!!
هذا في النظام الديمقراطي، أما في نظام الإسلام فالحاكم أو الخليفة لا ينتخب لفترة زمنية محدودة فهو حاكم للأمة طالما أقام شرع الله في الناس، (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله)، فإذا تنكّب عن صراط الله فالمسلمون في حل من بيعته وعليهم الإطاحة به (فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم). فالفترة الزمنية تدور مع التطبيق طولاً وقصراً.
والخليفة أو الحاكم ليس أجيراً عند الناس، فهو بعد انتخابه من قبلهم أو من قبل أهل الحل والعقد فيهم مستوفياً كل شروط الخليفة هو بعد ذلك ذو حرية فيما يجتهد فيه من أحكام شرعية يتبناها، أو إجراءات يعتمدها مما يعود البث فيه إلى رأي صاحب الصلاحية بعد التشاور والحوار. ولذلك رأينا الحاكم المسلم إبان الحكم الإسلامي يتصرف بقناعته المحكومة بتقوى الله دونما تحفظ أو مجاملة يغززه في مواقفه هذه زهد في المنصب (إنا لا نولى هذا الأمر من كان يحرص عليه!) (إنها في الدنيا أمانة، وفي الآخر خزي وندامة!) إلا من رحم ربك! فهو إذن غير (مغلول اليدين) بفترة رئاسية قصيرة لا يكاد يبدأ فيها خطة هامة حتى (تداهمه) النهاية، ليتناول العصا شخص آخر وهكذا (ويستثنى بالطبع أمثلة لا ينطبق عليها النظام الديمقراطي في العالم الثالث كالرئاسة مدى الحياة أو ما هو في حكمها!).
كيف غزتنا «الديمقراطية»:
تسألونني كيف وجدت هذه المبادئ كالديمقراطية، طريقها إلى الناس؟ اسمعوا إذن:- منذ اضطراب النظام الأساسي في الدولة العثمانية (وريثة الخلافات ـ جمع خلافة! ـ الإسلامية)، في أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر، وظهور الأسرة العلوية بزعامة (محمد علي) باشا في مصر وعلى إثر الحملة الفرنسية بقيادة نابليون إلى مصر عام 1798، ممهداً لها باغراءات مادية مدنية تبهر الأبصار والعقول كالمطابع ونحوها، منذ ذلك الحين سهل على الفكر الغربي الوارث للأنظمة الرومانية والأفكار اليونانية، أن يخترق المجتمع الإسلامي الذي كان يعاني من جهل وفقر وسطحية فكر، لا هياً بالتافه السفساف من الأمور، مكتفياً من الثقافة الإسلامية والفكر والإسلامي الأصيل العميق بالقشور. فكانت تلك الأفكار (المزركشة) بواكير الغزو الثقافي والفكري للعالم الإسلامي. وعندما عاد (رواد) المعرفة الغربية من بعثاتهم التي رعاها (محمد علي) إلى فرنسا بالذات، تبنى هؤلاء هذه الأفكار وتعهدوها بالحضانة والذود عنها، والترويج لها على أنها (من الإسلام) ثم على أنها (لا تتعارض مع الإسلام)، ثم على أنها… (أفضل من الإسلام) ولم يفت الساهرين على تحقيق نجاح هذه الحملة (الفكرية) أن ينثروا حولها الأزاهير كالحرية والعدالة والإخاء والمساواة تلك الشعارات التي حرصوا على تحقيق مفاهيمها في واقع الحياة في بلادهم ولم يحرصوا على ذلك في بلادنا!
ويتساءل المتسائلون: وما الدافع إلى كل هذا؟ لماذا يجهد هؤلاء (المستعمرون) أنفسهم في تثبيت الفكر (الغربي) مكان الفكر الإسلامي في أذهان أبنائنا ونفوسهم؟ والجواب ذو شقين: الأول تحيز هؤلاء لأفكارهم باقتناعهم الموروث بها، وهذا أمر طبيعي، والثاني (وهو الأهم) قناعة هؤلاء أن الفكر الإسلامي الأصيل إذا وجد مكانه في نفوس أبنائنا وعقولهم فإنه يفعل الأعاجيب!
لقد جربوه في عصور ما قبل الهوان في هذه الأمة، وذاقوا مرارته التي لم تفارق حلوقهم، ولقد ورثوا هذا الخوف الممزوج بالحقد عبر الأجيال (كابر عن كابر!)؛ حتى في بداية عصر التقهقر،لم تستطع كتب التاريخ التي ألفوها، لم تستطع التخلص من هذا (الكابوس)، فلم تجد بداً من أن تصف الجيش العثماني بالجيش الذي لا يقهر The invincible!.
أجل إنهم ومفكريهم بخاصة يدركون بعمق و.. بحق، إن لترسيخ العقيدة الإسلامية في نفوس أبنائنا فعل البارود وهم على كل المستويات، يعملون جاهدين لإخلاء نفوسنا ونفوس أبنائنا من هذا التأثير الفعال.. الخطر. فإذا ما نجحوا في تفريغ الأذهان والنفوس من أساسيات هذه العقيدة، واستبدالها بأي شيء آخر، ديمقراطية كان أم اشتراكية أم ماركسية أم رأسمالية (وكلها تدعي وصلاً بالديمقراطية) نقول إذا ما نجحوا في ذلك، اطمأنوا إلى موت روح الجهاد في هذه الأمة وهو عندهم بيت القصيد! إن أميز ما امتازت به هذه الأمة الإسلامية في ماضيها وحاضرها، هي روح الجهاد فاستحقت بجدارة أن تسمى أمة الجهاد وأكبر مصداق لدعوانا هذه روح النداء التي ما زالت تسري في عروق أبنائنا وبناتنا في فلسطين المحتلة رغم كثافة الركام الذي يغطي الجذور ويغشي النفوس، والتيئيس الذي قتل الرغبة في التحرك وإن أغلى أمنيات الاستعمار خنق هذا المارد في قمقمه!