العدالة ومظاهر الخلل في الحضارة المعاصرة مقاربة في رسائل النور

إبراهيم شوقار

 

إن العدالة حكمة إلهية، بها يتحقق مقتضى سنن الكون في الوجود لتجري نحو غايتها جميعُ الكائنات، وهي أيضًا قيمة الإنسانية، بها يسود منهج الحق ويتحقق مقتضى سنن الشرع في المجتمعات، وهي أيضًا غاية أصلية للشرائع السماوية التي جاءت قاطبة لتحقق العدالة في الأرض، لتكون البشرية بسائر أجناسها وأعراقها وثقافاتها، أمام ميزان العدل والإنصاف، إذ قال تعالى:﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(الحديد:25). فهذا الكون -كما يرى العلماء- يجري في توازن دقيق ووفق عدالة عامة نابعة من التجلي الأعظم لاسم اللّٰه “العدل”، وهي تدير موازنة عموم الأشياء وتأمر البشرية بإقامة العدل. وبمراعاة هذا الميزان الإلهي، سواء في جانبها الشرعي باتباع صراط الدين الذي بيّنه الرسل: ﴿إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾(النحل:90) أو بالتمثل لسنن الحق في نواميس الكون، قدمت البشرية كثيرًا من النماذج المشرقة للوحدة والتجانس والأمن والسلام، في ظل تباين ثقافي وديني وعرقي للمجتمعات، وتجاوزت بذلك كل الكوارث وويلات الحروب الطاحنة وما يرافقها من خراب ودمار.

ولكن لما كانت النفس البشرية مطبوعة على الطغيان -وهو إخلال بميزان العدل بكل معانيه- صارت هنالك جوانب مظلمة في تاريخ المجتمعات غطتها ركام من المظالم والمتناقضات. أما في هذا العصر، فيرى المرء أصنافًا شتى من الإخلال بميزان العدل في سائر أرجاء العالم، بل حتى البيئة والطبيعة تأثرتا بالنشاط الإنساني المخل بالتوازن. فعلى خلاف ما يرجوه أي ضمير إنساني، تقف البشرية اليوم على منعطف حاسم في وجه تقلبات الحركة التاريخية، حيث فقدت عنصر “التوازن” في سائر مظاهر حياتها. فالمجتمعات البشرية تعاني اليوم من قلة الطمأنينة باختلال التوازن بين متطلبات النفس والروح، وتعاني من خوف رهيب بسبب الحروب المدمرة وغيبة الأمن، الناتجة عن اختلال التوازن بين تطور المعارف والعمل بالقيم الروحية، وتعاني من قلة السلام الاجتماعي نظرًا لغياب العدالة الاجتماعية واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء.

وإلى جانب كل ذلك، تعاني الإنسانية اليوم من كوارث طبيعية مهلكة، بسبب اختلال التوازن البيئي بما كسبت أيدي الناس. فكل هذه إنما هي مظاهر للخلل في عناصر “العدل والتوازن” في الحياة، لأن اللّٰه تعالى بحكمته العجيبة، قد أوجد هذا الكون على توازن عجيب. وقد تنبأ بديع الزمان “سعيد النورسي” ببصيرته النافذة وفكره الثاقب، إلى كل هذه التناقضات وعبّر عنها بقوله: “سيكون زمان يُخفي الضدُّ ضدَّه، وإذا باللفظ ضد المعنى في لغة السياسة، وإذا بالظلم يلبس قلنسوة العدالة، وإذا بالخيانة ترتدي رداء الحمية بثمن زهيد، ويُطلق اسم البغي على الجهاد في سبيل اللّٰه ويسمّى الأسر الحيواني والاستبداد الشيطاني حرية”.

هذا الوصف يبيّن درجة الانقلاب في القيم والانحراف في المعايير الأخلاقية، ويظهر بجلاء التطابق بين عناصر هذا الوصف والعصر الذي نعيش فيه، أي إن “الزمن” الذي أشار إليه النورسي قد جاء أوانه وحلّ وقته. إذن ما الحل؟ وما الوسائل المتاحة والبدائل المتوفرة لرفع هذه التناقضات بشتى صورها، وإعادة العدل والتوزان في المجتمعات البشرية وفي البيئة، لتهنأ الإنسانية بالسلم والأمن والرفاهية؟

الإجابة المبدئية لهذه التساؤلات في نظر النورسي، هي أن الإنسان قد صار متمردًا على نظام المشيئة الإلهية، سواء كان في جانبه الكوني أو الشرعي أو الجانبين معًا.

مفهوم العدالة في فكر النورسي

إن ما جاء به المرسلون من الشرائع وفق قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(الحديد:25) قسمان، قسم مطلق (ثابت)، وقسم نسبي (متغير) يراعي حاجة الإنسان الزمانية والمكانية فيتبدل وفق الأزمنة والعصور.

أما القسم الأول فلا يقبل التطور والتبدل مهما تعاقبت العصور، ويجب المحافظة عليه على الدوام لأنه يتعلق بغاية الإنسان في الوجود، وإنْ انحرف عنه الزمان فإنما هذا دليل على فساد الزمان لا على فساده. وهذا القسم الثابت هو أصل الدين والقيم. والقيم إما أن تتعلق بالجانب الشخصي للإنسان وهو الأخلاق، وإما أن تتعلق بالجانب الاجتماعي وهي العدالة: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. ووفق الأصفهاني، فإن العدالة والمعادلة في اللغة، ألفاظ تقتضي معنى المساواة، والعَدْلُ والعِدْلُ (بالفتح والكسر) يتقاربان في المعنى، ولكن يُستعمل الأول (العَدْلُ) فيما يُدْرَك بالبصيرة كالأحكام كما جاء في قوله تعالى:﴿أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾(المائدة:95). أما “العِدْلُ” و”العَدِيل” فيستخدمان فيما يُدْرَك بالحاسة، كالموزونات والمعدودات. فـ”العدالة” في الاستخدام القرآني، تأتي على ثلاثة أوجه على سبيل الإجمال:

1- العدالة بمعنى المساواة في التعامل: وينطبق هذا المعنى بالأساس على المعنويات، لذلك تتحقق صحته وفق المجال الذي تطبّق فيه العدالة كالمساواة أمام القانون، ولأن المساواة المطلقة في المعنويات قد لا تحقّق غاية العدالة، قال تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾(الأنعام:1)، أي يساوون الخالق بالمخلوق وهو عين الظلم والجور.

2- العدالة بمعنى التوازن في الأشياء؛ أي التقسيط على سواء بانتفاء الخلل والعيب والنقصان. ويتجلى هذا المعنى بصورة أساسية في الماديات، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾(الأحقاف:3)، ويفسره قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾(الرحمن:7-8)، أي إن العدالة والتوازن المشهود في حركة الكون، يجب أن يكون دافعًا ومحفّزًا للإنسان على إقامة العدل في المجتمع البشري. وهو المعنى الذي قصده النورسي بقوله: “إن العدالة العامة الجارية في الكون، النابعة من التجلي الأعظم لاسم “العدل”، إنما تدير موازنة عموم الأشياء، وتأمر البشرية بإقامة العدل”. والعدالة بهذا المفهوم هي سنة إلهية في الكون، تتجلى من خلال القوانين التي تحكم حركة الموجودات في الحياة الطبيعية.

3- العدالة بمعنى الجزاء بالمثل؛ أي الجمع بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، وهي صورة معنوية تتجلى من خلال الحكمة الإلهية المطلقة في تصريف شؤون الخلق، ولا سيما في المجتمع البشري، وهي ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(القلم:35-36). فاللّٰه تعالى من حكمته ورحمته، لا يساوي بين أهل الإيمان والكافرين به في الأحكام، ولا يساوي بين دعاة السلم والأمن وعُشاق الحرب والدمار في الجزاء، ولذلك قال: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾(الشورى:40)، وقال: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللّٰهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلًا﴾(الفتح:22-23). فسنة اللّٰه تعالى في الظواهر الاجتماعية والتاريخية، هي طريقة حكمته في الجمع بين الأمور المتماثلة والتفريق بين الأمور المختلفة، ولذلك فإن نصرة أهل الإيمان تابعة للإيمان، ومتى انحرف عنه المسلمون فلا نصرة لهم. وملخص هذا المعنى جاء في قوله تعالى: ﴿منِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(الإسراء:15).

الذي ينعم النظر في رسائل النور، يجد أن هذه المعاني الثلاثة للعدالة منثورة في ثناياها، ولكن يستخدمها النورسي بمفهومين، عدالة بمفهوم “الشريعة الكونية” وأخرى بمفهوم “الشريعة الدينية”، أي ثمة عدالة كونية وأخرى شرعية.

العدالة الكونية

إن من أهم الخصائص المنهجية للخطاب النورسي، هي تأسيس القواعد المطردة ثم بناء الفروع عليها. ولذلك فهو يعمد إلى وضع الأسس الكلية لمفهوم “العدالة” التي يراها مقصدًا جوهريًا من مقاصد القرآن، من خلال ربطها بفكرة السنن الكونية التي يسيّر اللّٰه بها الوجود؛ إذ يرى النورسي أن التوازن الكوني رمز للعدالة الإلهية فيقول: “إن العدالة العامة الجارية في الكون، النابعة من التجلي الأعظم لاسم “العدل”، إنما تدير موازنة عموم الأشياء وتأمر البشرية بإقامة العدل”. الأمر الصادر بإقامة العدل هنا ليس أمرًا “لفظيًا” في نظر النورسي، وإنما نظام “معنوي” يتجلى من خلال دقة الحركة الكونية، ولذلك فإن “هذا الكون قصْر بديع يضم مدينة واسعة تتداولها عوامل التخريب والتعمير، وفي تلك المدينة مملكة واسعة تغلي باستمرار من شدة مظاهر الحرب والهجرة، وبين جوانح تلك المملكة عالم عظيم يسبَح كل حين في خضم الموت والحياة. ولكن على الرغم من كل مظاهر الاضطراب، فإن موازنةً عامة وميزانًا حساسًا، وعملية وزنٍ دقيق تسيطر في كل جوانب القصر ونواحي المدينة، وتسود في كل أرجاء المملكة وأطراف العالم، وتهيمن عليها هيمنة، بحيث تدل بداهة أن ما يحدث ضمن هذه الموجودات التي لا يحصرها العدّ من تحولات، وما يلجُ فيها وما يخرج منها، لا يمكن أن يكون إلاّ بعملية وزنٍ وكَيْلٍ، وميزان مَن يرى أنحاء الوجود كلها في آن واحد، ومن تجري الموجوداتُ جميعُها أمامَ نظر مراقبته في كل حين، ذلكم الواحد الأحد سبحانه”.

أما معنى العدالة الكونية فهي العدالة الإلهية المحضة التي تجمع بين المعنيين؛ الثاني والثالث، أعني التوازن والجزاء بالمثل. وهي بذلك تعتبر سنة إلهية، من أهم خصائصها الإطلاق والعموم والشمول. ويعرض النورسي تجليات ومظاهر هذا النوع من العدالة بقوله: “وترى العدالة المطلقة تضع كل عضو من الكائن الحي في موضعه اللائق به، وتنسقه بموازين دقيقة حساسة، ابتداءًا من ميكروب صغير إلى كركدن ضخم، ومن نحل ضعيف إلى نسر مهيب، ومن زهرة لطيفة إلى ربيع زاهٍ بملايين من الأزهار، وتراها تمنح كل عضو تناسقًا لا عبث فيه، وموازنة لا نقص فيها، وانتظامًا لا ترى فيه إلا الإبداع. كل ذلك ضمن جمال زاهر وحسن باهر، حتى تغدو المخلوقات نماذج مجسمة للإبداع والإتقان والجمال، فضلًا عن أنها تهب لكل ذي حياة حق الحياة فتيسر له سبل الحياة، وتنصب له موازين عدالة فائقة، فجزاء الحسنة حسنة مثلها، وجزاء السيئة سيـئة مثلها”.

هذا النص يبيّن أن العدالة الكونية تتجلى من خلال صورتين الأولى بصورة “نظام” في حركة الموجودات، والثانية بصورة “جزاء” لأفعال العباد الاختيارية وهو لا يتحقق كاملة إلا في الآخرة. والفرق بين النوعين ليس في الخصائص وإنما في مجال العمل، لذلك يقول النورسي: “نعم، إن العدالة شقان أحدهما إيجابي والآخر سلبي؛ أما الإيجابي فهو إعطاء كل ذي حق حقه. فهذا القسم من العدالة محيط وشامل لكل ما في هذه الدنيا لدرجة البداهة. فكما أثبتنا في الحقيقة الثالثة، بأن ما يطلبه كل شيء وما هو ضروري لوجوده وإدامة حياته التي يطلبها بلسان استعداده وبلغة حاجاته الفطرية وبلسان اضطراره من الفاطر ذي الجلال، يأتيه بميزان خاص دقيق وبمعايير ومقاييس معينة، أي إن هذا القسم من العدالة ظاهر ظهور الوجود والحياة. أما القسم السلبي فهو تأديب غير المحقين، أي إحقاق الحق بإنزال الجزاء والعذاب عليهم. فهذا القسم وإن كان لا يظهر بجلاء في هذه الدنيا، إلا أن هنالك إشارات وأمارات تدل على هذه الحقيقة. خذ مثلًا سوطَ العذاب وصفعات التأديب التي نزلت بقوم عاد وثمود، بل بالأقوام المتمردة في عصرنا هذا، مما يظهر للحدس القطعي هيمنة العدالة السامية وسيادتها”.

إن عاقبة تمرد الإنسان بتصرفاته غير الحكيمة على العدالة الإلهية المتمثلة في “التوازن الكوني”، هي الكوارث البيئية وأضرارها البالغة التي تعم البشرية كما هو ظاهر في هذا العصر. أما الجزاء العادل بحق هذه التصرفات المعوجة نفسها “القسم السلبي”، فيتجلى كاملًا في يوم الجمع الأكبر، وإن كانت صفعات التأديب قد تنـزل في هذه الدنيا. وهذا يعني أن جزاء انتهاك السنن الكونية عاجل، أما السنن الشرعية فبرحمة اللّٰه سبحانه وتعالى يستوفى جزاؤها في الآخرة. فالعدالة الكونية في رسائل النور، إما عدالة “نظام” في الموجودات، أو عدالة “جزاء” للعباد، وهذه الأخيرة ينبثق منها مفهوم العدالة الشرعية التي جاء بها المرسلون.

العدالة الشرعية

إن العدالة الشرعية هي التي يشير إليها قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(الحديد:25)، وهي ترتبط بالعدالة الكونية من حيث أصولها السماوية المتمثلة في شرائع الدين وتختص بالمجتمع البشري، لذلك أسند أمر تنفيذها بخلاف العدالة الكونية إلى الإنسان: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(الحديد:25).

تأتي العدالة الشرعية بالمفهوم الأول للعدالة -أعني المساواة في التعامل- وهي عدالة نسبية تجمع بين العدالة القانونية والاجتماعية، أي تحري الحق بحسب القدرة البشرية، لتحقيق العدل بين الناس وفق أوامر الشرع وإعطاء كل ذي حق حقه، ولذلك قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾(النحل:90)، وقال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾(البقرة:194)، وهذا هو العدل، أي المساواة في التعامل؛ إنْ خيرًا فخير وإن شرًا فشر. ولكن القرآن يعلمنا أن العفو هو الأفضل: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّٰهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(آل عمران:134)، والإحسان أن يُقابل الخير بأكثر منه والشر بأقل منه.

فالعدالة الشرعية هي الاعتدال على صراط الحق وتحري الوسط من الأمور بين طرفي الإفراط والتفريط: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(المائدة:8). فالعدالة بهذا المعنى سبب للطمأنينة وراحة البال، لأن الذي يعدل بين الناس، يكسب ودهم ويأمن غدرهم، فيعم الأمن والسلام والتعاون بين الناس فيكثر الإنتاج وتعم الخيرات.

إن فلسفة العدالة الشرعية عند النورسي قائمة على هذه “الوسطية”، وهي خلاصة لكل الخصال الحميدة في الإنسان؛ الحكمة والعفة والشجاعة، وهي أوساطٌ للمراتب الثلاث لقوى الإنسان: القوة الشهوية البهيمية الجاذبة للمنافع، والقوة الغضبية السَبُعية الدافعة للمضرات والمخرِّبات، والقوة العقلية الملكية المميزة بين النفع والضر. وحقيقة ذلك هي أن اللّٰه تعالى بحكمته المقتضية لتَكمُّل البشر بسر المسابقة، لم يحدِّد بالفطرة تلك القوى كما حدد قوى سائر الحيوانات، وإن حدَّدها بالشريعة لأنها تنهى عن الإفراط والتفريط وتأمر بالوسط. وبعدم التحديد الفطري يحصل مراتب ثلاث: مرتبة النقصان وهي التفريط، والزيادة وهي الإفراط، والوسط وهي العدل.

والعدالة الشرعية عند النورسي يمكن النظر إليها من جانبين: عدالة حقيقية (محضة) وأخرى نسبية (إضافية). أما العدالة المحضة فهي الأخذ بالعزائم الشرعية في تحري الحق، مثل تلك التي تقرر ألا يهدر دم بريء، ولا تزهق روحه حتى لو كان في ذلك حياة البشرية جمعاء، لأن الكل والجزء في نظر العدالة سواء. أما العدالة الإضافية فهي الأخذ بالرخص الشرعية في تحري الحق، مثل التضحية بأحد الجنود لإنقاذ الجيش بأسره من الهلاك. والفرق الجوهري بينهما هو أن العدالة النسبية يمكن إساءة استخدامها من قبل المفسدين بذرائع مختلفة.

إن هذا المفهوم للعدالة عند النورسي يبيّن علو مقام الإنسان بين الكائنات، إذ “لم يحدِّد اللّٰه تعالى بالفطرة تلك القوى كما حدد قوى سائر الحيوانات”. ويقوّض الأسس الفلسفية لفكرة “العدالة” في الحضارة المعاصرة، من حيث إن العدالة المطلقة في السماء هي الأساس والقاعدة للعدالة في الأرض عند النورسي، لأن “ملكة تعديل الأخلاق الموهومة -في الفكر الوضعي- لا تكفي للمحافظة على القوى الثلاثة في الحكمة والعفة والشجاعة. لذا فالإنسان بالضرورة محتاج إلى نبي يمسك بميزان العدالة الإلهية النافذة والمؤثرة في الوجدان والطبائع”.

تُفهَم العدالة في رسائل النور بهذين الاعتبارين، أي المفهوم الكوني والشرعي للعدالة، حيث إن الإنسان مأمور -بالفطرة والشرع- بإقامة العدل في المجتمع. ومن هنا تظهر أهمية الدعوة لجعل سنة العدالة الإلهية أساسًا ومنبرًا لإيجاد تراث بشري مشترك، لأن من الناس من لا يؤمن ببعض الشرائع ولكنه ملزم بإقامة العدل وفق الشريعة الكونية. وهذا يعكس مدى بعد النظر الذي يتمتع به مؤلف رسائل النور. وغرس هذا المفهوم “للعدالة” في النفوس لا يحفظ التوزان الاجتماعي والبيئي فحسب، وإنما يمنع الظلم والتطرف الفكري أيضًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر

(1) اللمعات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

(2) الشعاعات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

(3) الكلمات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

(4) إشارات الإعجاز، لبديع الزمان سعيد النورسي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

(5) الملاحق، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

(6) صيقل الإسلام، لبديع الزمان سعيد النورسي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

(7) الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي، دار الفكر، بيروت.

(8) المفردات في غريب القرآن، لراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت.

(9) مجموع الفتاوي، لأحمد بن عبد الحليم، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، المملكة العربية السعودية.

المصدر: https://hiragate.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D9%88%D...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك