المناعة الفكرية
د. محمد الرميحي
تجتاح عالمنا ثورتنان غير مسبوقتين فى التاريخ الانساني، ثورة الانترنت وملحقاتها، وثورة البحوث البيولوجية ونتائجها، فى الاخيرة يستنبط الانسان أشكالا من الحياة لم يكن مًفكرا فيها حتى عقود قليلة ماضية، كمثل توليد الاناث من بعضهن فى بعض تجارب الفئران الناجحة، دون الحاجة الى الذكور!.
اما الاولى التقنية فانها تغير من حياة الشعوب والامم بشكل ايضا غير مسبوق، وان لم ننتبه اليها اليوم فنحن سائرون الى ما يعرف بالدكتاتورية الرقمية!.
المشكلة التى تواجهنا كعرب أن كثيرا منا لم ينتبه الى تلك الثورتين وتأثيرهما علينا، او لا يريد ان يعترف بأهميتهما على التغيير الاجتماعى والاقتصادى والثقافى والاستراتيجى فى محيطنا، كما لم تقم النخب بمناقشتها مناقشة علمية. ما تتصف به تلك الثورتان ان نتائجهما معولمة اى انهما يحدثان فى كل العالم وفى نفس الوقت وينتجان نفس النتائج.
خذ مثلا ما فعلته وسائل الاتصال فيما يعرف اليوم بثورة النساء، فقد كان فقط على امرأة واحدة ان تعلن على الانترنت بشجاعة انها تعرضت للتحرش، حتى ظهر فورا بعد ذلك التصريح، موقع يسمى نفسه أنا ايضا وفى خلال اسبوع واحد فقط تم رصد تسعين مليون متابع لذلك الموقع ومن جراء ذلك فقد العديد من الرجال وظائفهم، آخرهم ما أعلنته شركة جوجل العملاقة، من إنهاء عمل عدد من كبار موظفيها لانهم اتهموا بالتحرش!.
فى الكويت ظهرت الاسبوع الماضى ما يشبه الفضيحة وهى بيع معلومات عن اشخاص يبلغ عددهم ثمانمائة الف شخص متضمنة أرقام تليفوناتهم وعناوين منازلهم وارقام بطاقاتهم، وعرض البائعون كل تلك المعلومات بسعر زهيد ومن خلال اعلان منشور!.
تلك حالات فقط وامثلة بما يمكن ان تفعله وسائل التواصل الاجتماعى والتقنية الحديثة فى حياتنا، بل يستطيع من يريد أن يعرف من هو جالس بقرب من، فقط ان كان لدى الاثنين تليفون نقال حديثا، فيمكن معرفة ان خالد يتحدث الآن مع فاطمة فى المقهى الفلانى فى باريس او نيويورك او القاهرة، او اى مكان فى العالم!.
ماذ يعنى كل ذلك لحياتنا العامة والخاصة؟ يعنى ان هناك سيولا من المعلومات تتدفق علينا كأفراد، قد يكون بعضها صحيحا وقد يكون بعضها الآخر تلفيقا يدخل إما فى أطار الخرافة او فى اطار الدعاية او فى إطار التشويه وقتل الشخصية سواء أكان ذلك فردا أو وطنا بحاله! فى عالم مغرق بما يمكن ان يعرف بالمعلومات المضللة) او الايهام بالصدق الذى تتدفق علينا من كل صوب، وعدم وجود منهجية او حتى وقت لدى كثير منا من أجل تقصى الحقيقة تصبح الحقيقة سلعة نادرة، نحن فى عصر ما بعد الحقيقة او تسليع الكذب إن صح التعبير.!
فى هذا الفضاء الصعب من تدفق المعلومات ماذا نفعل؟ هنا التحدى الحقيقى الذى يواجهنا كعرب وربما شعوب الشرق الاوسط من عرب وعجم! الالتفات الى ما يمكن ان يعرف بالمناعة المعرفية، وهى لا تأتى الا من خلال منظومة حريات، اى تعليم اطفالنا وشبابنا كيف لهم ان يستخدموا عقولهم فى فلترة ما يتعرضون له من معلومات او أخبار.
نعود الى منهجية التعليم، فان راوحنا، كما نفعل، فى منهجية الحفظ والتسميع التقليدية، فان قطاعا واسعا من شعوبنا سوف يختطف للتحيز الأعمى لهذه الافكار او تلك، سوف نجد انفسنا امام حائط من التفكير لدى قطاع واسع من شبابنا لا يمكن تجاوزه او اختراقه، فهو قد برمج بطريق مناقض لمصالح الدولة ولمصالح الشعب الحقيقية، وهناك اليوم قوى وبرامج تعرف بالبرمجة عن بعد تقوم على تحقيق هدفها من خلال استغلال وسائل التواصل الاجتماعى هائلة القدرة فى تشكيل التفكير وتوجيهه الى أجندتها.
إننا نبحث اليوم عن المناعة الفكرية ولن تأتى تلك المناعة باستخدام الوسائل التقليدية ذات العلاقة بالمقدس والمدنس! بل تأ تى من خلال التفكر فى منهجية نجحت فى أماكن اخرى ولدى شعوب أخرى وهى باختصار تجويد التعليم والطلاق البائن بين الحفظ والتسميع وبين تعود التفكير الابداعى ومساءلة كل ما يعرض علينا والتثبت منه من خلال منهج صارم يبدأ بطرح الاسئلة لا الايمان المطلق بالنتائج!.