جدل الثوابت والمتغيرات في الفكر الإسلامي

جدل الثوابت والمتغيرات في الفكر الإسلامي

حسن حنفي*

جدل الثوابت والمتغيرات موجود في كل فكر وثقافة وحضارة وتراث ودين وليس في الفكر الإسلامي وحده لأنه يعبر عن العلاقة بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة، بين النقل والإبداع، بين التأخر والتقدم، بين الثبات والحركة في تاريخ الأمم والشعوب. لا غنى لأحدهما عن الآخر. ويقوم هذا الجدل على التكامل وليس على الإقصاء، وعلى التبادل وليس على الاستبعاد. هما لفظان متضايفان لغويا، لا يفهم أحدهما إلا بالآخر مثل الأب والابن، والحاكم والمحكوم، والكبير والصغير، والبارد والحار. وبلغة الفلاسفة مثل الجوهر والعرَض، القديم والحادث، الواجب والممكن، الكم والكيف، الثابت والمتحرك، النفس والبدن، الرجل والمرأة، الخير والشر، الحسن والقبيح، الفضيلة والرذيلة، الصواب والخطأ، الحق والباطل، الآخرة والدنيا، الملاك والشيطان إلى آخر هذه الثنائيات التي يزخر بها الفكر البشرى. وكلاهما صحيح. ليس أحدهما صواب والثاني خطأ. الثابت ضروري للمتغير، والمتغير ضروري للثابت. كل منهما يتضمن الآخر فيه.

ولا شأن لهما بقضية الإيمان والإلحاد. من يدافع عن الثوابت هو المؤمن، ومن يدافع عن المتغيرات هو الملحد أو الكافر أو الخارج أو الضال أو الفاسق أو الهالك إلى آخر هذه الأوصاف التي ألصقتها الدولة الأموية الأولى بالمعارضين لها. كلاهما من إفراز المجتمع. تتمثل الدولة الثوابت، وتنصّب نفسها حامية لها. وتتمسك المعارضة بالمتغيرات من أجل تغيير الوضع القائم إلى ما هو أفضل. وهو مدلول حديث "الفرقة الناجية" التي تدافع عن الثوابت في مقابل الفِرق الضالة أو الهالكة التي تدافع عن المتغيرات. هما غطاءان أيديولوجيان للصراع الاجتماعي السياسي في كل مجتمع بين الدولة وخصومها، وبلغة العصر بين الحكومة والمعارضة. ثم يتراكمان عبر الزمان ويتكلسان ويصبحان عنصرين في التاريخ يحددان مساره، وتتمثلهما القوى الاجتماعية المختلفة في السلطة أو في المعارضة.

ويغلبان على الحضارات النصية أو الكتابية كاليهودية والمسيحية والإسلام والكونفوشوسية والبوذية وغيرها من الحضارات المركزية التي تدور، نشأة وتكوينا، حول مركز واحد هو النص أو الكتاب مثل الشعر في الحضارة العربية قبل الإسلام، والقرآن في الحضارة الإسلامية، وأقوال كونفوشيوس في الحضارة الصينية، وتعاليم بوذا في الحضارة البوذية، وليست الحضارات الطردية مثل الحضارة الغربية الحديثة التي رفضت أن تكون ممركزة حول النص كما كان الحال في العصر الوسيط، وفضّلت أن تتجه إلى الطبيعة، كتاباً مفتوحاً يستطيع العقل أن يكتشف قوانينها والسيطرة على مسارها. والنص الديني نفسه متشابه في مقابل نصوص أخرى محكمة. وظيفة النصوص المحكمة التعبير عن الثوابت في العقائد وفي الشرائع الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان وإن تغيرت دلالاتها طبقا لظروف كل عصر. ووظيفة النصوص المتشابهة تأويلها طبقا لظروف العصر وحاجاته، إن كانت الأولوية في العصر للثوابت على المتغيرات، ويعاني المجتمع من سيطرة القدماء، وسيادة التقليد، وشيوع النقل، والاتجاه نحو الماضي، وتحكم النظام الأبوي يؤول النص لصالح المتغيرات، دفاعا عن المحدثين، وتشجيعاً للتجديد، وإرهاصاً للإبداع، ودفعاً نحو المستقبل، وإرساء لقواعد الديموقراطية والتعددية السياسية مثل حال المجتمع العربي الآن. وإذا كانت الأولوية للمتغيرات على الثوابت، وللجديد على القديم، وللأبناء إلى الآباء، ولما بعد الحداثة على الحداثة أُولت النصوص المتشابهة لصالح الثوابت كما هو الحال في المجتمعات الأوروبية الآن. وظيفة النصوص المتشابهة هو إحداث التوازن بين الثوابت والمتغيرات في حالة اختلالهما في أي مجتمع وفي أي عصر. ويمكن أن تتغير الاختيارات في الحضارة الواحدة طبقا لتغير الظروف. فما كان ثابتاً في الماضي قد يصير متغيرا في الحاضر كما هو الحال في الحضارة الإسلامية. وما كان متغيرا في الحاضر كان ثابتا في الماضي وقد يصبح ثابتاً في المستقبل كما هو الحال في الحضارة الغربية ومسارها من الماضي إلى الحاضر، ومصيرها من الحاضر إلى المستقبل.

والأمثلة على ذلك كثيرة في الفكر الإسلامي الذي يضم ثلاثة أنواع من العلوم: العلوم النقلية العقلية وهي أربعة: علم أصول الدين(علم الكلام أو علم العقائد)، وعلم أصول الفقه، وعلوم الحكمة (الفلسفة)، وعلوم التصوف. والعلوم النقلية الخالصة وهي خمسة: علوم القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه. والعلوم العقلية الخالصة الرياضية كالحساب، والجبر والهندسة والفلك والموسيقى أو الطبيعية كالفيزياء والكيمياء، والطب، والصيدلة(الأعشاب)، والنبات، والحيوان، والمعادن. وقد دخلت ضمن علوم الحكمة. وبقت العلوم النقلية العقلية متواصلة على درجات متفاوتة في الوعي الحضاري. أقواها علم العقائد وعلوم التصوف، وأضعفها علم أصول الفقه وعلوم الحكمة. وبقت العلوم النقلية الخالصة أكثر حضوراً من العلوم النقلية العقلية، أقواها القرآن والحديث والفقه، وأضعفها التفسير والسيرة. واختفت تماما العلوم العقلية الخالصة الرياضية والطبيعية وانقطعت. وأصبحت جزءا من التاريخ الماضي، موطن زهو وافتخار. وحلت محلها العلوم الرياضية والطبيعية من الغرب. وبقدر ما تم الانقطاع عن ماضي هذه العلوم تم التواصل معها في الغرب. ولكل من هذه الأنواع الثلاثة من العلوم ثوابتها ومتغيراتها القديمة. وقد تغير العصر من عصر الانتصار إلى عصر الانكسار، ومن الفتوحات إلى الاحتلال، ومن الريادة إلى التبعية، ومن الإبداع إلى النقل، ومن الطموح إلى الخنوع، ومن مركز العالم إلى أطرافه. ويحتم هذا التغير في العصر تغيّراً آخر في اختيار الثوابت والمتغيرات وأولوية كل منهما على الآخر. فما كان من الثوابت في الماضي قد يصبح من المتغيرات اليوم. وما كان متغيّراً في الماضي قد يصبح من الثوابت اليوم.

فمن العلوم العقلية النقلية يأتي علم أصول الدين في المقدمة. كان الثابت قديماً هو نظرية الذات والصفات والأفعال، دفاعاً عن التنزيه ضد التجسيم والتشبيه، ودفاعاً عن الوحدانية ضد التثنية والتثليث وتعدد الآلهة. كان الإسلام منتصراً على الأرض. وأراد الأعداء الالتفاف حوله من الخلف. فنقدوا العقائد الإسلامية، وفي مقدمتها التوحيد، وشوشوا عليها. فانبرى علماء الكلام للدفاع عنها ضد الخصوم. وانتصرت العقائد الأشعرية السنية ضد عقائد الفرق الأخرى مثل المعتزلة والأباضية والشيعة، ومازال علم الكلام حتى الآن يصول ويجول في الثوابت القديمة التي استقرت عبر العصور وأصبحت من المقدسات بالرغم من تغير الظروف والمرحلة التاريخية بأكملها من الدورة الأولى للحضارة الإسلامية في القرون السبعة الأولى والتي انتهت بابن خلدون مبينا أسباب قيام الحضارة وأسباب انهيارها إلى الدورة الثانية عصر الشروح والملخصات في الدورة الثانية في القرون السبعة التالية إلى الدورة الثالثة التي بدأت منذ حركات الإصلاح في القرون الأخيرة لتبدأ سبعة قرون قادمة. لم تعد مظان الخطر هو التشويش على العقائد كما كان قديما ولكن احتلال الأرض والاستيلاء على الثروات. ومن ثم تصبح هذه المصالح الآن هي الأهداف الثابتة حتى تتحرر أراضي المسلمين المحتلة في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وسبته ومليليه بالمغرب وحتى يسترد المسلمون ثرواتهم. وإذا كانت عقائد الأشعرية قديما هي التي سادت بسيادة الدولة الأموية ضد عقائد المعارضة العلنية بالفكر مثل المعتزلة، وبالسلاح مثل الأباضية، والسرية تحت الأرض مثل الشيعة فإنه يمكن اليوم للتقليل من سيطرة الدولة وتشجيع المعارضة إعطاء الأولوية لعقائدها على العقائد الأشعرية. وإذا كان اختيار الأشعرية قديما في العدل إعطاء الأولوية للكسب على حرية الاختيار، وللنقل على العقل، وللإيمان على العمل وجعل الإمامة في قريش فإن الظروف اليوم تقتضي إعطاء الأولوية لحرية الاختيار على الكسب، وللعقل على النقل، وللعمل على الإيمان، وعلى جعل الإمامة في الحاكم الصالح والإمام العادل بصرف النظر عن انتمائه القبلي أو المهني، قريش قديماً أو الجيش حديثا. وقد يتطلب الأمر إعادة الاختيار كلية من نسق العقائد الأشعري إلى نسق العقائد الاعتزالي وأصول المعتزلة الخمسة: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والحسن والقبح العقليان، والأمر بالمعروف عن المنكر لأنها أكثر تحقيقا لاحتياجات العصر.

وفي علم أصول الفقه كانت الثوابت قديماً هي النصوص، والمتغيرات هي المصالح. وتم وضع النسق الأصولي القديم بناء على هذا الاختيار. فكانت الأولوية للنص على الواقع في صياغة مصادر التشريع الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. ووضعت بعض القواعد الأصولية مثل: "لا اجتهاد مع النص". وأشيع خطأ "غلق باب الاجتهاد". وقد تغيرت الظروف الآن. وتمت التضحية بالمصالح العامة فيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية لصالح النصوص في إحدى تأويلاتها. وأصبحت الأمة تعاني من غياب الاجتهاد والتضحية بالمصالح. ألا يمكن إذن تغيير نظام الأولويات والبدء بالاجتهاد من أجل البحث عن العلل وراء سلوك الناس، ثم بالإجماع للاستشارة والاستماع إلى الرأي الآخر، ثم البحث عن حلولٍ مضت في السنة، ثم يأتي النص في النهاية؟ لا يصطدم نص مع المصلحة. وقديما فعل عمر ذلك في إلغاء نصيب المؤلفة قلوبهم -وهو نص- لأن ظروف المسلمين قد تغيرت من الضعف إلى القوة. ونفس الشىء يقال في نصوص الجزية على غير المسلمين بعد أن ظهر مفهوم الوطن والمواطنّة والمساواة في الحقوق والواجبات. كما تسمح اللغة الأصولية المزدوجة: الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين، الخاص والعام...إلخ بالتحول من الثوابت إلى المتغيرات أو من المتغيرات إلى الثوابت بناء على الظروف المتغيرة لكل عصر. الثابت هي مقاصد الشريعة، الضروريات الخمس: الحياة(النفس)، والعقل(العلم)، والدين(المعيار الثابت)، والعرض(الكرامة الفردية والجماعية)، والمال(الثروة الوطنية). والمتغيرات هي الحاجيات والتحسينات طبقا لظروف كل عصر. وقد تحتاج الأمة اليوم إلى فقه المصالح وإلى اختيار بعض القواعد الأصولية مثل "ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن"، "أينما المصلحة فثمَّ شرع الله"، ومن ثم اختيار المالكية المصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب والاستصلاح وكل أشكال الاستدلال الحر لتشجيع المسلمين على السيطرة على مقدراتهم.

وفي علوم الحكمة أي الفلسفة كانت الثوابت قديما وإلى الآن أن الحكمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: منطقية وطبيعية وإلهية. والمنطق هو المنطق الصوري. والطبيعة هي الطبيعيات الثنائية القديمة. والإلهيات هي الإلهيات التقليدية. ولم يكن مبحث الإنسان أو التاريخ باستثناء ابن خلدون مباحث مستقلة. فقد انقسم الإنسان إلى بدن ونفس. البدن في الطبيعيات، والنفس في الإلهيات مما سبب اتهام الحضارة الإسلامية بأنها تجهل حقوق الإنسان. وتجهل التقدم المستمر نظرا لأن مسار التاريخ عند ابن خلدون ينهض ويسقط، يقوم وينهار، من البداوة إلى الحضارة ثم إلى البداوة من جديد. وكانت للفضائل النظرية قيمة أعلى من الفضائل العلمية. وكان الحكماء الأوائل هم اليونان. والآن تغيرت الظروف. ولم تعد هذه الثوابت التي مازالت تملأ أمهات الكتب القديمة والدراسات الحديثة قائمة. فقد تغير العصر. وتغير أيضاً الإطار الحضاري. فالإنسان من حيث هو إنسان في الحضارة الحديثة المجاورة مركز الكون. وتم في الغرب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أيام الثورة الفرنسية وبعد الحرب العالمية الثانية. والتاريخ أصبح في تقدم مستمر لا يكبو. وأصبح الغرب يزهو على باقي الثقافات أنه هو الذي أعطى العالم مفهومي الإنسان والتاريخ في حين توقفت الحضارات الشرقية بما في ذلك الإسلامية على مفهومي الله والخلود. كما أصبح العمل الآن هو مصدر الإنتاج وليس النظر في عصر الصناعة، بعد أن تحول الغرب من فهم العالم إلى تغييره. والبديل موجود ﴿وقل اعملوا﴾، ﴿يا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل﴾. كما تغير الإطار الحضاري من اليونان قديما إلى الغرب حديثا. والحضارة الإسلامية ليست لحظة واحدة في تاريخها بل هي كل لحظة تلتقي فيها مع حضارات مجاورة، اليونان والرومان غربا، وفارس والهند شرقا قديما. والآن تلتقي الحضارة الإسلامية مع الحضارة الغربية غرباً وشرقاً. فلم تعد الثوابت القديمة في الفكر الإسلامي ثوابتاً بل تجاوزها الزمن وأصبحت من المتغيرات. فهناك الآن منطق الوجدان أو منطق الشعور، والطبيعيات الجمالية، ولاهوت التحرير بدلا من الإلهيات القديمة. لم تعد الموضوعات القديمة بذات أهمية: إثبات وجود الله وخلق العالم وخلود النفس. أصبحت الموضوعات الحديثة في حاجة إلى تناول مثل الإنسان في العالم، إثبات الذات، وتطور العالم.

وفي علوم التصوف ظن الناس أن الثوابت فيه هو الانعزال عن العالم، وترك الدنيا بمن فيها على من فيها، وأن الله لا يعرف لا ببدن عار وبطن جائع، وأن الصوفي يسقط تدبيره ويترك نفسه لإرادة الله تفعل فيه ما تشاء، ويصبح في يده كالخرقة البالية، وكورقة الشجر في مهب الريح. وهو صاحب إلهام وكشف، وولاية وكرامة، وكرامات الأولياء مثل معجزات الأنبياء. والحقيقة أن هذه الثوابت من المتغيرات. فقد نشأ التصوف في ظروف اجتماعية وسياسية خاصة عندما استحالت مقاومة اغتصاب السلطة من بني أمية واستشهد أئمة آل البيت، واستتب الأمر لدمشق بمنطق العصا والجزرة ففضل بعض الأتقياء الحفاظ على صفاء النفس وطهارة القلب، وإنقاذ النفس إن لم يستطيعوا إنقاذ العالم، وترك الدنيا على من يريدها، والسلطة لمن يعشقها. فهناك دنيا أعظم هي الآخرة، وعشق أعمق، العشق الإلهي. وجعلوا غايتهم الاتحاد بالله عن طريق المحبة. وهو طريق طويل يخترق المقامات. يبدأ بالتوبة وينتهى بالفناء، وما بينهما الفقر والزهد والصبر والتوكل والرضا والقناعة. ومع كل محطة انتقال من مقام إلى آخر ينتابه حالان متضادان: الخوف والرجاء، الهيبة والأنس، اليأس والرجاء، الصحو والسكر، الغيبة والحضور، الفقد والوجد. والآن تغيرت الظروف ولم تعد مقاومة الظلم والطغيان ميئوساً منها بعد نجاح المقاومة إبان حركات التحرر الوطني. ومازالت مستمرة في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير. فلماذا الهروب من العالم الذي فقد المسلمون السيطرة عليه وعدم العودة إليه للخلافة في الأرض؟ لماذا رد الفعل السلبي ورد الفعل الإيجابي متاح؟ لماذا تكون وجهة الصوفي إلى أعلى وليس إلى الأمام، إلى الداخل وليس إلى الخارج، إلى الواقع وليس إلى الخيال؟ وقد شارك عديد من الصوفية قديماً وحديثاً في الحركات الجهادية ضد العدوان في الخارج والداخل، ولكنهم لم ينشئوا مقامات وأحوال تقوم على الرفض والمقاومة والغضب والتمرد والثورة والمعارضة والنفي. فالثوابت القديمة مازالت قائمة، والمتغيرات الحديثة لم تبدأ صياغتها بعد.

وفي العلوم النقلية لا توجد ثوابت. تركها القدماء نقلية خالصة دون إعمال العقل فيها. فقد كان النقل حديث العهد، والعقل لم يشتد بعد إلا بعد عصر الترجمة في القرن الثاني الهجري. وقد تغير العصر الآن بعد أن أصبح العقل أساس النقل عند المعتزلة والفلاسفة. وتغيرت المرحلة التاريخية كلها. وتغير الإطار الحضاري القديم من اليونان إلى الغرب الحديث، ومن أرسطو إلى فلاسفة التنوير، ومن ابن رشد إلى الطهطاوي. فعلوم القرآن القديمة يمكن أن تأخذ دلالات جديدة. فأسباب النزول لا تعنى فقط التنجيم بل تعني أيضاً أولوية الفكر على الواقع والسؤال على الجواب. ولما كان الواقع متغيرا فالفكر يتغير بتغيره. وتلك أيضا دلالة الناسخ والمنسوخ التي بها يتغير الحكم الشرعي طبقا لتغير الزمان. فالأحكام الشرعية مرتبطة بالمكان والزمان أي بالمتغيرات ولا يضير ذلك الثوابت في شيء. التنزيل، والمكي والمدني يعنيان أيضاً انبثاق الشريعة من العقيدة، والنظام من التصور والثابت بالمتغير. بل يمكن إضافة موضوعات أخرى مثل لغة العرب وعاداتهم وأمثالهم وخطبهم وأشعارهم وجميع أشكالهم الأدبية مثل سجع الكهان قبل الإسلام، وكيف استطاع الوحي استعمال كل هذه المتغيرات للتعبير عن الثوابت دون إنكار للوحي. فالوحي محمول والواقع حامل. والمحمول ثابت والحامل متغير.

وعلوم الحديث أيضاً ليست ثابتة كما تركها القدماء، صحة المتن مشروطة بصحة السند. فقد كان عصر تدوين الحديث عصر الرواية. وكانت الرواية مصدرا للعلم ليس فقط في الحديث بل في التفسير والتاريخ واللغة والقرآن والسيرة والفقه. وقد تغير العصر الآن، وأصبحت الرواية ذاتها موضوعا للنقد، ليس فقط من حيث السند بل أيضا من حيث المتن. قد يكون السند صحيحا والمتن ليس كذلك مثل كثير من الأحاديث المروية عن الغيبيَّات مثل الإسراء والمعراج والأحاديث القدسية التي يتحدث فيها الله. وقد يكون السند ظنيا، أحاداً أو مرسلاً أو مشهوراً، ويكون المتن مطابقاً لتجربة في الحياة اليومية أو متفقاً مع العقل والبداهة أو المصلحة والواقع. لذلك يمكن تغيير علم الحديث كله من نقد السند إلى نقد المتن.

وعلوم التفسير أيضاً ليست من الثوابت بل من المتغيرات. والتفسيرات التاريخية أو اللغوية أو الفقهية أو الكلامية أو الفلسفية أو الصوفية ليست تفسيرات مقدسة بل هو اختيار طبقا لأهل الاختصاص في هذه العلوم واهتماماتهم بها. ويمكن إضافة تفسيرات طبقا للعلوم الإنسانية الحديثة، النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق والتربية. كما أن التفسير الطولى من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، سورة وراء سورة، وآية وراء آية، بحيث تتقطع الموضوعات والقصص والأحكام دون تجميعها في موضوع واحد ليس من الثوابت بل يمكن تغييره إلى التفسير العرضي أو القطعي أو الموضوعي للقرآن الكريم، وذلك بتجميع كل الآيات حول موضوع واحد لمعرفة بنيته ثم وضع هذه الموضوعات كلها في نَسَقٍ واحد حول الأنا والآخر والعالم في عصر الفلسفات الحديثة أو إبراز النظريات الإسلامية في الاجتماع والسياسة والاقتصاد في عصر الأيديولوجيات الكبرى المعاصرة.

وعلوم السيرة أيضا ليست ثابتة على نمط سير ابن هشام وابن اسحاق. إذ إنّ السيرة تعبر عن رؤية العصر للرّسول -صلى الله عليه وسلم-. "ولما كانت العصور متغيرة كانت السير أيضا متغيرة". كان الهدف من السير الأولى أن يكون للرسول سيرة كما للأنبياء السابقين سير في الإسرائيليات، إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى. فكيف يكون لخاتم الأنبياء سيرة مثل الذين سبقوه؟ ولمزيد من التعظيم دخلت كثير من الأساطير الأولى من الإسرائيليات. وهي المادة التاريخية المتاحة في شبه الجزيرة العربية في فن كتابة السيرة. كما استعملت الروايات المتاحة وبعض الأحاديث القدسية والنبوية المرسلة أو المشهورة أو المقطوعة أو أخبار الآحاد لاستكمال بعض العناصر الأسطورية فيها دون نقد تاريخي للسند أو للمتن. أما الآن فقد أصبحت مصادر كتابة السيرة موضوعا للنقد التاريخي أولا. وكتبت سير معاصرة تبين بشرية الرسول وإنسانيته أقرب إلى روح القرآن منها إلى الإسرائيليات. فلا توجد سيرة واحدة نمطية ثابتة. دُونت السيرة القديمة لإثبات أن الرسول أعظم من الأنبياء السابقين. وكتبت السير الحديثة لإثبات أن الرسول ليبرالي في "حياة محمد" و"في منزل الوحي" لمحمد حسين هيكل و"على هامش السيرة" لطه حسين، وأنه اشتراكي في "محمد رسول الحرية" للشرقاوى، والمدافع عن الأقباط في "محمد رسول الله" لنظمى لوقا، وعبقري التكوين والفعل في "عبقرية محمد" للعقاد. فالسير رؤى كل عصر للرسول. ولا توجد سيرة ثابتة والأخرى متغيرة. كلها رؤى متغيرة. بل إن فن السيرة ذاته قد شخص الرسالة في الرسول، والتبليغ في المبلغ، والنبوة في النبي. وتراكم ذلك عبر التاريخ. ووصل تعظيم الرسول عند الصوفية إلى القول بنظرية "الحقيقة المحمدية" الخالدة الأبدية القديمة. وهى أقرب إلى الشرك. كما وصلت الأدعية والابتهالات النبوية إلى درجة جعل الرسول وسيطاً بين الحق والخلق "أغثنا يا رسول الله"، "أعنا يا رسول الله"، مما كان أحد أسباب ظهور الحركة الوهابية. وقد أثر تشخيص الرسالة في الحياة الاجتماعية والسياسية في حياتنا المعاصرة لدرجة تأليه الزعماء، وتعظيم الرؤساء، وتفخيم الوزراء، وإجلال المدراء لدرجة التقديس. ومن ثم قد يُعاد النظر في فن السيرة بأكمله والعودة من الرسول إلى الرسالة وللقضاء على "عبادة الشخص" في حياتنا المعاصرة.

وفي الفقه أيضا هناك جدل بين الثوابت والمتغيرات. فالفقه القديم ليس من الثوابت بل هو تقنين للشريعة في إحدى عصورها الأولى. ونظرا لتوقف الإبداع بعد اكتمال المذاهب الفقهية الأربعة في القرن الثالث وبداية الشروح والمتون والتخريجات عليها ثبت الفقه بثبوت المذاهب وكان أكثر من أحد عشر قرنا لم تنتج فقها. لقد اكتملت دورة الفقه الأولى لاكتمال بنيته من الواقع والمصالح المرسلة(مالك)، إلى العقل والنظر(أبو حنيفة)، إلى التوسط بينهما(الشافعى)، إلى العودة إلى النص الخام دون تنظير أو تأويل (ابن حنبل). ويمكن للدورة أن تنشأ من جديد في هذا العصر. فقد تغيرت المصالح الآن من المنافع الفردية إلى المصالح العامة دفاعاً عن أراضي الأمة وثرواتها ووحدتها وهويتها وتنميتها، وتحقيقا لمبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية. وهذا يتطلب مالكية جديدة. وتغيرت مناهج الاستدلال من القياس الأرسطي القديم إلى قياسات وجدانية أخرى في الحنفية الجديدة. وتحولت الوسطية إلى أيديولوجية نظم الحكم بعد اتهام المعارضة الإسلامية أو الماركسية أو القومية بالتطرف والعنف مما يتطلب شافعية جديدة. وأصبح النص الخام عبئاً على الحياة الاجتماعية والسياسية. ووقع في الحرفية والشكلية والصورية عند الجماعات السلفية، مما يتطلب حنبلية جديدة. ولا ثوابت أيضاً في الفقه القديم الذي هو نتاج عصر، والعصور متغيرة. في الفقه القديم الأولوية للعبادات على المعاملات، وفي الفقه الجديد الأولوية للمعاملات على العبادات. فالعبادات قد استقرت. أما المعاملات فهي التي في حاجة إلى فقه جديد، النظم المصرفية والتجارية والزراعية والصناعية والسوق والإنتاج في ظل العولمة والقطب الواحد. وقانون الأحوال الشخصية القديم بدأت الحركات الإصلاحية خاصةً في مصر وتونس بإعادة صياغته طبقا لمتطلبات العصر. ومفاهيم أهل الذمة والجزية في الفقه القديم تحولت في الفقه الجديد إلى مفاهيم الوطن والمواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات. ومواضيع العبيد والغنائم والصيد والذبائح والإماء لم يعد لها وجود في الحياة المعاصرة وأصبحت من المتغيرات. والعلاقات الدولية الآن لم تعد قائمة على الفتح "الإسلام أو الجزية أو القتال" كما كان الحال في عصر انهيار إمبراطوريتي الفرس والروم، ونشأة كتلة تاريخية جديدة من شبه الجزيرة العربية تنتشر شرقا وغربا. وأصبح العصر عصر هيمنة القوى الغربية على المسلمين بالغزو المباشر والاحتلال أو بالتحالف والتبعية. فلا ثوابت في فقه المعاملات.

وفي علاقاتنا بالحضارات المجاورة، من الثوابت أيضا أن الغرب مصدر للعلم، وأن التعلم هو نقل العلم من الغرب إلينا، ممن يعلم إلى من لا يعلم منذ فجر النهضة العربية حتى الآن على مدى أكثر من قرنين من الزمان. لذلك جاءت المشاريع الثقافية الكبرى منذ الطهطاوي ومدرسة الألسن حتى المشروع القومي للترجمة ترجمات الأعمال الكاملة لكبار المؤلفين الغربيين أدباء ونقاد وفلاسفة وعلماء اجتماع واقتصاد وسياسة وتاريخ وقانون، مشروع الألف كتاب الأولى حتى مشروع الألف كتاب الثانية، سواء في الجامعة العربية أو في وزارات الثقافة العربية أو لدى دور النشر الكبرى. ومازالت الترجمة مستمرة، ولم يظهر الإبداع بعد. في حين أن الترجمة الأولى في القرن الثاني الهجري عن اليونان لم تدم أكثر من جيلين، حنين بن اسحاق واسحاق بن حنين. بعدها ظهر التأليف عند الكندي أول الفلاسفة العرب(ت252هـ). ومازال مركب النقص موجود في الثقافة العربية المعاصرة تجاه الثقافة الغربية التي ربت لديها مركب العظمة تجاه الثقافات الأخرى، ووحدت بين نفسها والثقافة العالمية. وجعلت نفسها النموذج الأوحد للتحديث. هذا ليس من الثوابت بل من المتغيرات بدليل تعدد الثقافات، وتعدد نماذج التحديث. وليس ثابتا إلاّ عند التغريبيين. فالثوابت والمتغيرات مشروطة بالطبقة الاجتماعية أو بالموقف الحضاري. وبدلاً من أن يكون الغرب مصدرا للعلم قد يكون موضوعا للعلم. وبدلا من أن يكّون الوعي الأوروبي باستمرار ملاحظا، "أنا أفكر" قد يكون موضوعا للملاحظة. وكما نشأ الغرب الاستشراق، الغرب دارسا واللاغرب مدروساً، ينشأ الاستغراب، الغرب مدروسا وغير الغرب دارسا. حدث ذلك من قبل في المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية عندما حول الفلاسفة اليونان والرومان غربا وفارس والهند شرقا إلى موضوعات للدراسة. فنشأ ابن رشد الشارح الأعظم لأرسطو. وكتب مسكويه "الحكمة الخالدة" في فارس. ودوّن البيروني "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" في الهند، وكما نشأت محاولات معاصرة من أجل تأسيس علم "الاستغراب" أي الغرب موضوعا للعلم وليس مصدرا للعلم. فلا توجد ثوابت ومتغيرات في حوار الحضارات. ويمكن للغرب أن يكون ناقلا لغيره ومبدعا لذاته. ويمكن لغير الغرب أن يكون مبدعا لذاته وناقلا لغيره. فلا توجد ثقافة واحدة مبدعة إلى الأبد أو ثقافات أخرى ناقلة إلى الأبد.

والسؤال الآن: في أي لحظة نحن نعيش، لحظة الميل نحو الثوابت أم نحو المتغيرات؟ من الواضح بسبب الركود الحالي في الفكر الإسلامي وشده نحو الماضي وسيادة التيارات المحافظة كما تمثله الجماعات الإسلامية المعاصرة أننا نعيش في عصر الميل نحو الثوابت على حساب المتغيرات. نعاني من سيطرة القديم على الجديد، والماضي على الحاضر، والنقل على الإبداع، والتقليد على الاجتهاد. فمن الضروري عدل الميزان من الكفة الراجحة إلى الكفة المرجوحة، من الثوابت إلى المتغيرات، ومن القديم إلى الجديد، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن النقل إلى الإبداع، ومن التقليد إلى الاجتهاد، ومن العقيدة الثورة، ومن النص إلى الواقع، ومن الفناء إلى البقاء، ومن النقل إلى العقل. وهو ما يحاول مشروع "التراث والتجديد" القيام به منذ نصف قرن. لذلك بحث إقبال عن مبدأ الحركة في الإسلام في التجربة الصوفية وفي الاجتهاد من أجل التحول من الثوابت إلى المتغيرات. في حين أن الغرب يعيش لحظة تغليب المتغيرات على الثوابت، والحاضر على الماضي، والجديد على القديم، والعقل على النقل. فكلا الثقافتين الإسلامية والغربية في أزمة. وكلاهما يعيشان لحظة فارقة ولكن في اتجاهين مختلفين متضادين.

ولا توجد حالة مثالية متعادلة في جدل الثوابت والمتغيرات. فالعصر بطبيعته جانح يميل إلى أحد الكفّتين. ومهمة المجتهد عدل الميزان إلى الكفة الأخرى. الثابت الوحيد هو جدل الثوابت والمتغيرات. وهو جدل أبدى لا ينحاز نحو الثوابت أو نحو المتغيرات.

*************************

*) مفكر وأكاديمي من مصر.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=298

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك