حوار الحضارات: الشروط والمقومات

أبو يعرب المرزوقي

 

تمهيد:

كيف نتجاوز العرضي من عوائق الحوار لتحديد الحضاري من العوائق في ذاتها بصرف النظر عن نسبة بعضها إلى الزمان وعن تقويم عللها العرضية فنحدد العوائق التي تحول دون الحوار الحضاري السوي أكان ذلك ضمن الحضارة الواحدة أو بين الحضارات المتعددة؟ كيف نميز ما لا يرجع من العوائق إلى أدوات الحوار التقنية مثل وسائل التواصل أو محدداته الطبيعية في بنية الانسان؟ ذلك أنه من دون هذا التمييز لا يمكن تحديد مصدر العوائق الحضاري مصدرها الذي نتخلص بمعرفته من كل الدعوات المخادعة إلى حوار مغشوش بين الحضارات من جنس الدعوة إلى الحوار المسيحي الاسلامي المصحوبة بسعي الفاتيكان الدؤوب إلى اقتلاع الاسلام من كل القارات أو من جنس الدعوة إلى الحوار العربي الاسرائيلي المصحوبة بسعي الاسرائليين والامريكان الجنوني لاقتلاع حصانة الأمة الروحية.

ولنبدأ فنشير إلى أنه ليس من المفيد تقسيم عوائق الحوار إلى ضربين: عوائق تاريخية نابعة من الماضي وعوائق راهنة قائمة في الحاضر. فهذه القسمة على أهميتها لا تساعد على علاج المشكل علاجا يتجاوز العوائق العرضية التي تحضر وتغيب بحسب مؤثرات غير ذاتية للحضارة نفسها. فالمقابلة بين التاريخي والراهن سواء أأخذت بمعنى النسبة إلى الزمان (تاريخ ماض-تاريخ حاضر) أو بمعنى التقويم ( تاريخي بمعنى ذو أثر على التاريخ وراهن بمعن ذو رهان يعتد به) لا تميز بين صنفين متخارجين من العوائق بل هي تشير إلى أمرين متطابقين. فعوائق الحوار التاريخية أو الماضية لا جدوى من الحديث فيها إذا لم تكن اعاقتها راهنة. وراهن الاعاقة أو حاضرها لا يمكن ان يكون معيقا بحق إذا لم يكن ذا جذور تاريخية مؤثرة. كما أنه لا جدوى من الحديث في عوائق الحوار الراهنة إذا لم تكن ذات أثر فعال في توجيه التاريخ مثلما أن الحديث في عوائقه ذات الاثر التاريخي لا جدوى منه إذا لم تكن ذات رهان يعتد به.

إن المقابلة بين التاريخي والراهن من الإعاقة ليست مقابلة تمكن من تحديد طبيعة العوائق الحائلة دون الحوار بين الحضارات ولا من علاجها علاجا يؤهل الأمة لتحقيق شروط الحوار السوي بين أبنائها شرطا في الحوار الأبي مع غيرها لأن الحوار الحقيقي تجاوب يستند ضرورة إلى التجاوب بمعنييه أعني تبادل الجواب عن الأسئلة المتبادلة بين الانداد والتفاهم بين ذوي الاعتراف المتبادل أحدهما بالآخر.

لذلك فسننطلق من تصنيف ضروب الحوار السوي بمقتضى: 1- طبيعته 2- وغايته 3- وأدواته 4- وظرفه 5- وقواعده. وبذلك نتمكن من دراسة المقومات والشروط ومن تحديد العوائق وكيفية تذليلها. فتحديد مقومات الحوار مفهوميا يشترط متقدما عليه الحصر الاستقرائي لضروبه بحسب آفاقه ومستوياته عقلا وبحسب قصوده ومستوياته عقدا كما أن تحديد عوائقه وكيفية تذليلها يشترك متقدما عليه تصنيف شروطه استقرائيا بحسب قصوده وظروفه عقلا ونقلا معا بعد بيان اتحاد الامرين. ونشير من البداية إلى أن التحليل يبين أن تحديد مقومات الحوار وشروطه بالعقل مجردا يصل إلى نفس النتائج التي تستوجبها الدعوة إلى الحق كما حددها القرآن الكريم نظريا وطبقها الرسول عليه الصلاة والسلام عمليا.

فيكون بحثنا بذلك مؤلفا من مقالتين كلتاهما ذات ثلاثة فصول أولاهما لتصنيف الحوار في اتجاهين يتبادل فيهما العقل والعقد البداية والغاية والثانية لتحديد المقومات والشروط ونختم البحث بتصنيف العوائق وتذليلها:

المقالة الأولى: تصنيف ضروب الحوار

الفصل الاول: تصنيف ضروب الحوار عقلا بحسب آفاقه ومستوياته

الفصل الثاني: تصنيف ضروب الحوار عقدا بحسب قصوده ومستوياته.

الفصل الثالث: ثمرة التصنيفين الآفاقي والمقاصدي من المنظور الاسلامي.

المقالة الثانية: المقومات والشروط

الفصل الاول: مفهوم الحوار ومقوماته الذاتية

الفصل الثاني: شروط الحوار بحسب قصوده وظروفه

الفصل الثالث: العوائق وتذليلها بحسب الشروط المسلوبة.

الخاتمة:

 

 

المقالة الأولى: تصنيف ضروب الحوار

 

الفصل الاول

تصنيف ضروب الحوار عقلا بحسب آفاقه ومستوياته

 

ليست الحضارات ذوات عينية. لذلك فهي لا تتحاور الا بممثليها الذين يحققون اللقاء بينها بالحوار أو بالصراع حول مجالات فعلها أو قيمها. فحوارها يكون بين ممثلين لا يتعينون إلا بتعين مستويات التواصل والتفاصل الممكنة بين البشر سواء انتسبوا إلى نفس الجماعة أو إلى جماعات مختلفة. ومن ثم فاللقاء بين البشر سلبيا كان أو ايجابيا يقبل التصنيف استقرائيا بحسب ضروب مجالات فعلهم والقيم التي تنتظم بها حياتهم ضمن حضاراتهم أو بينها:

1- مجال الذوق وحداه قيمتا الجميل والذميم

2- مجال الرزق وحداه قيمتا الخير والشر

3- مجال النظر وحداه قيمتا الصدق والكذب

4- مجال العمل وحداه قيمتا الحر والمضطر

5- مجال الوجوج وحداه قيمتا الشاهد والجاهد(1) .

ومن البديهي ألا تلتقي الحضارات بما هي كتل غير مخلقة. لكنها تمثل أفق اللقاء أو اطاره الذي يجري فيه اللقاء بين المتحاورين أو المتصارعين في هذه المستويات بعضها أو كلها جزئيها أو كليها إطارا يدور فيه الحوار أو الصراع حول موضوع ينتسب إلى أحد مستويات تعين تلك المجالات بحديها أو بينها. ويمكن لهذا الافق-الاطار أن يتحول إلى كل هلامي ملتبس غير مخلق لعدم التمييز بين المستويات فيؤدي في غالب الاحيان إلى عدم التفاهم أو إلى سوئه ومن ثم إلى الصدام بين الحضارات لا إلى الحوار بينها.

فالحضارات بما هي جمل هلامية تكون متنافية بالطبع لانها تؤدي عندئذ إلى خلط القيم وتصلت الغاصب من المتكلمين باسمها دون أهلية. واللقاء الفعلي بين الحضارات لا يحصل حقا إلا بحسب أمور جزئية أو كلية تنتسب إلى هذه المستويات التي تكون موضوعا لحوار بين متحاورين كلاهما أهل للحوار في ذلك المستوى حوارا يمكن أن يتجاوز الحدود الحضارية أعني محاورين غير مغتصبين لحق الكلام باسم هذه المستويات. عندئذ يكون الحوار حوارا يقبل التغيير بتغيير الحلول التي يقدمها التاريخ الفعلي لقضايا الانسان الكونية المتعالية على الزمان والمكان فيتخلص من سلطان التقليد واتباع الآباء اللذين ينفيان التعالي على العيني الحضاري في الاشكال الحضارية المختلفة سواء أكانت خاصة بالأجيال المختلفة من نفس الحضارة أو عامة لكل الحضارات إلا بما هي أفق نسبي يجري الحوار في اطاره. وإذن فلا امكان للحوار بين الحضارات إذا لم يتقدم عليه الحوار ضمن كل واحدة منها بين ممثلي هذه المجالات من ذوي الأهلية(2) للحوار حول موضوعات منها وحول قيمها حوارا يميز بين تعيناتها الحاصلة والممكن من التعينات القابلة لتحصيل مثالها الكلي.

لكن الحضارات بوصفها أفقا جمعيا وإطارا للمتحاورين قد تحد من كلية هذه المجالات وقيمها بالحد من مواقف المتحاورين وعلاجهم لموضوعات الحوار لكونها معرضة لضربين من التصور:

1- فقد تعتبر "أفقا مطلقا" يقتصر على الافق الجمعي ويتحدد به ولا يتعالى عليه فتصبح حيزا منغلقا يحول دون السعي الدائب لتجاوز الجزئي إلى الكلي وتقريب حاصل الواقع من ممكن المثال.

2- وقد تعد "أفقا نسبيا" يتضمن بالطبع الميل إلى أفق أسمى منه متجاوزا له لكونه سعيا دائبا نحو المثال سعيا مشدودا إلى أفق كلي هو أفق القيم المتعالية التي لا ترد إلى الافق الجمعي مهما بلغ من كمال.

وتبين التجربة التاريخية ان الاقتصار على الافق الجمعي الحائل بالطبع دون الحوار السوي بين الحضارات له صيغتان عرفتهما كل الحضارات بما في ذلك حضارتنا رغم عدم انسجام ذلك مع عقيدتها الاسلامية:

أولاهما تنسّب المطلق فتزعم انه قابل للتعين في النسبي تعينا يجعل الحضارات كليات عينية ممثلة لتحقق الروح الكلي كما هو الحال في نظرية أرواح الشعوب التي صاغتها الفلسفية فلسفة هيجل المثالية أكثر الصياغات صراحة لتفسر بها تاريخ الانسانية:" وهكذا فمثلما أن الانسان الالهي الشخصي ( اي المسيح) له أب موجود في ذاته وليس له من الوجود الفعلي إلا أمه, فإن الانسان الالهي الكلي يكون فعله وعلمه الذاتيان أباه أما أمه فهي الحب الخالد الذي يقتصر على الاحساس به دون أن يكدركه في وعيه موضوعا حقيقيا مباشرا. لذلك فالمصالحة Versoehnung بين وجهيه هذين الوجهين المرموز إليهما بالاب والام أعني الواقع الفعلي أو التاريخ والمثال (أو الله ) توجد في قلبه لكنها مصالحة منفصلة عن وعيه إذ وجوده الفعلي ما يزال متخفيا. فما يظهر في وعيه أمرا في ذاته أعني وجه التوسط الخالص يكون صلحا موجودا في العالم الاخر. أما ما له صفة الوجود الحاضر بصفة وجه المباشرة والوجود الفعلي فإنه العالم الذي عليه أن ينتظر تصعيده Verklaerung (ليطابق الحقيقة الاخروية التي ينفيها هيجل معتبرا إياها مجرد وهم إذا ظنت غير المثال المتحقق في التاريخ الفعلي). وهذا الانسان الالهي الكلي متصالح في ذاته مع الجوهر ويدرك من الجوهر ما يجعله يعترف بأن ذاته لم تبق مفصولة عن الموضوع بل هي في الحب مثله. لكن هذا الحاضر المباشر ليس له بعد في الوعي هيئة روحية Geistesgestalt تكون بهذه الصورة منفصلا وعيها المباشر عن وعيها الديني الذي لا يعبر عن كونها منفصلة في ذاتها بل المنفصل عنده هو أمر في ذاته Ansich لم يتحقق أو هو أمر لم يصبح به لذاته مطلقا Absolutes Fuersichsein" (3) .

والثانية تطلق النسبي بنفي المطلق كما هو الحال في نظرية مراحل العقل الثلاث (اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية) التي صاغتها فلسفة أوغست كونت الوضعية أكثر الصياغات صراحة لتفسر بها تاريخ الانسانية:" والمعلوم أن القوى الخلقية الوحيدة التي نجدها عند الشخص في العالم القابل للمالحظة هي القوى التي تنتج عن تجميع القوى الشخصية في المحتمع وبه: إنها القوى الخلقية الجمعية"(4) .

والصيغتان متلازمتان رغم أن أولاهما مصدرها تحريف الفكر الفلسفي والثانية مصدرها تحريف الفكر العلمي. ذلك أن اطلاق الافق الحضاري الجمعي واحد سواء أحصل بنفي التعالي نفيا يجعل الآفاق الجمعية مطلقة لنفي كل ما يتعالى عليها (تحريف الفكر العلمي في الوضعية) أم بتحييثه فيها تحييثا يرد الافق الكلي إلى الافق الجمعي نفيا لكل ما يتعالى عليه (تحريف الفكر الفلسفي في الهيجلية). وأساس الموقفين واحد. إنه تحريف الفكر الديني تحريفا يؤدي إلى القول بالحلول حلول الكلي في الجزئي والمطلق في النسبي سواء أكان الجزئي والنسبي عامين أعني العالم والطبيعة أم خاصين أعني المجتمع والتاريخ.

ولا يمكن للحوار في هذه الحالة أن يكون سويا لكونه حوارا كاذبا بالطبع. فذو العقل لا يمكنه أن يصدق نفسه في ظنها المطلق أو الخالق قد حل فيها. وليس الافراط القول إن هذا الموقف الحلولي رغم صياغته الحديثة في الهيجلية والوضعية إن هو إلا ادبار أو نكوص إلى الموقف العرقي البدائي الذي بمقتضاه كانت الشعوب البدائية تنفي الانسانية عن غير سلالتها ظنا منها أن من لا يتكلم لغتها متوحش أو اعجم نكوص تحول إلى عقيدة دينية جعلت قبيلة بدائية تتصور نفسها شعبا مختارا بل وتدعي بنوتها للرب(5) .

لذلك فاللقاء بين الحضارات يكون في كلتا الحالتين التحريفيتين الفلسفية والعلمية صياغتين متلازمتين وثمرتين للتحريف الديني لقاء بين عوالم منغلقة لكأن الحضارات جزائر لا يتم التواصل بينها إلا من خلال تسالبها خلافا لما تدعو إليه الآية الكريمة: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله اتقاكم"(6) . فلا يمكن تنسيب المطلق بتحييثه في الجزئي من دون اطلاق الجزئي اطلاقا يؤدي إلى قانون التنافي الجدلي الدي هو قانون العنف الرمزي المؤسس فلسفيا للعنف المادي (الهيجلية) لكونه يجعل كل واحد منها روحا عدمية. ولا يمكن نفي المطلق من دون اطلاق بعض الجزئيات التي عوضته اطلاقا يؤدي إلى التنافي التقني الذي هو عنف مادي يؤسس للعنف الرمزي (الوضعية) لكونه يجعل كل واحد منها طاقة عدمية.

ولا فرق بين العدميتين إلا بكون الاولى تنطلق من السلب الروحي لتذهب إلى السلب المادي والثانية تعكس فتذهب من السلب المادي إلى السلب الروحي. وقد اجتمع السلبان ضربين من الاجتماع لا يختلفان إلا بهذا التقابل وفيهما تتجسد العولمة الحالية بما هي جوهر التعين التاريخي للتحريف الديني في المادية الجدلية التي تذهب من عملية تنسيب المطلق الهيجلية إلى عملية اطلاق النسبي الوضعية وفي الرأسمالية البراجماتية التي تذهب من عملية اطلاق النسبي الوضعية إلى عملية تنسيب المطلق الهيجلية. فتكون كلتاهما جامعة بين الوضعية (من منظور الفلسفة النظرية) والهيجلية (من منظور الفلسفة العملية) وإن بترتيب متقابل(7) .

وفي هاتين الحالتين أصبحت الصلات السلمية الممكنة بين الشعوب المختلفة ممتنعة لكون الحضارات صارت بهذا المفهوم آفاقا متنافية بالطبع وحائلة دون أي لقاء حواري سلمي. فوجودها المتساوق يصبح ممتنعا من غيرالصراع الدامي وتوازن الرعب استنادا إلى منطق التنافي الجدلي أو التسالب التقني. ووجودها المتوالي يصبح مشروطا تحققه بنفي خالفها لسالفها وابتلاعه لأنه ليس ثمرة الماضي الموجبة بل هو ثمرته السالبة بحسب منطق التنافي الجدلي. ولا عجب. فالموقفان الذي ينسّب الأفق المطلق بتحييثه في أرواح الشعوب والذي يطلق الافق النسبي بنفي ما يتعالى عليه متلازمان. إنهما صورتان من الموقف الحلولي أعني من تحريف الدين الذي لا يفصل بين الافقين: الجمعي والمتعالي عليه لأن حلول الله في العالم أو في شعب أو في شخص انساني-وتلك هي ذروة الحلول- لا يمكن أن يكون إلا غاية هذا التوحيد بين الافقين.

فتحريف العلم الوضعي مشروط بالقول بالحلولية الخاصة أو بوحدة الوجود التاريخية: حلول الرب في الانسان. وتحريف الفلسفة مشروط بالقول بالحلولية العامة أو بوحدة الوجود الكونية: حلول الرب في الكون. والشيوعية والرأسمالية جمعتا التحريفين الفلسفي والعلمي المستندين إلى التحريف الديني الأصلي أعني الحلولية. فكانتا تحقيقهما الفعلي في تصوير الوجودين الطبيعي والاجتماعي بنفس الآليات العولمية السياسية الايديولوجية الغالبة على الاولى(8) والاقتصادية التقنية الغالبة على الثانية(9) مع كون ما يغلب على أحداهما بالفعل يعد المثال الأعلى الغالب على أخراهما(10) . والمعلوم أن كلتا هاتين العقيدتين لا يمكن أن تصبح سارية المفعول في الوجودين دون أن تكون مصحوبة بهمينة دولة مطلقة ذات اجهزة بوليسية استعلامية وعسكرية تستعبد الجميع دون استثناء بمن فيهم المواطنين المنتسبين إليها قبل غيرهم لانهم يمثلون العبيد الذين تستعبد بهم بقية العالم بهمجية سافرة في الاولى وبهمجية محجوبة في الثانية(11) .

لذلك فإن أول معيار لتصنيف الحوار يستند إلى طبيعة الأفق الذي يحدد مناخ الحوار طبيعته التي تتحدد بطبيعة العلاقة بين الافقين الجمعي والكلي. فهذا الافق يكون شهوديا يؤمن بتعالي الافق الكلي على الافق الجمعي أو جحوديا يوحد بين الافقين إما بنفي الاول أو بتحييثه في الثاني. وطبيعة الافق يتقدم فعلها على القصد العام المحدد لضروب الحوار التي تمكن منها أدوات التواصل الانسانية في المجالات التي أحصيناها بالاستقراء. وبهذا المعيار يمكن أن نقسم الحوار إلى جنسين:

1- جنس الحوار القائل بتعالي أفق الحوار على الافق الجمعي أو تعالي الاخوة البشرية على كل حضارة معينة. وهذا هو الجنس الوحيد الذي يمكن اعتباره سويا. ولنطلق عليه اسم الحوار الاستخلافي لكونه يعتبر الافق الحضاري مشدودا إلى أفق يتعالى عليه فيؤمن بأن الانسان ليس إلا خليفة يأتمر بأوامر مستخلفة ومن ثم بقيم تتعالي عليه(12) .

2-حنس الحوار القائل بعدم تعالي أفق الحوار على الافق الجمعي إما بتصور المتعالي حالا فيه أو بنفي المتعالي أصلا. وهذا هو الحد الذي إذا بلغه موقف المحاور صار حواره غير سوي. ولنطلق عليه اسم الحوار الحلولي لكونه يعتبر الأفق الحضاري مطلقا لا يتعالى عليه شيء فيزعم المطلق قد حل في الانسان الذي لا يأتمر إلا بما تحدثه به نفسه. حتى إن هيجل قد قال معرفا حقيقة الله في مقدمة فلسفة التاريخ: "إذا لم يكن جوهر الله هو جوهر الانسان وجوهر الطبيعة فإنه يكون جوهر العدم"(13) .

ويقبل الجنسان التقسيم بفروق نوعيه هي ضروب التقويم الخمسة التي أشرنا غليها فتكون أنواع الحوار بحسب مجالاته أو مستوياته خمسة في كلا الجنسين بعدة ضروب التقويم التي تقبل أن تكون هي بدورها موضوعا للحوار مثل الموضوعات المنتسبة إلى المجالات او المستويات: 1- الذوقي 2- والرزقي 3- والنظري 4- والعملي 4- والوجوي بقيمتي كل واحد منها.

 

 

الفصل الثاني

تصنيف ضروب الحوار بحسب قصوده ومستوياته

أو من العقد إلى العقل

 

يمكننا أن نستأنف تصنيفنا من رأس فنواصل تدقيقه. فبوسعنا الآن أن نحدد معيار الفصل بين الجنسين أعني طبيعة أفق الحوار الذي يحقق التبالغ تحديدا أتم بالانطلاق من منبع آخر غير أفق الحوار عامة ومستوياته. فلا نذهب من العقل إلى العقد بل نعكس فنذهب من العقد إلى العقل أعني من قصد الحوار ومستوياته تحديدا لقيمته الروحية الدينية. فالحوار الحقيقي تفاهم يصل بين طرفين. لذلك فهو لا يمكن أن يقع إلا بأدوات تتصف كلها بخاصية أداة التبالغ الرمزي أعني قدرتها على التعبير العامة المتقدمة على التمييز بين الافادة الخبرية والافادة الانشائية بقصديهما الممكنين: الحقيقي والمزيف.

لذلك فالتفاهم الحواري يتجاوز معايير اجناس الخطاب إلى معيار أصلها المتقدم عليها والمتقدم خاصة على الفصل بين الخطاب الخبري والخطاب الانشائي. وهذا المعيار هو معيار الحقيقي والمزيف بهما هما قيمتان للتبالغ عامة لا يخلو منهما خطاب سواء كان خبريا أو انشائيا. ويعني ذلك أن الانشائي من القول لا يخلو من القصد الخبري لكونه تبالغا تعبيريا عن الذات المنشئة. فهو يعبر عن ذات صاحبه بالمطابقة أو عدم المطابقة معها حيث تصاحب الاشارة العبارة ومن ثم فهو يخبر عن أحوال الذات صدقا وكذبا أو إن شئنا حقيقة ونفاقا. كما أن الخبري من القول لا يخلو من القصد الانشائي لكونه تبالغا تعبيريا كذلك. فهو يعبر كذلك عن ذات صاحبه بالمطابقة وعدم المطابقة معها لكونه إنشاء إشاريا مع كونه خبرا عباريا.

وإذا فللخبر بعد انشائي يحدد قصده الحقيقي أو المزيف من خلال حقيقة تعبيره أو زيفه إذ الإنشاء مع كونه تعبيرا عن الذات اخبار عنها كذلك. وإذا فالحق والزيف يقاس في الخبر ببعده الانشائي تعبيرا عن الذات. وهو يقاس في الانشاء ببعده الخبري اخبارا عنها. ولهذه العلة كان النفاق أو عدم المطابقة بين الذات باطنا وتعبيرها ظاهرا أكبر علامات الكفر وأكثرها دلالة. فلا يكون الصدق والكذب مقتصرين على الخبر بل الانشاء لا يخلو منهما إذ إن معيار المطابقة لا يخص علاقة الخبر بالمخبر عنه فسحب بل هو يخص كذلك علاقته بالمخبر.

تلكما هما قيمتا الحوار المتقدمتان على المقابلة بين الخبري والانشائي من الخطاب وهما القيمتان المؤسستان لقيمة الحوار بخاصية التبالغ التعبيري الذي يجري خلاله. ويتبين ذلك خاصة في أفضل وضعية تبين حقيقة هذه الخاصية عندما تكون مقصورة على التزييف حتى عند الصدق الموضوعي الذي يستهدف الخداع الذاتي كأن يقدم أحد أفراد الاستعلامات معلومات صادقة للعدو لطمأنته من أجل الحصول على ثقته تمهيدا للغدر به. فالتمويه الدبلوماسي والاستعلامي يستعملان فنيات الخداع بسلاح التبالغ التعبيري خبريا كان أو انشائيا. وذلك ما نعنيه بمعيار التبالغ الذي يتقدم على التمييز بينهما أعني مستوى الحقيقة والتزييف اللذين يتصف بهما الخبر والانشاء صادقين كانا او كاذبين.

وإذن فقصد التواصل الحواري بين البشر يقبل أحد القصدين الممكنين لادوات التواصل الرمزي بينهم أداء لوظائفهما: الحقيقي والمزيف في الخبر والانشاء على حد سواء وفي حالتي الصدق والكذب. ومن ثم فوراء فعلي الانشاء والخبر يوجد القصد أو النية التي تصحبهما فتجعلهما حقيقيين يستهدفان الحق إيمانا بتعاليه على كل تعين جمعي أو مزيفين يستهدفان الباطل ظنا أن التعين الجمعي مستوف للقيم المتعالية.

لذلك فمعيار حقيقة التبالغ التعبيري وزيفه غاية يناظر معيار الفصل والوصل بين الافقين الكلي والجمعي بداية. وإذا كنا قد حددنا بمعيار الأفق أجناس الحوار بما هو حدث وجودي يقبل الفصل القصد ومن ثم عن التقويم فإننا نحددها بمعيار القصد بما هي حدث وجودي قصدي متحقق لا يعرى عن التقويم. وهذا التحديد الثاني يجعل الحقيقي من الحوار أمرا تكون فيه القيم السالبة عرضية (الجمال والخير والصدق والحرية والشهود) فكل من يعتمد على معيار المطابقة في المعرفي فيركز على علاقة الرمز بالموضوع مقصورا عليها ويهمل علاقته بالذات يدعي أمرين كلاهما ممتنع. وهو بذلك يجعل الحوار مستندا بالطبع إلى تراجح القوى لا إلى تراجح الحجج:

الامر الاول هو العلم المحيط بالمعلوم أو تحريف الفكر الفلسفي (الهيجلية).

والامر الثاني هو المعلوم المقصور على العلم أو تحريف الفكر العلمي (الوضعية).

وكلا التحريفين سيان. فهما يعودان إلى التوحيد بين الافقين أي إلى نفي التعالي نفيا يحصر الوجود في الإدراك بلغة ابن خلدون(14) . فالعلم عندئذ لا يبقى اجتهادا بل يصير علما مطلقا إما لحلول المطلق فيه أو لنفي كل مطلق عداه أعني في الحالتين لاقتصاره على الافق الجمعي. وذلك هو التحريف الديني الجوهري أعني نظرية شعب الله المختار (كما يتبين من مفهوم الدين المتجلي في فلسفة هيجل حيث يتطابق الكلام المسيحي مع العلم المطلق الهيجلي أو الدين الوضعي في فلسفة أغست كونت الذي يؤله رجالات العلم الوضعي فيكون منهم شبه مجمع للحواريين). لذلك فإن رفض الاقتصار على معيار المطابقة بين العلم والمعلوم استنادا إلى رفض القول بالعلم المحيط يؤدي غلى رفض الحلين الحلوليين وتعويضهما بحل الاستخلاف الذي يجعل الافق الجمعي مشدودا إلى أفق متعال عليه يكون العلم بمقتضاه علما اجتهاديا معياره الوحيد بذل الوسع معرفيا مع صدق القصد خلقيا.

وإذن فالحوار يكون حقيقيا شهوديا أو مزيفا جحوديا بحسب قصده. وقد أسلفنا أنه يكون استخلافيا أو حلوليا بحسب أفقه. وبذلك يتطابق الامران: فالافق يحدد صفات الحوار وجوديا والقصد يحددها قيميا. ولكل منهما خمسة مستويات بعدة مجالات (وجود) التقويم (قيمة) مع تقابل الترتيب بين الجوهري والعرضي منهما. فالقيم الموجبة جوهرية في الحوار الشهودي وعرضية في الحوار الجحودي والقيم السالبة بالعكس جوهرية في الجحودي وعرضية في الشهودي: أي إن كلا الجنسين لا يخلو من القيمة المقابلة لقيمته الجوهرية لكن حضورها فيه يكون بالعرض.

ولولا هذه الخاصية لامتنع أن يكون هذا المعيار ممكّنا من تحديد وجود الاجناس التي تنقسم إلى الانواع عند اعتباره أفقا للحوار خلال العلاج الذاهب من العقل إلى العقد ثم ممكّنا من تحديد قيمة الانواع على أرضية الاجناس عند اعتباره قصدا للحوار خلال العلاج الذاهب من العقد إلى العقل. وسواء أذهبنا من الوجود إلى القمية أم من القيمة إلى الوجود فإن الحصيلة الواحدة تطابق قول الوجود التام (الفسفة الاستخلافية) وقول القيمة (الدين الاستخلافي) الاسميين في دعوتهما إلى ضرورة تجاوز الافق الجمعي إلى الافق الكلي للتحرر من المواقف العرقية التي تكررت مرتين واحدة باسم شعب الله المختار في الدين الحلولي (اليهودية) والثانية باسم شعب الله المختار في الفلسفة الحلولية (الجرمانية)(15) .

فبما كان هذا المعيار محدد عقليا (أي من الوجود إلى القيمة) لأفق الحوار يكون فاصلا بين الجنسين لكونه متقدما على كل حوار. وبما هو محدد عقديا (أي من القيمة إلى الوجود) لقصد الحوار يكون فاعلا بين فرعي كل نوع من الانواع الخمسة التي ينقسم إليها كلا الجنسين. ذلك أن كل نوع منها مضاعف بحسب قصد التواصل طلبا للحقيقة والعمل بها من اجل المصادقة التي مبدؤها الايمان والتواصي بالحق والعلم الصالح والتواصي بالصبر أو طلبا للباطل من أجل المخادعة التي مبدؤها نفي التواصيين إذ إن الاستخلاف يتضمن بالطبع مرحلة التخلص من الحلول الممكن بما هو نسيان يرمز إليه القرآن الكريم بالخسر الذي هو الرد إلى أسفل سافلين(16) . فتصبح العدة عشرة ضروب:

1- خمسة شهودية حقيقية في أفق استخلافي يحدد الكونية الاسلامية التي هي دعوة للحوار مفتوحة

بلا حد بدايتها التعايش وغايتها التعارف

2- وخمسة جحودية مزيفة في أفق حلولي يحدد العلولمة الحالية التي هي دعوة للحرب مفتوحة بلا حد

وغايتها هي بدايتها أعني التعايش المحكوم بتوازن الرعب.

لذلك كان التقابل بين الجنسين لحسن حظ الانسان ليس تقابلا مطلقا. فللحوار مفهوم شامل يصل بينهما عندما ننطلق من الدعوة المفتوحة للحوار بلا حد أعني من الرسالة الاسلامية. ومن ثم فلا بد من وجود خيط يصل بينهما يجعل الأدنى قابلا لأن يكون بداية ينبغي التخلص منها والأسمى غاية ينبغي الوصول إليها. فالجحود المطلق والتزييف التام مستحيلان وإلا لفقدت الدعوة إلى الحق كل امكان وكل مبرر. فإذا كان النسيان نفيا لامكان التذكر مطلقا بات التذكير لغوا. فحتى في الافق الحلولي يكون طلب الباطل والتزييف الغالب على الحوار ممتنعا من دون قدر من طلب الحق إذ علم الباطل للعمل به يقتضي علم الأدوات على حقيقتها لئلا يفقد فاعل مفعول ألياته حتى وإن كان أساسه تزييف الغايات.

فمخادعة الغير الناجعة تقتضي عدم مخادعة الذات لكون مخادعة الذات أفضل الوسائل لمساعدة الغير عليها. أما طلب الحق فهو غني عن المخادعة حتى في الأدوات فضلا عنه في الغايات. ذلك أن الجزء الضئيل من طلب الحق في البحث عن الباطل الأكثر فاعلية يبين في النهاية أن الحيلة هي في ترك الحيلة كما يقول الرسول (صلعم) ما يجعل مصادقة الذات الحقيقية تتمثل في عدم مخادعة الغير لكون الغير الذي نخادعه لن يبقى دائما قابلا للخداع. وخداعنا قد يعلمه سلاحنا فيشتد ساعده ويرمينا.

إن الوصل بين الافقين يمكن ان يكون من خلال المكر الافضل الذي يتغلب على المكر الارذل. فالجهاد الاجماعي يجعل صراع القوى أداة للتحرر من الباطل لتحقيق شروط الحوار السوي. لذلك كان الدعوة الاسلامية مبنية على حاجة الحق للقوة العادلة التي تكون مجرد أداة لتحرير الانسان من الحلولية وتبصيره بالأفق المتعالي أو الأفق المبين الذي يكون الله فيه بالحق غير ضنين. فكل دعوة للحوار تظنه بديلا من تصدي الحق للباطل بالقوة الخادمة للحق ليست دعوة للحوار السوي بل هي تخاذل واستسلام للموقف الحلولي الذي يكون الحوار فيه للخداع فيلغي آخر مقومات الصمود.

 

الفصل الثالث

ثمرة التصنيفين من المنظور الإسلامي

 

وهكذا فقد أوصلتنا عملية التصنيف العقلي الخالص إلى نتائج من الصعب عدم الانتباه إلى تطابقها مع المعاني الجوهرية التي يتسند إليها الحوار في التصور الاسلامي بمرحلتيه. فللحوار كما يحدده الاسلام مفهوم شامل بدايته التعايش وغايته التعارف. والثاني حوار تام. والأول حوار ناقص. والحوار الناقص الذي يمكن ان يعد بداية للحوار بمفهومه الشامل هو حوار التعايش بين البشر الذين لم يدركوا بعد وحدتهم الاصلية في الاخوة الآدمية. وليست الراسالات إلا من أجل تحقيق شروط هذا الادراك بكل وسائل الجهاد التي يعد الحوار أحد سبلها لكونه بداية الدعوة إلى الحق نقلا للبشر من التاريخ الطبيعي المحكوم بالصراع ومنطق القوة إلى التاريخ الحضاري المحكوم الحوار ومنطق الحجة.

والحوار التام الذي يمكن ان يعد غاية للحوار بمفهومه الشامل هو حوار التعارف بين البشر الذي أدركوا وحدتهم الاصلية في الاخوة الآدمية المتعالية على الاشكال الحضارية من أجل تعميق هذه الاخوة بكل وسائل الاجتهاذ الذي يعد الحوار سبيله الرئيسية لكونه عين التواصي بالحق والتواصي بالصبر. وبذلك يتبين أن الحوار بمفهومه الشامل يتألف من بداية وغاية يربط بينهما قابلية البداية للتطور بفضل الانشداد إلى الغاية عندما يوجد من يسعى إلى القيام بواجب الرسالة الهادية أعني الجهاد الاسلامي بكل وسائله سلما وحربا.

1- الحوار التام: فالحوار التام هو الذي يصل بين مجالي التعامل البشري النظري (الاستخلاف النظري بفرعيه المجرد أو العلوم النظرية والمطبق أو الفنون التقنية) والتعامل العملي (الاستخلاف العملي بفرعيه المجرد أو العلوم العملية والمطبق أو الفنون الرمزية) وصلا يطابق بينهما مطابقة دالة على السعي نحو الحقيقة(17) . ولا يحصل هذا الحوار على أتم صوره إلا بين المؤمنين بالأفق المتعالي. وفيه يكون طلب الحقيقة في المجال النظري مستندا إلى ما يمكن تسميته بالاجتهاد الاجماعي(18) أو التواصي بالحق من أجل معرفة الحقيقة والقيم بكل أصنافها. ويكون العمل بها في المجال العملي مستندا إلى ما يمكن تسميته بالجهاد الاجماعي(19) أو التواصي بالصبر من أجل العمل بالقيم بجميع أصنافها لتحقيقها.

ذلك أنه يمكن أن نرضى بالحد الأدنى عندما يكون الحوار بين الملل المختلفة لتحقيق أدنى درجات الحوار وخاصة في المجال النظري بين النخب على الاقل. لكننا لا يمكن ان نقنع بغير أقصى درجاته بين المؤمنين بالافق المتعالي وخاصة في المجال العملي بين الناس جميعا. وذلك هو أسمى درجات الحوار: إنه التواصل الحواري الذي يقصد الكشف عن الحقيقة لتحقيق المصادقة بين المتحاورين. ولنسمه الحوار الشهودي. فهو حوار لا يدعي العلم المحيط لقوله بتعالي المطلق ونفي تعينه في النسبي.

وقد حدد القرآن الكريم مبدأه وأساسه فأطلق عليه اسم الايمان وشرحه بكونه التواصي بالحق المصحوب بالعمل الصالح الذي شرحه بكونه التواصي بالصبر شرطين للاستثناء من الخسر أو من الرد إلى أسفل سافلين أعني الاستثناء من تحريف الفطرة التي أتى الاسلام لارجاعها إلى سلامتها بتحقيق شرطي الاستثناء. لذلك كان من الضروري أن يكون الاسلام الدين الخاتم إذ هو قد بلغ الكلية المطلقة التي تتجاوز الأقوام إلى الانسانية بل وتتجاوز الانسانية إلى كل المخلوقات حيها وجامدها(20) .

2- الحوار الناقص: والحوار الناقص هو الذي يفصل مجالي التعامل البشري النظري والعلمي أحدهما عن الاخر فصلا يزيل التطابق بينهما (وتلك هي علامة الزيف والنفاق). ويكون عادة بين غير المؤمنين بالأفل الكلي المتعالي. إنه التواصل الحواري الذي يقصد التعمية عن الحقيقة لتحقيق المخادعة بين المتحاورين. ولنسمه حوارا جحوديا. وهو قد يصبح مطلق الجحود إذا لم يكن بداية مشدودة إلى الغاية. فيكون بداية بلاغاية لحوار الخداع الذي من جنس التفاوض الاسرائيلي مع الفلسطينين. ذلك أن هذا الحوار يدعي صاحبه الاطلاق لرأيه اعتقادا منه بتعين المطلق في النسبي أو بنفي المطلق من أصله.

لذلك فلا يحق للمؤمنين باطلاق ان يستعملوه حتى مع الاعداء لتنافي أخلاق الغدر مع الايمان الصادق. فالمكر المباح بل وحتى المكر الواجب في الحروب مع الاعداء لا يكون غدرا ولا خداعا إيجابيا بل هو لمنع الغدر والخداع. ولولا ذلك لما نسبه الله إلى نفسه(21) . لذلك كانت حضارتنا الحضارة التي وضعت قوانين إنسانية للتعايش بين الملل وللعلاقات الدولية حتى في حالة الحرب. وبذلك يتبين أن جوهر الدعوة الدينية السليمة من التحريف عامة والرسالة الاسلامية خاصة يتمثل الحوار المتواصل بين كل أبناء آدم أهم علاماتها لانه شرط تحقيق رسالة الاستخلاف.

وليس يمكن لأحد أن ينكر أن الاسلام دعوة دائمة لحوار المسلمين مع أهل الاديان الاخرى من منطلق البحث عن الحقيقة للعمل بها وارجاء الفصل المطلق بينهم إلى يوم الدين(22) . وتلك هي علة مقابلتنا في بعض محاولاتنا السابقة بين العولمة الجحودية و الكونية الشهودية(23) . فالمطلوب ليس حوارا بين الحضارات بل حوار بين البشر لتجاوز ما تتنافي به أو ما يفرق بين البشر سعيا إلى تحقيق الاخوة الانسانية. ذلك أن الحوار الحقيقي لا يجري بين الحضارات ولا ضمنها بل هو حوار بين البشر بتوسط ما في الحضارات من صبو إلى التجاوز الذاتي نحو ما يتعالى عليها من غايات ليست الحضارات الا نسق وسائل السعي إليها. ولهذه العلة اعتبر القرآن الكريم التعدد الحضاري والعقدي مقصودا ومرادا لكونه شرط واجب التدافع من اجل الامتحان لمعرفة من يعمل بالتواصيين(24) .

لكن الحوار التام الذي هو واقع بين المؤمنين بتعالي الأفق الكوني على الافق الحضاري يمكن أن يصبح مثالا أعلى للحوار بين الملل المختلفة عندما تصبح غايتها طلب الحقيقة والعمل بها مثل المؤمنين: التواصي بالحق والتواصي بالصبر. كما أن الحوار الناقص الذي هو واقع بين الملل المختلفة يمكن أن يصبح مثالا أدنى بين المؤمنين بهذا التعالي عندما يحيدون عن طلب الحقيقة مثل غير المؤمنين كما هي حال المسلمين منذ الانحطاط إلى الآن: عدم التواصي بالحق وعدم التواصي بالصبر بل التواصي بالباطل وبالعجلة.

ولما كان نوعا الحوار قابلين للحصول في الملة الواحدة إذ قد ينحط حوار التعارف إلى مجرد حوار للتعايش عندما يبتعد طرفا الحوار المؤمنين عن التواصيين وقد يسمو حوار التعايش إلى مستوى حوار التعارف بين الملل عندما يقترب طرفا الحوار غير المؤمنين من التواصيين فإنه يصبح من الواجب أن نعتبر النوعين درجتين من مفهوم أشمل للحوار يكون حوار التعايش بدايته وحوار التعارف غايته. والحوار بهذا المعنى الاشمل هو عينه جوهر الدعوة الدينية بدرجاتها المختلفة التي اكتملت في الرسالة الخاتمة. لذلك كانت الدعوة الاسلامية الاداة التي تحرر الانسان من الرد أسفل سافلين لتحقيق الاستثناء من الخسر أعني العودة إلى التقويم الاحسن الذي تمثله الفطرة الانسانية أساس الاخوة أو وحدة البنوة لآدم التي هي مناط اجتباء الله للانسان نفيا لنظرية الشعب المختار أعني للنظرية العرقية التي تنفي كل امكانية للحوار بما في ذلك درجته الدنيا. والحصيلة أن للحوار مدلولين:

1- جحودي ناقص لكون الحقيقة والعمل بها فيه ليسا مطلوبين لذاتهما بل هما من أجل الباطل

والعمل به.

2- شهودي تام لكون الحقيقة والعمل بها فيه مطلوبين لذاتهما وليسا هما من أجل الباطل أم من أجل

العمل به.

فأما الحوار الناقص فهو حوار المخادعة. وهو الحوار الجامع بين متناقضين هما مصادقة الذات لمخادعة الغير تسليما بالتنافي المطلق بين البشر بمقتضى رد الأفق الكلي إلى الأفق الجمعي في الموقف الجحودي. وأما الحوار التام فهو حوار المصادقة المتحرر من الجمع بين متناقضين: مصادقة الذات لمصادقة الغير إيمانا بالأخوة الانسانية في الموقف الشهودي. ولما كان كلا هذين الجنسين التام والناقص ذا خمسة أنواع مضاعفة لكونه يجري حول موضوعات لامتناهية قابلة للتصنيف بحسب انتسابها إلى مجالات التقويم الخمسة مع التقويمات الخمسة نفسها بوصفها أنواع تلك الموضوعات وقابلة لأن تكون موضوعات من درجة أسمى بات الحوار بين البشر قابلا للحصر على النحو التالي.

فبمقتضى الأفق يكون الحوار ذا جنسين: الحلولي الذي ينفي التعالي والاستخلافي الذي يثبته. وبمقتضى أنواع التقويم يكون لكل جنس خسمة أنواع أعضاؤها لامتناهية العدد يضاف إليها الانواع الخمسة نفسها. وبمقتضى القصد المناظر للافق يكون كل منها حقيقيا للمصادقة أو مزيفا للمخادعة بحسب كونه سعيا إلى كشف الحقيقة والعمل بها أو سعيا إلى التعمية عليها والعمل بعكسها في مناخين أو أفقيين متقابلين تمام التقابل هما مناخ الشهود الاستخلافي الذي يطلب الحق للمصادقة تواصيا بالحق والصبر بمقتضى الايمان ومناخ الجحود الحلولي الذي يطلب الباطل للمخادعة تواصيا بالباطل والعجلة. وهذه هي أنواع الحوار:

1- الحوار حول موضوعات مجال التقويم الذوقي مع التقويم الذوقي نفسه: تحديد الجميل والدميم في

مجال من المجالات أو بصورة كلية.

2- الحوار حول موضوعات مجال التقويم الرزقي مع التقويم الرزقي نفسه: تحديد الخير والشر في مجال

من المجالات أو بصورة كلية.

3- الحوار حول موضوعات من مجال التقويم النظري مع التقويم النظري نفسه: تحديد الصادق

والكاذق في مجال من المجالات أو بصورة كلية.

4- الحوار حول موضوعات من مجال التقويم العملي مع التقويم العملي نفسه: تحديد الحر والمضطر

في مجال من المجالات أو بصورة كلية.

5- الحوار حول التقويم الوجودي حول موضوعات من مجال التقويم الوجودي مع التقويم الوجودي

نفسه: تحديد الشهود والجحود في مجال من المجالات أو بصورة كلية.

إن الحضارة الأسمى ليست إذن هي الحضارة التي تدعي أن هذه القيم قد تعينت فيها دون سواها بل هي الحضارة التي تعتبر تعالي ضروب القيم الخمسة على الجميع مقتضيا حوارا يتجاوز التعصب للاشكال الحضارية وتقليد الآباء فيطلب الحقيقة المتعالية عليها جميعا لمعرفتها والعلم بها سواسية لكون بني آدم أخوة تجمعهم الفطرة الواحدة التي قد تشوهها التحريفات الحضارية لكنها لا يمكن ان تطمسها(25) . ولعل أفضل مثال من هذه الدعوة هو موقف القرآن الكريم من السنن السابقة التي يحتح بها أصحابها لرفض الحق. والمعلوم أن طلب الحقيقة دون ادعاء حيازتها هو المعرفة الاجتهادية التي استعاض بها الاسلام عن الاحاطة النظرية التي يزعمها السلطان الروحي المتعالي على الاشخاص أي السلطة الدينية التي تدعي العصمة والوساطة بين الانسان والعمل بالتمييز بين الحق والباطل. ويقتضي العلم الجهادي تبرئة الخطأ فيه بل واعتباره مأجورا إذا توفرت شروطه التقنية (العلم بالفن والمنهج) والسياسية (نظام تعيين المكلفين بالاجتهاد من قبل السلطان مثل المفاتي والاساتذة والايمة) والخلقية (الاستقامة والتقوى والورع). وذلك هو شرط تحقق واجب الامر بالمعروف والنهي عن المكر بوسائله المشهورة.

 

المقالة الثانية

الفصل الأول: مفهوم الحوار ومقوماته الذاتية

 

بينا في المقالة الأولى أن النتائج التي وصل إليها البحث في سعبه من المنطلق العقلي إلى الغاية العقدية (الفصل الأول) هي عينها النتائج التي وصل يصل إليها في سعيه المقابل من المنطلق العقدي إلى الغاية العقلية (الفصل الثاني). فتمكنا من تمييز الأفقين والقصدين وحددنا الجسر الذي يمكن من الربط بينهما. وليس هذا الجسر إلا تصورا أوسع للحوار لا يمكن من دونه ان تكون الرسالة الخاتمة دعوة عامة للحق تتجاوزكل الحدود الحضارية. فالحوار التام باطلاق والحوار الناقص باطلاق لا يكادان يوجدان في الواقع الفعلي. والحوار الواقع في الوجود الفعلي مفهوم أوسع لكونه دون الأولين اطلاقا. لذلك فهو لا يكون إلا نسبيا يغلب عليه التوجه الاستخلافي أو التوجه الحلولي بحسب القائمين به وليس بحسب الانتساب الرسمي إلى هذه الحضارة او تلك. فهو يحصل ضمن الحضارات الاستخلافية أو ضمن الحضارات الحلولية أو بينهما.

 

ومطلوبنا في هذه المحاولة هو هذا المفهوم الواسع من الحوار الذي يكون في بدايته أميل إلى الحلولية وفي نهايته أميل إلى الاستخلافية بحيث يكون الحوار نفسه الطريق الناقلة للحوار من البداية الناقصة إلى الغاية التامة. ومن البداية والغاية والسعي بينهما يتألف المفهوم الحوار الاوسع الحوار الموجود فعلا وجودا يكون أميل إلى الاستخلاف أو إلى الحلولية بحسب الاتصاف بصفات الاستخلاف أو الحلولية وليس بحسب مجرد الانتساب الرسمي إلى هذه الحضارة أو تلك. وبذلك يختلف مفهوم "كنتم خير أمة" عن مفهوم "الشعب المختار": كل من يتصف بصفات الاستخلاف يدخل في ما صدق خير أمة. والمعلوم أن الميل إلى هذا الافق أو ذاك أو قصده إليه هو الذي يحدد طبيعته وليس تحقق الافقين فيه لامتناع الاطلاق في الحالتين نفيا واثباتا:

1- فالبداية يكون فيها طرفا الحوار منفصلين لكون الحوار بينهما لا يجري في إطار رهان واحد يتعالى على أفقيهما الحضاري بل في اطار الصدام بين رهانين متنافيين إما باطلاق وعندئذ تكون البداية غاية لا يتجاوزها الحوار أو باضافة لكون نفي الافق المتعالي أو رده إلى الافق الجمعي ليس إلا نفيا رسميا في حضارة المحاور وليس في رأيه الشخصي.

2- والغاية يصبح فيها طرفا الحوار متصلين لكون الحوار يصبح في إطار الرهان الواحد الذي يتعالي على الأفقين الحضاريين تجاوزا للصدام بين الآفاق الجمعية المتعددة دون نفي للتعدد الذي هو شرط الاجتهاد أو الرهان الجمعي.

وبذلك يمكن الوصل بين البداية والغاية في معنى البداية الإضافي إلى الغاية وفي معن الغاية الوصل بينهما بمفهوم شامل لأن الفرق بين البداية والغاية عندئد ليس إلا فرقا نسبيا من المنظور الاستخلافي. وهو لا يصبح فرقا مطلقا إلا عند القائلين بالحلول العام او الخاص اللذين يقفان عند حوار البداية نفيا لحوار الغاية باطلاق الأفق الجمعي ونفي الافق المتعالي عليه.

ولما كان أساس عقيدة المسلمين الايمان بأن بني آدم حتى في أشد اللقاءات العدائية لا يخلون من الانتساب إلى رهان روحي واحد أعني رهان منزلة الانسان الذي كرمه الله(26) منزلته التي يدور الخلاف فيها حول طبيعة أداء الامانة وشروطها صار وصف الرسالة الاسلامية بالرسالة الخاتمة أمرا مفهوما وبات تعدد الأشكال الدينية واختلافها أمرا نسبيا لا يؤدي ضرورة إلى العداوة والبغضاء بل هو شرط الاجتهاد الساعي إلى معرفة الدين الاصلي بداية قبل الرد إلى أسفل سافلين وغاية بعده أعني دين الفطرة الساذجة قبل التحريف ودين الفطرة الواعية بذاتها بعد اصلاح التحريف.

فهذه الفطرة الاسلامية أمر مشترك بين جميع الكائنات وخاصة بين البشر الذين هم كلهم لآدم وآدم من تراب. وتلك هي بذرة الكونية الاسلامية أو منزلة الاستخلاف التي هي عينها الأمانة التي حملها الانسان. ويعني ذلك أن الانتساب الحقيقي إلى الاستخلاف أو إلى الحلولية يتجاوز الحدود الحضارية. فالأمر لا يتعلق بالانتساب السياسي الحضاري إلى هذه الملة او تلك بل المقصود هو الانتساب إلى الشهود أو الى الجحود الموجودين عند البعض في كل الحضارات مع غلبة هذا الأفق في بعضها وذاك في بعضها الآخر. ذلك أن الشهود والجحود من الامور التي لا تتعين إلا في الشعور والسلوك الفردي. أما الجماعة فليس لها شعور ولا سلوك إلا بمتوسط نخبها الممثلة المفتوحة(27) . فبما هي كلتة هلامية لا توصف الجماعات بأي منهما إلا مجازا تعميما للوصف الغالب على نخبها الممثلة لمجالات التقويم الخسمة أعني النخب المبدعة في الذوق (الفنون الجميلة) والرزق (الثروات) والنظر (العلوم) والعمل (المؤسسات السياسية والقانونية) والوجود (الفلسفات والاديان).

لكن وحدة البشر الأساسية أو الفطرة ذات القوة الأولى قابلة للنسيان إو للافساد وهو المقصود بالرد إلى أسفل سافلين أو الخسر بعد التقويم الاحسن. لذلك فإنه ينبغي أن ندرس البداية بما هي مرحلة مؤقتة تفهم في ضوء الغاية لكونها توجها وسعيا لتحقيق الاستثناء من هذ الرد استردادا للفطرة التي تصبح ذات قوة ثانية. فالبداية المفصولة عن الغاية-وهي قابلة لهذا الفصل عينا إذا أمكن التوقف عندها بخلاف الغاية التي لا تقبل الفصل إلا ذهنيا لكونها لا تحصل وجودا من دون البداية- كان الحوار فيها حوارا لا يتجاوز طموحه شروط التعايش. وتكون وظيفة الحوار فيها من جنس المفاوضات بين عدوين أعني حوارا ذا أسلوب دبلوماسي أو استعلائي غايته التواصل الخداعي وليس البحث عن التفاهم الحقيقي. إنه اذن ضرب من الحرب المؤجلة بسلاح الخداع اللساني إلى حين حصول الفرصة للحرب الفعلية.

إما إذا أخذت وظيفة الحوار من حيث نسبتها إلى الغاية فإنها تكون بداية للسعي الحقيقي إلى حوار الغاية كما أشرنا ومن ثم فهي جزء من الغاية. والحوار بهذا المفهوم الشامل يتحدد بخمسة مقومات حللنا منها أربعة تمثلت في مقومي الافق أعني: 1- مجال الحوار 2- وموضوعه. ثم مقومي القصد أعني: 3- غاية الحوار 4- وقانونه أو القاعدة التي يخضع لها. ولم يبق إلا المقوم الخامس الذي أجلنا تحليله لكونه في نفس الوقت علة الحوار والآصرة التي تربط بين ضربي الحوار الناقص والحوار التام. فلولا التعدد وخلل التوازن بين الأطراف في بعدي قوتهما المادي والروحي اللذين أشرنا إليهما في المقالة الاولى دون تدقيق لما وجد حوار البداية فضلا عن حوار الغاية إنه: 5- الفسحة التي يجري فيها الحوار ويتحدد بها مداه.

ولما كانت هذه المقومات يتغير مضمونها بحسب كونها مقومة لحوار البداية المشدودة إلى الغاية أو لحوار الغاية المبنية على البداية بات تحديد مضمونها مستوجبا التمييز بين مقومات البداية المشدودة إلى الغاية ومقومات الغاية التي لا يمكن أن تكون مفصولة عن البداية إلا في التجريد الذهني عديم الجدوي. وعلينا الآن أن نحلل فسحة الحوار التي تحدد مداه. فهذا المقوم يمثل المحدد الاساسي للهامش الحواري بين ممثلي الحضارات ضمن احداها أو بينها وخاصة في حد البداية.

ويمكن أن نصوغ هذه الفسحة صياغة شبه رياضية لكونها ليست شيئا آخر غير العلاقة المتغيرة بين نسبتين هما نسبة القوتين الماديتين ونسبة القوتين الروحيتين عند طرفي الحوار. إنها إذن تناسب بين أربعة حدود(28) . ولهذه العلاقة حدان لا يوجدان في التاريخ الفعلي إلا وجود الفكرة المجردة أو الحدث الاسطوري: حد الاقتصار على النسبة المادية بين المتحاورين المتصارعين في حالة الحوار الجحودي والحلولي المطلق ثم حد الاقتصار على النسبة الروحية بينهما في حالة الحوار الشهودي أو الاستخلافي المطلق. لكن الموجود في التاريخ الفعلي هو الاتجاه نحو هذا الافق أو ذاك في الحوار الجاري في نفس الحضارة أو بين الحضارات لعدم امكانية وجود حضارة جحودية باطلاق (تخلو من الشهوديين فيها) وحضارة شهودية باطلاق (تخلو من الجحوديين) بل الموجود هو غلبة هذا الوجه على بعض الحضارات أو ذاك على البعض الاخر.

فلو فرضنا الحدين المطلقين موجودين فعلا لاصبحت البشرية مترددة بين الحرب الدائمة والسلم الدائمة ولصار الحوار مطلق الزيف ومطلق الصدق في نفس الآن. فلا يمكن للحوار أن يكون مطلق الصدق ولا لاستغنينا عنه من حيث هو سعي إلى تحقيق التفاهم أو إلى ازالة سوء التفاهم. لذلك فغاية الاجتهاد الاجماعي الذي يؤسس الجهاد الاجماعي بين المؤمنين يمكن تحديدها بالسعي إلى الحد من تأثير عامل القوة المادية والزيادة في تأثير عامل القوة الروحية في العلاقات الاستخلافية بين البشر لكون الايمان يتجاوز حدود الملل وهو ليس واحدا عند الجميع إلا بما هو مثال مطلوب وليس بما هو واقع حاصل.

كما أنه لا يمكن للزيف المطلق أن يوجد. وإذا وجد فإن الحوار يصبح أمرا لا فائدة منه إذ لا ينتظر المحاوران منه شيئا. لذلك فغاية العلم المحيط المزعوم الدي يستند إليه الاقتتال الجماعي (إما في شكل تنافس اقتصادي متوحش أو في شكل حروب والاول حرب غير علنية لأنها قتل جماعي لمن يضطرون إلى الفقر وفقدان كل ممتلكاتهم وموارد رزقهم) بين الكافرين يمكن تحديدها بالسعي إلى الحد من تأثير عامل القوة الروحية والزيادة من تأثر عامل القوة المادية في العلاقات البشرية. لكننا لا يمكن ان نلغي النسبة الناتجة عن علاقة القوة الروحية بين المتحاورين الموجودة حتى في الملة الحلولية لكون الكفران يتجاوز حدود الملل وهو ليس واحدا إلا بما هو تصور وليس بما هو واقع حاصل.

السلم الدائمة حتى بين المؤمنين من الاحلام بل من الاوهام. فدوامها متناقض لانه يعني نفي التدافع الامتحاني لمعرفة الحق والتنافس من أجل تحقيقه. والحرب الدائمة حتى بين الكافرين من الاوهام كذلك. فدوامها متناقض لان القوى المتحاربة متناهية فإذا لم تتوقف الحرب لحين فنى الجميع. والفرق بين الحضارات هو إذن فرق في طبيعة التوجه والقصد والوجه الغالب شهوديا أو جحوديا. فبعضها يجعل الحرب شذوذا على قاعدة السلم وتلك هي الخاصية الغالبة على الحضارات الاستخلافية التي لا تنبني على الشك والريبة من الاخر. وبعضها يجعل السلم شذوذا على قاعدة الحرب وتلك هي الخاصية الغالبة على الحضارات الحلولية التي يعيش أهلها في رعب دائم وشك وريبة حتى إنهم يخلقون الاعداء إذا لم يوجدوا فعلا. ولعل ذروة هذه الخاصية هي المميز الاساسي لبني اسرائيل الذين يعيشون في جيتو نفسي قبل الجيتو العمراني رغم كل محاولات الحضارة الاسلامية لاخراجهم منهما: خوف دائم وريبة قد تكونان حصيلة تاريخهم الناتج عن العلاج السيء لعلاقاتهم بغيرهم ثمرة لوهم المختارية. وقد عمم هذا الداء بعد تجربتين مريرتين حصلتا في الغرب الحديث: الأولى هي التقتيل والتهجير في حروب الاسترداد والثانية هي التهجير وجمع المجرمين في الولايات المتحدة الامريكية التي جعلت هذا السلوك الحربي الدائم قاعدة بدأت بافناء الهنود الحمر وهي متواصلة بافناء أغلب الشعوب المغلوبة بالتجويع والتركيع.

لذلك فالحوار يفترض دائما هذه العلاقة بين ميزان القوة المادية وميزان القوة الروحية رغم تقدم الاول عند الحلوليين الذين تغلب عليهم النزعة العدوانية وأخلاق المحاربة وتقدم الثاني عند الاستخلافيين الذين تغلب عليهم النزعة السلمية وأخلاق الفرسان. وكلتا النزعتين بأخلاقهما موجودة في كل الحضاراتز والمميز هو التوجه إلى غلبة هده الاخلاق أو تلك. ولولا هذه العلاقة المزدوجة لما وجدت فسحة للحوار أصلا. ويحصل التقديمان عندما يكون الصراع بين واحد من هؤلاء وواحد من أولئك مع تعاكس في الترتيب. ذلك أن الحدين حد بداية الحوار وحد نهايته يحددهما قانون التناسب العكسي بين قوتي المتحاورين المادية والروحية.

فميزان القوة المادي والروحي بين المتحاورين هو الذي يحدد الفسحة التي يجري خلالها الحوار. وبداية الفسحة هي وجود حساب الربح والخسارة المادي عند الاقوى ماديا لكونه لا يشرع في قبول الحوار والتخلي عن منطق الحرب المطلقة مع الاضعف ماديا إلا بمنطق المساومة للحفاظ على أكبر قدر ممكن منها. وإذن فدلالة الحوار عند الاقوى ماديا الذي هو في الاغلب الاضعف روحيا غيرها عند الاضعف ماديا الذي هو في الاغلب الاقوى روحيا. أحدهما يحاور بالخداع دفاعا عن الباطل والظلم لتغليبه القيم المادية على معاني الوجود الانساني والثاني يحاور بالصدق دفاعا عن الحق والعدل لتغليبه القيم الروحية على معاني الوجود الانساني.

لكن ذلك لا يعني أن الثاني ليس له حساب ربح وخسارة مادي أو أن الاول ليس له حساب ربح وخسارة روحي بل القصد أن كلا منهما يستمد "مقدار التحمل" في الصدام من تراتب القوتين على النحو الذي ذكرنا ومن ثم يتحدد الحوار عنده بذلك المقدار. فمن استقوى بالمادة يكون أضعف روحيا ضرورة لأن مدى تحمله يقدر بالمنزلة التي يوليها للقيم المادية التي يريد الحفاظ عليها قبل أي شيء آخر. ومن استضعف بالمادة يكون أقوى روحيا لان مدى تحمله يقدر المنزلة التي يوليها للقيم الروحية التي يريد الحفاظ عليها قبل أي شيء آخر. فتكون غاية الحوار عند الاول تحقيق صفقة. وغاية الحوار عند الثاني ازالة ظلم.

وهذا من سنن الله التي لن تجد لها تبديلا أو تحويلا. لكن ذلك لا يعني أن الاقوى روحيا ينبغي أن يكون الاضعف ماديا إذ المؤمن الحقيقي ينبغي له الجمع بين القوتين بصريح أمر القرآن الكريم(29) . ذلك أن القوة الروحية توصل ضرورة إلى القوة المادية. وضعف القوة المادية علامة من علامات ضعف الايمان لان الله وعد المؤمنين بارث الارض فإذا فقدوا الارث دل ذلك على خلل في الايمان دون شك. فالعلاقة بين القوتين هي علاقة الاداة بالغاية: المادي أداة الروحي دائما وذلك هو معنى الاستقواء بالروح. أما القوة المادية فإنها لا تؤدي ضرورة إلى القوة الروحية لان الاداة لا تولد الغاية ضرورة بخلاف توليد الغاية للاداة ضرورة.

وما يؤدي إليه الاقتواء بالمادة ليس قوة روحية بل هو توظيف القيم الروحية وتحويلها إلى أداة خداع فلا تبقى مطلوبة لذاتها كما تفعل الكنائس في التبشير المستند إلى استغلال حاجة فقراء افريقيا ومرضهم لابتزازهم على تبديل معتقداتهم(30) . وقد وصف القرآن الكريم صفات قوة المؤمنين فردها إلى عاملين: الإيمان وعلامته التواصي بالحق ثم العمل الصالح وعلامته التواصي بالصبر. وهذا القانون الذي صغناه في المحاولة هو السر في انتصار الحق الحتمي حتى في حالة الضعف المادي فضلا عن انتصاره في حالة الجمع بين القوتين الروحية والمادية. ويكفي مثالا على ذلك حروب التحرير في العالم الثالث وخاصة في العالم الاسلامي الذي تلاقت عليه ذئاب العالم كلها تتناشهه من كل حدب وصوب للاسباب التي سنحلل.

أولا, مقومات حوار البداية:

نبدأ بتحديد مقومات الضرب الاول أو مقومات بداية الحوار التي هي بالضرورة أمر سلبي لكونها حتى عند اكتمالها ليست إلا محاولة للتخلص من الرد إلى أسفل سافلين الرد الذي علته الاقتتال بين البشر الذين يخضعون عندئد لمنطق الصراع من أجل الحياة والبقاء للافوى. فالضرب الناقص من الحوار أو بداية الحوار بمعناه الشامل يتقوم من عناصر كلها سلبية:

1- موضوع الحوار: الموضوع الذي يدور عليه الحوار مزدوج وهو الذي تحدد قيمته درحة

الاعتراف المتبادل بين المتحاورين.

2- محال الحوار: ضمن أفق أميل ألى الجحود منه إلى الشهود وإلى الحلولية منه إلى الاستخلافية.

3- فسحة الحوار أو مداه: التناسب بين نسبتي القوتين أو ميزان القوتين الماديتين والروحيتين

للتمحاورين.

4- غاية الحوار: ازدواج الغاية التي يعسى إليها الحوار. فهي الخداع في الموضوع الثاني من أجل

الموضوع الاول.

5- قانون الحوار: قانون القنص وله قاعدة واحدة هي خداع الخصم ومغافلته ليفقد حذره.

ثانيا, مقومات حوار الغاية:

إن مقومات الغاية كما أسلفنا لا تقبل الفصل عن مقومات البداية إلا في الذهن. وعندما تنفصل فهي لا تحدد حوارا فعليا بل هي تحدد مجرد تصور مثالي لواجب يتنافى مع واقعه. فتكون عندئذ من الخداع الذي يستعمله من لا يؤمن به. لذلك فهذا المثال الأعزل لا يعنينا(31) . فنحن نريد أن نتحدث في مقومات حوار الغاية عندما يكون حائزا على شروط تحققه في الوجود العيني لا في الوجود الذهني. ومن ثم فهذه المقومات تشرط متقدما عليها مقومات الضرب التام من الحوار أو غاية المفهوم الاشمل من الحوار. وهي معلومة عند كل من قرأ القرآن الكريم. فهي مقومات التعارف بين المؤمنين مقوماته التي تنقسم إلى صنفين شارطين للاستنثاء من الخسر أو الرد إلى أسفل سافلين:

1- مقومات الايمان والتواصي بالحق لمعرفته وتكون بالاجتهاد الاجماعي. لذلك فأسلوبها لا يمكن أن يكون ألا أسلوب البحث الصادق عن الحقيقة للتعاون في كشفها: وذلك هو معنى الترادف بين التواصي بالحق والاجتهاد الاجماعي.

2- مقومات العمل الصالح والتواصي بالصبر لتحقيق الحق. وتكون بالجهاد الاجماعي. لذلك فأسلوبها لا يمكن أن يكون الا أسلوب السعي الصادق لتحقيق الممكن من الحقيقة في حود التكليف أعني الوسع المعرفي والارادي: وذلك هو معنى الترادف بين التواصي بالصبر والجهاد الاجماعي.

وبذلك يكون الحوار متقوما من هذه الابعاد:

1- فموضوع الحوار: لا يكون الخلاف حول تحديده بل حول سبل البلوغ إلى الكمال فيه.

2- ومجال الحوار: ليس هدنة التنافي بين البشر بل هو الاخوة الانسانية أعني خدمة رسالة واحدة.

3- وفسحة الحوار: ليست محددة بالتناسب العكسي بين موازين القوى عند طرفي الحوار بل

بالتكامل بين القوة المعنوية والقوة المادية من أجل تحقيق شروط الاخوة الإنسانية.

4- وغاية الحوار: ليست منزلة المتحاورين بل هي تعميق البحث في أفضل وجوه خدمة الهدف.

5- وقانون الحوار: هو القاعدة الوحيدة الآتية:" فذكر إنما أنت مذكر ليست عليهم بمسيطر"(32)

 

 

الفصل الثاني

شروط الحوار بحسب قصوده وظروفه

 

1-شروط حوار البداية:

كل امرئ يعلم أن غياب التراجح المادي بين الحضارات يحول الاعتقاد في تراجحها الروحي إلى علامة علامات التوهم. ذلك أنه قد يؤدي إلى تنويم الضعفاء فيفقدهم الحصانة الروحية التي تنتج عن عقيدة التفاضل الروحي كما تحددها العقيدة الدينية بشروط متعاكسة معها: إي إنها تزول بزوالها فلا يكون المسلمون خير امة من دون شروط الخيرية التي هي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا أمر أو نهي لمن لا يملك أن يطاع. وإذن فأساس القوة الروحية أو عقيدة الأفضلية يزول بدوام الهزيمة في التاريخ الفعلي لما تؤدي إليه من شك في الذات المغلوبة على أمرها. والحوار في هذه الحالة لن يكون تنازلا من الاقوياء لجبر خاطر الضعفاء بل هو حيلة حربية تستهدف نزع آخر حصاناتهم أعني عقيدة التفاضل الروحي أو أساس القوة الروحية من المغلوب ماديا: لأن الحوار سيدور حول هذا الاساس لاقتلاعه من الجذور كما يفعل كل من يدعو للحوار مع المسلمين في تصور الاسلام واصلاحه اصلاحا لا يسترد به شروط الاستخلاف بل اصلاحا يجعله مطابقا لتصورات الحلوليين.

لذلك فالحوار ليس بديلا يغني بالمثال عن الواقع بل هو جزء من الصراع الانساني من أجل القيم إذ إن السعي إلى التكافؤ المادي جزء من التفاضل الروحي بل هو ثمرته الاساسية من المنظور الاسلامي. ولولا ذلك لتخلى المسلمون عن الشروط المادية لتبليغ الرسالة الروحية ولامتنع عليهم تحقيق شرطي اعتقادهم في كونهم خير امة اخرجت للناس أعني الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلا يمكن للضعيف ماديا أن يأمر أو أن ينهى لانه لن يجد من يسمع أو يطيع. لذلك قال الامام علي كرم الله وجهه: لا رأي لمن لايطاع!

إن الايمان الحق يستوجب إرث الارض العادل ضرورة. لذلك فمن لم يرثها فهو ليس مؤمنا حقا. لكن هذا المبدأ ليس كلي التعاكس لأن غياب الشرطين يجعل عكسه جزئيا في الايجاب وكليا في السلب. فليس كل سائد مؤمنا حقا إذ يمكن للظالم أن يسود لحين. لكن كل من ليس بسائد ليس بمؤمن حقا وإلا لما تمكن منه الظالم. ومن ثم فلا بد للمؤمن بحق من العمل على السيادة العادلة بأسبابها المادية الناتجة عن شروطها الروحية. وذلك هو معنى الصراع بين البشر من أجل تحقيق القيم وتقويم كل سعي الناس للقيام بهذا الواجب: واجب التدافع والتنافس في الخيرات. ويتلو عن ذلك ضرورة أن المسلمين اليوم إيمانهم ناقص لانهم مستضعفون في الارض رغم علمهم بأن كونهم الاعلين مشروطا حسب صريح نص القرآن بكونهم مؤمنين (آل عمران 139): لذلك فهم مثل الاعراب أسلموا ولما يؤمنوا.

إن الحوار التام من منظور الاسلام هو التعارف الذي يشترط الابقاء على طلب الحقيقة والعلم بها. ومن ثم فلا بد من تحقيق شروطهما المادية والروحية. ويعني ذلك أنه لا بد من التنافس المادي مع الحضارات الاخرى تكون فيه الحيازة على القوة المادية ذات قصد مختلف عن قصد الظالمين. فهي مطلوبة لانها ضرورية لحماية قيم الحضارة الاسلامية وليس للعدوان على الآخرين. ولا بد من التنافس الروحي مع هذه الحضارات الجحودية بقصد مختلف عن قصد أصحابها لان التبشير بالقيم الاسلامية يعتمد على تقديم النموذج والاسوة الحسنة المصحوبين بشروط القدرة على الامر والنهي المسموعين. لذلك فتصور الحوار بين الحضارات بديلا من الصراع الضروري لانه شرط التدافع من أجل تحقيق القيم يعد هروبا من وجوب التنافسين المادي والروحي مع الحضارات المتجبرة في مستوى الأدوات والوسائل حماية للغايات التي تمثلها قيم الاسلام ودلالة على فضل هذه القيم التي تصبح مرغوبا فيها بعد أن كانت في حالة الضعف مرغوبا عنها. فالتدافع شرط ضروري لتحقيق القيم بنص القرآن الصريح.

2- شروط حوار الغاية:

لما كانت الغاية لا تكون حقيقية إلا إذا تجاوزت الوجود الذهني إلى الوجود العيني فإنه لا بد لها من تضمن شروط البداية التي تهدد دائما بالبقاء حلولية بمجرد طريان الضعف على دعاة الغاية الاستخلافية. فلا يمكن للحوار الغاية أن يحصل من منطلق الضعف لكوننا عندئذ لسنا متيقنين من صدق الدعوة فضلا عن كونها لن تكون مسموعة. والأغرب من ذلك هو أن البداية لا تكون فعالة على المدى الطويل إلا بمقدار توفر شروط الغاية على الاقل في الداخل لكون القوة المادية وحدها ليست إلا هشيما تذروه الرياح. لذلك فالأمة التي تخلو من الحوار التام في ما بين أبنائها لا يمكن لها أن تصمد في الحوار الناقص مع غيرها ومن باب أولى فهي أعجز من أن تصل إلى الحوار التام معه.

ولما كان شرط الحوار بين المؤمنين هو شرط الحوار مع الملل الاخرى بات من الواجب ان نحدد هذا الشرط الاصلي وأن نحدد علة كونه شرطا أو شرطا أصليا. فقد بينا أنه ينقسم إلى الايمان الصادق أو التواصي بالحق وإلى العمل الصالح أو التواصي بالصبر. وليس التواصي بالحق إلا كناية عن الاجتهاد الاجماعي. وليس التواصي بالصبر غلا كناية عن الجهاد الاجماعي. لذلك فإنه يكفي أن نحدد هذين المفهومين تحديدا يحررهما من حصرهما في معنييهما الاصغرين حتى نتخلص من أسباب انحطاط الامة انحطاطها الذي أفقدها شروط القيام المستقل الحر والقدرة على محاورة الغير.

ولنبدأ بآخرهما: الجهاد أو التواصي بالصبر. فالعلم لا معنى له إلا بغايته أعني بالعمل. والعمل في مفهومه الايماني ليس رميا في عماية بل هو فعل على علم. فما هي شروط الجهاد الاجماعي ؟

1- شروط الجهاد الاجماعي أو شروط الدفاع الناجح عن حرية العقيدة:

صار مفهوم الجهاد عند المسلمين منذ أن انحط فكرهم ووجودهم محصورا في معنييه الاصغر والاكبر. فالجهاد الاصغر أو الجهاد المادي المباشر هو مجاهدة الاعداء والشهادة من أجل حرية العقيدة. والجهاد الأكبر الروحي المباشر هو مجاهدة النفس والتقوى من أجل صفاء العقيدة. وأصبح الامران يقعان بمجرد التقيد بالفروض الدينية وبدروهما في تبليغ الرسالة غير المؤثر. والمعلوم أن الجهاد الاصغر قد كتب على جميع المسلمين بوصفه شرطا أداتيا لحوار البداية أو حوار التعايش: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنت لا تعلمون"(33) . والمعلوم كذلك أن الجهاد الاكبر يمكن أن يعتبر شرطا غائيا لحوار الغاية أو حوار التعارف ضمن الملة الاسلامية أو بينها وبين غيرها لكون مجاهدة النفس أو القيام بالفروض تربية اسلامية تبلغ الرسالة بالنموذج ومكارم الاخلاق.

والسؤال هو: لماذا استعمل المسلمون صفة التفصيل استعمالا يوحي بوجود معنيين آخرين يؤكدان هذين المعنيين الأداتي في البداية والغائي في النهاية ؟ فالأصغر لا يقال بالقياس إلى الأكبر إذ لا يمكن أن يعد الأكبر صغيرا والأكبر لا يقال بالقياس إلى الأصغر إذ لايمكن ان يعد الأصغر كبيرا. وإذن فلا بد أن يكون للجهاد معنيان آخران وقع اغفالهما إلى الآن وهما: معناه الصغير ومعناه الكبير وسطين بين حديه الاقصييين الأصغر والأكبر. ثم إن هذه المعاني الاربعة لا بد أن يكون لها أصل تشترك فيه وتتفرع عنه حتى يكون للجهاد معنى موحد. فتكون معاني الجهاد خمسة: الأصغر والأكبر والصغير والكبير والأصل الواحد.

فأما المعنى الصغير الذي يقاس إليه الأصغر فهو جماع الشروط التي تجعل الجهاد الأصغر يحصل على أفضل الوجوه. فإذا وجب القتال كان المسلم مستعدا له بفضل هذا الجهاد الصغير الذي حددته آية الردع وارهاب العدو باعداد القوة عامة (من قوة) والقوة العسكرية خاصة ( من رباط الخيل)(34) . وهذا الاستعداد هو العمل الدائم لتحقيق شروط المناعة التي قد تغني عن الحاجة إلى القتال. وهذه الشروط هي كل المقومات المادية للمجتمع القادر أعني ما يمكن حصره حصرا مستوفيا باعتباره شروط المناعة المنتسبة إلى مؤسستي قاعدة المجتمع أعني: 1- المنشأة الاقتصادية 2- والاسرة مؤسستيه اللتين تعود إليهما مناعته الاقتصادية والتربوية بمعناهما الاسلامي. ذلك هو الجهاد الصغير الذي من دونه لا يكون الجهاد الأصغر ممكنا فضلا عن أن يكون مؤثرا إلا إذا حصرناه في الدعوات الجوفاء عند بعض الفقهاء الذين تجاوزهم العصر تجاوزا جعلهم عاجزين حتى على فهم علة عدم وجود من يسمعهم(35) .

وأما الجهاد الكبير الذي يقاس إليه الجهاد الأكبر فهو جماع شروط حصول الجهاد الأكبر حصولا تاما فعليا وليس امكانيا فحسب لكون الحاجة إلى الجهاد الأكبر ليست ظرفية كما هو شأن الحاجة إلى الجهاد الاصغر المشروط بعدوان من يمنع الحرية الدينية. فالحاجة إلى الجهاد الأكبر دائمة بالطبع لكونها هي التحرر الدائم من العدوان الأبدي ممثلا بالموقف الدي يرفض الحرية الدينية التي تعبر عن العبودية لله وحده وطاعة الامر الالهي.

وأبرز أشكال هذا العصيان هو الموقف الحلولي الذي هو مصدر الظن بامكان الاستغناء عن العبادة لله واستبدالها بعبادة الدنيا والهوى. وهذه الشروط هي كل المقومات الرمزية للمجتمع المريد أعني كل العلوم التي هي سلم العبادة الصحيحة. لذلك فإنه يمكن حصر مقومات الجهاد الكبير حصرا مستوفيا باعتباره العمل على تحقيق شروط المناعة المنتسبة إلى مؤسسي قمة المجتمع أعني 3- المدرسة 4- والمعبد في بعدهما العملي مؤسستيه الفاعلتين بالنظر العامل عملا لا تنفصل فيه المعرفة الدنيوية عن المعرفة الدينية بمعنى تطبيق الاجتهاد(36) .

يمثل هذان الجهادان اللامباشران المنسيان (الصغير والكبير) الاساس الذي غاب في حضارتنا منذ شروعها في الانحطاط فحال دونها واعتماد الحوار بين أبنائها أساسا لتحقيق شروط الاجتهادين المباشرين (الاصغر والاكبر) اللذين لم يبق منهما إلا الشكل الاجوف لغياب المضمون الحي الذي لا يكون إلا بحرية الارادة جهادا في تحقيق الادوات من أجل الغايات بالاستناد إلى الحوار الفكري الحر للبحث والاكتشاف أولا وللتطبيق والاستعمال اخيرا.

ولما كان الجهاد بمعناه الشامل غير هذه المعاني الفرعية الأربعة فإنه ينبغي أن يكون أصلها الذي تتفرع عنه تفرع المعلول عن العلة. ذلك أن شروط القدرة لا معنى لها من دون أن تكون دالة على إرادة تحرر من الطواغيت السلطانية (الحكام غير الشرعيين) ومن الاوثان العقدية (التقاليد البالية المنافية لقيم الاسلام). إرادة لا سلطان عليها غير أمر الله ولا معبود لها سواه. وتلك هي الثمرة الاساسية للادراك الشهودي والمدلول العميق للجهاد.

وذلك هو الاستخلاف الاسلامي أو الجهاد المطلق في الحياة ببعديها الدنيوي والاخروي المتحدين بفضل فروعه الاربعة التي وصفنا(37) . وإذا كان مجال الجهاد الصغير هو المؤسسة الاقتصادية والاسرة ومجال الجهاد الكبير هو المدرسة والمعبد فإن مجال الجهاد الاصغر هو استعمال ثمرات الجهاد الصغير في المجالين السابقين لتحقيق سلطان الحق في العالم ومجال الجهاد الاكبر هو استعمالهما لتحقيق سلطانه على النفس ما يجعل مجال أصل الجهاد هو العبودية لله وحده أعني المعنى العميق للحرية من حيث هي جوهر الاسلام خاتما للرسالات: وتلك هي مهمة الكونية الاسلامية من حيث دعوة للعالمين.

إن الجهاد الاستخلافي بهذه المعاني الخمسة لا يمكن أن يفهم إلا بوصفه نهاية الحاجة إلى سلطان روحي خارجي بمقتضى ختم الوحي ونفي سلطان الكنائس وبداية عموم الرسالة التي تستغني عمن يفرضها بالقوة. فالله نفسه مكلف بحفظها ولا يستأهل شرف الذب عنها إلا من كان مؤمنا بقيمها التي وصفنا بكامل الحرية والاختيار وإلا صار الجهاد مجرد قتال عديم الوظيفة والدلالة الروحيتين. وإذن فالجهاد ليس لا ثمرة الحرية الدينية وأداة تحقيقها تحقيقا لا يلجئ إلى الدفاع العنيف عنها إلا نادرا لكون الايمان التام يقتضي تحقيق شروط العزة التي تتحول إلى مهابة فتجعل من يحول دون تبليغ الرسالة الاستخلافية قليلا لعلمه بتعذره.

ولما كانت المجتمعات الحديثة تدعي التسليم بالمبدأ الاسلامي القائل بأنه لا اكراه في الدين أو بالحرية الدينية والداعي من ثم إلى وجوب حمياتها بات من الواجب تطبيق هذا المبدأ بكل شروطه أعني عدم الاقتصار على جزئيه الاصغر والاكبر اللذين يصبحان عاجزين عند الاقتصار عليهما دون شرطيهما. وإنه لمن المفارقات أن يكون المبدأ القائل بالحرية الدينية مميز الاسلام الاساسي وأن يؤول بعض الحهلة مبدأ الجهاد تأويلا ينافيه داخل الملة وخارجها فيجعلونه مقصورا على معنييه الاصغر والاكبر من دون شرطيهما أعني الجهاد الصغير والجهاد الكبير.

لذلك فقد صار الجهاد عندنا مقصورا على الاقتتال البدائي الذي لا يتجاوز الغزوات العاجزة للمتواكلين على التعبد التقليدي. الجهاد اجتهاد لتحقيق شروط تبليغ الرسالة الاسلامية بالنموذج أولا نموذج التي هي أحسن لابراز معاني الشهود الاستخلافي عندما يكون تحقيق الوسائل كافيا لحماية هذه الرسالة ومغنيا عنها بالردع عن الحرب. ومن ثم فتحقيق هذه الشروط هو شرط صحة الشورط الغائية وإلا صارت ممارسة الجهادين الاصغر والاكبر مجرد رسم خال من معناه. فهما قد كانا منذ بدء الرسالة مشروطين بالجهادين الكبير والصغير اللدين لا يمكن أن يتحققا من دون تطبقيات الاجتهاد المعرفي أعني الأدوات الضرورية لتحقيق قيم الدين الاسلامي التي وصفنا.

وعندما يضطر المسلم غر باغ إلى الجهاد الاصغر لدفع من يحول دونه وحرية العبادة أو الجهاد الاكبر ثمرة لمعنييه الصغير والكبير فإنه يجد نفسه قادرا وإلا كان توكله تواكلا وعمله ضلالا. ولو لم يكن ذلك هو القصد لما فهمنا صيغتي التفضيل. فالأكبر هو الغاية والأصغر ليس إلا الوسيلة الدفاعية لإزالة الحوائل دون الغاية عندما لا يكون الصغير والكبير مغنيين عن الدفاع وقاية لا علاجا. كذلك نفهم لجوء المسلمين الأوائل إلى الجهاد الأصغر مرغمين ونفهم لم كان هذا الجهاد عندهم مقصورا على الدفاع العلاجي أو الوقائي ومتوقفا دائما عند القدر الذي يكفي منه لتحقيق الغرض دون وحشية أو انتقام. ففتح مكة يقوم أفضل دليل على الطابع الدفاعي الخالص للحرب وكون النزعة التهديمية في الحروب ليست من شيم المسلمين. وليس من الصدفة أن تكون أول حضارة تسن قانونا للحرب يبقيها في حدود خلقية لئلا يعود الإنسان البربرية هي الحضارة الاسلامية.

أما الجهادان الكبير والصغير فإنهما قاعدتا الوجود الاسلامي وأساسا بقائه. فبفضل ضمان الشروط المادية للوجود القادر وضمان الشروط الرمزية للوجود المريد نحقق أبعاد الوجود الحر الذي هو الوجود الاستخلافي. وذلك هو مضمون الرسالة الاسلامية للعالمين وبفضلها نكون خير أمة فيحق لنا أن نشهد لهم أو عليهم. لا نستأهل الشهادة إلا إذا وفرنا شروط كوننا خير الأمم فعلا في وجودنا التاريخي. ولا أحد يستطيع أن يزعم أننا اليوم أمة خيرة فضلا عن الزعم بأننا الاكثر خيرا: فلم يبق لنا من الاستخلاف إلا الاسم.

2- شروط الاجتهاد الاجماعي: حرية الفكر والتفرغ للقيام بشروطه

حددنا شروط الجهاد الاجماعي أو التواصي بالصبر منطلقين من المقابلة بين الجهادين الاصغر والأكبر لاتمام المفهوم باضافة معنيين آخرين هما الجهاد الكبير والجهاد الصغير. ثم أرجعنا هذه المعاني الاربعة إلى أصل واحد هو الأرادة الحرة التي من دونها لا معنى لقبول الامانة الاستخلافية وتحمل المسؤولية التي رفضتها الجبال. فلنحدد الآن شروط الاجتهاد الاجماعي أو التواصي بالحق قياسا إلى تحديد أركان مفهوم الجهاد.

فالمعلوم أن الاجتهاد الاجماعي في الشأن الخاص يوصف بكونه الفقه الاصغر وأن الاجتهاد الاجماعي في الشأن العام يسمى الفقه الاكبر. وبلغة العلوم الانسانية فإن الاول يتعلق بالقانون الخاص والعبادات الفردية والثاني يتعلق بالقانون العام والعبادات الجماعية. ويمكن تطبيقا لنفس المنطق أن نستتنتج اجتهادا اجماعيا صغيرا أو فقها صغيرا يكون الاول بالاضافة إليه أصغر واجتهادا اجماعيا كبيرا أو فقها كبيرا يكون الثاني بالاضافة اليه أكبر. فما هو الاجتهاد الاجماعي الصغير أو الاجتهاد الصغير ؟ إنه الاجتهاد الاجماعي في محال العلوم النظرية التي تكون الأعمال الجارية في الجهاد الصغير تطبيقا لثمراته أعني العلوم الطبيعية التطبيقية بالنسبة إلى المنشأة الاقتصادية والعلوم الانسانية التطبيقية بالنسبة إلى الاسرة التربوية(38) . فيكون الاجتهاد الصغير مكملا للجهاد الصغير. وما الاجتهاد الاجماعي الكبير أو الاجتهاد الكبير ؟ إنه الاجتهاذ الاجماعي في العلوم النظرية التي تكون الاعمال الجارية في الجهاد الكبير تطبيقا لثمراته أعني العلوم الطبيعية النظرية أو نظريات الطبيعة عامة بالنسبة إلى المدرسة في النظر العام والعلوم الانسانية النظرية أو نظريات الشريعة عامة بالنسبة إلى المعبد في العامل العام(39) . فيكون الاجتهاد الكبير مكملا للجهاد الكبير.

ويمكن ان نحدد أصل الاجتهاد الاجماعي الجامع بين هذه المعاني الاربعة بالتناظر مع أصل الجهاد الاجماعي الجامع لمعانيه الاربعة. فإذا كان الاصل هناك هو الارادة الحرة التي من دونها لامعنى للاستخلاف لغياب الادوات فإن الاصل هنا هو العقل الحر الذي لا معنى من دونه لتحمل الامانة لغياب الغايات بغياب شرط التكليف(40) . أما مجالات هذه الاجتهادات الاجماعية فهي عينها مجالات الجهادات الاجماعية التي سبق فحددناها إذ إن الجهاد الاجماعي مشروط بالاجتهاد الاجماعي.

وبذلك يتبين أن شروط الحوار بين المؤمنين عشرة: خسمة يتقوم بها الجهاد الاجماعي و خمسة يتقوم بها الاجتهاد الاجماعي. وهذه الشروط مشروطة بحرية الارادة والعقل المؤسستين للحوار بين أبناء الامة وشارطة لكل شروط الحوار مع غيرهم. وليست عوائق الحوار مغ الغير إلا انعدام شروط الحوار مع الذات: من دون عقل حر وإرادة حرة لا معنى للحوار الاختياري الملزم لصاحبه بنتائجه.

 

الفصل الثالث

العوائق أو سلب الشروط وكيفية تذليلها

 

لا يحتاج تصنيف العوائق وبيان كيفية علاجها إلى عناء كبير بعدما حددنا الشروط ورتبناها. فهي مبدئيا بعدة الشروط وبترتبيها لكونها ليست ألا سلوبها(41) . وعلاج العوائق يتمثل مبدئيا في تحقيق الشروط سلبا بمنع الحوائل دونها وإيجابا بالقيام بما تتطلبه. ولما كانت السلوب نوعين بحسب الافق والقصد كما بينا في تصنيف ضروب الحوار فإنه لا بد من التمييز بينهما ضمن الوضعيتين خلال تحديد العلاج وقبل الوصول إلى تحديد أسباب قصور الحضارة الاسلامية الحالي على القيام بواجبات الحوار السوي تحديدا نختم به الفصل الاخير من هذه المحاولة(42) .

1- عوائق الحوار العملية أو ذات الصلة بشروط الجهاد الناجع:

أولا: ففي الحضارة الحلولية تنتج العوائق عن التوحيد بين الافقين الجمعي والكوني وعن قصد التزييف بدل طلب الحقيقة في الحوار. وبذلك فما هو في الحضارة الاستخلافية جهاد أصغر وأكبر في خدمة غايات سامية يصبح مجرد أداتين بدل أن يكون غايتين في ما يعتبر في الحضارة الاستخلافية جهادين صغير وكبير. ومعنى ذلك أن استعمال القوة ( القتال والشجاعة) والسيادة على النفس (العبادة أو الانضباط) يصبحان أداتين تستعملهما المنشأة والاقتصاد والاسرة والتربية والمدرسة والتعليم والدولة والسياسة. فكلها باتت وسائل لخدمة الاخيار الدنيوية التي ليس وراءها اخيار تعلو عليها بدل أن تكون هي بذاتها غايات نوع العيش فيها مشدود إلى ما يسمو على الاخيار الدنيوية.

فالكلي الذي حل في الجزئي أو المطلق في النسبي عند الحلولي يجعل المثال الاعلى عنده مقصورا على عبادة الدنيا والهوى. ومن الامثلة على ذلك كل الحروب الاستعمارية التي هي من أجل نهب خيرات الشعوب المستضعفة ما يحول التاريخ الحضاري إلى تاريخ محكوم بقوانين التاريخ الطبيعي منطقه هو منطق الصراع الحيواني من أجل اسباب العيش بدل التعاون والتعارف للعيش معا. فالتنافس بين القوى الاستعمارية لم يكن إلا لغزو البلاد وتقاسم الثروات واستعباد البشر لاستخدامهم في سد حاجات الاقوياء. وكل الحروب سببها هذه النقلة من التاريخ الحضاري المحكوم بالقيم السامية إلى التاريخ الطبيعي المحكوم بالاقتتال من أجل القيم الدانية.

ثانيا: أما في الحضارة الاستخلافية فالواجب (لا الواقع لأن الموقف الحلولي موجود هنا أيضا) أن يكون مصدر العوائق سببه عدم تحقيق ما يستوجبه التفريق بين الأفقين وقصد الحق في الحوار. فالجهادان الكبير والصغير اللذان هما الاداتان الضروريتان للجهادين الاكبر والاصغر انعدما فيها بسبب الانحطاط وغلبة التصورات الحلولية على الفكر الاسلامي بأنواعه الاربعة الرئيسية قصدت: 1-الفقه وأصوله 2- والتصوف وأصوله 3- والكلام وأصوله 4- والفلسفة وأصولها. وأصل الاصول الاربعة المشار إليها في هذا التصنيف هو فلسفة الدين والتاريخ التي تتفرع عنها كل تلك العلوم والعلوم التي بينا دورها في الاجتهادين والجهادين اللذين كان مفقودين في الحضارة الاسلامية بسبب الانحطاط. ومعنى ذلك أن المنشأة والاقتصاد والاسرة التربية والمدرسة والتعليم والدولة والسياسة ينبغي ألا تصبح أدوات ناجعة في خدمة الاخيار الدنيوية إلا من أجل الاخيار الاخروية أعني مجاهدة أسباب الجحود(43) في العالم والنفس لتحقيق غايات تتعالى على الاخيار الدنيوية لكون الكلي والمطلق لا يحلان في الجزئي والنسبي وحتى لا يكون التاريخ الحضاري تاريخيا طبيعيا.

لكن الفصل بين الافقين قد ينتهي إلى نفي الافق المتداني باسم التمحض للافق المتعالي الذي ينتفي بانتفاء مطيته. فالجهاد بمعنييه الاصغر والاكبر يفقدان كل معنى بمدر أن يصبحا عاجزين. ذلك أن الغايات لا تدرك من دون الادوات بل هي تكون مجرد تصور اجوف لا يمكن من الفعل في الدنيا فعلا حقيقيا يعد للاخرى. لا يمكن لارث الارض ان يحصل فضلا عن أن يكون عادلا ومشدودا للمتعاليات انشدادا هو علامة الصدق والايمان الحقيقي إذا لم تكن الامة قادرة على الامر والنهي: وذلك ممتنع من دون الجهادين الكبير والصغير.

2- عوائق الحوار النظرية أو ذات الصلة بشروط الاجتهاد الناجع:

أولا: تنتج العوائق في الحضارة الحلولية عن اعتبار ضروب المعرفة مجرد أدوات لخدمة الاغراض الدنيوية التي لا يعلو عليها شيء. ومعنى ذلك أن العلم النظري والعملي وما بعدهما يتحولان إلى حيل هدفها الوحيد القوة والسيطرة على الكون والناس من أجل الغايات الدنيوية التي ليس فوقها غايات أسمى منها.

ثاينا: أما في الحضارة الاستخلافية فتنتج العوائق عن ضحالة الاجتهادين الصغير والكبير والاقتصار على الاجتهادين الاصغر والاكبر اللذين يتحولان إلى تعبد عاجز لا يحقق الغايات التي تتعالى على الاخيار الدنيوية.

والحصيلة أن عوائق الحوار جنسان كلاهما مضاعف:

1- الجنس الاول بنوعيه هو الجنس الغالب على الاستخلافيين. وتتمثل العوائق عندهم لما ينحطوا في ظن الغايات قابلة للاستغناء عن الادوات في المجالين النظري والعملي أعني في ظنهم حوار الغاية ممكنا من دون حوار البداية. فيصبح الايمان كلمة فاقدة لمعناها لان الايمان يفقد مدلوله الذي هو التواصي بالحق طلبا لعلمه. ويصبح العمل الصالح كلمة فاقدة لمعناها أي أن العمل الصالح يفقد مدلوله الدي هو التواصي بالصبر طلبا لعمله بأسبابه. ويصبح الاستخلاف مرادفا للضعف المادي والخنوع فلا يبقى أي امكان للحوار لا في ما بيننا ولا بيننا وبين غيرنا لكوننا لا يمكن أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر إذا كنا غير قادرين على الاسماع.

2- والجنس الثاني بنوعيه هو الجنس الغالب على الحلوليين وتتمثل العوائق في ظن الادوات قابلة للاستغناء عن الغايات المتعالية التي استبدلت بغايات متدانية في المجالين النظري والعملي أعني في ظنهم حوار البداية ممكنا وكافيا من دون حوار الغاية. فيصبح النظر تواصيا بالباطل أو تخاتل دائم ويصبح العمل تواصيا بالعجلة أو تغادرا متواصلا. عندئد يكون الحلول مرادفا للضعف الروحي والتجبر المادي فلا يبقى أي امكان للحوار لا في مابينهم ولا بينهم وبين غيرهم لكونهم لا يؤمنون إلا بتوازن الرعب حتى في ما بينهم. ويسمون ذلك حرية التنافس الخاضع لمبدأ البقاء للاصلح.

 

الخاتمة

فما الذي جعل الحضارة البشرية مهددة بداء الموقف الحلولي ولمَ فشلت الحضارة الاسلامية في تحقيق شروط الموقف الاستخلافي الذي حدده القرآن الكريم شرطا في ارث الارض والشهادة على العالمين؟ التفسير القرآني للظاهرتين ينقسم إلى مستويين أولهما يفسر الموقف الحلولي بأسباب جوهرية تعود إلى مسألتين كلاميتين في التحريف اليهودي المسيحي للبعد الخبري أو العقدي من الرسالات السماوية والثاني يفسر فشل الموقف الاستخلافي بأسباب عرضية تعود إلى مسألتين فقهيتين في التحريف الفقهي الصوفي للبعد الانشائي أو الشرعي من الرسالة الاسلامية.

فأما المسألتان الكلاميتان الناتجتان عن التحريف الجوهري للرسالات السماوية فهما تغيير مفهوم الاله والانسان استبدالا للاول بالثاني في الحقائق الوجودية وفي المعاني القيمية:

1- مسألة التحريف الوجودي أو تأليه الانسان تبوسط نظرية الشعب المختار التي بلغت الذروة في نظرية بنوة المسيح لله

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=403

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك