الشرق شرق والغرب غرب حواراتٌ في بيروت

الشرق شرق والغرب غرب حواراتٌ في بيروت

نز ليزلي ترامونتيني*

يتكون الكتاب الذي بين أيدينا من مجموعة دراساتٍ أُلقيت في مؤتمر "الشرق شرق، والغرب غرب" بالمعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت أواخر العام 2002م. ولنتذكر أمرين أحدهما حَدَث 11/9/2001م والذي حوَّل الإسلام إلى مشكلةٍ عالميةٍ كبرى من جهة، والأمر الآخر عبارة الشاعر البريطاني الكبير روديارد كيبلنغ: "الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا"، والتي أرادها القائمون على المؤتمر تساؤلاً وليس توصيفاً، لمداخلة تلك القضية المشتعلة الأُدوار للصراع بين الشرق والغرب الشأن المفاهيم والمصالح والسياسات والممارسات.

شاركت في أعمال المؤتمر مجموعةٌ من الدارسين اللبنانيين والألمان والفرنسيين وقدَّمت للبحوث المحرَّرة والمنشورة هذا العام(2006) السيدة ليزلي ترامونتيني التي كانت تعملُ وقتها بالمعهد الألماني ببيروت، وهي باحثةٌ اليوم في معهد برغشتراسّر في فرايبورغ/ ألمانيا. وقد لاحظت المحِّررة أنّ المقصود من البحوث كان التصدي لسوء العلائق المندلَع بقراءاتٍ نقديةٍ للجوانب الثقافية والدينية والسياسية للعلاقة الأوروبية/العربية، والأوروبية/اللبنانية، ومحاولة فتح أفُقٍ لتواصُلٍ من نوعٍ آخر، من طريق التفهُّم والمراجعة وإسقاط المسلَّمات والأفكار المسبقة الشديدة السلبية أو الشديدة الإيجابية. فالأفكار والانطباعات الشديدة السلبية تشدّدُ على الطبيعة العنيفة للأصولية الإسلامية، واستنادها في ذلك إلى تأويلٍ سائدٍ للنصّ الإسلامي على الأقلّ. والانطباعات الشديدة الإيجابية تركّز على عدم وجود خلافات حقيقية بين العرب والأوروبيين، والعرب والأميركيين، وأنَّ الأمر منحصرٌ بوجود مجموعات ذات مصالح لدى أحد الطرفين أو كليهما.

قدّم لأعمال اللقاء لغسّان سلامة، أستاذ العلوم السياسية المعروف، والذي كان وقتَها وزيراً للثقافة في الحكومة اللبنانية. وقد رأى أنّ للحوار الناجح شروطاً منها الاعتراف من المتحاورين بالعالَم كما هو، أي باعتباره متنوعاً في الثقافات والأفكار والمقاربات والمصالح. وتجاهُلُ ذلك من جانب الثقافات الكبرى والمصالح الكبرى يؤدي إلى أمرين: نشوب صراع بين أهل المصالح الكبرى، والثقافات الكبرى، واختفاء أو تضاؤل الثقافات واللغات الصغيرة والهامشية وأهلها. ويُضافُ لذلك أنّ أصوليات الثقافات الإحيائية الكبرى تنطوي على فكرة مفادُها النزوعُ الطهوري للهوية والتي تأبى التلويث أو الإفادة من التثاقُف. والنزوعُ الطهوري نزوعٌ صراعيٌّ. ولهذا فهناك مسألتان: مسألة الاعتراف بالتنوع والاختلاف، والأخرى اكتشاف وسلوك طرق لاستيعاب التنوع بدلاً من التصارُع معه باسم الطهورية. وهكذا فالواقع أنّ العولمة تنطوي على محاولاتٍ للإلغاء، أي انتصار الثقافات والمصالح الكبرى على ما عداها. وما نشهدهُ من ثورانٍ للثقافات الأصولية، قد يكونُ تعبيراً عن محاولات الإلغاء. ويتابع الدكتور غسان سلامة أنّ الشرط الثاني للحوار الناجح: اعتبار الآخَر وجوداً وثقافةً مشروعاً أو شرعياً. وهذه المشروعية لا شروطَ عليها بالتفوق العددي أو اللغوي أو الثقافي أو الديني. أما الشرط الثالثُ للحوار الناجح فيتمثل ليس في التسامح أو التعايُش بين الثقافات بل في التفاعُل والتثاقُف. فليس كافياً أن تكونَ منفتحاً على التأثير في الآخرين؛ بل وأن تكون منفتحاً على التأثُر والأخذ والمشاركة. وختم د.سلامة افتتاحه النظريَّ هذا بملاحظةٍ ذات معنىً فكري ومنهجي مفادُها أنه يتحدث عن الحوار بين أفرادٍ وجماعاتٍ ودول ومؤسسات، وليس بين حضارات. فهو لايؤمن بالحوار بين الحضارات، إذ هذه أُطروحة جامدة لافرق فيها بين الحوار والصراع، والحضارات ليست عناصر فاعلة في العلاقات بين البشر إلاّ في المديات الطويلة وبطرائق غير مباشرة.

بدأ المحور الثقافي للحوار بمحاضرةٍ للشاعر والمثقف اللبناني السيد عباس بيضون بعنوان: "الغربُ ونحن الآن" وقال إنه ترك "نحن" غُفْلاً؛ هل تعني اللبنانيين أو العرب أو المسلمين أو الشرقيين؟ وهو واعٍ أنّ كلَّ توصيفٍ من تلك التوصيفات يختلفُ عن الآخر، مما يُشعر بالتنوع؛ في الوقت الذي يظلُّ فيه "الغرب" غُفْلاً أيضاً، ولايعني شيئاً محدَّداً كما يحاول أصوليو العرب تصويره. إنّ "الهوية" هي الشَرَك الذي يبعثُ على الانقسام – وذلك لما تُشعِرُ به من خصوصيةٍ وطهورية في الوقتِ نفسهِ؛ وتبعثُ بالتالي على الصراع، أو بالأحْرى على خَلْق أو تكوين العدوّ الذي تعتبرُ نفسهَا في حالة دفاعٍ إزاءَه. لا أحد من حقّه التساؤل عن ماهيّه تلك الهوية التي يعتبرها الراديكاليون أساس الوجود. بل إنه ليس من حقّ أحد التساؤل حول "الغرب" أو الآخَر؛ إذ إنّ ذلك يعني مباشرةً بالنسبة لأهل الهوية العربية أو الإسلامية أو الشرقية إنكاراً لوجود العدوّ، وخضوعاً للتغريب والغزو الثقافي. يبدأ أهل الهوية مع الغرب من الحروب الصليبية، لكنّ الغرب الحديث قام على نقد بل نقض ذلك التاريخ، وهو ما لا يقعُ في أصله اليوم ولا في زمن الاستعمار الحديث. بيد أنّ النتيجة تكون في العادة اعتبار الغرب معسكراً مغلقاً في وجه المعسكر الآخَر. ثم تأتي بعد ذلك إلى هذا المعسكر المغلَق عناصر الاستعمار وإسرائيل؛ تزيد من الطابع العدواني لذاك الجناح الهاجم. يملك هذا الغرب المتوحّد لدى جماعات الهوية الدينية والقومية مشروعاً للدولة القومية الحديثة، وللجيش القوي، وللمصالح المستقرة في البلاد العربية والإسلامية. لكنّ هؤلاء لا يواجهون المشروع الغربيَّ بمشروعٍ آخر من نمطٍ مختلف؛ بل يصرّون على المواجهة الأَيديولوجية والدينية؛ ولذلك تصحُّ عليهم تسمية إدوارد سعيد: ثقافات الاستعمار. وتتفّرع بالطبع على هذه الأيديولوجيا أطروحات الكفاح المسلَّح والدعوة القوية والعمليات القتالية؛ وهي مستخدمة بتعبيراتٍ دينية أو قومية أو يسارية بحسب الخطّ الراديكالي وتلويناته لهذه الحركة أو تلك.

إنّ المقصود –بحسب عباس بيضون– ليس الإدانة أو النُواح؛ بل التوصيف والاستنتاج، لأنَّ التاريخ لا يُضنَع بهذا أو بذاك. وأول استنتاجٍ لما حصل خلال العقود الخمسة الماضية أننا خسرنا معركة التحديث والعصرنة والتقدم. وهذه الخسارة ليس سببها الطبيعة التقليدية للمجتمع كما يقول البعض؛ بل إنّ الذين قادوا عمليات العصرنة مجموعة من الضباط، وليس القوى الاجتماعية الواسعة. وما جرى التركيز على المسائل الاجتماعية والاقتصادية؛ بل على إنشاء مجتمعات موحَّدة على صورة الجيش القوي الصاعد. فالدعوة أيديولوجية، والأهداف أيديولوجية لا علاقة لها بالواقع سواءٌ لدى القوميين اليساريين أو لدى الإسلاميين. ولذلك ينظر المحاضر بيضون إلى أحداث سبتمبر 2001م باعتبارها نتائج لفشل العصرنة، ولتيار العولمة.

وكان المحاضر الثاني في المؤتمر الدكتور عبدو عبود من جامعة دمشق، وقد تحدث عن النماذج الثقافية للحوار بين الحضارات والثقافات. وبدأ موضوعَهُ بالاستشهاد بمحاضرةٍ للمثقف الألماني يورغن قرتْمايَر بجامعة دمشق عام 1998م عن مسرحية الإنسانوي الألماني لسنغ: ناتان الحكيم، وهل هي درسٌ في التعايش والتسامُح أو استثارة ضرورية؟ وتدور المسرحية كما هو معروف عن المفاضلة بين الديانات التوحيدية الثلاث، وتنتهي بحكم ناتان أنها تتشاركُ في البحث عن الحقيقة والخلاص. وقد اعتبر عبّود –تبعاً لفرتماير– أنّ في الأمر تحدياً لوعي المسلمين اليوم؛ بل ربما لوعي كلّ المتشددين دينياً*. فليس مهماً التجادُل حول الدين الحقيقي. بل أي دين يستطيع الإلهامَ في الخير العام وفي السلام العام، بنصيبٍ أكبر. وما دامت المسألة مسألة التنافُس في الخير(على طريقة القرآن الكريم: فأستبِقوا الخيرات)؛ فإنّ العبرة تبقى في الخواتيم: استمرت الحروب الصليبية والتخريبات مائتي عام، لكنها انتهت إلى غير رجعة. وقد قابل المسّلمون التعصُّب الصليبي بتسامُح صلاح الدين وحكمته. بيد أنّ مسرحية لسنغ مهمةٌ لسبب آخر؛ فقد أنْهت تقليداً أوروبياً قروسطياً في الحملة على الإسلام حتى من جانب الليبراليين من مثل قولتير الذي كتب مسرحيةً عن النبي محمد، ما كانت تاريخيةً ولا مستنيرة. ويمكن ذكرُ مَثَلٍ معاصر للثقافة التي لا تُسهم في تقدم الحوار بين الثقافات، وهو كتاب سلمان رشدي: آيات شيطانية، والذي أساء للمسلمين، وبدا الأوروبيون كأنما يحمونه باسم حرية التعبير. أمّا من العصور الوسطى فيمكن ذكر "الكوميديا الإلهية" لدانتي أليجيري(1265-1321م)، والتي وضع فيها المسلمين جميعاً في الجحيم. من جهةٍ ثانية وفي نطاق الثقافة الألمانية، التي أتى منها لسنغ، أتى أيضاً الشاعر الكبير غوته(1749-1832م) الذي عرض نموذجاً آخَرَ للحوار بين الثقافات. عرف غوته ألف ليلة وليلة في سنٍ مبكرة، ثم عرف القرآن الكريم، وبعض الموروثين الشعريين القديمين العربي والفارسي. وفي الديوان الشرقي – الغربي اعتبر نفسه تلميذاً لحافظ الشيرازي. وقد كان هدفه كما قال أن يعمل على جمع الشرق مع الغرب. وهو في كل إنتاجه الشعري والنثري كأنما أراد الردَّ على مقولة كيبلنغ بأنّ الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا. وقد تميزت لذلك مقارناته بحب الشرق والاعتراف بثقافته وإنسانه، والإيمان باكتمال الطرفين من طريق العلاقة الوثيقة بينهما أو التثاقُف. ولاشكَّ – بحسب عبود – أنّ هناك نماذج أُخرى في الثقافات العالمية للتلاقى، ولذلك يذكر الباحث الشاعر الروسي بوشكين(1799-1837م) الذي يتميز بموقفه الإيجابي والتقديري للثقافة العربية والإسلامية. ومن المعاصرين الألمان يذكر عبّود الكاتب المسرحي الكبير بارتولد برخت(1898-1956م) الذي يتخذ لبعض مسرحياته مواطن وإشكاليات غير أوروبية. ويمكن في السياق نفسه الإشارة إلى مسرحيين وكُتّاب مثل هرمان هيسّه وبيتر فايس وأنّا سيغرز وماكس فريش وفريدريش ديرنمات. وفي الختام أشار الكاتب إلى التأثيرات السلبية للعولمة على العلائق بين الثقافات والحضارات.

في القسم الثاني من أقسام المؤتمر الثلاثة يتناول المحاضرون الحوار الديني. وفي هذا المجال تأتي محاضرة الأب جون دَنهيو، من الجامعة اليسوعية ببيروت، بعنوان: "ترجمة الكلمة الإلهية في القرن الحادي والعشرين: هل نحن جميعا أُصوليون ". قال الكاتب إنه سيدرس مفاهيم الأصولية المعاصرة لدى أهل الديانات الثلاث، ليبتعد بذلك عن الانطباعات السائدة التي أنتجتها أحداث ستمبر عام 2001م. وتابع الكاتب أنه أخذ عنوان محاضرته من مقالة للبروفسور الألماني جان أسمان بعنوان: "ترجمة الثقافة "وقد قرر فيها أنه صحيح ٌ أن الدين هو العنصر الثابت نسبياً والمستعصي على التحويل في الحضارات. لكنٌ القدماء كانوا يروف غير ذلك فالإلهُ في أربع حضاراتٍ أو خمس تتعدد أسماؤها لكنّ المضامين أو الوظائف واحدة. ويرى أسمان أن هذه العالمية القديمة طرأ عليها التغير نتيجة ظروفٍ خاصةٍ مثل الأقلية اليهودية تحت حكم الدول القديمة، والمصريين تحت حكم المقدونيين والرومان. فالأقلية عندما تواجهُ ضغوطاً قاسيةً متواصلة وطويلة الأمد، تطوِّر مفهوماً خاصاً للحقيقة والصحة يتركّزُ عليها وحدَها أو يتركز في دينها الخاصّ كطريقة للدفاع عن نفسها وذاتيتها. ويلاحظ الأب دنهيو أن الأصول الدينية تركّز على وحدة الإنسانية في التوراة والإنجيل والقرآن، والأديان الثلاثة بحسب منطقها الداخلي ونصوصها تسعى لاستعادة الوحدة المفقودة أو الضائعة. وترى الأديان الموحاة أنها صالحةٌ لكل زمانٍ ومكانٍ، وأنها لا تتغير لكنّ الواقعَ أنها تتغير بتغيُّر الأزمنة والأمكنة من طريق التأويل وإعادة التأويل. والأصوليات اليومَ في الديانات الثلاث إحدى سَبُل التغيير.

عندما تتلاقى الثقافات أو الحضارات تحدث صدمةٌ أو مفاجأة. وتتخذ ردةُ الفعل أحد ثلاثة أشكال: الفتح أو الإفادة أو التبادُل على أساسٍ من الاحترام والتكافؤ، وهذا هو ما أفترضُهُ أو أقترحُهُ للموقف الراهن الذي نحن فيه، متجاهلاً بذلك أُطروحة هنتنغتون بشأن صراع الحضارات. فالعلمانيون منهمكون اليومَ في التهويل من عودة الدين للتأثير في عصر العولمة. والردُّ على هذا التغير الثقافي، يستجلبُ كما سبق، أحد ثلاثة ردود أفعال: التلاؤم، أو التراجع والانعزال، أو العودة إلى الأُصول الثقافية الخاصّة من أجل طهورية الهوية. التغيير لها يمكن تجنبه؛ لكنّ الأصوليين مصُّرون على إمكان ذلك. فالأُصولية البروتستانيتة هي ردةُ فعلٍ على بعض المفاهيم العلمية، وعلى نقد نصوص العهدين. وكذلك الأمر في ردة فعل الكاثوليك. وحتى بعد مجمع الفاتيكان الثاني، ما كان التلاؤم مع التغيير داخل الكنيسة الكاثوليكية كاملاً. أما الأصولية اليهودية فهي ردة فعلٍ على التغيرات التي تؤدي إلى الذوبان في الكثرة أو المحيط. كارين أرمسترونغ ترى أنّ هذا الزمن يشهد تغيُّرات عميقة جداً، بحيث يحسُّ أهل الأديان أنها في خطر. وهذا الزمن يشبه ذاك الزمن(700-200 ق.م) الذي سمّاه كارل ياسبرز: "الزمن المفصلي أو المحوري" ومن معالمه: تبلور إحساس عام بأنّ الآفاق الموروثة صارت ضيّقة ولم تَعُدْ صالحة، وأنه لابد من التغيير. وهي ترى أنّ الزمن الحالي المغيِّر بدأت جذورُهُ في القرنين السادس عشر والسابع عشر من خلال المتغيرات العاصفة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والعلوم – وقد أدى ذلك كلُّه إلى ثوراتٍ فكرية أنتجت مفاهيم جديدةً للطبيعة والحقيقة. وقد حدث الأمر نفسه في المجال الديني، فالناس يبحثون عن آفاق جديدة لكيفية صيرورتهم متدِّينين. ويذكر الأب دونهيو المشروع العلمي الأميركي لدراسة الأصولية، والذي ترأسه الأستاذ أَبلباي من جامعة شيكاغو. وقد صدرت في خمسة مجلدات. ثم اختُصر في مجلدٍ واحدٍ عنوانه: "قوة الدين: صعود الأصوليات حول العالم" (2003م) وترى مجموعة الأساتذة أنّ الأصوليات هي مقاومةٌ للأشكال الحديثة للعلمنة. وقد أراد دونهيو اختبار هذه المسألة من خلال ثلاثة نماذج أُصولية: محمد باقر الصدر(عن الإسلام) وهو صاحب كتابات نقدية كثيرة ومنها اقتصادنا وفلسفتنا – والكاهن اليهودي أبراهام كوك وابنه(زفي يهودا كوك) مؤسسا غوش أمونيم المتطرفة، وأخيراً جون ولفورد البروتستاني، الوجه البارز في الكنائس الألفية الإنجيلية. وقد توصل الباحث بعد عروضٍ مبسوطةٍ لعمل كلٍ من الأشخاص الثلاثة إلى أنّ هذه الأصوليات لها أسبابُها المعقولة، وليست كلّها عنيفة، لكنها عندما تعتقد أنّ الأوان أزِفَ لانقلابٍ هائل (مسياني)؛ فإنّ العنف لا يمكن اجتنابه.

وفي المحور نفسه ألقيتُ محاضرةً يومَها بعنوان: "الأصولية في مواجهة الأرثوذكسية"؛ ركّزتُ فيها على التطورات داخل الإسلام في القرن العشرين. وأوضحْتُ بالدراسة الميدانية أنّ الأصولية(أو الإحيائية) ظهرت في الإسلام الحديث أيضاً باعتبارها انشقاقاً عن التقليد وفي مواجهته. وضربتُ أمثلةً على ذلك في صراع السلفية ضد التصوف، وصراع الإخوان المسلمين الأوائل مع الأزهر/ثم انتقلْتُ إلى "رؤية العالَم" ودور الإسلام فيه، وكيف تختلف في ذلك الأصوليات مع التقاليد الموروثة أو المستتبَّة؛ وكلُّ ذلك لاستعادة الهوية والطهورية. وبعد ذلك فقد قمتُ بتتبُّعِ تغير المفاهيم والسلوكات، والاختلافات؛ تبعاً للرؤية المختلفة للعالَم من جانب الإسلاميين.

وكانت محاضرة توماس شيفر بجامعة كوبنهاغن ومن نفس المحور بعنوان: "لا شرق ولا غرب: التواصُلُ الديني والحوار والسياسات المحلية في عصر العولمة". بدأ المحاضر من كلمة كيبلنغ الشهيرة، ثم قرأ مسألة المكان والمجال في النصوص الدينية(المشرق والمشرقين، والمغرب والمغربين..الخ) – ثم حدَّد المعالم الأساسية لديانات التوحيد، ولاحظ أنّ المسيحية والإسلام على الخصوص ديانتان تبشريتان أي أنهما تسعيان إلى الانتشار. وقد لاحظ المحاضر أنّ الله في تلك الديانات عالٍ، ولذلك فهناك تصورٌ فيها عن وحدة الإنسانية في ظلّ الله. في العصور الوسطى كان الحوار أو العيشُ محلياً أما اليوم فإنّ الحوار صار ضرورياً أن يكونَ عالمياً، لأنّ العيشَ عالمي. ولذلك فقد ظهرت مؤسساتٌ عالميةٌ كثيرةٌ للحوار الشامل. ربما كانت نهايات الحرب الباردة من مشجِّعات ذلك. بيد أنّ الباحث يعود إلى الوراء ويذكر أمثلةً للتعدد الديني ومن بينها لبنان. ويلاحظ أنّ التواصُل بين الأفراد والفئات المعلمنة في لبنان كان كبيراً؛ بينما لم يكن الأمر كذلك بين القيادات الدينية. أما المؤتمرات الدينية التي انعقدت فما كانت بين المسلمين والمسيحيين اللبنانيين؛ بل بدعواتٍ من الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية بالخارجين الأوروبي والأميركي. وقد اختتم الباحث الدراسة بذكر أنّ الأجواء تتحسن، وأنّ القادة الدينيين تعلموا من الحرب كثيراً.

بعد هذه المحاضرات النظرية أتت محاولاتٌ لتطبيقات في حالاتٍ أو على حالاتٍ معينة: غونتر سويفرت من جامعة نيقوسيا بقبرص، درس المتغيرات في العلاقة بين الدين والدولة بتركيا حتى العام 2001م. والدراسة دقيقةٌ، لكنها تخطئُ في التنبؤ بعدم وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة. وعاد محمد نور الدين الباحث اللبناني في الشؤون التركية لدراسة الموضوع نفسه من وجهة نظر أنّ الكمالية تشكل عقبةً أمام التطور السياسي الديمقراطي في تركيا. ودرس يورغن بيك سيمونسن من المعهد الدنماركي بدمشق، تجربة الإسلام والمسلمين بالدنمارك وبأوروبا. وتتسم الدراسة بالعمومية بعض الشيء؛ لكنّ الإحصائيات الواردة فيها مفيدة. ودرس جمال مالك من جامعة أيرفورت أوضاع المسلمين بألمانيا الاتحادية. ودرس ماتياس رويه من جامعة أرلانغن بألمانيا التحدي الذي يواجهه المسلمون الألمان بين القرآن والدستور.

وكان المحور السياسي هو آخر محاور المؤتمر. وفي نطاقه حاضر الأستاذ فولكر بيرتس عن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط. وألقت فاديا كيوان من الجامعة اليسوعية محاضرةً تضمنت تأملاتٍ سياسية عن لبنان بعنوان "نحن والآخر في الشرق الأوسط". وكتب أخيراً شبليً الملاط، الاستاذ بالجامعة اليسوعية تعليقاً طويلاً عن رسالة المثقفين الأميركيين إلى العرب والمسلمين آنذاك بعنوان: من أجل ماذا نُحارب؟

لقد تأخر ظهور أعمال هذا المؤتمر المهمّ حتى العام الحالي. بيد أنّ أكثر أبحاثه ما تزال شديدة الحضور.

******

أشار الكاتب هنا إلى عملٍ بالعربية عن لسنغ ومسرحيته وقصة الخواتم الثلاث التي رواها ناتان الحكيم على مسامع صلاح الدين الأيوبي؛ نشره بالعربية الألماني بيتر باخمان؛ بعنوان: نموتهولد لسنغ وحكاية الخواتم الثلاث. دار الشرق، بيروت 1984.

****************************

*) Leslie A. Tramontini (ed.) East is East and Wert is Wert?

Talks on Dialogue in Beirut. Beirut 2006.

*) كاتبة وباحثة من ألمانيا.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=348

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك