الطبيعة المزدوجة للظاهرة الدينية وحتمية الإصلاح الديني

الطبيعة المزدوجة للظاهرة الدينية وحتمية الإصلاح الديني

صلاح الدين الجورشي*

جولة بجولة، هكذا تبدو العلاقة بين المؤمنين وغير المؤمنين، حتى لا نقول بين الدين في المطلق وبين خصومه الذين يرون فيه هرطقة وعائقا معرفيا وعمليا لا يزال يحول دون القطع مع العقلية الأسطورية. مرة ترتفع الأصوات عالية قوية ناقدة للمعتقدات الدينية، مبرزة ما يبدو فيها من تعارض مع العلم والتقدم الاجتماعي، مبشرة بنهاية المقدس وانتصار العقل على (الأوهام والخرافات). ولا تكاد تمضي دورة من الزمن حتى تخترق الحواجز والحجب موجة قوية من التدين الملتهب بالعواطف الجياشة، فتتغير التوقعات، وتتبدل الأحلام والمطالب، وينقلب المشهد العام رأسا على عقب، فتتهاوى من جراء ذلك رهانات المرحلة السابقة، ويتخذ الرأي العام منعرجات مغايرة، في انتظار انقلاب جديد في الاتجاه المعاكس.

المتأمل في هذه الحركية المتعاكسة الأبعاد، يلاحظ أن كلا الخصمين يستمد قوته في كل مرة يستعيد فيها موقعه من أخطاء الطرف الآخر وإخفاقاته، وانفضاض الجماهير من حول خصمه بعد تجارب مريرة ووعود كاذبة قدمها من تزعم الحديث باسم هذا الطرف أو ذاك. فالتاريخ إن كان شاهدا على ما حققه هؤلاء وأولئك من إنجازات ومكاسب سواء لصالح شعوبهم أو الإنسانية قاطبة، إلا أن سجلهما يبقى حافلا أيضا بما تسببوا فيه من أزمات وما أحدثوه من جرائم ومظالم ارتكبها على السواء من احتكروا الكلام باسم الحقيقة العلمية تارة والحداثة السرمدية تارة أخرى، أو أولئك الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الخلق نيابة عن الخالق.

موت الإله: إعلان كاذب

هكذا اقترنت الحداثة في المسار الفلسفي والاجتماعي الأوروبي بنزوع قوي نحو تحجيم الدين، وإقصائه من مختلف مظاهر الحياة الجماعية. لقد تعرضت المسيحية خاصة والمعتقدات الدينية عامة في أوروبا إلى موجات متتالية من النقد الجذري لمدة قرنين على الأقل. وبلغت هذه الموجات أقصاها عندما أعلن نيتشه عن موت الإله، وتصدت الدولة في المجتمعات الاشتراكية ذات المضمون الماركسي لمهمة إلغاء الدين ونشر الإلحاد. لكن كما قال (ريجيس دوبريه) في إحدى مقـالاته (لا يكفي أن تقول الفلسفة بموت الإله من الوجهة الفلسفية حتى نعلن عن موت التيولوجيا الغريزية اللاشعورية التي تدفعنا إلى القول بوجود بداية لكل تاريخ، ثم مسار من التحولات ووجود خالق ومخلوقين وجوهر وعرض ثم نهاية مثالية)(1). ولهذا سرعان ما تراكمت الأزمات، واستشرى العنف داخل الغرب وخارج حدوده الجغرافية والسياسية، خاصة مع صعود الأحزاب والحركات الفاشية التي مجدت الحرب، وعمقت الكراهية باسم حماية الهوية وابتذال الأيديولوجيات القومية. وعندما سيطر اللا معنى، واستنفدت الدولة الشمولية المركزية المتدثرة بالاشتراكية كل مخزونها من العنف والخداع الأيديولوجي، وأفضت عمليات التحديث وما بعد الحداثة إلى تحويل المشهد الحضاري في الغرب خصوصا إلى لوحة غير مفهومة رغم أنها تثير الدهشة، أو كما قال أ.آنشتاين (في إحدى تأملاته) أدوات متقنة وغايات غير واضحة تلك هي علامات عصرنا).

في هذا السياق التاريخي المأزوم عاد (المقدس) بقوة، مخترقا جميع الحواجز، معلنا حضوره داخل كل الديانات والمعتقدات والمجتمعات بدون استثناء، بما في ذلك أشد النحل والمذاهب غرابة ولاعقلانية. وهو ما جعل الانتروبولوجية الحديثة كما يقول محمد أركون (تعرض عن تلك العقلانية التحكمية التائهة الإفتخارية وتهتدي إلى اكتشاف عقلانيات متواضعة متفتحة ومواقف معرفية تستهدف التعرف على الثقافات دون أن تعرض عليها مبادئ الثقافة الغربية الغالية. وهكذا اعترفت بالطريقة الأسطورية للمعرفة كطريقة أصيلة قائمة بنفسها غير منحصرة في المرحلة القديمة من التقدم المدني، بل مستمرة شائعة في جميع الثقافات والمجتمعات مهما بلغت من التقدم المادي والعلمي)(2).

في العالم الإسلامي القصة مغايرة

لم يقع في العالم العربي والإسلامي إقصاء معلن للدين من الحياة العامة. فباستثاء الحالة التركية في ظل الحكم الأتاتوركي، بقي الشعور بالإنتماء إلى الإسلام قاسما مشتركا بين جميع الطبقات الاجتماعية والقوى السياسية والحركات الثقافية. ولا يعني ذلك أن الجميع كانوا يعطون للعامل الديني قدرا متساويا من الاهتمام والإلزام، كما أنهم لم يكونوا يملكون فهما مشتركا للإسلام ودوره. كانت الاستراتيجية السائدة لدى الليبراليين العرب أو بعض اليساريين هو محاولة توظيف الدين لصالح الأيديولوجيا والأهداف السياسية المرحلية، وذلك كلما تصاعدت المشاعر الدينية المختلطة بالأزمات السياسية المحلية والإقليمية. ولهذا كانت المشاعر أو مظاهر التدين في حالة مد وجزر، وتختلف من بلد لآخر، ومن فئة اجتماعية لأخرى، حسب عوامل سوسيولوجية وثقافية وسياسية متعددة ومعقدة. لكن منذ أن توالت مؤشرات أزمة (الدولة الوطنية) التي نشأت في معظم الأقطار بعد تحقيق الاستقلال وتجاوز الحقبة الاستعمارية، بدأت مظاهر الرجوع إلى التدين بمختلف مستوياته الشعبية والثقافية والسياسية تشهد انتعاشة ملحوظة في كل الدول والأقطار الإسلامية. وقد تكنت ظاهرة العودة على التدين في سنوات قليلة من اختراق جميع الفئات والطبقات الاجتماعية دون استثناء، يستوي في ذلك الفقراء والأغنياء، الأميون والمتعلمون، سكان المدن وسكان الأرياف، الرجال والنساء، النخب والجماهير، داخل أجهزة الأنظمة الحاكمة وفي المعارضة. إنه انقلاب اجتماعي وثقافي مثير للدهشة ومتجاوز للتوقعات، وإن كانت كظاهرة اجتماعية ليست منفصلة عما تشهده المنطقة من احتقان شديد وضغط متزايد من القوى الدولية، إلى جانب ما تعرفه الأديان التوحيدية وغيرها من المعتقدات والطوائف والنحل والمذاهب حراكا ضخما وتأثيرا متزايدا على الرأي العام في كل مكان من العالم.

بين النية والممارسة ألغام ومخاطر

الملاحظ في رصد التحولات التي قد تطرأ على الظاهرة الدينية، سواء على الصعيد الإسلامي أو على بالنسبة للديانات الأخرى، أنها تكون في البداية واعدة بانتعاشة روحية وأخلاقية، لكنها سرعان ما تكشف عن مخاطر ضخمة، وذلك من خلال ما يمكن أن تحتضنه من مقدمات لتدشين مرحلة جديدة من الصراعات والتنازع والعنف المستبطن والمكشوف والرغبة في إلغاء التنوع والسيطرة على الآخرين المختلفين. فهناك تيارات دينية داخل معظم المجتمعات والدوائر الحضارية، ترفض الاعتراف بالإنجازات الني تحققت أوالتأسيس عليها، وتعمد إلى العودة إلى مرحلة ما قبل الحداثة، باحثة عن طهورية لا تاريخية، تسكنها رغبة قوية لاستعادة سيطرة مفقودة. وهي نزعات اخترقت الاجتماعي والثقافي والسياسي معا، فأصبح لها أنصار كثر في كثير من الأماكن، وتمكنت حتى من التأثير على أصحاب القرار قي أكثر من بلد بما في ذك أقوى دولة في العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية. كما أصبحت بعض هذه التيارات الدينية في عدد من هذه الدول شريكة في صياغة القرارات المصيرية، بما في ذلك قرارات الحرب والسلم.

اللادينيون يتحركون لخوض المعركة

لمواجهة هذا الخطر، أخذ اللادينيون يحاولون تجميع صفوفهم لحماية ما تحقق من مكتسبات خلال القرنين الماضيين، ولكي يستعيدوا ما فقدوه من سلطة أدبية وحتى سياسية خلال المرحلة الماضية، مستثمرين من جديد أخطاء خصومهم. وفي هذا السياق، قال (روي براون) رئيس الاتحاد الدولي اللاديني والأخلاقي (مع انزلاق المجتمع الأمريكي نحو الدولة الدينية ومع تزايد التدين والأصولية في كل القارات لا بد أن نتخذ موقفا). هذا الاتحاد الذي يضم 95 منظمة من 35 دولة تجمع مثقفين ملحدين ومنمسكين بقيم عصر التنوير، عقد بالاشتراك مع (هيئة التفكير الليبرالي) القرنسية مؤتمرا عالميا في باريس (من 4 إلى 7 يوليو 2005م) لوضع خطة تمكنهم من التصدي لما وصفوه بـ(الخطر المتنامي الذي أصبحت تشكله الديانات والساسة المتدينون على الدول العلمانية في أنحاء المعمورة). وذلك من خلال العودة إلى مناقشة إشكالية الفصل بين الدين والدولة باعتبارها (قضية مهمة لحرية الضمير) بعد أن لاحظ هؤلاء اللادينيون (تغلغلا بطيئا للدين في الحياة العامة في عشرات الدول، مثل الهند ونيجيريا وروسيا وسلوفاكيا وباكستان وبنغلادش وبريطانيا وأيضا الولايات المتحدة)(3).

الدين أصل من أصول الحياة

الأديان ضرورة فلسفية ونفسية واجتماعية وتاريخية، ولهذا صمدت عبر التاريخ رغم كل ما عاناه المؤمنون من مختلف الأديان. يقول أركون (الدين يغذي عند القرد والمجتمع فعل مجموعة من القوى المكونة للظرف الإنساني لكونه يقترح أجوبة نظرية قابلة للتصديق على أسئلة كبرى كالمعنى الآخر، وأصل الإنسان وقدره، والسلطة والطاعة، والعدالة والمحبة...)(4). لكن التدين أنماط واتجاهات مفتوحة على جيمع الاحتمالات. إن الإيمان شكل من أشكال الوعي بالذات، ومصدر إلهام قوي للخير والحب والجمال، غير أن التدين، الذي هو محاولة لترجمة القيم على أرض الواقع، قد ينقلب إلى حالة مرضية مستعصية من مظاهرها الانطواء وازدواج الشخصية واضطراب العلاقة مع الآخرين، وربما أصبح المؤمن عنيفا تجاه المحيطين ومصدر خطر عليهم. لهذا قال رسول الإسلام (ص) (أوغلوا في هذا الدين برفق). لقد كان مدركا لخطورة المحاذير التي يمكن أن تصاحب مغامرة المؤمن في علاقته بالمطلق وفي محاولته التعامل مع النصوص المرجعية.

التدين أنماط

يخطئ البعض في التعامل بسطحية مع الظواهر الدينية، ولا يجهدون أنفسهم في فهم تضاريسها، وتفكيك مستوياتها ورموزها، فيضعون كل تعبيراتها في سلة واحدة، ويصدرون في شأنها أحكاما قطعية يختلط فيها الذاتي بالموضوعي، والعقلاني بالأيديلوجي. من الخطأ المنهجي تعميم الأحكام، خاصة في أوضاع أو مجتمعات تتصف بالتعقيد والتنوع. لهذا فإن الحكم على الظواهر الدينية يتطلب أبحاثا معمقة ومتانية وموثقة. لكن مع ذلك يمكن المجازفة بالقول بأن التدين أنواع وأنماط متعددة، تختلف فيما بينها إلى حد التناقض والخصام، رغم وجود تقاطعات قوية فيما بينها. وهذا التنوع الملازم للظاهرة الدينية هو الذي يفسر تعدد وظائفها، وقيامها بأدوار متعاكسة. فبقدر ما يمكن أن تكون داعمة للظلم والاستبداد، وموفرة للشرعية لأوضاع وانظمة فاقدة للشرعية، بقدر ما يمكن أن تكون الوقود المفجر للثورات، أو الرافعة المبشرة بقيم الأخوة والتسامح والمساواة. أي أن الظاهرة جزء من سياق.

يمكن في هذا الإطار استعراض أمثلة من أنماط التدين الأكثر شيوعا في هذه المرحلة التاريخية التي يمر بها المسلمون، مع الإشارة إلى عدد من الملاحظات التي قد تساعد على تأطير الحوار والنقاش حول الظاهرة.

التدين السائد تراثي بالأساس: التدين سلوك فردي وجماعي يعكس مفهوما ثقافيا يحدد علاقة الفرد والجماعة بالذات والوجود والآخر. وتشكل الثقافة الدينية السائدة المصدر الأساسي الذي يكيف هذا السلوك ويحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية ويؤسس لشرعية حقيقية أو افتراضية. ويتم ذلك من خلال وسائط متعددة، يتفاوت الإطمئنان لمصداقيتها من شخص إلى آخر، ومن مجموعة إلى أخرى. فالبعض يتخذ من إمام المسجد مرجعا له، في حين يتخذ آخرون الكتاب أو زعيم التنظيم أو الداعية الذي تحول إلى نجم تلفزيوني، قدوة لهم ومصدرا لتلقي الحقيقة الدينية. لكن بقطع النظر عن هذه الوسائط وغيرها، فإن الثقافة الدينة السائدة حاليا، والتي يستهلكها عموم المتدينين بمختلف أنواعهم واتجاهاتم تستمد موضوعاتها وإشكالاتها ومفرداتها وفتاواها من التراث العقدي والفقهي الكلاسيكي. ولهذا السبب تحديدا غالبا ما يعكس الخطاب المتداول في هذه الأوساط حالة من تداخل مراحل تاريخية معظمها أصبح جزء من الماضي، لكن الوسائط تملك القدرة على إعادة ضخها من جديد، فتشتبك مع هموم الحاضر وتساؤلاتهن لتلبي حاجات مستحدثة بقيت بدون حل مقنع. فضعف الثقافة الحديثة وعدم قدرة النخب الممثلة لها على الأصعدة المحلية على التغلغل في الأوساط أو أن تكتسب المصداقية الكافية لتفرض نفسها كمرجعية وحيدة أو محورية، دفع بالباحثين عن نموذج يحقق لهم التوازن الذي افتقدوه نحو استحضار ماض ينظرون إليه بنوع (القداسة). بمعنى آخر، تعثر مشاريع التحديث أعطى زخما للثقافة الدينية التقليدية، ووفر لها مساحة جعلت الحاضر يختلط واحياناً يتماهى مع الماضي. وهكذا وجد المسلم المتدين نفسه منخرطا من جديد في صراعات السلف وخلافاتهم، أو أن الوسطاء الذي يشكلون همزة وصل بينه وبين النصوص المرجعية يحاولون معالجة مشاكل هؤلاء النفسية والوجودية والروحية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية انطلاقا من القاموس المفاهيمي والتشريعي القديم.

التدين الشعبي: هو نمط من التدين بدون ضفاف، لا تحكمه ضوابط لأنه خليط من السلوكات والمواقف والتعبيرات. لكنه ينحو نحو التكيف مع الطبيعة الثقافية العامة للمجتمع. هو إجابة فردية ضمن سياق جماعي لحاجة عميقة تفترض تلبية الواجب الديني الموروث. وهذا النمط من التدين لا يميل في الغالب إلى المعارضة في الغالب، و(يتقيد) ولو ظاهريا بالولاء للسلطة السياسية القائمة والتقاليد السائدة دون البحث عن شرعيتها ومناقشة أسسها ومقوماتها، تاركا ذلك إلى حكم القضاء والقدر. وهذا النمط من التدين يبقى قابلا للتوظيف في اتجاهات عديدة، ويمكن الانتقال به من النقيض إلى النقيض، وذلك حسب قدرات وإمكانات التأثير التي تملكها الأنظمة أو المراجع الدينية.

التدين الرسمي: هو يعكس حاجة السلطة إلى شرعية دينية لتعويض شرعية شعبية ودستورية مفقودة أو منقوصة. إنه تسيس للدين من فوق استمرارا لما ساد طيلة التجربة السياسية التاريخية للدولة الإسلامية. هو نوع من مصادرة الإسلام وسحبه من تحت أقدام المجتمع لكي يستعمل في تثبيت وضع قائم أو مواجهة تمرد محتمل. وهو في جميع الأحوال يمثل جزء لا يتجزأ من أيديولوجية الحكم القائم. ومن مهامه ترويض الرأي العام وتأطير التدين الشعبي حتى لا يصطدم بالسلطة ويحافظ على ولائه لها ولا يشك في اعتبارها تجسيدا لقوله -تعالى-: ﴿وأولي الامر منكم﴾.

تدين حركي لكنه فقير فكريا: إنه نمط من التدين الذي ولد في سياق المواجهة ضد الاستعمار والهيمنة الغربية، إلى جانب تآكل شرعية الدولة الوطنية واهتزاز مصداقية رموز التدين الرسمي. وهو تدين يعمل أصحابه بكل الوسائل من أجل التميز في الشكل والمضمون بهدف إعادة إحياء الصورة النموذجية لإسلام ما قبل الانحطاط. ويوصف بالحركي لأنه يعتمد على تجسيد المعتقد في سلوك فردي وجماعي بهدف تغيير القيم والواقع والنظم وموازين القوى السياسية والاجتماعية. وبالرغم من إيجابيات عديدة قد أنجزها هذا النمط من التدين، إلا أنه تورط في تسييس مفرط للإسلام إلى درجة جعلت الكثير من أنصاره يخلطون بين الحزبية والانتماء إلى الدين والأمة، ويتورطون في اختزال مختلف أبعاد التدين في برامج سياسية محكومة بالظروف وموازين القوى وطبيعة التحالفات ونوعية العلاقة بالسلطة. كما أن هذا النمط من التدين يرفض منذ تأسيسه رفضا قطعيا دعوات فك الارتباط بين الديني والسياسي، وقد سخر جهوده ولا يزال من أجل أسلمة (الدولة الحديثة) بعد أن شكك في شرعيتها الدينية التي اعتبرها (شرعية مزيفة). لكنه في المقابل يعاني هذا النمط من التدين من فقر فكري شديد، وهو ما جعله غير قادر على تجاوز التراث الفقهي والمذهبي التقليدي، ولم يؤسس لعلوم ديدنية جديدة، ولم يحافظ على الزخم الروحي الذي ميز الأديان الكبرى، ومن بينها الإسلام. لهذا بقي شعار (الإسلام هو الحل) فاقدا لمضامين دقيقة ومقنعة، رغم ما يحمله من شحنة عاطفية ذات التأثير السحري على الجماهير المتعطشة للنموذج الرسالي. وقد أدى هذا التوجه نحو (أسلمة الدولة) إلى خلق حالة من الصدام المفتوح والمتجدد بين أنظمة سياسية مستبدة في معظمها وغير مستعدة لحسم الخلافات السياسية بالوسائل الديمقراطية، وبين حركات تعتقد بأنها تحمل أمانة حماية الإسلام في شموليته، وأنها الاولى بالقيادة لإعادة ربط حاضر الامة بسلسة الخلفاء الراشدين. وكان محصلة هذا الصدام والتنازع حقبة تاريخية اتسمت بالتوتر، وتدعمت فيها الأنظمة البوليسية.

تجديد المناهج

كل الذين تصدوا لمهمة التجديد أو أغلبهم في العصر الحديث، واجهتم إشكالية المنهج. والمقصود بذلك الآلية أو الآليات التي سيستند عليها المجدد لإعادة فهم الرسالة الإسلامية وتفعيل دورها في الحياة. هذه الرسالة التي اختلط فيها النص المرجعي بعدد لا متناهي من التفاسير والتأويلات. فعندما اكتمل الوحي مع نهاية العام الثالث والعشرين من البعثة، لم تكن هناك تعقيدات منهجية تضع حدودا لضبط علاقة المؤمنين بالنص. كان التعامل مباشرا مع الوحي من خلال التجربة الحية والتفاعل مع حركية الواقع. كان الرسول في البداية يتولى عملية التوجيه وتوضيح ما بدا غامضا أو تفصيل ما بدا مقتضبا في القرآن. وبعد وفاته وجد المؤمنون أنفسهم وجها لوجه أمام الوحي المحفوظ في الصدور، والمخطوط في وثائق متناثرة، وخوفا من ضياع بعض أجزائه، خاصة عندما شب الخلاف بينهم لأسباب سياسية سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية.

أما الضوابط فقد وضعت فيما بعد وخلال مجال زمني استمر حوالي قرنين من الزمان. وجاءت هذه (الضوابط)، التي تحولت تدريجيا إلى علوم قائمة بذاتها نتيجة ارتقاء المجتمع الإسلامي من مستوى الممارسة العفوية وسياسة التجربة والخطأ إلى مستوى التنظير والتقعيد.ويعتبر ذلك مظهر من مظاهر النمو الحضاري، وخطوة نوعية فرضها اكتمال العمران وتشكل الدولة، خاصة إذا كانت هذه الدولة ذات خصائص إمبراطورية تحت عنوان نظام الخلافة. لكن مع أهمية هذا الإنجاز النوعي، فإن كل من يرى في نفسه مؤهلات التجديد أو الاجتهاد يجد نفسه مدعوا لطرح سؤال إشكالي تتوفر فيه كل عناصر المشروعية: هل أن المناهج التي وضعها الأصوليون في السابق ملزمة لخلفهم عبر مختلف العصور أم أن باب الاجتهاد وإعادة النظر سيبقى مفتوحا إلى يوم الدين؟.

بالرغم من أن الإجابة تبدو بدهية، بحكم اختلاف العصور والأوضاع والمعارف والإشكاليات بين مرحلة التدوين وما تلاها من مراحل وصولا إلى هذا العصر الذي اختلفت فيها المعطيات كليا، إلا أن المسألة عمليا وثقافيا ليست بسيطة وهينة، وبقيت مطروحة بحدة إلى يوم الناس هذا.

تجديد على ثلاث واجهات

لم تكن التجربة الثقافية الإسلامية أحادية خلال مسيرتها التاريخية الطويلة. كانت في غالب الفترات محصلة لجهود جماعية شديدة التنوع والتعدد. وبالرغم من أن هذه التعددية الفكرية والمذهبية والفقهية لم يقع تقنينها ومأسستها، إلا أنها كانت واقعا معاشا وسلوكا يوميا. صحيح أن العنف كان يسود من حين لآخر لحسم الصراع على السلطة، أو لتغليب طرف فرقة على أخرى، لكن ذلك لم يقض على مبدأ التعدد الذي قرره القرآن منذ البداية واعتبره سنة من سنن الله في خلقه.

هذه التعددية خلفت وراءها تراثا واسعا في مختلف حقول المعرفة. وبالرغم مما تتميز تلك المعارف من ثراء، إلا أنها تبقى محكومة بالسقف التاريخي لزمانها وإطارها المكاني. وبناء عليه فإن التجديد الإسلامي ليس مجرد عملية تقنية تقف عند حدود شكل الخطاب الديني، بتغيير مصطلحاته وتبسيط مفاهيمه وتيسير أسلوب تقديمه إلى المتلقي كما يظن البعض. فذلك فهم قاصر لعملية التجديد، وأصحابه غير مدركين لعمق الفجوة التي تفصل بين التراث الديني من جهة ومعارف هذا العصر ومشكلاته من جهة أخرى. إن مؤمني القرن الواحد والعشرين في حاجة ملحة لإعادة تأسيس إيمانهم على خطاب إسلامي مختلف.

من هذه الزاوية فإن التجديد يجب أن يشمل ثلاثة أبعاد في الفكر الإسلامي، وهي: العقيدة، والفكر التربوي، والتشريع الإسلامي بما في ذلك الثقافة السياسية والرؤية للعلاقات الدولية.

إنها حلقات مترابطة فيما بينها، كل حلقة تؤدي إلى الأخرى وتؤثر فيها بطريقة جدلية. فهناك أكثر من ضرورة لتحرير عقائد الإسلام سواء من صبغتها التجريدية المتأثرة بالفلسفة اليونانية، أو إخراجها من القولبة الصارمة للمدرسة السلفية. ويكفي استحضار القيم المعاصرة مثل الحرية والعدل والمساواة، حتى ندرك بأن العقائد الإسلامية يجب أن تقرأ من جديد في ضوء هذه القيم الإنسانية، وأن يتم تخليصها من عشرات المؤثرات التاريخية التي كبلت الإنسان المسلم، وحولت العالم الرمزي للإسلام إلى عالم مليء بالسحر والخرافة والقيود التي ما أنزل الله بها من سلطان. فلكي يشعر المسلم بأنه كائن حر، عليه أن يؤسس علاقة مفتوحة مع خالقه باعتباره مصدر الحرية المطلقة، وأن يعتقد بأن الآخرين سواء الذين يعيش معهم تحت سقف مجتمعي وجغرافي واحد، أو الذين يختلفون معه في اللون والدين والجنس هم أيضا كائنات حرة من حقهم أن يتمتعوا بحقوقهم كاملة.

العلاقة بالآخر: قضية ذات أولوية

إن قضايا التجديد الإسلامي متفرعة وكثيرة، وهي تختلف من مرحلة تاريخية إلى أخرى. ولكن سنقف عند إشكالية، ازدادت حدة مع تنامي ظاهرة العودة إلى التدين. ونقصد إشكالية العلاقة بالآخر. فرغم أن هذه المسألة ليست بالجديدة، حيث ظهرت مع الأسئلة الأولى التي طرحها فكر النهضة وتولدت عن المقارنة بين نهوض الغرب وتقهقر الشرق، غير أنها عادت لتفرض نفسها من جديد مع تصاعد حدة التوتر في علاقة المسلمين بغيرهم من الغربيين واتساع دائرة تدخل الدول الكبرى في الشؤون العربية والإسلامية. وإذ أسهمت التوترات السياسية ونزعات الهيمنة الغربية والأمريكية في تغذية مشاعر الرفض والإحساس بالضيم والاضطهاد، إلا أن السنوات الأخيرة كشفت عن عودة الرؤية الكلاسيكية للعالم القائمة التي يعتقد أصحابها بأن الانتماء الديني هو المحدد لطبيعة العلاقات الدولية بين الشعوب والأمم وحتى بين الأفراد.

وخلافا لما يظن البعض فإن هذا الإشكال ليس مطروحا فقط داخل الدائرة الإسلامية، حيث كشفت أحداث السنوات الأخيرة عن تأثر سياسات الكثير من الدول والحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة بالخلفية الدينية التاريخية التي لا تخلو من عنصرية ونظرة استعلائية وجنوح نحو الإقصاء والوصاية. لقد لاحظ المؤرخ (وجيه كوثراني) أن السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وصولا إلى الحادي عشر من سبتمبر، أن الخطاب السياسي العالمي (ولا سيما الأمريكي قد طغت عليه مفردات ذات خلفيات دينية وتاريخية وثقافية...كما ظهرت خطابات تستخدم التاريخ والفلسفة والإثنولوجيا بمناهج علمية لتخلص إلى صياغات سياسية تستشرف من خلالها طبيعة الصراعات ومسارات المستقبل في العـالم كخطابي فـوكـوياما وهانتنغتون)(5).

لكن ظهور هذا النمط من الخطابات على الصعيد الدولي لا يبرر الوقوع في رد الفعل والانسياق وراء الذين يرددون القول بأن الصراعات الدولية حاليا هي صراعات دينية،, وأن المسلمين في حالة حرب مفتوحة مع اليهود والنصارى لاعتبارات تتعلق بالمعتقدات. فالتنازع الدائر على الصعيد الدولي له بالتأكيد خلفياته الثقافية وتداعياته، لكنه يبقى في الأساس صراع حول النفوذ الاقتصادي والسياسي. لهذا عبر (كوثراني) في نفس السياق عن خشيته من أن تؤدي السجالات العربية مع (الآخر) إلى منحى تبريري - دفاعي عن النفس، أو (نحوا هجوميا كلاميا من شأنه أن يطمس الجانب المعرفي بالنفس وبالآخر)(6).

يتم تصحيح العلاقات الإسلامية الغربية من خلال تحديد جوانب الخلاف والقواسم المشتركة في ظل المصالح الحيوية للأمة تشكل ضرورة استراتيجية ملحة، وذلك بعيدا عن حالات الالتباس والخلط الذي تتعمد القيام بها تيارات التطرف والإقصاء الموجودة داخل صفوف الطرفين. هذه الضرورة تقتضي القطع مع الدعوة التي لا يزال يطلقها البعض لرفض الحضارة السائدة بحجة كونها حضارة غربية. فأصحاب هذه الدعوة ينطلقون من موقف لا تاريخي، ويخلطون بين الثقافة والحضارة، ويتوهمون بأنه يمكن حصر الحضارة الحديثة داخل حيز جغرافي هو الغرب، ويتجاهلون بأن هذا (الغرب) أصبح منذ أكثر من قرنين جزء من (الـذات).

لهذا، ونظرا لما أصبحت تشكله قضية الأقليات أو (الآخر المختلف من مخاطر حقيقية، أصبح من العاجل أن يوليها الفكر الإسلامي المعاصر ما تستحقه من جهد وعمق وجرأة حتى يصبح التعدد والاختلاف ضمن الوطن الواحد والأمة الواحدة جزء لا يتجزأ من الوعي العام بالمصير المشترك. ولن يحصل ذلك إلا إذا تمت إعادة النظر في هذه الإشكالية بعيدا عن المعطيات الفكرية والفقهية التي تحكمت في معالجتها خلال المرحلة الكلاسيكية من التاريخ العربي الإسلامي. فمسألة الأقليات كما ذكر عبد الحميد لرقش قد (تغيرت اليوم نوعيا في البلدان الإسلامية والعربية عموما كما في العالم)(7). واعتبر أنه (إذا كانت مسألة الأقليات إلى تاريخ ليس بالبعيد مشكلة دول - لا يتدخل في شؤونها باعتبارها مسألة سيادية، فإنه مع التحولات الدولية، وبعد زوال نظام الاستقطاب الثنائي، أصبحت الدول شفافة وبدأ تبرير حق التدخل لحماية الأقلية).

إن تجديد العقائد الإسلامية من هذا المنظور سيؤدي بالضرورة إلى مراجعات لا تقل جذرية في مجال التشريع. فإذا كانت قيمة الحرية تفرض أن يصبح الإيمان بالله مقدمة لتحرير الإنسان على الصعيد الفلسفي، فإنها على الصعيد التشريعي لم يعد معناها النقيض للعبودية. وبالتالي لم يعد واردا على سبيل المثال الحديث عن قتل المرتد، واستتابة من بدا رأيه مغايرا للرأي السائد. لا يعني هذا تحريض المسلمين على الخروج من دينهم، ولكن هي دعوة لهم ليؤسسوا إيمانهم على القناعة الشخصية والعقلية والروحية العميقة. وبالتالي ربط عملية التشريع بالقيم الإنسانية العليا التي يجب أن تفهم باعتبارها المقاصد العليا التي جاء من أجلها الإسلام.

عندما تصبح العقيدة في تناغم مع قيم العصر، وتصبح التشريعات التجسيد العملي لتلك القيم، تجد وسائل التبليغ نفسها في حاجة ضرورية لكي تنسجم مع أسس المجتمعات الإسلامية الحديثة المستوعبة للديمقراطية والمعارف الإنسانية والعلوم الاجتماعية والتكنولوجيا.

هكذا يتبين أن التجديد أو الإصلاح المنشود هو مسار عام وشامل، ونزوع نحو بناء رؤية جديدة للكون والإنسان والفرد والمجتمع. وما لم ينجز هذا النمط من الإصلاح الديني، ويتمدد اجتماعيا، وتستوعبه الجهات الوسيطة الناقلة للثقافة الدينية، فإن ظاهرة التدين ستبقى مهددة من داخلها قبل أن تكون مهددة من خارجها.

********************

الحواشي

*) باحث وأكاديمي من تونس.

1- ربجيس دوبريه، مفال تحت عنوان (ماهي الوساطة أو الميديولوجيا؟) ترجمة الأستاذ (فوزي البدوي). الكراس الفكري لصحيفة الحرية. العدد 41. التاريخ 21 جوان 25

2- محمد أركون، (الإسلام أصالة وممارسة)، ترجمة: خليل أحمد, طبع في دمشق عام 1986م.

3- وكالة (رويترز) وموقع إسلام أون لاين، زنت، 1، 7، 2005م.

4- مرجع سابق، ص61.

5- وجيه كوثراني: من كتاب (هويات فائضة... مواطنة منقوصة), دار الطليعة، الطبعة الأولى 2004م.

6- المصدر السابق: ص6.

7- عبد الحميد لرقش: أستاذ بالجامعة التونسية، قسم التاريخ.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=381

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك