محنة السّؤال النّقدي في فكر طيب تيزيني

لحسن أوزين

 

تمهيد:

إنّ البحث والمناقشة لا يتعلّقان بالمفكّر الدكتور طيب تيزيني كفرد معزول أنتج مجموعة من المؤلّفات الفكريّة النقديّة، بل الأمر يتجاوز ذك بكثير إلى استحضار جملة من السياقات التاريخيّة والاجتماعيّة السياسيّة، والرّوابط الفكريّة والعمليات السياسيّة الاجتماعيّة الاقتصاديّة، والتّفاعلات الإيديولوجيّة الثقافيّة الّتي عملت على تكوين البنيّة الفكريّة المعقّدة الّتي شكّلت أسس الفكر النقديّ لدى طيب تيزيني. بمعنى أنّ فكرنا الضّمني أو العميق المؤسّس لرؤيتنا النقديّة ونحن نقرأ ونناقش أعمال طيب تيزيني عليه أن يأخذ بعين الاعتبار تلك السّياقات والعمليات، وبذلك فنحن نبتعد كليا عن موقع الحقيقة المولع بالمحاكمات النقديّة الأقرب إلى العدوانيّة النقديّة الغارقة في مقاربتها لأعمال المفكرين في تاريخ البطولات الفكريّة والعبقريات الاستثنائيّة، لنقترب ما أمكننا ذلك من تلك السّياقات والعمليات والأطر الاجتماعيّة الّتي كوّنت وبلورت وطوّرت البنية الفكريّة الّتي انخرط فيها طيب تيزيني  طالبا ودارسا وباحثا ومفكّرا ومدرّسا…، أي إنّنا إزاء تاريخ بنيات فكريّة في صيرورة لا تهدأ ولا تتوقف حياتها أو موتها على خلفيتنا الإيديولوجيّة الفكريّة، ولا على تفاؤل إرادتنا وتشاؤم عقلنا النّقدي فقط. إننا نحاول ما أمكن التّعامل مع المنجز النّقدي لفكر طيب تيزيني كمسار طويل وديناميّة وحركيّة مخاضات عسيرة، وعمليات تأسيس وإعادة تأسيس إنخرط فيها تيزيني إلى جانب مجموعة من المفكّرين الآخرين بمختلف خلفياتهم الفلسفيّة والمعرفيّة والإيديولوجيّة، مع تنوّع وتعدّد مشاربهم الفكريّة في ظلّ ظروف تاريخيّة وبنى تركيب اجتماعيّ اقتصاديّ وما ميّزه من تحوّلات وصراعات سياسيّة اجتماعيّة داخليّة وخارجيّة تحرريّة من التّسلط والهيمنة والسّيطرة الأجنبيّة. إنّ زاوية منظورنا لأعمال الطيب تيزيني لا تنظر إلى مؤلّفاته وكتبه كنتائج جاهزة ونهائيّة تعبّر عن حصيلة فعله وممارسته النظريّة الفكريّة والسياسيّة، بل مايهمنا بالدرجة الأولى سيرورة المسار الطويل للفعل النقدي الّذي مارسه تيزيني في خلفياته الفلسفيّة الفكريّة والمعرفيّة والإيديولوجيّة، وفي تفاعلات بنائه، وفي أدواته ومفاهيمه، وفي إشكالياته النقديّة ومشاريعه الفكريّة: نقد التراث، الثّورة، النّهضة، التّنوير، الإسلام السياسي، الاستبداد، الديمقراطيّة، العلمانيّة، الوضوح المنهجي، الدولة الأمنيّة…

بمعنى أنّ مختلف المواقف النقديّة الايجابيّة والسلبيّة الّتي تنظر إلى مجهود المفكّر  كحصيلة ونتائج وليس كسيرورة في سياقات تاريخيّة اجتماعيّة سياسيّة وما يكتنفها من تحوّلات وصراعات، أي كعمليات وممارسات في النّقد والنّهضة والتّنوير والتّثوير والعلمنة…، هي مجرّد مواقف لا تخرج عن إطار الانغلاق المعرفيّ والفقر الفلسفيّ، والصنميّة المنهجيّة القطعيّة في النّظر والممارسة، ولا تنتج غير العنف الحركي أو الرّمزي في صورة العدوانيّة النقديّة، وهي نظرة سكونيّة بامتياز كبير، تجعل عمق الجدليات الاختلافيّة المتحكّمة  في جدل التاريخ والتراث والنّقد والنّهضة والتّنوير…، كما فهمه ومارسه بوضوح منهجيّ ماديّ بشكل أو بآخر المفكّر طيب تيزيني معزولا مبتورا عن ارتباطات السّؤال النقدي بالواقع الاجتماعيّ العربيّ الرّاهن في مختلف مستوياته الاقتصاديّة والسياسيّة والايديولوجيّة وما ميّزها من صراعات، وبشكل خاصّ استراتيجيّة التّغيير والثّورة والنّهضة والتّحرر…

نقصد أنّنا إزاء عمليات تأسيس وإعادة تأسيس لا متناهية مواكبة لبعضها البعض تتجاوز المفكّر الفرد، لأنّ فكره تعبير عن تفاعلات بنيّة فكريّة شاملة 1. وانسجاما مع هذا التّصور الفلسفي النّظري نشير إلى” أنّ الفكر ليس فكر إنسان بعينه، إنّه لا يدور في دماغ ولا يجول في خاطر، الفكر عندما اتّخذ بعدا جدليا لم يعد تمثلات  سيكولوجيّة. وحين نتمثّل الفكر كقدرة بشريّة، وهو فكر تاريخي لا يكون وليد لحظة بعينها، ولا يخضع لأهواء الأفراد ومقاصدهم. وقوانين الفكر بما هي قوانين الجدل، هي قوانين الوجود…الفكر مجهول الاسم، فاعل مبني للمجهول يفكّر في الوجود”2 .

هذا هو الإطار المعرفي والمنهجي التّاريخي العام الّذي يمكن من خلاله التّعامل مع فكر طيب تيزيني دون فصله عن البنية الفكريّة التاريخيّة الاجتماعيّة الشّديدة التركيب بسياقاتها المعقّدة الّتي شكّلت التّاريخ العربي الحديث والمعاصر. أمّا المحبّة الكاذبة  والعدوانيّة النقديّة، والمزايدات الظرفيّة الإيديولوجيّة قد تضيف فقط شيئا إلى شعبة المخابرات الفكريّة في الرضا السّلطوي، أو التّشبيح والتّهجم  السياسوي المتّسق مع ثقافة الاستبداد والحطام العربي السّائد.  فمن زاوية النّظر هذه نقرأ طيب تيزيني باعتباره أحد المساهمين في تأسيس الفكر النقدي العربي الحديث والمعاصر بما له وما عليه، وهو ينتظر من محبيه الأوفياء أن يقوموا  بهدم الحقائق وكشف الأوهام وتعريّة الثوابت وتفكيك الميتافيزيقا …، الّتي تنخر جدله التاريخي الثوري والتراثي والنّقدي والنّهضوي والتّنويري …،كمُقاوِمات داخليّة من طبيعة الفكر النّقدي الّذي تؤرّقه محنة السّؤال النقدي في بحثه المستمرّ عن مستحيل تحقّق الثورة، النّهضة، التّنوير، الحريّة والديمقراطيّة…، إنّها محنة سؤال  يصارع، وهو يتغذى من أزمات وانكسارات وخيبات هذه القيم الانسانيّة الّتي يسعى مناضلا مكافحا لتحقيقها، وهي ترتبط في كلّ منعطف مؤلم من تاريخنا الحديث والمعاصر بأزمات استحالة التّحقق.” يؤكّد التاريخ صحة هذا الاقتران، فكلّ الفترات الّتي عرفت محاولات إرساء الديمقراطيّة في مختلف صورها كانت فترات أزمات، وكلّ مساعي التّحرر والانعتاق صوحبت بفترات توتر وصراع وتأزم. وليس مرد ذلك فحسب المقاومات الخارجيّة الّتي تعترض الدمقرطة والتّحرر والتّحديث والانعتاق، وإنّما مرجعه أيضا ربّما أساسا ” طبيعة” الديمقراطيّة والتّحرر والعقلانيّة والتّحديث، فهذه أمور تنطوي على عوائقها الذاتيّة، ليس بمعنى أنّها تعوق ذاتها وتعترض سبيل نفسها، وإنّما بمعنى أنّها تنظر إلى نفسها كمُقاومات، وتعتبر أنّ وجودها نفي وسلب أكثر منه إثباتا وإيجابا. وأنّها تحسّ بالعوز كلمّا ازدادت غنى، وبالظّمأ كلّما ازدادت ارتواء، وبالنّقصان كلّما ازدادت اكتمالا، إنّها لا تتحقّق إلّا عندما يتعذّر تحققها، ولا تكون بالفعل إلّا عندما لا تكون” . بهذا الوعي تجاه الهزائم والخيبات والمآسي يمارس الانسان تفاؤل الإرادة وتشاؤم العقل، وهو يوسّع منظور زاوية الرؤية ليرى كلّ الوجوه المختلفة الّتي تحجبها الانحيازات الضيّقة للحقائق الجاهزة كيف ما كانت طبيعتها ومصدرها. فإلى أي حدّ ساهم طيب تيزيني فكريا ونقديا وسياسيا في خلخلة أزمات استحالة التّحقق للثورة والنّهضة والتّنوير، والتّخلص من الفساد واستبداد الدولة الأمنيّة…؟

وكيف تمثل محنة السّؤال النقدي وتحمل مسؤوليّة خوض غمار حرقة أسئلته:  انطلاقا من التراث إلى الثورة، مرورا ببيان النّهضة والتّنوير العربي، وما رافق ذلك من حوارات، أشبه بالمناظرة مع كلّ من البوطي، وأبو يعرب المرزوقي،  كانت تستهدف زحزحة حقائق ثابتة تلبست رداء المقدس خالقة وهم نفس خالدة تسكننا، وصولا إلى مواجهة الاستبداد في صوره المرعبة: الفساد والقهر السياسي الأمني؟ لكن ما الّذي يجعلنا نعتقد باحتجاج السّؤال النقدي تجاه صمت الفكر النّقدي في أعمال طيب تيزيني، من خلال سيرورة عمليات تشكّله لدى هذا المفكّر إلى درجة وصلت إلى نوع من المحنة في كبت وقهر المقاومات الذاتيّة للفكر النقدي المتعلّقة بالرّغبة  العارمة في ممارسات استحالة التّحقق الّتي أشرنا إليها سابقا وهو يقبل- تيزيني- بأنصاف الحلول الإيديولوجيّة للفساد والدولة الأمنيّة الّتي كان يعتقد ضدّ منطق الفكر النقدي وآلياته المنهجيّة  في “إصلاح تقدميّة” شرّ مأساة صنعتها الدولة الأمنيّة؟ وقبل هذا وذاك كيف نظرت بعض الدّراسات لفكر الّتيزيني؟

أوّلا: الدراسات النقديّة الساّبقة لفكر طيب تيزيني

لم يكن المفكّر طيب تيزيني مثقّفا مجهولا من قبل طلاّب العلم والقرّاء والباحثين المهتمين بشؤون الفكر والثّقافة وبواقع المجتمعات العربيّة وتحوّلاتها، وما يعتمل في داخلها من صراعات، فقد كان إنسانا فاعلا في ميدانه التربويّ العلميّ، ومحاورا لمختلف التّوجهات والأفكار والتّصورات، كما أنّه مؤلّف له مشاريعه النظريّة الفكريّة. لهذا جذبت كتبه قرّاء ومهتمين بمختلف خلفياتهم الفلسفيّة والفكريّة والإيديولوجيّة من الإسلاميين إلى اليساريين بمختلف تيّاراتهم النظريّة والسياسيّة. فكيف قرأ ونظر وتحاور وتفاعل ونقد أو نقض هؤلاء فكر طيب تيزيني؟

وبالموازاة مع عرضنا لدراساتهم سوف نقدم وجهة نظرنا النقديّة حول ما يطرحونه من أفكار وملاحظات نقديّة. كلّ ما نرجوه من القارئ هو الصّبر حتّى تتّضح له استراتيجيّة الكتابة النقديّة الّتي نشتغل وفقها في العرض والتّحليل والنّقد.

  • بوعلي ياسين :من “التراث إلى الثّورة” مع طيب تيزيني3

هكذا عنون بوعلي ياسين دراسته الّتي نشرت لأوّل مرة في مجلة “مواقف” البيروتيّة سنة1979، ثمّ ضمن كتاب “الماركسيّة والتراث العربي الاسلامي” سنة1980 . قمنا بضبط تاريخ هذه المعطيات لنشير إلى أنّ اعمال تيزيني خلقت اهتماما ونقاشا نقديا منذ بروز أوّل كتبه “الفكر العربي في العصر الوسيط متبوعا بالجزء الأول من مشروعه” من التراث إلى الثورة”، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ أيّ نقد علمي يمكن أن يبيّن قصور وهشاشة الخلفيات الفلسفيّة والمعرفيّة النظريّة والمنهجيّة  الّتي اعتمدها طيب تيزيني في البحث والدراسة والتّحليل النقديّ، سيكون بعيدا عن تهمة غياب الموضوعيّة أو الاسقاط والمغالطات التاريخيّة الّتي قد تحمل مشروعه الفكري ما لا يحتمل في شروطه التاريخيّة الاجتماعيّة والمعرفيّة الإبستمولوجيّة. بمعنى أنّ هناك تقاربا زمنيا بين كتاب تيزيني ودراسة ياسين.

في بداية دراسته هذه الّتي قسمها إلى مجموعة من المحاور، اتّفق بوعلي ياسين مع تيزيني على أنّ مشروعه عبارة عن مغامرة ومهمّة شاقّة محفوفة بالمخاطر والمزالق،  وهو بهذا الإتفاق كما لو وضع أرضيّة حجاجيّة لما سيسجله من ملاحظات نقديّة. ففي تناوله للنّظام الاجتماعيّ الاقتصادي في العصر الوسيط، كما هو مشخّص في فكر تيزيني أشار إلى أنّه- الكاتب- طرح بديلا سمّاه النظريّة الجدليّة التاريخيّة التراثيّة ذات الأساس الماركسيّ، بعد أن بيّن قصور وعجز الاتجّاهات اللاتاريخيّة واللاتراثيّة الّتي تناولت التاريخ والتراث العربي، كما بيّن خطورتها الاجتماعيّة والسياسيّة. ثمّ شرع بوعلي ياسين يناقشه بشكل نقديّ في مسائل معرفيّة ومنهجيّة تحليليّة كثيرة من ضمنها:

  • إنّ دراسة تيزيني للواقع الاجتماعيّ في جانبها المتعلّق بتكوّن المجتمع العربي فيها الكثير من الاختلالات والتّناقضات، ” كان الكاتب- يقصد تيزني- قد بيّن أنّه في مكّة تشكّلت طبقتان متعارضتا المصالح هما التجّار والمرابون وسدنة الكعبة من جانب والعوام والارقاء من جانب آخر، فكيف يقوم هؤلاء العوام والعبيد وهم أعداء التّجار والمرابين بحركة تستجيب لحاجات التجارة المكيّة. من ناحية ثانية قد نؤيّد محاولة فهم الحركة الاسلاميّة في بدايتها من خلال الصّراع الطبقيّ المكيّ لكنّنا لا نظن أنّ هذا الصّراع المحلي كاف لتفسير انحلال المجتمع العربي القبلي في جميع أرجاء الجزيرة العربيّة، حيث قلّما نلتقي بتجار وعبيد بل غالبا ببدو وأحيانا بفلاحين. من ناحية ثالثة لم يفسّر الكاتب انحلال المجتمع القبليّ من خلال عوامل انحلال في داخل هذا المجتمع، أي من خلال عوامل قبليّة، بل من خلال عوامل خارجيّة هي العلاقات الاقطاعيّة والرقيّة والبورجوازيّة.” 4 وفق هذا التّناول النقديّ ناقش – بشكل دقيق وموثّق بالصفحات- بوعلي ياسين دراسة تيزيني للمجتمع العربيّ في تحوّلاته البنيويّة وعلاقة ذلك بالصراع الاجتماعي بين فئاته أو طبقاته الاجتماعيّة على حدّ تعبيرهما ( تيزيني وياسين). كما يؤاخذ عليه عدم  تدقيقه وتوضيحه لمفهوم الاقطاع المنزليّ، والاقطاع المركزي الّذي يستعمله بشكل غامض مشوش”  والتوضيح ضروري لسبب آخر، هو ارتباط مفهوم الاقطاع في أذهاننا بالأرض والزراعة والفلاحين الأقنان، ويصعب ربطه ذهنيا بالاقتصاد المنزلي المعروف الآن بشيوعيته. ثمّ يذكر الكاتب عرضا، أنّ هذا الاقطاع اكتسب أكثر فأكثر طابعا عسكريا. وهنا يزداد القارئ تشوّشا، إذ كيف يربط منزليّة الاقطاع بعسكريته؟”5
  • يلاحظ عدم احترام تيزيني الفهم النظري الماركسي للصّراع داخل المجتمع الّذي هو في نظره صراع بين طبقات وليس بين علاقات اجتماعيّة، مع غياب كامل لتحديد الأطراف الطبقيّة المتصارعة سواء بين الأقنان والاقطاعيين أو بين العلاقات الاقطاعيّة والعلاقات الرأسماليّة.
  • استعمال الكاتب للمصطلحات دونما أدنى تفريق بينها كمفاهيم: الملكيّة، التّملك، التّصرف والحيازة، مخالفا معانيها العلميّة لدى ماركس والألمان عامّة6.
  • أغفل الكاتب في نظر بوعلي ياسين الاستعمال الدقيق لمفاهيم إنجلز وماركس خاصّة نظريته

حول نمط الانتاج الآسيوي، كما أنّه لم يعرض أفكار مستشرقين ماركسيين ” ولم يناقشها، بل أهملها مع أنّها تدخل في نطاق بحثه، والأصحّ أنّها تمثّل أساسا له. وهذا موقف علمي غريب، وخاصّة ممّن يضع نظريّة جدليّة تاريخيّة تراثيّة تجد في الماركسيّة قاعها الاصلي ومصدرها المنهجي.”.7

  • لا يتّفق مع طيب تزيني على أنّ المجتمع العربي في العصر الوسيط كان إقطاعيا، خاصّة وأنّ الأرض كانت تعود للخليفة عكس الإقطاع الأوربيّ. “كتب إنجلز إلى ماركس بتاريخ 6حزيران 1883 يقول:  إنّ غياب الملكيّة العقاريّة هو بالفعل مفتاح الشّرق بأكمله. في هذا يكمن تاريخه السياسي والديني.”8
  • يرى بوعلي ياسين أنّ السّلطة المركزيّة لم تكن لها أيّة علاقة بإرهاصات الرأسماليّة المبكرة عكس ما ذهب إليه تيزيني. وأنّ الوحدة الجامعة كشكل اجتماعي اقتصادي أساسه قبلي” فالطاغية يستمد قوّته من قوّة قبيلته، كما يستمدها باتّحاد السّلطة الدينيّة والدنيويّة في شخصه… وأنّ الرأسماليّة التجارية الربويّة كدّست أموالها بفضل السّلطان ورجاله. وفي الوقت ذاته السّلطان أوّلا ورجاله ثانيا هم الّذين أجهضوا الارهاصات الرأسماليّة التجاريّة المبكرة عن طريق المصادرات والضّرائب الباهظة والابتزاز، وذلك على النّقيض ممّا يراه طيب تيزيني.”9

وهذه أمثلة جزئيّة للملاحظات النقديّة الّتي قدّمها بوعلي في دراسته موضّحا حدود ومحدوديّة النظريّة الجدليّة التاريخيّة التراثيّة الّتي أرادها تيزيني بديلا للنّزعات الاختزاليّة والإيديولوجيّة، لكنّ السّقف المعرفي والتّاريخي النقدي عند تيزيني- كما قدّمه بوعلي في دراسته- في مقاربته للواقع الاجتماعيّ التاريخيّ المكي في تشكيلته الاقتصاديّة الاجتماعيّة، وفي تركيب بنائه الطبقي، ومختلف أشكال الصّراعات، كان بعيدا عن التّماسك النظريّ والمنهجي ومفتقرا للمنهجيّة الماديّة الماركسيّة في تشخيص التّركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ.

كما لاحظ انحياز تيزيني  العروبي الإيديولوجي في تحليله للصراعات الاجتماعيّة الدّائرة داخل المجتمع العربي الاسلامي، إلى درجة تشويه المعطيات والوقائع الاجتماعيّة التاريخيّة، بجعلها صراعات شعوبيّة قوميّة ضدّ العرب، بدل التّعامل معها على أنّها صراعات طبقيّة بالدّرجة الأولى وليست تابعة للصّراع القوميّ. ويستغرب انتصاره للنّزعة السلفيّة العربيّة واعتبارها ردّا إيجابيا على الانهيار الحضاريّ العربيّ الاسلاميّ. مع النّظر بشكل سلبي إلى الحركات الشعبيّة المطالبة بالمساواة” لأنّ طيب تيزيني يؤكّد أنّ أهل التسوية هؤلاء سمّوا أنفسهم بهذا الاسم زيفا”10

وفي هذا السّياق عمل بوعلي ياسين على مناقشة المضمون الفكريّ والآليات المنهجيّة الّتي استعملها تيزيني في تبرير استنتاجاته المتناقضة كليا مع حقيقة الوقائع التاريخيّة. وهذا بالفعل ما أكّدته قراءتنا لكتاب طيب تيزيني، الشّيء الّذي يطرح عشرات الاسئلة حول العلميّة والبعد المعرفي للبحث العلمي الّذي أكّد عليه في مقدمة كتابه، وهو يسجّل ملاحظاته النقديّة حول السّائد الفكري ذي الطّابع التّحيزي الإيديولوجي الغالب على النّتاج الفكري المتعلّق بقراءة التراث العربيّ الاسلاميّ. وفي جانب آخر حسب ملاحظات بوعلي نتساءل مثله كيف أمكن للفكر الماديّ النظريّ والسياسيّ المستند للمنهج الماركسي أن يخلط بشكل عشوائي في استعمال المفاهيم الماركسيّة كما لو أنّها مصطلحات مدرسيّة تقول الشّيء ونقيضه، خاصّة حين يجعل الصّراع الاجتماعي بين اقطاعيتين في دولة واحدة، وأيضا ينتصر تيزيني كفكر كفاحي مادي، كما يصفه هو نفسه في صفحات كثيرة من كتابه، وهو ما نتفق معه في ذلك الوصف، لصالح الظّالم ضدّ المظلوم بدوافع عروبيّة مشوّها حقيقة الصّراع الاجتماعيّ بين الطبقات المظلومة والسّلطة المركزيّة بمختلف انتماءاتها الإثنيّة والعرقيّة واللّغويّة. ونرى أنّ بوعلي قدّم تحليلا اجتماعيا اقتصاديا برؤية سياسيّة تاريخيّة نقديّة لحقيقة الوضع السّائد في المجتمع العربيّ الاسلاميّ الوسيط، كاشفا عن هشاشة ما أراده تيزيني مقدمة نظريّة، أو بديلا جدليا في التّاريخ والتراث معزّزا أفكاره بالحجّة المقنعة” إنّنا نرى أنّ الارستقراطيّة العربيّة والارستقراطيّة غير العربيّة في الدولة الاسلاميّة كانتا طبقة واحدة تخدمان سلطانا واحدا، وتتنافسان على رضى السّلطان وعلى نهب المنتجين. ونجد لدى ابن خلدون مصداقا لرأينا حيث يقول” ألا ترى إلى موالي الأترك في دولة بني العباس وإلى بني برمك من قبلهم  وبني نويخت، كيف أدركوا البيت والشّرف وبنوا المجد والأصالة بالرّسوخ في ولاء الدولة…كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدولة واصطناعهم. وما سوى هذا فوهم توسوس به النّفوس الجامحة”.11

والغريب في التّحليل الماديّ للصّراع الطبقيّ والقوميّ الشعوبيّ أن يستثني تيزيني الحركات الثوريّة مثل القرامطة، مختزلا  الصّراع بين ما يسمّيه سلفيّة إسلاميّة عربيّة وسلفيّة مزدكيّة فارسيّة. أو القول بأنّ الصراع كان بين الاقطاع غير العربيّ والاقطاع العربيّ” إنّ هذا القول يفتقد إلى العلميّة في عدّة نقاط أوّلا التّحيز التّام إلى جانب العرب، إذ جعل المؤلّف صراعهم ضدّ الشعوبيّة مشروعا في حين لم يعط هذه المشروعيّة لصراع الشّعوبيين، بالرّغم من أنّ نقطة الانطلاق في هذا الصّراع هي تفضيل العرب بغير حقّ على غيرهم من المسلمين. ثانيا إعطاء الأولويّة للصّراع القوميّ على الصّراع الطبقيّ الأمر الّذي يتناقض مع عامل التّطور الأساسيّ الّذي ذكره المؤلّف وهو الصّراع الطبقي الّذي انتهى بانتصار الإقطاع كما يتناقض مع المنهج الماركسيّ الّذي تبنّاه المؤلّف، ثالثا التّفكير التآمري الّذي يفسّر تحرّكات الطّبقات وأفكارها وتحالفاتها بمفاهيم التآمر والخديعة”.12

هذه مجرّد أمثلة بسيطة لما ناقشه بوعلي ياسين في كتاب تيزيني من التراث إلى الثّورة. وما يهمنا نحن بشكل خاصّ هو مدى إلتزام تيزيني بالمقدمة النظريّة المنهجيّة المستندة إلى المنهج الماركسيّ، ثمّ إلى أيّ حدّ خدم تحليله النقدي في تشخيص الواقع الاجتماعيّ التاريخيّ بكلّ مستوياته البنيويّة أهداف دراسته في طرح مشروع رؤيّة جديدة؟

إنطلاقا من قراءتنا للكتاب وحسب ما أوردناه من دراسة بوعلي ياسين نلاحظ غياب التّماسك والاتّساق الفلسفي النّظري مع الحضور الغالب للتسيّب المنهجيّ في استعمال المفاهيم رغم محاولته تدقيقها أثناء محاولة إنتاجه لمعرفة علميّة حول التاريخ والتراث العربيّ الاسلاميّ، مدعيا قدرتها تلك المعرفة على إنتاج البديل الايجابيّ لكلّ النّزعات والاتجاهات الّتي إنتقدها وكان محقّا في ذلك النّقد لو إلتزم بمضمونه المنهجيّ والمعرفيّ. وهنا كانت محنة السّؤال النقديّ حاضرة بقوّة لأنّه كان ضحيّة التّحيز الإيديولوجّي والابتسار والاختزال النظريّ المعرفيّ، ضاربا عرض الحائض بكلّ الوقائع التاريخيّة الاجتماعيّة في حقيقتها الماديّة وفقا لجدليات التركيب الاجتماعي الاقتصادي، ودون تمحيص نقديّ للمصادر المرتبطة بهذا التاريخ وتراثه الفكريّ المتعلّق بنشوء وسقوط الدّول، أو على مستوى التاريخ المنسيّ المهمّش للحركات الثوريّة الاجتماعيّة الّتي خاضت نضالات ضدّ السّلطة المركزيّة، مخالفا بذلك دعوته الماديّة التاريخيّة الّتي يعتمدها في مشروع رؤيته الجديدة.

وإذا كان بوعلي ياسين قد ناقش تيزيني في الكثير من المنطلقات النظريّة والمنهجيّة تبعا للمنهج الماركسيّ في الدراسة والتّشخيص قصد تملك التّاريخ والتراث العربيّ الاسلاميّ معرفيا، أي إنتاج معرفة ” مغامرة” نظريّة لرؤيّة جديدة للتراث  لتفادي استغلاله من طرف النزعات الضيّقة للفكر السّائد، كما استغرب استعماله غير العلمي للماديّة التاريخيّة والمفاهيم الاجتماعيّة التاريخيّة كالقوميّة حيث قال ” من الخطأ أن نتحدّث بخصوص العصور الوسطى عن صراع قومي (كما يفعل طيب تيزيني ص63). كذلك من الخطأ القول، إنّ الدولة العثمانيّة كانت تحاول تتريك الشّعب العربي(ص74و78). فذلك فعلته تركيا الفتاة، أي الأتراك القوميون لا العثمانيون.”13

فما قول بوعلي ياسين في الاسقاط النظريّ لمفاهيم الماديّة التاريخيّة على الواقع العربيّ الاسلاميّ في تلك القترة من تاريخ العصور الوسطى. كالحديث عن الطبقة الاجتماعيّة بالمعنى الحديث، الصّراع الطبقي، البورجوازيّة، الرأسماليّة المبكرة، التقدميّة، اللبيراليّة، الاشتراكيّة الطوباويّة…،14  حيث لم يكلف لا الكاتب تيزيني ولا النّاقد بوعلي ياسين نفسيهما عناء ومشقة على الأقل ما كان يسمّيه مهدي عامل، دون أن يستطيع هونفسه تحقيقه بالشّكل العلمي المطلوب، إلى حدّ مّا، تمييز النظريّة الجاهزة أو إعادة إنتاج المفاهيم وفق الشروط التاريخيّة الاجتماعيّة للمجتمع قيد الدراسة. فانعكس ذلك الإسقاط من طرفهما معا سلبيا على  محدوديّة  التّشخيص الاجتماعي الاقتصادي الملتبس، ممّا أدى إلى قراءة إيديولوجيّة إنتقائيّة للتاريخ والتراث العربي الاسلامي بمصطلحات الماديّة التاريخيّة والمنهج الماركسي. حيث تمّ صبّ الواقع الحيّ في قوالب جاهزة وناجزة، هكذا يظهر لديهما معا غلبة الهاجس الإيديولوجي على المضمون المعرفي العلمي.15 فهما ينطلقان من مواقع الحقيقة أو الحقائق الماركسيّة المنزلة، ذات الرؤيّة الأحاديّة القطعيّة وفق المنطق الثّنائي (إمّا،أو)، مع أنّ تصنيفا للفلاسفة والمفكّرين وللتيّارات الفكريّة الدينيّة فيه الكثير من التّعسف: بين مادي أو مثالي، تقدمي أو رجعي، هرطقي عقلاني … 16 إنّها رؤيّة، لديهما معا، تفتقر إلى معاودة الانتاج بما يشكّل قيمة مضافة للفكر النقديّ العربيّ الاسلاميّ، وبما يستجيب في بحثه ودراسته في التاريخ والتراث العربيّ الاسلاميّ لمتطلبات السّؤال النقديّ في مقاربة الواقع الرّاهن في تحدياته وإشكالياته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة الثقافيّة، والسياسيّة بامتياز كبير في صراعات بنى التركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ الداخليّ لمجتمعاتنا الحديثة والمعاصرة.

والتّساؤل النقدي العميق هو كيف استطاع تيزيني تشخيص الواقع العربي الاسلامي في العصر الوسيط دون الاستناد إلى دراسات ومصادر وضعيّة ميدانيّة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة؟ هكذا كان تيزيني يتلاعب بمفاهيم ماركسيّة في وصف العلاقات الانتاجيّة والعلاقات الاجتماعيّة، وفي تسمية الطبقات الاجتماعيّة، والصّراعات الدّائرة، دون أن يكلّف نفسه عناء الإحالات العلميّة الّتي تخوّله تلك السّهولة في توزيع المفاهيم يمينا ويسارا، وهو يعرف أنّ المفهوم العلمي له مضامين فلسفيّة معرفيّة نظريّة وتاريخيّة سوسيولوجيّة حتّى يرقى إلى مستوى الأداة البحثيّة. وهذا ما تجنبه إلى حدّ مّا بوعلي ياسين وهو يعتمد على ابن خلدون في نقده للطيب تيزيني، فكان مقنعا في تحليله النّقدي إلى حدّ مّا.

ورغم كلّ ما قلناه فإنّنا ننظر بتقدير واحترام إلى المجهود الفكري الّذي بذله طيب تيزيني ، وهو يعرف ما ينتظر مغامرته النظريّة من مخاطر ومزالق، وهو لا يدّعي الأسبقيّة ولا الكمال في البحث والدراسة.17 كما نثمّن التّحليل النقدي العميق والجريء الّذي أنجزه بوعلي ياسين لـ ” مشروع رؤية جديدة للفكر العربيّ من التراث إلى الثورة” بعد صدوره بسنتين. فقد كشف عن هشاشته النظريّة العلميّة ومغالطاته التاريخيّة المعرفيّة بشأن تاريخيّة التركيب الاجتماعيّ الاقتصادي للمجتمع العربيّ الاسلاميّ في العصر الوسيط،  الشّيء الّذي جعلنا نتساءل عن إصرار طيب تيزيني على عدم إعادة مراجعة مشروعه الفكري نقديا، وهو يعيد إصداره في طبعات غير مزيّدة ولا منقحة، حتّى يكون فعلا بديلا حقيقيا للنزعات الضيّقة الانتقائيّة والإيديولوجيّة الّتي تطاولت مع الزّمن كقدر غيبي محتوم. وهذا ما يجعل نقده ضعيفا وغير مقنع فلسفيا ومعرفيا، للكثير من التيّارات والاتّجاهات الفكريّة الغربيّة بدعوى التّآمر والاستعمار الثّقافي، كالوجوديّة والوضعيّة وغيرهما مثل:  نتشه وشوبنهاور إلى كيكرغارد وهيدجر… 18؟

كما أنّ هناك الكثير من التّخبط بين الصفحة وأختها عندما ناقش فهمه للاشتراكيّة العلميّة وعلاقتها بالجماهير بين الصفحة320و الصفحة324./19

إنّ أكبر خسارة في  مشروع هذه النظريّة الّتي حاول وضعها طيب تيزيني هو التضحية بالسّؤال النقديّ والانتصار لجدل التراث بدلا من جدل الواقع.  حيث يقول تيزيني عكس ماركس” إنّ نقد الأرض يقتضي نقد السّماء، بل ويسبقه أحيانا”.20    وهو يرى أنّ التراث العربي يمتلك حيّزا خطيرا في الحياة الثقافيّة العربيّة المعاصرة، وأنّ هناك تناقضا بين الجماهير الكادحة من جهة والقوى السياسيّة التقدميّة والمفكّرين التقدميين والاشتراكيّة العلميّة من الجهة الأخرى،21    والغريب في الأمر أنّه أعاد إنتاج التّصورات والاعتقادات نفسها، وهو يتكلّم بعد عقود عن الكتلة التاريخيّة في مشروعه حول النّهضة والتّنوير العربيّ بصورة ملتبسة عن مفهوم الأمّة الموسّع أحيانا والمختزل أحيانا أخرى فيما يسمّيه القوى الحيّة، أي القوى النخبويّة.

****

الهوامش

1  مهدي عامل: مقدمات نظريّة، ط3، س1980، ص 28.

2عبد السلام بنعبد العالي: ثقافة الأذن وثقافة العين، دار توبقال، ط2، س2008، ص41.

3 بوعلي ياسين: العرب في مرآة التاريخ، دار المدى للثقافة والنشر، 1995.

4 بوعلي  ياسين: المرجع نفسه ص199و200.

5 بوعلي ياسين: ص201.

6بوعلي ياسين: ص 203.

7 بوعلي ياسين: المرجع نفسه ص204.

8  بوعلي ياسين: ص 207.

9 بوعلي ياسين:  ص 209.

10 بوعلي ياسين: المرجع نفسه، ص 2012.

11 بوعلي ياسين: ص 215.

12 بوعلي ياسين: ص 216.

13 بوعلي ياسين: المرجع نفسه ص 223.

14 طيب تيزيني: من التراث إلى الثورة، دار ابن خلدون، ط2، س1978، ص355.

15 وهذا يتناقض مع المقدمات النظريّة والمنهجيّة الّتي كررّها طيب تيزيني في كلّ كتبه.

16 بوعلي ياسين: ص 241.

17طيب تيزيني: ص 14.

18 طيب تيزيني: من التراث إلى الثورة ص 186.

19 طيب تيزيني: من الصفحة 320 إلى الصفحة 324.

20و21 طيب تيزيني: ص 265.

المصدر: https://www.alawan.org/2019/08/07/محنة-السّؤال-النّقدي-في-فكر-طيب-تيزيني/

2 – كمال عبد اللّطيف: محاولة إبستمولوجيّة

 في نقد قراءة حسين مروة والطيب تيزيني للتراث الفلسفيّ الاسلاميّ

خصّص كمال عبد اللطيف هذا البحث لدراسة البعد الابستمولوجي لدى المفكّرين قصد الوقوف على الدّور الّذي قاما به في التّأصيل الفلسفي والنظري للماديّة التاريخيّة، وإلى أي حدّ استطاعا تبيئة وإعادة إنتاج بشكل إبداعي الأدوات المنهجيّة والجهاز المفاهيمي الّذي يميّز المقاربة الماركسيّة في النقد والدراسة والبحث العلمي بصفة عامّة؟

كمال عبد اللطيف واع بالمجهود الّذي بذله المفكّران سواء على مستوى تصفيّة الحساب مع الكتابات السّابقة الّتي تناولت الفلسفة الاسلاميّة إبتداء من الكتابات الوسيطيّة وصولا إلى كتب المحدثين عربا ومستشرقين، أو على مستوى الدفاع عن منهجيّة جديدة في قراءة التراث الفلسفي الإسلامي، بخلفيات سياسيّة في التّعامل مع التراث لاتخاذ موقف من الماضي حسب ما تتطلبه مشكلات وقضايا وتحديات الحاضر. وكمال عبد اللّطيف لم يعر اهتمامه هذا الجانب رغم أهميّته لأنّ ذلك يوجد خارج الأهداف الابستمولوجيّة الّتي حدّدها لبحثه هذا. ” نمارس قراءة تتوخى تصفية حسابها مع السبات اليقيني والقطعي الّذي طغى على تعامل عدد كبير من الماركسيين مع المادة التاريخيّة في روحها ومفاصلها المنهجيّة.”22 وفي هذا السّياق انطلق الناقد من المقدمة المنهجيّة الّتي وضعها طيب تيزيني لكتابه” مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط”، وهي تحمل عنوان “على طريق الوضوح المنهجي” ليبيّن الاستعمال غير الدقيق للمفاهيم منهجيا ” ودون أيّة إحالة تشير إلى الاطار المرجعي الّذي يفكر الباحث انطلاقا منه أو بواسطته، ومن خلاله.” كما يلاحظ مدى تبخيس تيزيني للدراسات التراثيّة الّتي سبقت عمله لتبرير منهجيته الجديدة  الّتي تتّخذ الماديّة التاريخيّة  دليلا منهجيا وآلة علميّة كما هو واضح في الجزء الأول التّفصيلي من كتابه “من التراث إلى الثورة”. وأنّ هذه المقدمة المنهجيّة الّتي وضعها طيب تيزيني لكتابه تعكس فقرا إبستيمولوجيا، لأنّها لم تستثمر معطيات البحث والدراسة، لكونها وضعت، قبل الانتهاء من عمليّة إنجاز العمل، كمسلمات قطعيّة ومقدمات نظريّة محسومة. ” وإذا كان من المعروف أنّ المقدمات المنهجيّة للبحث العلمي في مجالات المعرفة المتنوّعة تتيح للدارسين إمكانيّة مساءلة المفاهيم والقواعد والمسلمات والمصطلحات وأنماط التّحليل من أجل بنائها وإعادة بنائها في ضوء إجراءات البحث وعملياته الداخليّة، فنحن في هذه المقدمات أمام مواقف نقد سابقة، وأمام أوليات للبحث، لكنّنا أبعد ما نكون على طريق الوضوح المنهجي، أو التّأصيل المنهجي، أو التّفكير في المفاهيم، أوفي سبيل الاستعانة بها من أجل إنتاج دراسات تتيح لنا نقدا جذريا للتراث”.23 وفي جانب آخر اعتمد طيب تيزيني في تأويله الحضور الفلسفي في الإسلام نصوصا ماركسيّة حاسمة وقطعيّة، بعيدا عن التّفاعل الخلاّق مع مضامينها، بما يجعلها قادرة على الإسهام في تغيير البنيات الفكريّة والتاريخيّة، الشيء الّذي سيؤدي الى إخصاب النّص الماركسي ومفاهيمه، و”يفعل في البنيّة المدروسة بالصورة الّتي تولد فعلا رؤية جديدة للتّاريخ وللانتاج النظري عبر التاريخ”.24 وإلّا فما مبرر هذه الاستعادة للنّصوص بطريقة أقرب إلى التّهريب الفكري؟ لكن للأسف هذه الرتابة في قراءة المجتمع العربي، من العصر الجاهلي مرورا بظهور الإسلام وما تشكل من تيّارات ومذاهب دينيّة فكريّة وأعلام فكر، تميّزت كقراءة تخلّت عن التاريخ معتقدة أنّ النّصوص الماركسيّة ومفاهيمها وحدها كافية للقول “بالتّاريخ الجدلي للفلسفة الإسلاميّة باعتبارها حلقة ضمن تطوّر الفلسفة الماديّة عبر التاريخ…نريد أن نوضّح أنّ قناعة المؤلفين بالماديّة التاريخيّة لم تولد في أبحاثهما إطارا جديدا مبتكرا في التّحليل، بقدر ما كانت مبدئيّة في مقدمة الأبحاث وظلت كذلك في نهايتها، يعود السبب في ذلك في اعتقادنا الى تغييب أسئلة التأصيل النظري، هذه الأسئلة الّتي تبيح وتتيح إمكانيّة اختبار القناعة المنهجيّة في التّحليل، ويكون ذلك بالتّخلص من نصوص الاستشهاد واستحضار روحها المنهجيّة، ونقصد بذلك استبعاد النص الماركسي من مستوى الخطاب الجاهز واستحضار روح وآليّة التفكير الماركسي في مستوى الممارسة عن طريق إعادة انتاج خطابه بناء على معطيات تاريخيّة عينيّة.”25

وفي محور جد هام يناقش كمال عبد اللطيف التاريخ بين الحضور والغياب منطلقا من مثال رائع للجرأة المنهجيّة الماركسيّة في قراءة التاريخ القديم، وهو ما تجلّى من خلال العمل المبدع الّذي أنجزه مؤرخ الفلسفة اليونانيّة جون بيير فرنان في حديثه عن الاطار التاريخي للمجتمع اليوناني القديم رافضا القبول الأعمى بالكثير من نصوص ومفاهيم الماديّة التاريخيّة الّتي لا تناسب الصراع السياسي والإيديولوجي بعيدا عن المغالطات التاريخيّة في إسقاط معطيات التاريخ المعاصر على الماضي القديم، كما فعل طيب تيزيني دون محاولة إعادة إنتاجها بشكل يسهم في إغنائها وتخصيبها، وجعلها قابلة للتّوسيع والتّعديل. فمثلا  عندما ” يقول طيب تيزيني: إنّ المجتمع العربي في حقبة الجاهليّة كان مجتمعا قبليا بطريركيا، ثمّ تطوّر في الحقبة العربيّة الاسلاميّة إلى الإقطاعيّة ليس عبر العبوديّة، وإنّما بشكل مباشر، أي دون أن يمرّ بالعبوديّة، من حيث هي نظام اجتماعي متكامل ومتطوّر وشامل، والعبوديّة وجدت كذلك في المجتمع القبلي، ولكن كظاهرة خاضعة للأطر الاجتماعيّة الاقتصاديّة العامة لهذا المجتمع”.26 نحن لا نعتقد أن الفقرات المذكورة تتيح معرفة محددة. ولعلّ المفاهيم الّتي تتضمنها من قبيل إقطاع، عبوديّة، مجتمع أبوي، عبيد لا تعتمد أي سند تاريخي عن طريق الإحالة، كما أنّها لم تضبط ولم تدقق في سياق التّحليل التاريخي المنجز في الأبحاث المدروسة. ومعناه أنّنا أمام غياب أي احتراس منهجي في إطلاق المفاهيم… في غياب أبحاث تاريخيّة حول البنيات الأساسيّة: الأرض والمدينة والمعرفة والسّلطة والخيال.” 27 ولهذا يرى كمال عبد اللّطيف في بحثه النقدي هذا ضرورة الاجتهاد المعرفي والمنهجي بما يوافق التّحولات الفكريّة والماديّة لما بعد القرن 19 ، مع الإنفتاح على الحقول المعرفيّة الأخرى والمنهجيات الحديثة في اللّسانيات والأنثروبولوجيا والتّحليل النفسي…

” لا نريد باسم العلم أن تتحوّل قواعد البحث ومفاهيمه إلى نسخ جاهزة، صالحة لكلّ زمان ومكان، ودون أي احتراس منهجي يجعلنا ننسى مطلب اليقظة اللازمة لكلّ ممارسة معرفيّة، ونتيه في ممارسة النقل بدل ممارسة التّفكير28.

ورغم هذا النّقد العلمي الّذي قام به كمال عبد اللطيف، فإنّ جرأة المجهود الفكري الّذي مارسه تيزيني بطريقة أقرب إلى محاولة التّأسيس لمفهوم النظريّة في الممارسة البحثيّة، واضحة وواعيّة بسيرورة تكون البحث العلمي الّذي يؤسس وجوده على أنقاض تراكم محاولات تطوّر البحث من حسن إلى أحسن بعيدا عن التّحقق النهائي والكامل. ولولا هذه الأرضيّة البحثيّة الّتي أنجزها تيزيني بما لها وما عليها لما تمكن كمال من كتابة ورقته النقديّة، وهي جزء من السيرورة التاريخيّة لتكون الفكر والبنيات الفكريّة، حيث الملكيّة الفكريّة هنا تتجاوز المؤلف والنّاقد.

– عبد الإله بلقزيز : نقد التراث

” نقد التراث” هو الجزء الثّالث من مشروع ” العرب والحداثة” للدكتور عبد الإله بلقزيز. وقد خصّص في القسم الثالث بعنوان: نقد التراث- الطلب الإيديولوجي، فصلا سادسا للمقاربة الماديّة التاريخيّة للمفكّرين: (طيب تيزيني، وحسين مروة)29

أشار عبد الإله بلقزيز في دراسته هذه إلى أنّ المنهج المادي التاريخي انتشر في الوطن العربي منذ عشرينيات القرن الماضي، لكنّه لم يتجاوز أسوار التقارير الحزبيّة والبيانات السياسيّة. كما أنّ مجال الاسلاميات والدراسات التراثيّة تأخّر في استقبال مفاهيم الماديّة التاريخيّة. وبعد هزيمة1967 إتّجه نفر من مثقفي اليسار وباحثيه الى مسألة التراث” فلقد كشفت النّكسة عن فشل مشروع الحداثة في تخطي مواريث الماضي في الاجتماع والثقافة…وأصبح الصراع على التراث، وعلى الاسلام، واحدا من الجبهات المتقدمة في المعركة الثقافيّة المحتدمة بين الأصاليين والحداثيين”.30 وهذا التّوجه نحو التراث رغم ما إكتنفه من جهد ايديولوجي ومعرفي،  في استكمال ما بدأته الدراسات الليبراليّة الثقافيّة العربيّة، كان في عمقه يبحث بشكل أساسي عن “إثبات شرعيّة الافكار الثوريّة والماديّة الحديثة، الّتي يتبنونها، بردها إلى أصولها في الثقافة العربيّة الكلاسيكيّة أو تراث الحركات الاسلاميّة الثوريّة…محاولة في الرّد على اتهامات دعاة الأصالة لمثقفي الحداثة بالتغربن وبالانفصال عن الجذور، والغربة عن تاريخ الإسلام.” وهذا هو السّر في تحدث طيب تيزيني عن إرهاصات ماديّة تؤكّد وفاء مقاربته الماركسيّة للتاريخ العربي الاسلامي. ويرى عبد الإله بلقزيز أنّ اشتغال الحداثيين على موضوع التراث له فضل كبير في إنتشار مفاهيم  ماديّة تنظر إلى البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة  والثقافيّة بتعليل سياسي. ورغم انتقادات الاسقاط غير المشروع الّتي انهالت عليهم من قبل المحافظين والليبراليين، فقد واصلوا أعمالهم بنوع من التخفيف في استعمال مفاهيم ماركسيّة، “كما سيفعل طيب تيزيني في ما بعد، إلّا أنّ هذه المقاربة فتحت أمام البحث العلمي في التراث آفاقا جديدة بإدخالها التاريخ في جملة العوامل المفسّرة لتاريخ الفكر.” 31 وإذا بدت اليوم غير مقنعة منهجيا وعلميا، فقد كانت ولادتها لحظة معرفيّة ضروريّة في زمانها.

انطلاقا من ذلك التّلازم بين التراث والثورة الّذي عنون به الحداثيون كتبهم نلمس اعترافهم باستمراريّة التراث، الشّيء الّذي فجر الصراع عليه، خاصّة وأنّ الماركسيين ينظرون إليه كساحة ” لصراع طبقي يجري على صعيد الوعي بين إيديولوجتين”. 32  وهذا ما يفسّر طغيان الهاجس الايديولوجي الّذي أسس للفكري كمهمّة نضاليّة ضمن مشروع التغيير الاجتماعي لدى هؤلاء الباحثين، لذلك كان الصراع على التراث صراعا على الحاضر بأسلحة مستمدّة من الماضي. وفي نظر عبد الإله ان تيزيني كغيره من الباحثين اليساريين العرب استعمل مفهوم الايديولوجيّة  بمعناه اللينيني الّذي يعتبر الايديولوجيّة الثوريّة وحدها الحقيقة الكاملة والمطلقة الّتي تتمتّع بالصحة والتاريخيّة، بعيدا عن المعنى الّذي أخذه هذا المفهوم في كتابات لوي ألتوسير في نقده الحاد للإيديولوجيا، ووضعه العلم في مقابلها بوصفه قطيعة معرفيّة حاسمة. الشّيء الّذي يعكس صراعا على التراث من مواقع ايديولوجيّة خارج الفهم المعرفي، ودون نظرة قدحيّة سلبيّة إلى الايديولوجيّة ” إذ ليس التناقض في دراسة التراث تناقضا بين رؤية علميّة ورؤية إيديولوجيّة، في عرف باحثينا الماركسيين العرب، وإنّما هو تناقض بين رؤيتين إيديولوجيتين: رؤية رجعيّة ورؤية ثوريّة”. 33وهكذا تمّ النّظر إلى التراث الماضي إنطلاقا ممّا يعتمل في الواقع الرّاهن من صراعات اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة، وهذا هو معنى الاستمراريّة  المقصود في عبارة طيب تيزيني الّتي يحيل إليها عبد الإله بلقزيز34.  وليوضّح أسباب اعتقاد تيزيني بالدور الحيويّ الوظيفيّ للتراث في الواقع الرّاهن. بين بلقزيز مدى تشديد تيزيني على الرّبط بين التراث والثورة من خلال الثورة الثقافيّة الّتي تتمثّل بلغة تيزيني تراثنا الفكريّ الايجابيّ. ” غير أنّ نظرته إلى الثورة الثقافيّة ظلّت مبهمة، وغير مقنعة، وقائمة على عموميات، على نحو مّا يلاحظ قارئ كتابه: من التراث إلى الثورة، فيما ظلّ المعنى الوحيد لتمثل التراث، من وجهة نظر تلك الثورة الثقافيّة هو استدعاء ما يعد عنده صالحا وموائما للعصر ولفكرة الثورة، الأمر الّذي يدخل النظر في التراث في متاهات النزعة الانتقائيّة، وهي نزعة إيديولوجيّة بامتياز .”35 كما يلاحظ بلقزيز عدم إلتزام تيزيني بالمقدمات النظريّة الّتي يطرحها في رؤيته الجديدة كأسبقيّة الواقع للفكر وعدم استقلال هذا الأخير عن شروط وظروف هذا الواقع، بمعنى إرتباط الوعي الاجتماعي بالواقع الاجتماعي، حيث ينتهي إلى إسقاط تاريخيّة التراث والسقوط في نظرة مثاليّة وميتافيزيقيّة إليه36. بالإضافة الى المبالغة في ربط التراث الفكري بالعامل الاقتصادي لعلاقات وقوى الإنتاج في إصرار على التّحليل الطبقي للفكر وعلاقته بالطبقات الاجتماعيّة. ” لم يزد عن عموميات تتاخم الغموض، وتزيد الملتبس إلتباسا، وأنّ الفكر والثقافة-موضوعهما المفترض- يغيب من البحث أو يكاد. لقد كان ذلك واضحا أشد الوضوح في كتاب مشروع رؤيّة جديدة لطيب تيزيني. وقد يشفع أنّه كان أوّل تجريب عربي لمفاهيم الماديّة التاريخيّة في مجال تاريخ الفكر.37″ وهي عموميات لم تخرج عن نطاق تحليل مادي ميكانيكي لظواهر الفكر بعيدا عن الوفاء للمقدمات النظريّة الّتي صاغها فيما يتعلق بالتّفاعل الجدلي لأثر الفكر في الواقع. كما بقي سجين تفسيرات نمطيّة لمسألة الماديّة والمثاليّة وفق نظرة معياريّة تفاضليّة تنتصر لكلّ ما هو مادي في تاريخ الفكر باعتباره علمي متقدم، عكس المثالي الرّجعي المتخلف. هكذا تمّ تكريس البتر والتّهميش و التّجزيء والانتقائيّة في حقّ شموليّة تاريخ التراث الفكري.

وفي آخر هذا الفصل خصّص عبد الإله بلقزيز عنصرا طرح فيه مجموعة من الملاحظات النقديّة استهلها بالاعتراف بالدور الكبير الّذي أنجزه كل من طيب تيزيني وحسين مروة قائلا” من باب الأمانة العلميّة أن يعترف المرء بالدور الكبير الّذي نهض به طيب تيزيني وحسين مروة، قبل أربعين عاما، في ميدان دراسات التراث، فلقد أدخلا إشكاليات جديدة إلى هذا الميدان وزوداه بعدة منهجيّة غير مستخدمة في مجال تاريخ الفكر، وضخا حياة جديدة في دراسته الّتي كادت تتكلس ينابيعها، وصالحا الحداثيين واليساريين منهم خاصّة، مع تراثهم وشجعاهم على الاحتفال به والاعتزاز بالمكتسبات التنويريّة فيه، وأنتجا قاعدة جديدة من قراء الفكر العربي الكلاسيكي، وتصديا بشجاعة أدبيّة نادرة للقراءات الأصاليّة والسلفيّة للتراث…فدافعا عن العقلانيّة والتّنوير فيه ونفضا الغبار عن المفكّرين الكبار الّذين نبذوا وهجرت نصوصهم، فأعاداهم إلى صدارة الانتباه والاعتناء العلمي…38″ تعمدنا إثبات هذا النّص رغم طوله لنبيّن أنّ النّقد البناء الّذي طال أعمال المفكر طيب تيزيني هو من قبيل المحبة الحقيقيّة لفكر هذا الرّجل وتطويرا لما طرحه من أفكار في مشروع رؤيته الجديدة. وقد لخص عبد الإله بلقزيز ملاحظاته النقديّة في أربع نقاط:

  • التّطبيق الحرفي للقوالب الجاهزة للماديّة التاريخيّة على التراث دون أي حذر معرفي ولا منهجي على مستوى أدوات التّحليل، وفي  التّعسف المعياري لإسقاط مفهومي الماديّة والمثاليّة على تاريخ الفكر العربي المحكوم بأنطولوجيا إسلاميّة.
  • المبالغة إلى حدّ الاطناب في أعمال تيزيني من حيث الاحتفال بشروط الفكر التاريخيّة، خاصّة على مستوى الجوانب الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة بما يتجاوز ما هو مطلوب من الباحث على مستوى التراث الفكري الّذي حضر بشكل باهت وعمومي أمام ثقل الاهتمام بالشروط التاريخيّة الموضوعيّة.
  • إستعماله للمفاهيم الماركسيّة على موضوع لا يلائمها، لأنّه لا يقع ضمن نطاق تاريخها المعرفي، مثل: الطّبقة، والصراع الطبقي، والاقطاع، والبواكير الرأسماليّة، والبورجوازيّة التجاريّة، والإيديولوجيا…”.
  • شبه غياب للحياد العلمي المطلوب في البحث النقدي العلمي الرّصين. فالحضور الطاغي للتّحزب الفكري ألغى روح السؤال النقدي فقدّمه قربانا لحماسة التّموقع الإيديولوجي الضيّق. ومن المستغرب أنّ طيب تيزيني الّذي ينتقد بشدة ظاهرة التّحزب التراثي، يسقط فيها”39

ونحن من جهتنا نستغرب اقتصار نقد بلقزيز على بعض الثغرات في الرؤية والمنهج دون التّساؤل عن مدى علميّة الاشكاليّة التراثيّة الّتي باتت تتكرر كما لو كانت تمثّل حقّا جوابا موضوعيا للخروج من واقع الهزائم والانهيارات المتتابعة على صعيد المجتمع والدولة والثّقافة…

4 – نبيل صالح : طيب تيزيني من التراث إلى النهضة

حاول نبيل صالح في دراسته “الوصفيّة النقديّة” كما سماها، أن يقدّم صورة واضحة وشبه متكاملة إلى حدّ مّا على مستوى الإحاطة بكل ما يتعلّق بفكر طيب تيزيني ” سنحاول إنجاز دراسة تكشف عن مشروعه ومجالات بحثه وأرائه في القضايا الّتي بحثها، مع التّحليل والنقد واكتشاف التّحولات والمراجعات في فكره ومواقفه، وتأثيره في السّاحة الثقافيّة العربيّة.40″ وقد استهلّ نبيل صالح دراسته بمحطات تمثّل السيرة الذاتيّة للتيزيني في معترك التّحدي والحياة. حيث قام بجرّد المسار الفكري للتيزيني من خلال كتبه وأبحاثه والمقالات الّتي أنتجها عبر سيرورة فكريّة تاريخيّة من محطة لأخرى. كما سلّط الناقد أضواء على البيئة العامّة لنشأة تيزيني الفكريّة العلميّة، وما تميّزت به من حواريّة وتعدديّة في الانتماء المجتمعي والعائلي كأسرة مثقّفة منفتحة، وما احتوته من تيارات وسجالات وإبداعات انخرط فيها، ” متأثّرا بالجوّ الدينيّ التقليديّ لبيئته  الاجتماعيّة الداخليّة، ثمّ انتقل باحثا ومنقبا في الكتب والمعارف إلى أن أصبح أحد أهمّ دعاة ومفكري الماديّة الماركسيّة واليساريّة الثوريّة، ثمّ ظهرت عليه لاحقا تغيرات نوعيّة تكامليّة في مسيرته الفكريّة المستقبليّة، ظهرت من خلال ما يشبه التّصالح مع التياّر الديني بطبيعته وخطابه المعتدل العقلاني المقاوم للإمبرياليّة والصهيونيّة”.41 وفي القسم الثّالث من كتابه وقف عند مشروع طيب تيزيني الفكري التجديدي، مبيّنا انتقاده، من زاوية نظره التقدميّة للتراث، للنزعات التقليديّة في قراءة التراث، كما أنّ هذه الرؤيّة لدى تيزيني خضعت خلال مساره الفكري للمراجعة دون أن يتمسّك بالحقائق الّتي صاغها في كتبه الأولى، خاصّة كتابه ” من التراث  إلى الثورة”.  فقد أعاد صياغة مشروعه الفكري برؤية نقديّة جديدة، خاصّة وهو يشتغل على مشروع النّهضة والتّنوير العربي، حيث ابتعد عن مفهوم الطبقة الحاملة لواء التّغيير والثورة، فالحامل الاجتماعي كما يراه اليوم لأي مشروع مستقبلي يتمثل في مروحة تنطلق من أقصى اليمين القومي الديمقراطي إلى أقصى اليسار.42″ وهذا التّحول في فكر تيزيني الّذي دفع به إلى طرح مشروع النهضة بدلا عن مشروع الثورة، هو نتيجة وعيه، أوّلا بما فرضته شروط موضوعيّة وذاتيّة محليّة وعالميّة انعكست بشكل سلبي على الواقع والفكر العربي الجامد والمتكلّس، الشّيء الّذي أدى من وراء هذا كلّه إلى نوع من الإحباط واليأس: دولة ومجتمعا وثقافة. وثانيا وصل به الأمر إلى حدّ القناعة بغياب أي مشروع قومي عربي” وإذا كان هناك مشروع من هذا النوع ظاهريا، فهو لا يعدو أن يكون تكريسا لوجه الدولة الأمنيّة الّتي غابت معها السياسة والديمقراطيّة والحقوق والقيم والحراك السياسيّ الاجتماعيّ. ومن ضمن الأفكار الهامّة الّتي تضمنها هذا التحوّل والاصرار النقدي في مواجهة الأزمات المطروحة عوض الهروب إلى الأمام بطريقة عكسيّة سلفيّة تؤمن بالإنحدار الزّمني نحو متخيّل الماضي المجيد، أو بطريقة التنكر للتراث والتاريخ والذّاكرة والهويّة المنفتحة المتعدّدة، والمختلفة، هو إيمانه بضرورة القراءة العقلانيّة والحوار المنطقي مع الفكر الديني الّذي له وزنه الخاص في أي تغيير نهضوي، لأنّ جسور التّواصل بين الماضي والحاضر قائمة، وهذا هو المسوغ النظري لقراءة التراث الفكري والاهتمام به، خاصّة في نتاجه الديني. وفي هذا السّياق تُفهم كتبه الأولى وهي تحاول إثارة وممارسة التفكير النقدي في التراث الفكري، سواء في نقد التوجهات اللاّتاريخيّة واللاّتراثيّة، أو في نقد موقف اليسار من التراث في المرحلة الإرجائيّة. ونشير أيضا إلى أنّ الدارس نبيل صالح تطرق  إلى المنظومة المفاهيميّة لمشروع النهضة في فكر تيزيني، حيث مراحل النّهضة العربيّة عرفت رواج مفاهيم الثورة والنّهضة وحركة التّحرر الوطني العربيّ، والإصلاح، كشكل تاريخي ساد فيه الغياب النظري المنهجي لدى الجميع. لذلك تراه- تيزيني- يؤكّد على أنّ الأمّة هي الحامل الاجتماعي للنّهضة، بمعنى لا داعي للحديث عنده عن اليمين واليسار في ظلّ الحطام المفتوح، وسيادة نظام عولمي إمبريالي صهيوني. والمرحلة تتطلّب نهضة لا تنفصل عن التنوير على صعيد الحريّة والنقد والعقل والتّعدد والاختلاف.

وعلى مستوى إنتاج المفاهيم السوسيوثقافيّة والمعرفيّة.” فالدكتور طيب يرى وجود تلازم ذي بعد قطعي معرفيا وتاريخيا بين النّهضة والتّنوير في المشروع العربي الجديد. فلا التّنوير قابل للحدوث دون نهضة، ولا النّهضة قادرة على استكمال مهماتها دونه.43″ وهو ما يعني لديه التّكامل بين الخطاب المعرفي النظري والمنهجي كفعل بناء والخطاب السياسي، فالأوّل بناء نقدي، بينما الثاني نقدي بنائي. ” فالإقلاع بالمشروع العربي يأتي بضرورة منطقيّة ونظريّة و منهجيّة في ضوء المتّصل منفصلا، والمنفصل متّصلا، وعلى هدي جدليّة الثابت متغيّرا والمتغيّر ثابتا، إضافة إلى أنّه ينجز مهماته عبر الاحتكام إلى آلياته الداخليّة في تناولها لمشكلاته ومنعرجاته ومعضلاته وثغراته وأخطائه تصويبا وضبطا ديمقراطيا، وفحصا نقديا تاريخيا44.”.

أمّا فيما يتعلق بأطروحة المشروع العربي التنويري فقد تناولها نبيل صالح من خلال ما يسمّيه تيزيني المسوغات والمحفّزات، وهي مسوغات تعبّر عن عمق تاريخي، وما يواجه العرب من تحديات النّظام العولمي خاصّة وواقعهم يعيش حالة من الحطام والتّردي السياسي والفساد السرطانيّ تعبّر عنه مقولة طيب تيزيني”  يجب أن يفسد من لم يفسد بعد، ليكون الجميع مدنّسا تحت الطلب”. 45الشّيء الّذي يتطلب شرطين لأي إقلاع نهضوي: إنفتاح منهجي معرفي، واقتدار علمي على الحوار النقدي العقلاني. أمّا بالنسبة للمحفزات فيمكن اختصارها في قدرة المثقف النقدي والقوى السياسيّة الحيّة على التمييز بين ظاهريّة اليأس والهزيمة، وباطنيّة الفاعليّة الحيويّة الحاملة للحركة والآمال. ويعتبر المدخل السياسي مدخلا رئيسيا لمشروع النّهضة، بالتّخلص من الحكم الفردي وقوانين الطوارئ والأحكام العرفيّة اللصيقة بالاستبداد المركب. وهذا الحطام الداخلي والتّهديد الخارجي هو مادفعه لكتابة بيان بعمق سياسي وطني:” سارعوا وافتحوا أنتم قبل أن يفتح الغزاة”.46

وفي القسم الرّابع أشار نبيل صالح مرّة أخرى، إلى مراحل التّطور الفكري لتيزيني بتلخيص شديد مركزا على تحوّلاته الأخيرة حيث تخلّى عن كثير من الإشكاليات والمفاهيم السابقة إستجابة للتّحديات الراهنة وانسجاما مع التّحولات والمتغيرات الدوليّة سياسيا واقتصاديا وإيديولوجيا مع انهيار المعسكر الاشتراكي، وما تبع ذلك من حركات إرتداديّة وتراجعات  ومراجعات. وفي هذا السّياق برزت كتبه النقديّة للوضع الكارثي منبهة إلى ما يتهدّد المجتمعات العربيّة من مخاطر: “من ثلاثيّة الفساد إلى المجتمع المدني” ” بيان في النّهضة والتّنوير العربي”. وقد أراد تيزيني من وراء هذا الجهد محاولة الإجابة عن مجمل الإشكاليات المطروحة سياسيا والّتي حملها الحراك السياسي والثقافي مع انطلاق المنتديات الفكريّة الثقافيّة والسياسيّة. واستراتيجيّة النهضة لديه كانت تتأسّس على عودة الروح إلى المجتمع، أي عودة السياسة الّتي تقبل الجميع دون استثناء بشرط قبول والتزام الجميع بقيم التعدديّة والاختلاف.

رغم الجهد الفكري الّذي تميّزت به دراسة نبيل صالح في العرض الوصفي لفكر طيب تيزيني من خلال كتبه. حيث حاول أن يقدّم صورة متكاملة للإنتاج والإبداع الفكري للتيزيني بطريقة تخلو من المسافات النقديّة الاختلافيّة الّتي تتطلّبها الدراسة العلميّة النقديّة الرّصينة والمتميّزة في منطلقاتها الفكريّة وآلياتها التحليليّة النقديّة. وهذا ما أدى بنبيل صالح إلى السّقوط في التّماهي مع المنتوج الفكري للطيب تيزيني، إلى درجة “متهورة” في إغفال عمليّة التوثيق العلمي، حيث كان ينقل صفحات طويلة من كتب وحوارات ومقالات، دون أن يتحمّل مسؤوليّة أخلاقيات البحث العلمي في الإشارة إلى ذلك على الهامش. ومثل هذا العرض الوصفي يسيء للفكر كما يسيء للنقد، ولا يخدم لا الفكر ولا الواقع العربيين. الشّيء الّذي يجعل القارئ يشعر بنوع من الخيبة الفكريّة والملل والرتابة في مواصلة هذا النّمط من الدراسة التبجيليّة في بناء حبّ الظهور “العلمي” على حساب عطاء الفكر النقدي.

5 – نايف سلوم : نقد المنهج الاعتباطي عند د. الّتيزيني في كتاب ”  بيان في النّهضة والتّنوير العربي”

يعترض نايف سلوم على تسميّة تيزيني منهجه بالمادي التاريخي لكونه لم يقم بتفسير خصوصيّة البنى الطبقيّة الاجتماعيّة العربيّة ما قبل رأسماليّة، ثمّ أثناء تصادمها مع التّوسع الإمبريالي وما نجم عن ذلك من آثار ونتائج طبقيّة واجتماعيّة . ففي غياب مثل هذا التّفسير للخصوصيّة الطبقيّة للمجتمعات العربيّة في تطوّرها التاريخي، وللتّوسع الامبريالي الجديد في إطار العولمة يصعب جدّا وصف منهج تيزيني بالمادي التاريخي الاجتماعي، لأنّه يصعب جدا معرفة الطبقات الّتي لها مصلحة في التّغيير والنّهوض، أو في التّأبيد للحطام التاريخي. لأنّ الطبقات المسيطرة في نظر نايف سلوم” لاتضع المجتمعات العربيّة في حالة عجز عن المقاومة فحسب، بل هي تؤازر الاستعمار الجديد.” 47

في نظر سلوم يفكر تيزيني الوضع العربي بشكل عام وسائب خارج آليات اشتغال الامبرياليّة، ودون التّحليل الطبقي الاجتماعي للواقع السوري والعربي عموما، لذلك تطغى الاعتباطيّة والنّظرة الثقافويّة على تفكيره الّتي لا تتجاوز حدود مشروع ثقافوي فكري تنويري، يتورّط في اللّبس بين المنظومة المفاهيميّة والمداخل الثقافيّة والاقتصاديّة السياسيّة الّتي تقود إليه ويشترطها48  لذلك لا يرى نايف سلوم في منهج تحليل وتفسير تيزيني لمشروع النّهوض والتّنوير العربي غير الاعتباطيّة البعيدة كليا عن المقاربة الماديّة التاريخيّة. ويعترض أيضا نايف سلوم على قول تيزيني بانفتاح الحدث الاجتماعي الّذي لا تبينه في نظر سلوم غير الدراسة الاجتماعيّة للطبقات، مع استحضار مفهوم الإمبرياليّة في كلّ قراءة تريد طرح مشروع النّهضة والتّنوير. فالّتيزيني يتلاعب بالكلمات والألفاظ دون تحديد دقيق للمفاهيم والصيغ التركيبيّة الّتي يستعملها كقوله مثلا ” الحطام حالة تاريخيّة، أو الحطام المفتوح” دون اعتماده القراءة التاريخيّة الاجتماعيّة باعتبارها الطريقة المنتجة لعلميّة الفكرة الّتي  تؤكّد على أنّ الإيديولوجيا ليست دائما بالضّرورة وعيا إجتماعيا زائفا، والّتي يمكن أن تتحوّل إلى إيديولوجيّة ثوريّة تقدميّة، وهذا ما لم ينتبه إليه تيزيني في حديثه عن الإيديولوجيّة. وتزداد المقاربة الثقافويّة وضوحا عندما يفكّر تيزيني الحامل الاجتماعي للنّهضة انطلاقا من الأمّة في فصل بين النّهوض السياسي الطبقي

والمشروع التّنويري النقدي للفكر الديني وللتراث ” تتحدّد علاقة المشروع العربي العتيد بالإيديولوجيا الدينيّة، ذات الحضور الكثيف في العالم العربي، في ضوئه ومن موقفه هو بصفته مشروعا حضاريا. فهو في هذه الصفة يمتصّ تلك الإيديولوجيا وفق احتياجاته العموميّة والخصوصيّة” .وفي كلام تيزيني هذا ما يعكس الغموض والانتهازيّة والترقيعيّة ” وفي هذه الحال- أي مع هذا الترقيع والامتصاص الودي-  يكف النّظر إلى الديني على أنّه رجعي، إلّا إذا تخلّى عن نسبيته وأصر على إطلاقيته. كما يكف النّظر إلى القومي على أنّه شوفيني مغلق إلّا إذا أصر على أن يجسد ” خير الأقوام والشّعوب”. هذه هي الاعتباطيّة في الطرح في نظر نايف سلوم في غياب محوريّة المشروع السياسي/ الطبقي، بل وصل الأمر بالّتيزيني إلى نوع من الفتوحات الفكريّة (مكيّة) حين قال” أنّ أحد الأدلّة على مصداقيّة احتمال تحقق نهضة جديدة في حقل أمّة من الأمم… وجود احتمالات حدوث مثل هذه النّهضة فيه، دون أن يكون ذلك بالضرورة قد انتهى إلى نهضة محقّقة”49. وما يعتبره تيزيني نهضة ثانيّة وثالثة هي ليست أكثر من ردات فعل عربيّة على التّدخل الاستعماري الإمبريالي الأوروبي، لا تتجاوز صدمة الحداثة وما رافقها من فكر نهضوي إصلاحي. ويلح نايف سلوم على ضرورة ربط الأوضاع الداخليّة بالامبرياليّة وليس فقط بين هذه الأخيرة والمشروع الصهيوني. والاضطراب والاعتباط المنهجي في تحليل تيزيني يظهر أيضا في تناوله للعولمة حيث يعتبرها ظاهرة جديدة في الوقت الّذي يرى سلوم أنّها ليست سوى استمرار وتعمق للظاهرة الامبرياليّة. وقد أدّى به، تيزيني، هذا الفهم الخاطئ لمفهوم الامبرياليّة في استمرارها وتعمقها الى الكثير من الزلّات، خاصّة وأنّه استبعد في تحليله البنى الداخليّة والتّفاعل الحاصل بينها وبين التّوسع الرأسمالي الغربي. وفي تغييب هذا الصراع ” بين البنيّة الداخليّة والنظام الامبريالي يجعل غياب النظام السياسي العربي من التّحليل أمرا من تحصيل الحاصل، وعندما يستدرك البحث هذا الغياب يعوضه في آخر الفصل الأول بهجوم مفتعل على ” الدولة الأمنيّة” في سوريا وعلى الفساد والمفسدين50.  وفي الصفحات الأخيرة يناقش ما يطرحه تيزيني من أفكار متذبذبة حول الحامل الاجتماعي بين كونه حزبا، أمّة، كتلة تاريخيّة نهضويّة، وصولا إلى تقزيم الحامل الاجتماعي إلى مجرد قوى حيّة، وفق مواصفات محددة في مثقف ينتصر للتّقدم التاريخيّ الانسانيّ.

تبدو لنا القراءة النقديّة لنايف سلوم بعيدة كليا عن الاضافة النوعيّة لمفهوم السؤال النقدي، لأنّها تنصت لنفسها وتمزق النّص الّذي تحاول قراءته حتّى يلائم الصمائم النفسيّة والمعرفيّة والإيديولوجيّة المتحكمة في قراءته المغرضة وهي تتوخّى التّعبير عن تصوراتها ومعتقداتها بصفة إطلاقيّة متلبسة وجه التفسير الحقيقي والمستقيم الّذي ينظر بعين الريبة والوصم السيء لكلّ نصّ اختلافي يخرج عن الخط الصحيح للتفسير الاجتماعي التاريخي كما يحفظه عن ظهر قلب نايف سلوم. وهذه الصنميّة في التّفكير السياسي النقدي حالت دون تبادل تمرير السّائل المخصب بين النّص والقراءة النقديّة في نوع من التّفاعل المنمي للنّص والقراءة معا في الوقت ذاته. لهذه الأسباب ناقش الناقد أفكاره المسبقة وحرم نفسه وقارئه ممّا يتضمنه كتاب تيزيني من من خلفيات فلسفيّة وفكريّة ومعرفيّة، وأسس سياسيّة اجتماعيّة اقتصاديّة، ودعائم تقافيّة تنويريّة، تتوخى النّقد والنّقض لما هو قائم ومكرس للحطام العربي على كلّ المستويات. أمّا نصوص تيزيني الّتي استشهد بها نايف سلوم، فقد قام ببترها من سياقها مع تقطيعها حتّى تناسب أفكار منهجيته سرير بروكست الّذي اعتمده في العرض والمناقشة. هكذا فعل مثلا عندما ناقش مفهومي “الحطام المفتوح” و مفهوم ّالنّهضة والتّنوير”.

كتاب تيزيني لا يخلو من حسّ نقدي تاريخي مشبع بتفاؤل الارادة، الملموس في قوله بتاريخيّة الحطام المفتوح، أي رغم مأساويّة الحطام فهو ليس بنيّة مغلقة نهائيّة كقدر محتوم، بل يحتمل إمكانيات كثيرة للخروج من مستنقع الحطام، خاصّة وأنّ هناك مسوغات ومحفزات ذاتيّة من العمق التاريخي إلى الوعي التاريخيّ، وأخرى موضوعيّة تتمثّل في التّحديات الداخليّة والخارجيّة من الهيمنة الغربيّة إلى مخاطر المشروع الصهيوني والعولمي. كما أنّ الكتاب مارس فيه صاحبه جهدا إبداعيا فكريا وسياسيا معبّرا هو نفسه، من خلال كتابه المطروح للنقاش والأغناء والتّفاعل الجدلي، عن مدى وعي المثقف النهضوي التنويري، كأحد عناصر المشروع النهضوي، بالمسؤوليّة الملقاة على كاهله، فكان بذلك كتاب تيزيني درسا نهضويا تنويريا بامتياز كبير، حيث مارس فيه تشاؤما عقليا للسّؤال النقدي تجاه النزعات والاتجاهات الفكريّة والسياسيّة المنبطحة والمستسلمة بدافع المصالح الضيقة، أو بدافع الانعكاس السلبي للكثير من المتغيّرات والتّحولات، انطلاقا من آثار النفط السياسي والاستفراد بالثروة والسّلطة من خلال شكل سياسي قهري استبدادي للدولة الأمنيّة. وانسجاما مع تفكيره وفكره النظري في الدور الكفاحي للمثقّف في الدفاع عن الحريّة والعقل والعقلانيّة نظر الى ما تحمله البنيّة الخفيّة للمجتمعات العربيّة من آمال وتدفقات حيويّة ومفاجآت تاريخيّة تؤكّد إمكانات انفتاح الحطام الّتي تتستر عليها البنية العلنيّة المترعة باليأس والهزيمة والاحباط الممانع الّذي ترسّخه قوى فكريّة سياسيّة محليّة وغربيّة وإعلاميّة وثقافيّة…، ولعلّ في الثورات العربيّة ما يقف حجّة معرفيّة وتاريخيّة على مصداقيّة رؤيته التاريخيّة الفكريّة و السياسيّة.

إلّا أنّ السقف السّياسي للتّحليل النقديّ للطيب تيزيني يضعنا أمام محنة السؤال النقدي، ونحن نتساءل عن الاختناقات السياسيّة  الّتي ضيقت الخناق على المقاربة النهضويّة التنويريّة في اشارتها لكلّ التّحديات الداخليّة والخارجيّة دون أن تقوى فكريا وسياسيا على طرح الدولة الأمنيّة للاستبداد السّياسيّ كجزء عضوي اقتصادي وسياسي وإعلامي ثقافي من النّظام الأمني الغربي والصهيوني المستعدّ لهدر الإنسان قتلا وتهجيرا وتطهيرا…، ولعلّ جدليّة الموت والوجود الّتي تكلم عنها تيزيني في آخر أيّام حياته وبالضّبط في ندوة  بطنجة، أعظم دليل على أنّ مناعة الحطام العربي وقوّة تمركزه وسحقه للشّعوب، ووقوفه كحطام تفكّك وخراب في وجه التّغيير والنّهضة والتّنوير كامنة في طبيعة النظام السياسي العربي للدولة الأمنيّة. الشّيء الّذي يتطلّب تفكيرا فكريا وسياسيا نقديا يوفّر إطارا سياسيا اجتماعيا تغييريا، دولة ومجتمعا وثقافة، لجدليّة النّهضة والتّنوير، بمعنى لا مكان للدولة الأمنيّة في مشروع النّهضة والتّنوير العربيّ.

********

الهوامش:

22 كمال عبد اللطيف: محاولة إبستمولوجيّة https://al-adab.com/author/44123

23 كمال عبد اللطيف: المرجع نفسه، ص40.

24 كمال عبد اللطيف: ص40.

25 كمال عبد اللطيف: ص 41.

26 طيب تيزيني: مشروع رؤيّة جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دار دمشق،1971، ص191.

27 كمال عبد اللطيف: المرجع السابق، ص 41.

28 كمال عبد اللطيف: المرجع السابق، ص44.

29 عبد الإله بلقزيز:نقد التراث، مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط1، س2014.

30 عبد الإله بلقزيز: المرجع السابق، ص138.

31 عبد الإله بلقزيز: ص139.

32 عبد الإله بلقزيز: ص 140.

33 عبد الإله بلقزيز: ص 144.

34 عبد الإله بلقزيز:  المرجع السابق، ص 143.

35 عبد الإله بلقزيز، ص 145.

36 عبد الإله بلقزيز، ص 147.

37 عبد الإله بلقزيز، ص 149.

38عبد الإله بلقزيز: المرجع السابق، ص 156.

39 عبد الإله بلقزيز، ص 158.

40 نبيل علي صالح: طيب تيزيني من التراث إلى النهضة، ط1، س 2008،  ص 10.

41 نبيل صالح: المرجع السابق، ص 23.

42 نبيل صالح، ص 33.

43 نبيل صالح، ص 46.

44 نبيل صالح، ص 47و48.

45 نبيل صالح، ص 59.

46نبيل صالح، ص 108.

47و48 نايف سلوم نقد المنهج الاعتباطي عند د.تيزيني في كتاب بيان في النّهضة والتّنوير العربيhttp://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=82442&r=0

49 نايف سلوم: المرجع السّابق.

50نايف سلوم: المرجع السّابق.

المصدر: https://www.alawan.org/2019/08/08/%d9%85%d8%ad%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%91%d8%a4%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%91%d9%82%d8%af%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d9%81%d9%83%d8%b1-%d8%b7%d9%8a%d8%a8-%d8%aa%d9%8a%d8%b2%d9%8a%d9%86%d9%8a-2/

ثانيا: الوعي الشّقي لمحنة السّؤال النّقدي

عندما نستحضر الشّروط التّاريخيّة الاجتماعيّة العربيّة الحديثة والمعاصرة، وبنى التّركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ السّياسيّ الدّاخليّ، وما ميّز كلّ ذلك من صراعات سياسيّة تحرريّة داخليا، وفي الوقت نفسه بأفق وطني للتّخلص من السّيطرة والهيمنة الاستعماريّة والإمبرياليّة، بالإضافة إلى الحضور المستمر للمشروع الصهيوني باستراتيجيّة سياسيّة غربيّة تتجاوز الفهم السّطحي للاحتلال وحتّى للاستيطان والتّطهير أو الإبادة إلى تفكيك العمق التّاريخيّ الحضاري العربيّ الاسلامي على كلّ المستويات  الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والثّقافة…، أي القضاء على كلّ ما يمكن أن يشكلّ سيرورة بناء ونهوض راهنا ومستقبلا، وبالتّالي التّحكم في مصائر مسارات الحركة التّاريخيّة والسّياقات السّياسيّة الاجتماعيّة الثّقافيّة للمجتمعات العربيّة، بما يجعل البلدان العربيّة غارقة في التّخلف والتّسلط السّياسيّ والتّفكك الاجتماعيّ والديمغرافيّ…، وهي تتشرّب السّقوط والموات الأبدي لحالة مزمنة من الخيبات والإنكسارات والهزائم على مستوى التّنمية الداخليّة والتّحرر الوطنيّ…، عندما نستحضر كلّ هذا وغيره كثير كضرورة تاريخيّة سياسيّة فرضت نفسها بحكم معطيات المرحلة الحضاريّة لصدمة الحداثة واللّحظة التّاريخيّة للتّوسع والتّراكم الرأسماليّ في وجهه الخارجي المسكوت عنه، وهو وجه بشع غير ديمقراطي، وعنيف دموي كاستعمار همجي أسّس تراكمه الرأسمالي انطلاقا  من نهب كلّ الخيرات والثّروات واستعباد الشّعوب بوسائل القهر والخراب والقتل والتّشريد…، إزاء كلّ هذا ندرك خطورة الأمانة الّتي تحمل المثقف العربي مسؤوليّة شقاء حملها، وهو  يعاني عذابات ألم وعيه الشّقي بين ما يعرفه ويعيه ويطمح ويتطلّع إلى تحقيقه في التّحرر والحريّة، في التّقدم الاجتماعي والازدهار الاقتصاديّ، في الثّورة ضدّ كلّ البنيات السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة المتخلفة والتّقليديّة…، وبين ما يعيشه على مستوى الواقع الحيّ من خيبات وهزائم ومآسي، كما لو أنّ قدرا غيبيا يتحكّم في مصير مجتمعه. ” إنّه مؤسف، وبعد عقود من الاستقلال والتّحرر الوطني، أن ينتهي العالم العربي إلى خطاب الأعراق والأديان والأقلّيات، إضافة إلى خطاب الاستحواذ على الوطن تاريخاً وراهناً ومستقبلاً، يداً بيد مع خطاب الاحتراب والمحاصصة، والمستقبل العربي المخطوف والمخترق.”51

هكذا يتبيّن لنا المقدار الهائل لعبء محنة السّؤال النقدي الّذي فرض على المثقف العربيّ أن يكون سياسيا، أي أن يكون بوعي أو دون وعي تحت سطوة الإيديولوجيا بشكل أو بآخر في كلّ مختلف أشكال تعاطيه مع كلّ المعارك بما فيها الفكريّة الثّقافيّة. “هكذا تتبدّى أمامنا مشكلّة التّراث العربيّ- بجانبه الفكريّ الّذي سنركّز عليه- من حيث هي مركّب من القضايا الماضية والرّاهنة والمستقبليّة، الّتي تحرّض الباحث على التّصدي لها بمبضع العالم السّياسي، أو بشكل أدق، بمنظار العالم السّياسيّ والسّياسي العالم. فالمفكّرون والباحثون والمثقّفون العرب بأغلبيتهم في المرحلة المعاصرة يقرّون على الرّغم من متحدراتهم الاجتماعيّة الطبقيّة والفئويّة وآفاقهم الإيديولوجيّة والسياسيّة المتمايزة كثيرا أو قليلا- بأنّ أهميّة طرح قضيّة التّراث القوميّ ليست متأتية من طبيعة تراثيّة تدخل في نطاق البحث العلمي والإخلاص للحقيقة العلميّة فحسب، إنّهم ينظرون إليها بهذا الشكل أو بذاك وبهذه الدرجة أو بتلك، أيضا بالعلاقة مع الواقع السّياسيّ والحضاري العام في الوطن العربيّ. وهذا بغض النّظر عن أنّه حتّى أولئك الّذي يعدّون منهم أنّ نشاطهم التّراثي العلمي الأكاديمي بعيد كلّ البعد عن ذلك الواقع، يقومون بهذا النّشاط ضمن الأفق السّياسي والحضاري العام للمرحلة الّتي يعيشون فيها ببعديها المحلّي والعالمي، وفي حدود الإمكانات الّتي تتيحها لهم هذه الأخيرة. لقد اكتسبت قضيّة التّراث العربيّ الفكريّ أهميّة خاصّة متميّزة من حيث بروز علاقتها الجدليّة العميقة بالواقع الاجتماعيّ الطبقيّ والقوميّ والسّياسيّ العمليّ، وبالحياة الإيديولوجيّة في هذا الواقع.”52  تعمدنا وضع هذا النّص للطيب تيزيني رغم طوله لأنّه خير معبّر عن المسار والحركة والديناميّة الّتي ميّزت تاريخ عمليات تشكل البنيات الفكريّة الحديثة والمعاصرة بما يتجاوز زاوية النّظر الضّيقة الّتي تسجن نفسها داخل المقاربات الاختزاليّة النقديّة للإنتاج الفكريّ باعتباره فكرا فرديا يسهل مدحه أو التّهجم عليه بلغة الصيرفي الّذي يزن الأشياء بمعايير قيمة العملة النقديّة، أو  الصّواب والخطأ، متكلّما باسم حقيقة مّا، أي باسم حقيقة مضادّة. هكذا نفهم بأنّ تاريخ عمليات تكون الفكر النقدي كسؤال نقديّ كان حافلا بالمحن والآلام والمعاناة والعذابات المختلفة الّتي تراوحت بين القهر السّياسي والسّجن والمنفى والاغتيال، وبين حطام التّطلعات الديمقراطيّة والتّنويريّة والطّموحات العقلانيّة النهضويّة المهزومة والمغدورة، والهزائم المتوالية تجاه السّيطرة والهيمنة الغربيّة،  وتمدّد المشروع الصهيونيّ، في ظلّ أنظمة مقنعة بالوطنيّة، أو بالتّقدميّة، والثّوريّة المخابراتيّة، متسترة على عمليّة تأبيد للاستبداد السّياسيّ،  القاتل للسّياسة وللمجتمع والثّقافة والدّولة بالمعنى الحديث للانتظام الاجتماعيّ الانسانيّ، مفسحة المجال لانتشار الخراب الظلاميّ الأصوليّ، كمحصول وحيد أنتجته مخططات تنميّة التّصحر السّياسي السّائد. ” أخفقت مشاريع التّنمية العربيّة، واندلعت صراعات غير مثمرة تاريخيا يفضي إلى ما يقترب من الانتحار الذّاتي، وذلك من نمط الحروب الأهليّة والطائفيّة والإثنيّة والعربيّة العربيّة، وتهدّمت المؤسّسات الدولتيّة والمدنيّة، في معظمها، على ضآلتها وضحالتّها، وتمت عمليّة استفراد السّلطة السّياسيّة والقرار السّياسي من قبل نخب أو أفراد، واتّجه النّشاط الاقتصادي نحو استقطاب متعاظم للثّروة والأموال العامّة في أيدي طغم قفزت إلى الأعلى، دونما تراكم تاريخي على صعيد وجودها الاقتصادي والسّوسيوأخلاقي والسّياسي …وراحت العولمة الجديدة الوريث الشرعي للإمبرياليّة تحفّر بعمق في العالم. وتعاظم المشروع الصهيوني واستشرى طارحا استراتيجيته الجديدة إلى إعادة تكوين العالم العربيّ تاريخا وهويّة وتركيبا  اقتصاديا وديمغرافيا وقيميا، وأخيرا وفي سياق ذلك كلّه وعبر تكريسه ومنحه طابع الديمومة، بدا الأمر وكأنّه انكسار شامل وعميق وقطعي لاحتمالات مشروع نهوض عربي.”53

وفي هذا السّياق من شقاء الفكر كان الوعي الشّقي لمحنة السّؤال النقديّ معبّرا عن حجم المعاناة الّتي يعانيها المثقف العربي لأسباب موضوعيّة وأخرى ذاتيّة كانت تتطلّب تجذير الفكر النقديّ باعتباره روح السّؤال الحرّ الجريء بحججه النقديّة المقنعة الّتي تطال كلّ شيء مهما كانت سطوة الطابو والممنوعات، وهو لا يكرّر نفسه من مرحلة لأخرى كإشكاليات وأسئلة زائفة، بل يهيئ نفسه للاستيعاب والتّجاوز فيما يشبه القتل الرمزيّ، لأنّ السّؤال النقدي لا يؤمن بالأبويّة والحقائق الخالدة. ولنا في خطاب جورج طرابيشي ما يدلّ على ذلك الكمّ الهائل من معاناة جيل الوعي الشّقي:” أنتمي إلى جيل الرّهانات الخاسرة. فجيلنا قد راهن على القوميّة وعلى الثّورة وعلى الاشتراكيّة- وهو يراهن اليوم على الديمقراطيّة- لا لقيم ذاتيّة في هذه المفاهيم، بل كمطايا إلى النّهوض العربي وإلى تجاوز الفوات الحضاري، الجارح للنرجسيّة في عصر تقدّم الأمم.”54 وهذا ما جعلنا نصف إشكاليّة البحث في فكر طيب تيزيني بأنّها محنة السّؤال النقديّ الّتي تضافرت فيها الكثير من العوامل والأسباب والسّياقات في كبت وقمع وقهر وإرجاء اشتغال السّؤال النقدي، ممّا أدّى إلى نوع من التّموج في تكون وتبلور وتطوّر الفكر العربيّ الحديث والمعاصر، أي كان يركب الموجات الآتية من الغرب، أو من الشّرق الاشتراكي سابقا، من القوميّة إلى الثّورة والاشتراكيّة، ثمّ إلى النّهضة، والبروسترويكا، مرورا  بركوب موجات تحوّلات مجتمعات شرق أوروبا الّتي رفعت شعارات الديمقراطيّة والمجتمع المدني…، دون أن يتمكّن – الفكر النقدي العربي- من إنتاج واكتشاف السّؤال النقديّ القادر على التّفكير عالميا والتّصرف محلّيا استجابة للتّحديات، بدل السّقوط في التّكرار القهري في دائرة ردود الأفعال المرضيّة. ” إنّ الفكر العربي المعاصر منذ عصر النّهضة هو فكر عقيم، لأنّه دائري الطّابع يدور على نفسه بشكلّ مقفل، فهو ليس منفتحاً فعلياً على المشاكلّ الحقيقيّة الّتي تتخبّط فيها المجتمعات العربيّة. وذلك لأنّ الفكر النهضوي العربي يرفض الأخذ في الاعتبار الواقع الاستعماريّ الّذي يسود المجتمعات العربيّة ويولّد تبعيّة للفكر الغربي تحول دون إيجاد الحلول الجذريّة وأساليب الخروج من التّخلف. ولهذا السّبب أرى في كثير من الأحيان أنّ هناك استنزافاً فكرياً عند المثقفين العرب الّذين يناقشون باستمرار المواضيع نفسها والإشكاليات نفسها في تحليل التّخلف وبتكرار رتيب لا يؤدّي إلى أيّ نوع من النتيجة. ويقول مهدي عامل مرّتين أو ثلاث مرّات في كتابه ما معناه أنّه إذا كانت هذه المشكلة لا حلّ لها فهذا يعني أنّ المشكلة مطروحة بطريقة غير صحيحة، وهو في ذلك على حقّ تماماً. وهذه ممارسة لا نزال نعمل بها حيث نغلق على أنفسنا لأنّنا نضع إشكاليات لا يمكن أن نجد لها حلاً أو حلولاً، لأنّ معطيات الإشكاليّة هي أساساً غير صالحة وغير متجذرة في الواقع المجتمعيّ الّذي نعيشه.”55

نقول هذا دون أن يعني ذلك التّقليل من شأن المفكر النقديّ العربيّ، ولا من تبخيس قيمته الفكريّة والنضاليّة، بل هو مدعو باستمرار إلى ممارسة النّقد وتجذير أسئلته النقديّة كما هي حاضرة بقوّة في الواقع السّياسي وبنى تركيبه الاجتماعيّ الاقتصاديّ.” لا نستطيع أن نتمثّل بسهولة المعاناة الّتي يعيشها هذا الجيل ولا مدى شقاء وعيه عندما يدرك البون الشّاسع بين ما كان يعلّقه على المستقبل وبين الخلل الّذي وصلت إليه الأمور حيث يعمّ احتقار الشّعب والاستهانة بأبنائه، وحيث لا ينظر إلى الوطن إلاّ كمصدر للثّروات. لم يكن هذا الجيل ليتساءل عمّن هو المثقّف، ولا ليعقد النّدوة تلو الأخرى لبحث علاقة المثقّف بالسّلطة. لكنّه كان يعيش حركة ثقافيّة فعليّة، حركة تشكّل سلطة ضدّ سلطة، حركة مغروسة في المجتمع، تحلم بأحلامه، وتفصح عن رغباته، وتعبّر عن مطامحه، وتنطق لغته”.56

وانطلاقا من هذا الفهم والتّحليل يمكن فهم دموع المفكّر طيب تيزيني خلال المحطّات الأخيرة من حياته وهو يرى حجم الدّمار والخراب الّذي قامت به الدولة الأمنيّة لنظام الأسد الّذي حرق البلد ووالد وما ولد

ثالثّا نقد المفاهيم في فكر طيب تيزيني

ليس سهلا تناول فكر طيب تيزيني لأنّ الأمر يتعلّق كما قلنا سابقا في التّمهيد بسيرورة تاريخيّة لتكوّن البنيات  الفكريّة، حيث تضافرت مجموعة من الشّروط والعوامل والجدليات الفرديّة والمجتمعيّة والعلميّة…، لتمنح فكره تركيبا مفهوميا تسنده رؤى فكريّة نظريّة وطرائق منهجيّة بخلفيات فلسفيّة معرفيّة سوسيولوجيّة سياسيّة…، وهذا ما أهله للكتابة في التّراث الفكري واللاّهوتي، وفي تشخيص تاريخ البنى الاجتماعيّة الاقتصاديّة من الجاهليّة مرورا بالتّاريخ الاسلامي، وصولا إلى الفترة الحديثة والمعاصرة في مناقشته مشروع النّهضة والتّنوير. لهذا فإنّ دراسة ومناقشة فكر طيب تيزيني تستلزم إحاطة شاملة بالبعد النقديّ لجهازه المفاهيميّ، الّذي يستعمله في إنتاج معرفة بالواقع والفكر في جدليتهما. رغم ما يمكن تسجيلة من ملاحظات نقديّة، فهو لايسعتمل المصطلحات التّالية” الثّورة، التّراث، التّاريخ،

الاجتماع، الثّقافة، النّهضة…، بنوع من القصور النّظري والمنهجي، حيث يقدّم تعريفات دقيقة ومحدّدة فلسفيا ومعرفيا لما يؤسّس له من فكر علمي نقدي سواء في إنتاج الأدوات المعرفيّة النقديّة القادرة على إنجاز دراسته التّشخيصيّة الميدانيّة للواقع التّاريخيّ الاجتماعيّ في سياقاته وترابطاته الجدليّة الاقتصاديّة والسّوسيو ثقافيّة والسّياسيّة، أو في تناوله النقدي للسّيرورة التّاريخيّة للفكر العربيّ في تعثراته وأزماته المستمرّة. يستعمل تيزيني المفاهيم السّابقة إلى جانب الكثير من الجدليات: جدليّة التّابث والمتغيّر، المتّصل والمنفصل، الدّاخل والخارج، السّابق واللّاحق، النّهضة والتّنوير، الوجود والموت…، بنوع من الحذر المنهجيّ والمعرفيّ في ضبط المعاني المقصودة.

ففي غياب إلمام حقيقي بالمضمون المعرفيّ والفكريّ النقديّ، والإيديولوجيّ السّياسيّ بالأدوات الفكريّة الّتي تؤسّس وتؤطّر فكر تيزيني سيكون مصير أي قراءة أو دراسة لفكره مجرّد مدح مجانيّ، أو عدوانيّة نقديّة لن يكون لفعلها النقديّ أي قيمة مضافة في إثراء وإخصاب، أو تجاوز فكره. فهو يستعمل مفاهيمه بعيدا من جهة عن أيّة قداسة لاهوتيّة تمنع نقد الماضي وتعرية متخيله التّاريخي الأسطوري، نقدا فلسفيا ونظريا وتاريخيا ومنهجيا، وبعيدا من جهة أخرى عن صنميّة  مفاهيم المقاربة الماديّة الّتي يستعين بها في قراءة جدليّة الفكر والواقع، وما ينتج عنهما من أسئلة مؤرّقة ومتحديّة للفكر العربيّ الحديث والمعاصر. ففكر تيزيني ليس بسيطا كما قد نعتقد، خاصّة عند من يعانون من حساسيّة التّحليل الماديّ التّاريخيّ الاجتماعيّ ومستلزماته الطبقيّة، إنّنا إزاء فكر محكم علميا له تماسكه النظري الصّارم والدّقيق. فهو عندما يتحدّث عن التراث، العقلانيّة النقديّة، الثّورة، التّاريخ والنّهضة…، فانطلاقا من آليتين، ففي الأولى يشرع في تشخيص بنى التّركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ والثّقافي، بالموازاة مع نقد الأمر الواقع السّائد في مسلّماته وبديهياته، معتمدا استنطاق الواقع والنّصوص، وفي الآليّة الثّانية يعتمد الفكر الجدلي المادي التّاريخي مطعما في كتبه الأخيرة: الإسلام المبكر، وقراءة النّص، بمنهجيات حديثة في العلوم الانسانيّة والاجتماعيّة. هكذا يتناول مثلا التّراث في تشخيص الواقع الحيّ في مستوياته الاقتصاديّة والسّياسيّة والإيديولوجيّة، ثمّ ينظر إلى التّراث من زاوية نقد المقاربات اللاّتاريخيّة واللاتراثيّة، وهو نقد للتّصورات اللاهوتيّة والقطعيّة في الاعتقاد بالحقيقة والخطّ الصّحيح، سواء في جذورها السّلفيّة، أو المتلبسة بالثّقافة العلمانيّة. وبهذا الفعل المنهجيّ، الّذي نجده حاضرا بقوّة في جميع كتبه مضمرا أو واضحا صريحا في محور خاصّ، بل خصص لهذا البعد المنهجيّ كتابا يحمل عنوان: على طريق الوضوح المنهجيّ،  استطاع كشف التّعدد والتّنوع والاختلاف والمنسيّ الثّوري والتّقدمي…، وهو في منهجه هذا ينسجم مع الخلفيات الفلسفيّة المعرفيّة والإيديولوجيّة للمنهج الماركسيّ كما يفهمه ويمارسه  (تحت مظلّة السّقف السّياسي لما يسميه الدولة الامنيّة ” لحزب البعث العربي الاشتراكي التّقدمي والممانع” في وجه الحريّة والعقل والعقلانيّة والنهضة والتّنوير…)،  في الاقرار بجدل السّابق واللاّحق، المتّصل و المنفصل، الدّاخل والخارج، النّهضة والتّنوير، الفكر والواقع…، مدعما تصوّراته وتفسيره المادي وأفق استراتيجيّة الكتابة، الّتي ينظر من خلالها إلى أسئلة الرّاهن، بمجموعة من نصوص الفكر الماركسيّ كما هي عند ماركس، أو غيره من المفكّرين والباحثين. هكذا استطاع الجمع بين المستوى العلميّ الأكاديميّ والسّياسيّ الإيديولوجيّ، كما استطاع نقد الفهم اللاّهوتي السّلفي وخطاب التّماثل والوحدة والتّطابق بنزعاته المختلفة، حيث جميع هؤلاء ينظرون إلى التّراث كواحد متجانس، وفي الوقت نفسه استطاع تيزيني أن يرسّخ مفاهيم نقديّة جديدة في قراءة إشكاليات وأسئلة الواقع والفكر العربيين، وبالتّالي تمكّن من خلخلة الفكر السّائد في وجوهه اللاتاريخيّة واللاتراثيّة، كما مارس طرقا منهجيّة في التّفكير والتّحليل والنّقد والنّقض…

لذلك لم يكن مفهوم التّراث عنده ماض نموذجي ولا خرقة بالية نرميها في أقرب مزبلة، ولم يكن مفهوم الثّورة والعقل والعقلانيّة النقديّة والحريّة… ،أشياء منثورة على قارعة الطّريق، أوسهلة التّهريب من السّوق الفكريّة الغربيّة، بل هي وليدة نقد مستمرّ لكلّ هذه المفاهيم في كلّ كتبه وهو يعري النّزعات اللاّتاريخيّة واللاّتراثيّة من السّلفيين والعلمانيين والمستشرقين والامبرياليين وصولا إلى المفكّرين العرب مثل الجابري. لهذا كانت هذه المفاهيم بمثابة آليات وفاعليات نقديّة في صيرورة مستمرة. بمعنى أنها لم تكن شعارات ومجرد مبادئ.

رابعا محنة السّؤال النقدي في فكر طيب تيزيني

”  موقع المنبوذ، أو موقع خادم السّلطان، سواء أكان شاعرا أم فقيها، حليما، فيلسوفا أم أديبا. وما كان الفكر، في الموقعين، بقادر على أن يغيرّ. كان يرفض، أحيانا، أو يبُرَرّ. يهجو أو يمدح، وفي الحالتين يرتزق. أو يتصعلك، إن خرج على السّائد ونظامه، كأنّه محكوم بموت يتأجّل. يحتجّ على الشّرع ويثور، لكن، من موقع العاجز عن نقض الشّرع. فيتصوفّ. يستبدل الأرض بالسّماء، ويزهد. أو يستكين للدنيا وللآخرة، فيَعُقلنِ الاثنتين في نظام الاستبداد، لسلطته يرضخ.

والسّلطة، بالدّين، تبدو مطلقة. وهي المقدّسة، في الغيب وبالغيب. وهي السّلطة فوق الرّفض وفوق النّقض، سيفها على الرّقاب مسلّط والرّقاب خاضعة راضية. فمن تمرّد، فعلى سلطة الدين يتمرّد. إذاّك يحُلَ دمهُ. حتىّ لو كان الحلاج،َ أو السّهر وردي. أمّا ابن تيميه، أو الغزالي، أو من شابههما، فعلى التّمرد والمتمردين، في كلّ عصر، يشهران سلاح الدّين، سلاح السّلطة، فيكبّلان العقل، يرهبان الرّوح، ويئدان الجسد.”57انطلاقا من هذا النّص الّذي دفع صاحبه حياته بسبب تمسّكه بروح السّؤال النقديّ في تكوين الفكر والمجتمع والثّقافة والسّلطة…، يمكننا القول بأنّ تاريخ الفكر النقديّ هو تاريخ محنته، حيث لم يكن سهلا عبر التّاريخ العربيّ الاسلاميّ ولادة وتكون وتطوّر السّؤال النقدي. كان النّقد روح السّؤال مرفوضا منبوذا كافرا، وغالبا ما كان مهمّشا مقهورا…، ومع ذلك كان حاضرا متمرّدا مشاكسا ناقدا، لكن في لحظات تاريخيّة من صيرورة المجتمعات العربيّة الاسلاميّة كان قويّا فاعلا نهضويا وتنويريا، ليس محليّا فقط، بل استثمرت نتائجه عالميا، لأنّ  من طبيعته أن يكون إنسانيا أو أن لا يكون في مستوى امتلاك جدارة تسمية نفسه بـ” السّؤال النقديّ”. حدث هذا ويحدث كلّما وجد متّسعا من الحريّة والعقل والعقلانيّة ومقوّمات النّهوض. وهذا هو المقصود بالحضارة العربيّة الاسلاميّة عند المفكّرين النّقديين في الثّقافة العربيّة الاسلاميّة، أو في الكتابات الغربيّة. إنّ الأمر يتعلّق بالنّهضة الأولى كما قال طيب تيزيني، أو ما سمّاه محمد أركون في أطروحته “بنزعة الأنسنة”.  هكذا كانت محنة طيب تيزيني من محنة السّؤال النقديّ لأنّه روح الفكر وتقواه، فضدّ الصّمت والنّبذ والموت تشبت بالكلام لأنّه يعرف محنة السّؤال الصّعب: الكلام أو الموت الّذي عنون به مصطفى صفوان أحد كتبه، فاختار الكتابة في ظلّ السّقف السّياسي للدولة الأمنيّة ومخلفاتها. ” انكسار الكرامة الوطنيّة والقوميّة في هزيمة حزيران…انهيار الارهاصات النهضويّة الّتي حملتها أربعة مشاريع هي: القومي والاشتراكي والاسلامي المستنير غير المؤسّسي والليبرالي التّحديثي، وذلك عبر انهيار حاملها الاجتماعي ممثلا بالفئات الوسطى.. تعاظم المشكلات الاقتصاديّة…مع انقسام المجتمع إلى فريقين يستقطب الأوّل منهما السّلطة والثّروة، في حين يعيش الآخر حالة مفتوحة من الإفقار الاقتصادي والتّهميش السّياسي والإقصاء الثّقافي الاعلامي.

وتعاظم وتائر التّحول من التّخلف إلى التّخليف، أي محاولة تأبيده، ومن الفساد إلى الإفساد، أي محاولة تأييده، ومن الحراك السّياسيّ الأوليّ إلى الاستفراد السّياسي، ومن التّسامح إلى التّكفير، ومن التّنوير إلى الظلاميّة، ومن الوطن إلى الطّوائف والمذاهب والإثنيات…ومن التّطبيع العربيّ إلى التّطبيع العربيّ الاسرائيليّ.”58 هكذا كان طيب تيزيني يفكّر، لمن كان يحسن الإنصات، في بداية الألفيّة الثّالثة، في زمن طغى فيه الخنوع والاستسلام والأوصاف القدحيّة من طرف الكثير من النّزعات الايديولوجيّة الّتي أفرزتها هذه الأزمات، وقد قام بنقدها نظريا ومنهجيا وبين حدود رؤيتها الضيّقة وخطورتها السّياسيّة والاجتماعيّة على تفاؤل الإرادة في النّهوض من جديد. لذلك لم يتقبّل خطاب الأزمة هذا من طرف كثير من المثقفين، من بينهم محمد عابد الجابري الّذي قال:”  الزمن العربي زمن ميت أو قابل لأن يعامل كزمن ميّت.. فإنّه يمكن النّظر إلى قضاياه لا بوصفها قضايا ذات تاريخ بل بوصفها عناصر في بنيّة فكريّة ظلّت كما هي من بدء اليقظة الحديثة إلى اليوم.”59 ثمّ تتالت كتبه من التّراث إلى الثّورة مرورا بالمشكلات والفساد والاستبداد وصولا إلى النّهضة والدولة الأمنيّة. فكّر وحاور وجادل كلّ النّزعات والاتّجاهات الفكريّة والدينيّة والسّياسيّة من المغرب إلى المشرق، فتحمّل مشقة وعبء وعذابات محنة السّؤال النقديّ بسخريّة لاذعة من بعض “النّقاد” بوصفه أنّه شيوعي بقناع بعثيّ، أو تحريفي بعيد عن الخطّ الصّحيح للتّفسير الاجتماعيّ التّاريخيّ، أو كافر علماني في جبّة مؤمن. فمن يقرأ على سبيل المثال لا الحصر تعقيب البوطي على نصّ التيزيني في كتاب : “الإسلام والعصر تحديات وآفاق” سيجده محاكمة صريحة للانحراف عن الخطّ المستقيم بلغة البوطي مدعما بحديث نبوي كما لو في ردّه يقول: أنت متّهم إلى أن تتمّ براءتك، تخفيفا للقول الصّريح الّذي تنضح به كتابة البوطي: أنت مرتد إمّا التّوبة أو القتل. دون الحاجة إلى تنبيه قارئ نصّ التّعقيب إلى أنّ القاتل، أو الإنسان الوحش، كان مخبأ بين سطور البوطي.

ورغم ذلك كان فكر تيزيني مسكونا بحرقة السّؤال النقدي: لماذا الهزيمة وهذا السّقوط والموات الأبدي، من سقطة لأخرى، من تفكك إلى تفكك وانهيار أكثر عمقا في الدّولة والمجتمع والثّقافة والذّاكرة التّاريخيّة والعمق والوعي التّاريخيين…؟ كيف يمكن تخطّي الحطام،  وتحقيق النّهوض  والتّنوير المستحيلين؟ وفي كلّ مرة كان يجد نفسه أمام رعب السّؤال”تكتب أو تقتل احذر أن تفهم أنّ هذا الانذار موجّه إليك من جلاد مّا. إذا تجاوزت سطحيّة الرّمز ستعرف أنّ صوت التّاريخ هو الّذي يتكلّم. وهو يعبّر عن أحد أعنف قوانينه، كلّ صمت تقصير في حقّ الحياة. كلّ يوم يمر دون أن تكون على موعد مع الكلمة يمثّل إنكسار فرع من شجرة الحياة. وبعبارة بسيطة كلّ كلمة تضيع هي صوت يخنق، صرخة يائسة لا تجد لها صدى، فضيحة تسقط في مستنقع الأحداث التّافهة.”60 فكانت محنة السّؤال النقديّ ترمي به من كتاب لآخر في صيرورة لا تهدأ من التّراث إلى الثّورة وصولا إلى من التّراث إلى النّهضة. وأيضا من مقال أو حوار لآخر، وعلى صفحات نيت، لأنّ روح معاناة السّؤال النقديّ جعلته ينتبه لما سمّاه البنيّة الخفيّة، تحت سطوة اليأس والهزيمة والحطام، في صيرورة المجتمعات، كما لو كان يقول مع دريدا” ما يواجهنا

اليوم إنّما هو قديم مخبأ في التّاريخ”61 لذلك استطاع أن يرى الرّبيع العربي الّذي تخفيه مفارقات التّفكك والحطام والاستبداد، فكتب سنة2001 بيانا جميلا في النّهضة والتّنوير العربي:” بيد أنّ المفارقات من تلك الصيغة غالبا ما تخفي وراءها أوضاعا واحتمالات قد تنطوي على مفاجآت تتأبى على إدراك من ينظر إلى المعلن دون المخفي، وإلى المهيمن المعمّم دون المقصي والمسكوت عنه. ها هنا، يطل برأسه نمط من العقل التّاريخيّ المراوغ، معلنا أنّ التّاريخ سيبقى تاريخا أي سياقا مفتوحا لا سبيل إلى تحويله إلى دائرة مغلقة. وهو من موقع مقاربة نظريّة معرفيّة، يصحّ القول بأنّ الحدث الاجتماعي أغنى من أيّ تنظير له.”62 إلّا أنّه كان يدرك أنّ التّغيير والنّهوض القادم لا بدّ أن يدعم بالتّنوير، في نوع من التّلازم البنيويّ الجدليّ بين النّهضة والتّنوير. وعمق تفكيره هذا في أسئلة تناسل الهزائم والحطام هو ما دفعه إلى محاولة إنتاج معرفة علميّة أكاديميّة، وهي في الوقت نفسه سياسيّة، ليست ترفا فكريا، بل هي معرفة مرتبطة بأسئلة سياسيّة تاريخيّة وسوسيوثقافيّة، تستلزم الجمع الجدلي بين النّهضة والتّنوير وهو  ما بدا واضحا كضرورة تاريخيّة في خريف الثّقافة بعد الرّبيع العربيّ،” إلّا أنّه يبدو خريفا غير بارد، يطبعه غليان يعتمل في قلب كلّ مثقف يدرك عسر التّبدل، ومرارة اللّحظة، ويعيش أشكالا متنوّعة لابتعاد الواقع عمّا ينبغي أن يكون عليه.”63 من هنا نفهم قوّة كتبه في ارتباطها المعرفي والسّياسي بعذابات ومرارة السّؤال النقدي: كيف وبأيّة أدوات معرفيّة وخلفيات فلسفيّة نظريّة إبستيمولوجيّة وسياسيّة يمكننا التّملك المعرفي لواقع السّقوط والتّخلف والهزيمة والانهيارات وصولا إلى سرّ الحطام…؟

لهذا كما قلنا سابقا في نقده المفاهيمي عبر جدله النقديّ العميق للسّائد والموروث، وللنّهضة والتّنوير في حدوده ومحدوديته وفي أزماته وقصوره، بل في تواطؤاته وتهميشه للسّؤال النقديّ، لم يكن التيزيني مهتما بلغة الشّعارات البرّاقة في تلك المفاهيم، بل فعله كان تعبيرا عن محنة السّؤال النقدي إزاء هذا الرّعب المتواصل للحطام، إنّها ممارسة حيويّة للفكر النقديّ تجاه خلفياته وأدواته ومساءلة مسلّماته عبر المسافات النقديّة، أي ممارسة نقديّة في كلّ كتبه تبتعد/تنفصل عن الذّات لتقترب/ تتّصل بها، وهي قد تخفّفت من عبء يقين الحقيقة المطلقة، ومن الوثوقيّة، وفق جدل المتّصل والمنفصل، بمعنى تبتعد عن حقائقها، الّتي تطاولت مع الزّمن قرونا، وزادها التّسييج الإلهي للفكر الديني البشري قداسة من جهة، ورسخها التّماهي العلماني مع الفكر الاستشراقيّ غير العلمي من جهة أخرى، لتقترب من نفسها والآخر. إنّها منهجيّة التّفكير الفلسفيّ الّذي لا يسعى إلى التّفاهم الكاذب بقدر ما يهدف إلى مزيد من سوء التّفاهم، والنّقد في التّستر على سوء التّفاهم الّذي يصيب الفكر بالدوّار إزاء بداهاته ومسبقاته، وكلّ ما يقيّد الثّورة في التّراث، وما يكبّل اللاّحق في السّابق ويقاوم المنفصل في المتّصل… كما لو أنّ تحرّر الفكر يكون عند نقاط التّأزم والتّأزيم. هاجسه وحرقته هي نابعة من هواجس ومحنة السّؤال النقدي الّذي لا يقبل بالطمأنينة والرّضا، بل همّه شقّ دروب الفكر وإبداع الأسئلة لغاية التّراضي حول ما لا يطمئن ولا يرضي في هذا الحطام المفتوح. إنّه معني بخطاب السّؤال، لا بخطاب الأجوبة. هكذا فهم وفكّر ومارس طيب التيزيني الثّورة والنّهضة والتّنوير، بعيدا عن لغة الشّعارات والمبادئ، حيث نظر إلى النّهضة والتّنوير كتجذر للسّؤال النقديّ الفلسفيّ المعرفيّ والسّياسي، ” وهو سؤال يؤشكلّ في آن واحد كلّا من مسألة الارتباط بالحاضر، مسألة نمط الوجود التّاريخيّ، ثمّ مسألة بناء الذّات كذات مستقلّة”.64 هذا ما ألحّ عليه التيزيني في كتبه، خاصّة في كتاب ” بيان في النّهضة والتّنوير العربيّ”، فهذه الرّوح الفلسفيّة والنقديّة والنضاليّة جعلته يرى إلى الحطام العربيّ كحالة تاريخيّة مفتوحة على امكانيات كثيرة في النّهوض. الشّيء الّذي يجعلنا نقول بأنّ التيزيني يوافق تأكيد ميشيل فوكو  على ” أنّ الخيط  الّذي يربطنا بالتّنوير، ليس الوفاء لمبادئ المذاهب، بقدر ما هو بالأحرى التّفعيل الدّائم لموقف مّا، أي تفعيل روح فلسفيّة يمكننا أن نحدّدها من حيث هي نقد مستمر لوجودنا التّاريخي” 65 ومن يقرأ كتب طيب التيزيني يجد محنة السّؤال النقديّ في أزماته وهزائمه، وفي خيباته وانهياراته، قد تلبّست فكره وسكنته حتّى أعمق أعماقه.

لكن ما الّذي ظلّ قابعا في دائرة الصّمت، في ذاكرة فكر طيب تيزيني؟ ولماذا تمّ الزّج بالسّؤال النقديّ في دهاليز السّجن القديم لأسئلة التّراث، والصّراع ضدّ الظلاميّة بما يخدم الوحش الإنسان في النّظام والإرهاب، والحلم بالنّهضة والتّنوير في ظلّ الإطار التّاريخيّ المعرفيّ السّياسيّ للدولة الأمنيّة؟ ما نوع القمع المعرفيّ والعلميّ والسّياسيّ الّذي مورس بصمت في حقّ السّؤال النقديّ، وهو يرى فكر التيزيني قد احمرت يداه من كثرة التّصفيق ليس فقط عندما ضرب خصومه، بل عندما تمّ حرق مدينة بكاملها بالآلاف، كانت محرقة بيروت أقرب إليه  من حبل الوريد حماة. وكيف استطاع عنف مجرم الأبد أن يتستر وراء شرعيّة فكر لا يرى غير الامبرياليّة والصهيونيّة، ولا صوت يعلو فوق صوت وهم المعركة؟ والغريب في الأمر أن يشهد التيزيني في إحدى صفحات كتابه “بتقدميّة الفكر النقدي” للدولة الأمنيّة: ” ومن الملفت حقّا أنّ هذه الماركسيّة التّأمليّة الّتي رفضت من جمع من الأوساط  الفكريّة والسّياسيّة القوميّة بعد إدانتها بصفتها “استسلاميّة علميّة” جعلت هذه الأوساط (اُنظر مثلا من بعض المنطلقات النظريّة لحزب البعث العربي الاشتراكي الصادر عام 1963) تتحفّز في البحث عن صيغة أخرى للماركسيّة تتيح تفهم الوضعيّة العربيّة”.66 وها نحن نعيش مأساة غضّ البصر وإعطاء الأولويّة للتّناقض الرئيسيّ الامبرياليّ الغربيّ والصهيونيّ في الوقت الّذي نما التّناقض الثّانوي النّظام السّياسيّ حتّى صار وحشا فحرق البلد ووالدٍ وما ولدَ.

*******

الهوامش

51- طيب تيزيني صحيفة الاتّحاد

https://www.alittihad.ae/wejhatwriter/75/%D8%AF-%D8%B7%D9%8A%D8%A8-%D8%AA%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D9%86%D9%8A

52 طيب تيزيني: من التّراث إلى الثّورة، ص 11.

53 طيب تيزيني: من الاستشراق الغربيّ  إلى الاستغراب المغربيّ، ص 9و10.

54 طرابيشي جورج: من النّهضة إلى الرّدة، دار السّاقي، ط1، س2000، ص 7.

55 جورج قرم: في فكر مهدي عامل

https://mehdiamel.wordpress.com

56 عبد السّلام بنعبد العالي: منطق الخلل، دار توبقال، ط1، س2007، ص22.

57 مهدي عامل الثّقافة والثّورة

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=599224

58 طيب تيزيني: بيان في النهضة والتّنوير العربي، مجلة عالم الفكر، ع:3، س2001، ص49.

59 أورده طيب تيزني في المرجع السّابق، مجلة عالم الفكر، ص57.

60 عبد اللطيف اللعبي: مجنون الأمل، ط1، س1982، ص14.

61 عبد السّلام بنعبد العالي: أشياء سبق الحديث عنها، دار توبقال، ط1، س2014، ص7.

62 طيب تيزيني: مجلة عالم الفكر، ص 49.

63 عبد السّلام بنعبد العالي: أشياء سبق الحديث عنها، ص57.

64 عبد السّلام بنعبد العالي: أشياء سبق الحديث عنها، ص 109و110.

65 المرجع نفسه، ص 109.

66 طيب تيزيني: على طريق الوضوح المنهجي، دار الفارابي، ط1، س1989، ص263.

وأنظر موقفه من التّحزب المعرفيّ من التّراث إلى الثّورة، ص247.

المصدر: https://www.alawan.org/2019/08/14/%d9%85%d8%ad%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%91%d8%a4%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%91%d9%82%d8%af%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d9%81%d9%83%d8%b1-%d8%b7%d9%8a%d8%a8-%d8%aa%d9%8a%d8%b2%d9%8a%d9%86%d9%8a-3/

خامسا : في محاولة يائسة لتجذير السّؤال النقديّ

بناء على ما أشرنا إليه في التّمهيد على مستوى الفشل الذّريع لكلّ مشاريع النّهوض الاجتماعيّ الاقتصاديّ والسّياسيّ، والتّحرريّ بشكلّ خاصّ، من التّهديد الامبرياليّ والمشروع الصهيونيّ الّذي فرض واقع الانكسار والهزيمة والانهيارات، اتّجه طيب تيزيني صوب الأرضيّة الفلسفيّة والفكريّة النظريّة الّتي يمكن أن تحتضن شرعيّة السّؤال النقديّ في التّأسيس لمشروع النّهوض انطلاقا من رؤية جديدة ضدّ ما ساد وانتشر في الفكر والواقع كحقائق وبداهات رسّخها تخلّف المناهج التّقليديّة والفكر الاستشراقيّ والسّوسيولوجيّة الكولونياليّة. لذلك في نظر تيزيني فإنّ نقد هذه الأوضاع في وجهها النظريّ والواقعيّ الاجتماعيّ التّاريخيّ تحتاج إلى تفاعل جدليّ لرؤية نقديّة ومنهج علمي تتأسّس أرضيتهما الفلسفيّة والمعرفيّة والإيديولوجيّة على السّيرورة التّاريخيّة للفكر الفلسفيّ الماديّ في ولادته ونشأته وتكوّنه وتطوّره من الفلسفة اليونانيّة مرورا بالفكر العربيّ الفلسفيّ في العصر الوسيط وصولا إلى العصور الحديثة والمعاصر67. واستراتيجيّة السّؤال النّقديّ في هذا كلّه، هو البحث عن شرعيّة تاريخيّة وفكريّة للخلفيات الفلسفيّة والنظريّة للرؤية والمنهج الماديّ في تعامله مع مشكلات وإشكاليات وقضايا الرّاهن العربيّ بكلّ تعقيداته الاقتصاديّة والسّياسيّة والإيديولوجيّة داخليا وخارجيا. بمعنى أنّ الكفاحيّة النظريّة الفكريّة والسّياسيّة للفكر الماديّ اليوم في شخص المقاربة الماركسيّة وتحديدا الجدليّة التّاريخيّة التّراثيّة ليست دخيلة، أو نتيجة فقط للتّفاعل الثّقافيّ الحضاريّ بين الغرب والمجتمعات العربيّة، كما أنّها ليست وليدة تبعيّة فكريّة موازية للتبعيّة الاقتصاديّة أو شيء من هذا القبيل. وبعبارة واضحة تقول أسئلة السّؤال النقديّ كما يفكّر فيه وبه طيب تيزيني: إنّ المقاربة الماديّة تجد شرعيتها ومشروعيتها التّاريخيّة والعلميّة في قراءة نقديّة لتطوّر الفكر الانسانيّ، في جدل التّكامل الّذي يحكم تطوّره وسيرورة تفاعلاته النظريّة التّاريخيّة، خلافا للخصوصيّة الماضويّة السّلفيّة والعلمانيّة الإيديولوجيّة العربيّة، وللمركزيّة الأوروبيّة الاستشراقيّة والاستعماريّة.

” إنّ المشاريع الثّقافيّة السّياسيّة الأربعة الكبرى الّتي أخذت تفصح نوعيا عن إخفاقها التّطبيقيّ المشخّص في عدد من البلدان العربيّة في بداية السّبعينات (وهي الليبرالي التّحديثي والاشتراكي والقومي والديني غير المؤسّسي السّياسي) مع تناثر حاملها الاجتماعي (الفئات الوسطى أساسا) بدأت تخضع لعمليّة تفحّص نقديّ جديدة وبطيئة ضمن شروط وظروف مختلفة عن شروط وظروف نشأتها، وذلك في إطار مجموعة من التّساؤلات والأطروحات والآراء القديمة والجديدة. ولعلّ التّساؤل المركّب التّالي كمن- ويكمن- في طليعة الموقف: أين تكمن إشكاليّة النّهوض العربيّ، المتعثّر حتّى الآن؟ لماذا الوضع العربي الرّاهن في حالة نكوص مطّرد عموما وإجمالا، بينما يفصح وضع مجتمعات أخرى غربيّة وآسيويّة عن آفاق وإمكانات ملحوظة السّبل الكفيلة بتحقيق حدّ مّا من النّهوض أو التّوازن، خصوصا ونحن نواجه تحدّيا إستيطانيا صهيونيا إلى جانب التّحدي الحضاري؟”68

فهل السّؤال النّقدي الّذي وجد المثقّف العربي نفسه أمامه وجها لوجه، وهو يعيش حالة مرعبة من حقائق الفشل والهزيمة والسّقوط الاجتماعيّ والسّياسيّ والأخلاقيّ الحضاريّ تجاه العدوّ الامبرياليّ والصهيونيّ، إنّها حقائق تستّر عليها الطّغيان الإيديولوجي البرّاق الّذي سرعان ما تلاشى وظهر مدى عري خرافة “الدولة المستقلّة الوطنيّة الحديثة” والمجتمع والثّقافة…، والتّواطؤ الفكريّ والسّياسيّ والوعي الاجتماعيّ الرّسمي والمعارض في ترسيخ وتكريس أسس الانهيار والهزيمة، كما ظهرت ديناصوريّة الإيديولوجيّة القوميّة واليساريّة على أنّها ليست أكثر من ظلّ قزم ينط في أضواء المشهد السّياسيّ الاعلاميّ والثّقافيّ السّلطويّ السّائد، فهل هذا السّؤال النقدي يجد أسس إجاباته الموضوعيّة في مسارات هذا الأفق النقديّ الّذي دشّنه طيب تيزيني بمشروع رؤية جديدة للفكر العربيّ في العصر الوسيط، تتابعت حلقاته من التّراث إلى الثّورة، وصولا إلى بيان في النّهضة والتّنوير؟ هل كان السّؤال النّقدي، بضرورة فكريّة سياسيّة، يستلزم ربط الجسور بتراث الفكر الماديّ في نشأته وتطوّره عبر سيرورة تاريخيّة معرفيّة اجتماعيّة من تاريخيّة الفكر الفلسفيّ اليونانيّ إلى تمثّله واستيعابه ثمّ إعادة إنتاجه وفق الوسط الثّقافيّ والفكريّ، والاجتماعيّ التّاريخيّ للمجتمعات العربيّة الاسلاميّة في العصر الوسيط؟ وبمعنى آخر هل الأزمة في شموليتها بعد الهزيمة بكلّ تعقيداتها الاجتماعيّة والسّياسيّة والفكريّة…، وبسياقاتها التّاريخيّة الاجتماعيّة المحليّة والإقليميّة والدوليّة كانت تقبل بهذا الحصر لأبعاد عمق السّؤال النقديّ في رؤية نقديّة ثقافويّة لحقيقة صراعات بنى التّركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ، خاصّة على المستوى السّياسيّ لطبيعة السّلطة السّائدة والقوى السّياسيّة الفاعلة في هذا الصّراع بشكل أو بآخر؟ وما طبيعة بنى ذلك التّركيب الاجتماعيّ في مستوياته الاقتصاديّة والسّياسيّة والإيديولوجيّة، أي في تحوّلاته الاجتماعيّة والثّقافيّة والقيميّة الحضاريّة، المدنيّة والسّياسيّة والديمغرفيّة…؟

أغلب المفكّرين العرب حاولوا مقاربة هذه الأسئلة بتفاوت في اكتشاف وصياغة السّؤال النقديّ، فظهرت مجموعة من الكتابات النقديّة تحمل بشكل صريح عناوين النّقد: نقد الفكر الديني، النّقد الذاتي، النّقد الحضاري، نقد الفكر العربيّ الاسلاميّ، نقد العقل العربي ونقد العقل الاسلامي…، هكذا كان سؤال النّقد حاضرا بقوّة ومتأثرا بالظروف التّاريخيّة الاجتماعيّة وما يحيط بها من ملابسات وصراعات سياسيّة اجتماعيّة محليّة داخليّة، تلبست أقنعة الوطنيّة والتّحرر، والتّقدميّة والقوميّة والاشتراكيّة، نتيجة الحضور الاستعماريّ والامبرياليّ داخل الصيرورة التّاريخيّة لتطوّر الحركة التّاريخيّة لبنى المجتمعات العربيّة، وهو حضور اقتصادي وسياسي وإيديولوجي وحضاري متعدّد الأبعاد ومتفاوت الخطورة والإيجابيّة والسّلبيّة في تفاعلات جدل العمليات التّاريخيّة للتّأثر والتّأثير غير المتوازنة وغير متكافئة في إطار وحدة التّاريخ ألرأسمالي الّذي ولّدته الضّرورة التّطوريّة لتمركز وانتشار وتوسّع النّمط الانتاجيّ الرأسماليّ وما حمله من أسس وأطر وقيم فكريّة فلسفيّة علميّة اجتماعيّة وثقافيّة…، تعبّر عمّا صار يعرف بالحداثة. في هذا السّياق ظهر المشروع الفكري للطيب تيزيني مسكونا بهواجس أسئلة المرحلة التّاريخيّة ومخاضات تحوّلاتها العنيفة باحثا عن شرعيّة تاريخيّة فلسفيّة فكريّة قادرة على احتضان وتخصيب ولادة ونشأة وتطوّر السّؤال النقدي القادر على تعرية فكر الهزيمة والانكسار والتّخلف السّائد، والقادر أيضا على تحرير ديناميات جدل  الواقع المأزوم. وبسبب هذه السّياقات المترابطة والشّديدة التّعقيد، بالإضافة إلى التّباسات كثيرة وهي فكريّة سياسيّة بالدرجة الأولى نتيجة الحضور القويّ الماديّ المتمثّل في مستوى تطوّر وتقدّم الغرب الكولونيالي والامبريالي، والحضور القويّ كذلك للفكر السّوسيولوجي والأنتروبولوجي الاستعماري والممارسة السّياسيّة للصراع الجيوسياسي لفرض السّيطرة والهيمنة عبر أشكال سياسيّة بديلة للاستعمار العسكريّ المباشر توافقا مع المعطيات الجديدة لاستقلال المستعمرات، وجد المثقّف العربي نفسه تحت وطأة السّياسة بلغة وفكر ورؤية ومناهج إيديولوجيّة، إمّا بدافع سقفه الفكريّ السّياسيّ وحدود ومحدوديّة رؤيته النقديّة، أو بسبب التّطبيع مع الإجماع العام الّذي أنتجته تلك السّياقات السّابقة. كما أنّ هناك من سار على الخطّ العام الصّحيح للسّلطة السّياسيّة احتواء أو خوفا أو قناعة بالأفق السّياسيّ للأنظمة الوطنيّة والقوميّة والتّقدميّة… بعيدا عن أن تطال هواجس أسئلة السّؤال النقدي بنى التّركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ للسّقف السّياسيّ السّلطويّ لهذه الأنظمة ولمنظومتها الإيديولوجيّة. ونحن نعتقد انطلاقا من قراءتنا لمشروع طيب تيزيني أنّه انطلق في ممارسته الفلسفيّة الفكريّة وفق هذه القناعة الأخيرة للصراع السّياسيّ السّلطويّ في قوميته وتقدميته واشتراكيته، الشّيء الّذي جعلنا نرى في ذلك محنة للسّؤال النقديّ لأنّ صاحبه زجّ به – السّؤال النقدي – في صراع إيديولوجي أساسه التّمييز والتّصنيف والتّجزيء والانتقاء والتّبرير…وما شابه ذلك من المنطلقات والأدوات والآليات الإيديولوجيّة، فكان مفكّرا إيديولوجيا بامتياز كبير، حيث أنفق الرّجل مرحلة خصبة من عمره في حديث الكتب عن الكتب بعيدا عن جدل الواقع وما يتطلّبه من ممارسة فلسفيّة فكريّة سياسيّة تعي خطورة وهم الأرضيّة السّياسيّة المشتركة بين المفكّر العربيّ والأنظمة الوطنيّة التّقدميّة. وبدل الارتماء في أحضان الصّراع الإيديولوجي على التّراث وهو الوجه الآخر للسلفيّة السّياسيّة رغم العباءة الماركسيّة العلمانيّة، حيث كان على السّؤال النقديّ كي يكون علميا ومعرفيا وواضحا منهجيا تجاه السّلفيات السّياسيّة والاستشراقيّة كما شاء له طيب لتيزيني في مقدمات ومفاصل كتبه أن لا يكون من زاوية الصّديق والحليف، أو المتوافق مع الشكل السّياسيّ السّلطويّ السّائد، وهذا ما تداركه في كتاباته الأخيرة، خاصّة مقالاته على صحيفة الاتّحاد

سادسا/:طيّب تيزيني، الشّجاعة وقول الحقيقة

” جاء سقوط الوحدة مقدمة لعدد من الانقلابات العسكريّة، الّتي انتهت بتأسيس ديكتاتوريّة حزب “البعث” عام 1963 حتّى عام 1970، وتوقّفت هذه التّغيرات مع الانقلاب الّذي حقّقه حافظ الأسد، تحت اسم “الحركة التّصحيحيّة”. ومع تكرُّس هذه الأخيرة يكون الانتقال قد تمّ من “ديكتاتوريّة الحزب” إلى “ديكتاتوريّة الفرد”، أي حافظ الأسد، الّذي أصبح بعدئذ “قائد المسيرة إلى الأبد”، عام 1970.ها هنا، يتوقّف التّاريخ عن أن يكون إطاراً لحافظ الأسد، ليصبح حقل تجلّي التّاريخ وعقله.”69 هذه سيرورة واقع سياسيّ اجتماعيّ تاريخيّ عربيّ، إلى حدّ مّا، بشكل عام. فأمام الانهيار الكبير، أو الحطام، بلغة تيزيني، الّذي ترزح المجتمعات العربيّة تحت وطأة عذابات مآسيه، بصورة متفاوتة، تبرز الضّرورة الفكريّة والسّياسيّة لمحنة السّؤال النقديّ: لماذا لم يتحل المفكر العربي بقدر كبير من الشّجاعة الفلسفيّة والمعرفيّة والسّياسيّة في قول الحقيقة عوض إفناء الذّات والمجاهدة في مقامات التّراث بحثا عن الثّورة والنّهضة والتّنوير إلى درجة هدر عمر أجيال وأجيال من عصر النّهضة إلى اليوم والموات الأبدي يكرّر نفسه باستمرار في الصّراع على التّراث بين الظّلاميين و”التّقدميين”؟ “وإذا كان الأمر كذلك، فإنّنا أمام إرهاصات التّراجع إلى القرن التّاسع عشر، وسط تعقيدات هائلة، عرقلت وتعرقل عمليّة الانتقال من فضاءات ذلك القرن إلى القرن الـ21. وإذا كنّا مخوَّلين بالتّحدث عن حطام جديد، فهو حطام يجمع بين ماضيه وحاضره، كما قد يجمع بين حاضره ومستقبله، وجميعها ملطَّخة بدماء الصّراعات الداخليّة، الّتي حالت دون إنجاح الدول الوطنيّة وتهيئتها للدّخول في عالم الحداثة والديمقراطيّة والوحدة.”70 فهل كانت حقّا صراعات داخليّة أم أنّ الأمر يتعلّق بأنظمة سياسيّة لا وطنيّة ولا ديمقراطيّة. ولم تكن الحداثة ولا الديمقراطيّة واردة في ممارستها السّياسيّة، لأنّها بكلّ بساطة لم تكن تملك مشروعا مجتمعيا لذلك كرّست كلّ ما هو متخلّف وفاسد وما دون الدّولة والمجتمع والثّقافة لتضمن ديمومتها الأبديّة في القهر والطّغيان. وهذا ليس غريبا أن يصدر كممارسة سياسيّة اقتصاديّة وإيديولوجيّة من قبل هذه الأنظمة، لكنّ الغرابة هو قبول المفكّر العربيّ بهذا الاغتراب، والقبول بالثّقافوي فيما الاجتماعي السّياسي يهيئ مجتمعاتنا للموت والخراب. فلماذا تمّ القبول بالسّقف الإيديولوجيّ السّلطوي الاستبدادي أساسا للصّراع السّياسيّ، والانغماس في بؤس التّراث بخلفيات إيديولوجيّة شكّلت سندا ودعما، من حيث تدري أو لا تدري، لبداية السّيرورة التّاريخيّة ” لانبثاق النّموذج الأعظم للتّاريخ الأسديّ بذاته، الّذي راح يفصح عن نفسه فيما لا يحصى من النّماذج، الّتي ستكتمل في النّموذج المهيئ لحافظ الأسد نفسه، نعني جلجامش، الّذي نصفه إله ونصفه الآخر بشر ومع تشخيص ذلك في قلب الأحداث، نجد جلجامش الأسد ملكا ومالكا وإلها، في السّياسة والاقتصاد واللاّهوت، وقد تحدّد الأمر وتشخّص أكثر، حين تشخّص وتحدّد في المكوّنات الّتي قام عليها الاستبداد الأسدي (لدى الأب أوّلا ولدى الابن ثانيا).71″ ؟ والأسديّة ا ليست حالة عائليّة أو حزبيّة وطائفيّة ومناطقيّة فقط، بل هي نظام سياسي شامل وشمولي للواقع السّياسيّ العربي بتفاوت في التّحدّد البنيويّ والتّطور التّاريخيّ للصّراع السّياسيّ الاجتماعيّ، وبالتّالي هي تصلح أن تكون أداة بحثيّة في مقاربة طبيعة النّظام السّياسيّ الاقتصاديّ والإيديولوجي العربي. وإزاء هذه السّيرورة التّاريخيّة للتّخلف والتّخليف والفساد والإفساد على حدّ تعبير تيزيني، يفرض السّؤال نفسه: لماذا تمّ كبت السّؤال النقدي والزّج به في سرداب التّراث حيث البؤس الفلسفي والفكري واحد، والأقنعة متعدّدة بين: نحن والتّراث، تجديد التّراث، من العقيدة إلى الثّورة، من التّراث إلى الثّورة، نقد العقل العربيّ، نقد نقد العقل…في حرب هامشيّة ضدّ قوى الظّلاميّة استفاد منها تكون وتطوّر جلجامش النظام السّياسي العربي؟ وقد تحوّلت المكتبات العربيّة إلى ركام هائل من الكتب المتجاوزة الصلوحيّة والمفجعة للقارئ وهو يشعر بالنّدم الفكريّ والخيبة الفلسفيّة والسّياسيّة، حين يدرك العمر الكامل الّذي أنفقه مفكّرون ومستنيرون كبار من أجل مشاريع فكريّة وهميّة نكوصيّة من نقد العقل إلى تفسير القرآن، ومن نقد النّقد إلى إسلام القرآن72، ومن بؤس تراث الثّورة إلى الحطام المفتوح لجلجامش… أسئلة وإشكاليات مغلوطة كان فيها لصمت الذّاكرة ألف معنى على محنة السّؤال النقدي على يد أهله من المفكّرين والمثقفين، دون أن تكون لهم الشّجاعة الفكريّة والفلسفيّة في قول الحقيقة ودقّ جدران الخزان الاستبدادي. ” فإنّ حضور الأسئلة في فكر ما لا يمثل ظاهرة إيجابيّة على الدّوام، لأنّ منها ما يمكن أن يكون زائفاً أو ملفّقاً أو غير مستكمل لشرائط الاتّساق المنطقيّ والمطابقة النسبيّة مع الواقع”73. هل في هذا التّصريح نوع من النقد الذاتيّ الخجول، أم مجرّد اعتراف بمرارة الواقع أمام نتائج الرقابة الذاتيّة في حقّ السّؤال النقدي الحقيقيّ، والانهمام بالتّراث بحثا عن إمكانيات الثّورة والنّهوض والتّنوير؟

وإذا كنّا نقدّر باحترام كبير مجهود المفكّر النقديّ العربيّ، كطيّب تيزيني، فإنّنا لا نجد مبرّرا معقولا وموضوعيا يسمح لهذا المفكّر ونحن نتصفّح كتبه وحضوره الفكري والسّياسي والاعلامي بهذا الصّمت المريب تجاه التّركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ لمجتمعاتنا، الآن هنا راهنا، وما يحرّكه من صراع سياسي إيديولوجي يسود فيه ” الاضطراب الهائل وشبه المستديم لواقع الحال في العالم العربي- الإسلامي. وهو يتجلّى في الظّلم والاستبداد والإفقار المفتوح في هذا العالم. فعلى مدى سنين طويلة سيطر فيه ما نلخّصه بـ«قانون الاستبداد الرباعي» بصيغ متعاظمة من الظّلم والاستفراد وابتلاع المجتمعات القائمة اقتصاداً وسياسة وثروة وقراراً وغيره.”74

وللأمانة نقول: بأنّ المفكّر طيّب تيزيني كان مع الثّورة السوريّة في التّوقيع والفعل البناء انطلاقا من ربيع دمشق، مرورا ببيان النّهضة والتّنوير، وفي الحضور الحقوقيّ والاعلاميّ، وصولا إلى الانحياز الكامل والصّريح إلى ثورة الشّعب، مع تحميل النّظام مسؤوليّة شرّ المأساة الّتي تعيشها سورية شعبا ووطنا. ” لقد ارتكب بشّار الأسد خطأً تسونامياً قاتلاً، حيث وضع في رأسه ورؤوس حُماته خطّة تدمير سوريا، لقد أخطأ خطأ لا يرقى إلى مستوى خطأ ربّما في التّاريخ كلّه، نقول ذلك حتّى إذا انتصر ولن ينتصر، إنّها المأساة الّتي لا يرقى إلى مستوى بنيتها وفصولها أي حدث آخر، لقد علّق «الرّئيس بشّار» على جدران دمشق وسوريا ما يتجاوز أكبر الكبائر في التّاريخ على الإطلاق، وذلك بصيغة ملهاة مأساة مجسّدة بما تبقى من سوريا: بشّار أو حرق البلد، لا وجود لسوريا دون بشّار، وهذا ما لا يمكن مغفرته”75.

محنة السّؤال النقديّ في فكر طيّب تيزيني تذكرني بمحنة  فكر سقراط حول الشّجاعة في قول الحقيقة عن الذّات ومعرفة الذّات حين قال في محاورة الدّفاع ” هل تعتقدون أنّني كنت سأعمّر كلّ هذه السّنين لو أنّني حشرت نفسي في الشّؤون العامّة. لو أنّني تعاملت معها كرجل شريف، واضعا مسألة العدالة فوق كلّ اعتبار”… ” لو حاولت منذ زمن طويل، أن أشغل نفسي بالسّياسة، كنت قد مت، ولو مت لما أمكن أن أقدّم لكم ولي أي نفع. وأرجو ألاّ تغضبوا إذا قلت لكم الحقيقة. فأنا واثق من أنّه لا يوجد أي إنسان على وجه الأرض يستطيع، إذا ما قاومكم بصورة واعية أو تصدى لأيّة ديمقراطيّة منظّمة، ومنع جهارا نهارا وقوع العديد من الشّرور والأعمال غير المشروعة في دولة ينتمي هو بالذّات إليها، يستطيع النّجاة بحياته. لذلك فإنّ البطل الصّادق العزم على الدّفاع عن العدالة، إذا ما أراد أن تكتب له الحياة، ولو لفترة قصيرة من الزّمن، توجّب عليه أن يحصر نشاطه داخل الحياة الخاصّة، وأن يترك السّياسة وشأنها. (أفلاطون: آخر أيّام سقراط، ترجمة: أحمد الشيباني)75

ورغم ذلك فطيّب تيزيني عرّض حياته للخطر في مواقف مختلفة وتمّ التّنكيل به والتّضييق عليه، وكان صريحا وشريفا، وهو يغامر بحياته من أجل الحقيقة.

وكما قلت في هذا البحث المتواضع بأنّ  السّؤال النقدي لا يرحم حتّى بحثنا هذا، حيث لا يمكن للنّقد أن يوجد ويكتمل إلاّ حيث يستحيل وجوده أي اكتماله، فإنّني لا أستطيع أن أخفي في هذا السّياق تساؤل هايدجر في كتابه عن كانط” ألا يتستر مجهودنا نحن كذلك وراء أشياء لا ندركها”.

********

الهوامش:

67- هذا ما ناقشه طيب تيزيني في مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر.

68- طيب تيزيني: من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي، ص12. مرجع مذكور

69- طيب تيزيني: الفكر النقدي والمعارضة، صحيفة الاتحاد. مرجع مذكور

70- طيب تيزيني: حطام الواقع العربي، المرجع نفسه.

71- طيب تيزيني: الفكر النقدي والمعارضة، المرجع نفسه.

72- لحسن وزين: أسئلة النقد ونقد النقد وعلاقتها بالتّراث العربي في فكر جورج طرابيشي، مجلة قلمون العدد7، س2018.

73- طيب تيزيني: قصور الفكر، صحيفة الاتّحاد.

74- طيب تيزيني: وجهات نظر داعش والاستبداد الرباعي، المرجع نفسه.

75- طيب تيزيني: تأسيس الاستبداد السّياسي، المرجع نفسه.

76- ميشيل فوكو: سقراط، الشجاعة وقول الحقيقة، ترجمة: توفيق رشد، مجلة نجمة، ع2، س 1987، ص45و47.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك