العرب وعلـوم العصر أين تكمن المعوقات؟

أحمد مغربي

والدكتور حامد طاهر

وعبود عطية

 

الأرجح أن أسئلة كثيرة تختبئ خلف السؤال عن كيفية خروج العرب من حال التخلف العلمي الذي يعيشونه راهناً. وتبدو هذه الحال مؤلمة للبعض إلى حد التساؤل عما إذا كان الإنسان العربي، بشيء ما خفي في تكوينه أو طبيعته، متخلف! ويعكس السؤال قلقاً قومياً مشروعاً, وإن عبّر عن نفسه بلغة ساخطة. وليس من المبالغة القول أنه يعكس اعتزازاً بالذات وحباً لها، يستعمل لغة الارتداد عليها، إلى حد ملامسة العنصرية. فمن الواضح أن القول بتخلف أصيل في الإنسان العربي قول عنصري ينقضه التاريخ المديد للمنطقة العربية، التي احتضنت حضارة الإنسان في مهدها الفرعوني الأول، وينقضه تاريخ الحضارة الإسلامية التي شهدت نهوضاً علمياً قوياً، وينقضه سيل يومي من الشباب العربي الذي ما فتئ، ومنذ مطالع القرن العشرين، يتدفق إلى الغرب ويتألق علمياً، على مستوى فردي تماماً، فيه. ربما تصلح كنماذج منها أسماء مثل أحمد الزويل (حائز على جائزة نوبل للكيمياء في العام 1999م) ومجدي يعقوب (حاز على لقب سِيْر من الملكة إليزابيث تقديراً لإنجازاته في مجال جراحة القلب) وحسن الصَبّاح (صاحب مجموعة من براءات الاختراعات في أمريكا)، إضافة إلى عشرات أساتذة الجامعات والعاملين في مراكز الأبحاث في الغرب، وغيرهم. والمفارقة أن البعض ينام على ماضي النهوض العلمي للحضارة العربية – الإسلامية، إلى حد أن ذلك النهوض يبدو أحياناً وكأنه عثرة في سبيل التقدم في الزمن الراهن!

الواقع وأسئلته
من الواضح أننا نعيش عصراً علمياً غربياً. وراهناً، تتصل صورة العلم بالغرب على نحو يصعب انفكاكها عنه. الصناعة بأصنافها التي لا تحصى، والسيارة والطائرة والغواصة والقطار والدراجة الهوائية والبخارية، ومعرفة أسرار الذرة وتفكيكها, والقنبلة الذرية، استخدام طاقة الماء والبخار والفحم والبترول, والوصول إلى القمر، والهبوط على المريخ، ومحطة الفضاء الدولية، وقصف المذنب تامبل ، وتفكيك الشيفرة الوراثية (الجينوم) للإنسان والحيوان، والاستنساخ، ونقل الأعضاء البشرية، والكومبيوتر والإنترنت، والاتصالات بالأقمار الصناعية، المفاعلات الذرية، والتلفزيون والسينما والراديو والمسجلات والفيديوات بأنواعها…الخ. من الواضح أنه عصر علمي متألق للغرب. هنا نصل إلى منعطف مهم: هل يجب اتباع النموذج الغربي للخروج من التخلف العلمي؟ وما المقصود بكلمة نموذج؟ وما الذي يشمله ذلك الاتّباع؟ وما الذي يضمن ألا يتحوّل استتباعاً؟ هل ثمة نماذج أخرى ممكنة، غير الغرب؟ وهل يكفل اتباع نموذج ما، أياً كان وسواء اشتق من الماضي أو الحاضر، هل يكفل الوصول إلى التقدم؟ وكيف؟…الخ.

غرب متقدم وواقع عربي متخلف. يسهل قول مثل هذه العبارة، فهل يسهل اشتقاق الأسئلة، عدا عن الأجوبة، منها؟ لنأخذ المسألة الأساسية فيها: التخلف. ما هو التخلف؟ هل هو شيء تتفق الآراء في تعريفه وتحديد مواصفاته، لكي ننطلق منه في السعي إلى إجابة؟ يبدو السؤال مضنياً أكثر إذا حاولنا تحديد المشكلة التي نواجهها (كيف نصل إلى التقدم العلمي) انطلاقاً من التخلف. فمثلاً، هل يمكن القول بتخلف علمي معزول عما عداه، أم أن التخلف العلمي يتصل أيضاً بالتخلف عموماً. قد نصل إلى دائرة مغلقة: التقدّم العلمي شرط الخروج من التخلف، ولا تقدّم علمياً في ظل التخلف أيضاً! يرى البعض في الحديث عن التخلف الحضاري عسفاً لا يخلو من العنصرية. وفي المقابل، هل نستطيع القول أن شعباً ما يمكن أن يكون غير متخلف حضارياً، ولكنه متخلف علمياً فقط ؟ أم أن العلم من أشكال الاتصال مع الحضارة، بحيث يمثّل التأخر في مجاراة الشعوب علمياً دليلاً أو مؤشراً على التخلف عن ركب الحضارة الإنسانية؟ لقد توسّع السؤال بشكل مقلق. هل يتوجب علينا نقاش التخلف كشرط لنقاش التخلف العلمي؟ وهل يستطيع المتخلّف أن يصنع وعياً تاريخياً عن تخلفه، أم أنه يفشل، بالذات لأنه متخلف؟

العلم في ميزان الحضارة
إذا فكر البعض في ذلك الاتجاه، فلربما لا يخطئ كثيراً، لكنه يوسّع دائرة النقاش بطريقة تدعو للقلق، وتهدد بضياع الجدوى منه. صحيح أن العلم والحضارة ليسا شيئين متطابقين دوماً، لكن الفصل الكامل بينهما يبدو عسفياً واختزالياً. لقد رفعت النازية راية العلم بقوة شديدة. وهي تمثل وضعاً مشتطاً، أو متوحشاً كما درج المفكرون في الغرب على القول، للإعلاء من شأن العلم والعقل في ميزان الحضارة. لهذا تُستخدم عبارة من نوع عقلانية متوحشة في الإشارة إلى تجارب من نوع النازية. ولكنها ليست عزفاً منفرداً. لطالما بررت الدول الأوروبية استعمارها العالم، بالعبء الذي ألقاه القدر على الرجل الأبيض، الذي يتوجب عليه إنقاذ أمم العالم من الجهل والتخلف عبر… الاستعمار! لعل مقولة العبء الحضاري للرجل الأبيض (التي رميت أيضاً في وجه الأفارقة الأمريكيين تمييزاً عنصرياً)، من أقوى مفارقات ما يُسمى بمشروع الحداثة الأوروبي، إضافة إلى مقتلتي الحربين العالميتين، والجريمة ضد الإنسانية التي مثلتها مجزرة القنبلة الذرية وغيرها. وثمة نقاش مديد في الغرب عن الدلالة الحضارية لتلك الأمور، التي يفيد استحضارها للتأكيد على ضرورة النظرة النقدية والمُركّبة لأمر العلم والبحث عن سبل التقدم فيه.

في مقابل العناصر السابقة، تقف عالمية العلم وإنسانيته، باعتباره بعداً يجدر ملاحظته. اكتشف ابن النفيس (1210 – 1288م) الدورتين الدمويتين الكبرى والصغرى. ونسف ما قاله اليوناني بطليموس في هذا الشأن. وسبق ما سيتوصل إليه وليام هارفي بعده بثلاثة قرون. تكمن أهمية اكتشافه في أنه قدم صورة علمية عن عمل قلب الإنسان. رصد مرقب مراغة (في غربي إيران) النجوم، ودَوّن خارطة للسماء، كما رآها الفلكيون العرب، مثل ابن الشاطر (توفي 1375م) والبتروجي والطوسي (1274م) وقطب الدين الشيرازي (1311م) وغيرهم. إحدى الأوجه المهمة في هذا الاكتشاف أن علماء الحاضر، وكل من جاء بعد مدرسة مراغة، يعمقون فهمهم لحال المجرة راهناً بالرجوع إلى ما كانت عليه سابقاً. ثمة تواصل في أحوال الفلك، الذي يبدو ككائن يتطور باستمرار. كلما كانت أوصاف السابقين أكثر دقة، كلما أفادت علماء الحاضر. وكذلك يمكن القول إن خرائط الحاضر تفيد علماء المستقبل وهكذا دواليك. يُشكل الفلك وعلومه مُعطىً إنسانياً شاملاً.

وضع البتروجي في كتابه مبادئ الفلك ، وكذلك ابن الشاطر وعلماء مركز مراغة، نموذجاً للنظام الشمسي بيّن فيه أن الشمس وليست الأرض (التي اعتبرها كروية) هي مركز ذلك النظام. علم الفلك العربي ملك للإنسانية وإسهام في وعيها العلمي والتاريخي (مثل علم الجينوم راهناً، ولو بشكل نسبي). نقض البتروجي وابن الشاطر وغيرهم نموذج الفيلسوف اليوناني بطليموس (الذي عرفه العرب وترجموه). ومهدوا لثورة الفلكي البولوني نيقوس كوبرنيكوس في العلم. والجدير بالذكر أن ثورة كوبرنيكوس تُعتبر في الغرب، النقلة التي فتحت عصر الحداثة الأوروبية التي ما زالت مستمرة وتتطور باستمرار. وقد اعتبر بعض الغربيين، مثل سويردلو ونيغبور في رياضيات الفلك في ثورة كوبرنيكوس ، أن الفلكي الأوروبي المذكور يكاد أن يكون تلميذاً لمدرسة مراغة. ورأوا أن السؤال الفعلي هو كيف وأين اطلع على علم العرب في الفلك، وليس إذا ما كان اطّلع عليه! مما سبق يتضح أن المسألة لها عناصر عدة، مما يجعل التبسيط أمراً غير مُجد.

بين التقني والمثقف
لنأخذ قصة أحمد الزويل. اخترناه باعتباره عربياً حقق إنجازاً علمياً في الغرب، بعدما خرج من جامعة الإسكندرية إلى كاليفورنيا ليعبر منها إلى جائزة نوبل في الكيمياء.

لا بد من تكرار القول بأن كثيرين رأوا في تفوق الزويل علمياً إثباتاً بأن الفرد العربي يملك من القدرات ما يؤهله لتلقي العلم، وأنه ليس متخلفاً في طبيعته!

والحال أن الحديث عن تخلف الإنسان لأنه ينتمي لقومية أو هوية معينة، يعكس الكثير من الإحساس بالدونية من ناحية، وفي الحال العربية، فإنها تترافق مع نوع من الاستلاب أمام المركزية الغربية، إضافة إلى أنها فكرة عنصرية بامتياز! واستطراداً، تجدر الإشارة إلى أن بعضاً من أساتذة المحافظين الجدد في أمريكا، تمتلئ رءوسهم بمثل تلك الأفكار. ولعل المثال الأوضح يأتي من كتاب العقل العربي ، لرفائييل باتاي الذي يُدَرّس في عدد من الجامعات الأمريكية المرموقة مثل برنستون وكولومبيا. ويرسم باتاي فيه صورة عن الثقافة العربية ارتكازاً إلى موقف عنصري يعتبرها بطبيعتها متخلفة، ولا تنتج سوى متخلفين، مما يُذكّر بالطريقة التي وصف فيها النازيون اليهود.

في كتاب عصر العلم ، كرر الزويل تشديده على دور النظام السياسي العربي في عملية التقدم العلمي لأمة تملك من المقومات المادية والبشرية ما يؤهلها لمواكبة الركب.

ويمثل هذا الأمر أحد ذراعي تفكير زويل في هذا الموضوع. وتتشكل الذراع الثانية من فكرة دأب الرجل على ترويجها، بحيث صارت معروفة عنه. وترتكز تلك الفكرة إلى حاجة العرب لإنشاء مراكز تفوق (Excellency Centres) للعلوم، على غرار معهد ماكس بلانك الألماني، ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا (أمريكا), وكلية التكنولوجيا في جامعة كاليفورنيا (أمريكا) وغيرها. وتعمل مراكز التفوّق كحاضنة للعلماء، وتؤدي دور الرافعة العلمية في خروج العرب من تخلفهم الراهن.

يُمثل الحل الذي يطرحه زويل نموذجاً لتفكير الكادر التقني، بالمقارنة مع الكادر المُثقَف. وتُشبه فكرته أفكار مُشابهة كثيرة ترى أن التخلف العلمي مسافة يمكن عبورها، باستخدام وسائل تفصيلية مثل إنشاء مراكز الأبحاث، وتمويل البحث العلمي، ونشر المعاهد والجامعات، والخوض في مشروعات علمية إقليمية أو دولية، وإرسال المبعوثين إلى الغرب والتنسيق مع جامعاته أو مراكزه البحثية وما إلى ذلك. يلفت إصرار زويل على مراكز التفوق، باعتبارها شكلاً متقدماً من مراكز البحث، إضافة إلى أنها تفترض تجاوز مسألة التمويل غيرالكافي الذي تعانيه الأبحاث العلمية ومراكزها عربياً. هل يمكن لهذه التفاصيل أن تُمثل الحل؟ الأرجح أن لا! ليست الإجابة تعسفية. يكفي التأمل في مسألة التقدم العلمي من منظار تاريخي، لنعرف أنها لا تُختزل إلى تفاصيل، ولا تُحلّ بإجراءات وتمويل وما إلى ذلك. وبعد، فما الذي فعله العرب، منذ عهد محمد علي باشا إلى مدينة دبي للإنترنت، ومروراً بأرتال الجامعات والمعاهد ومراكز البحث والمبعوثين والموفدين وما إلى ذلك، غير أنهم جربوا أشكالاً متعددة من هذا الحل؟

تصل بنا الأمور مجدداً للقول بأن العلم لا ينمو في فراغ، بل يتفاعل مع سياق اجتماعي وثقافي يجدر إعطاؤه اهتمام الكامل.

المقاربة النقدية
الأرجح أنه يجب مقاربة الأمر بطرق مختلفة. ويعني ذلك أيضاً أننا أمام معضلة ابستمولوجية Epoistemology أصيلة. نفتح قوسين للقول بأن الابستمولوجيا (وهي فرع من المعرفة لم يوله العرب المعاصرون اهتماماً كبيراً) هي، بالتعريف، تفكير نقدي في العلم. تشتمل الابستمولوجيا على تاريخ العلوم وكيفية تطور وسائلها في البحث ومناهجها في دراسة الظواهر التي تعرض لها. يميل البعض لوصف الابستمولوجيا بأنها مقاربة لعلاقة التراسل بين العلم ومادته، أي كيف تتوصل العلوم إلى مناهجها, وكيف تطبقها، وما المشكلات التي تنشأ لاحقاً بحيث تُظهر ضعف المناهج المُتَّبَعَة والسائدة، فتُملي بالتالي ضرورة الانتقال إلى مناهج أخرى وهكذا دواليك. وفي المقابل، تركز المدارس الفلسفية المُعاصرة، وخصوصاً الفرنسية منها، على تعريف الابستمولوجيا باعتبارها دراسة نقدية لما تحمله العلوم من أفكار وقيم وصور وخيالات عن الإنسان والعالم والكون، إضافة إلى مناهج البحث التي تضمن الوصول إلى المعلومات والتثبت منها.

إذاً، فمن وجهة ابستيمولوجية، فان التقدم العلمي يترابط بصورة متفاعلة مع تطور البنى الاجتماعية، مثل النظام التعليمي والبنى القانونية وتطور المؤسسات (وخصوصاً العلمية منها لأنها تحدد وضع النخبة العلمية) وغيرها. يقدم العلم خيالاً أساساً عن الكون، يتضمن المكوّنات الأساسية وتفاعلها والمسائل الرئيسة التي تواجه العلم. ويثبت النظام التعليمي والتربوي تلك الرؤية، في سياق من تداخله مع المؤسسات القانونية والتشريعية.

هناك مسألة أخرى. يُقدم النموذج الأوروبي، والغربي عموماً، في التقدم العلمي نفياً قوياً، بل وحاسماً، لفكرة النموذج ! فمن الواضح أن الغرب لم يتّبع أي نموذج مسبق في الوصول إلى التقدم العلمي. لا شأن لذلك بالأشكال المختلفة من التواصل العلمي، مثل الترجمة والأخذ من علوم الشعوب الأخرى، التي تعتبر من بديهيات شروط التطور العلمي. لم تتبع أوروبا نموذحاً. واستطراداً، يمكن القول أن الصين راهناً، والهند إلى حد كبير، لم تتبع نماذج مُسبقة قررتها كمدخل وكطريقة للوصول إلى ما تريده في أحوال العلم. والحال أن تجربة العرب في العصر الحديث مع النماذج المُختلفة التي حاولوا، بطرق مختلفة، السير عليها لم توصلهم إلى التقاط خيط التطور المنشود.

وباستعارة اللغة الشعرية لبشلار عن العلم، يمكن القول أن تثبيت خيال علمي عن العالم والإنسان يمثل أيضاً شرطاً ضرورياً للتقدم العلمي. وفي المقابل، يجب أن يلتقط المجتمع ذلك الخيال العلمي ويتشربه، عبر التعليم والتربية والفنون والسياسة (بما في ذلك علاقتها مع الدساتير والقوانين) والفلسفة وغيرها من أعمال الفكر، لكي يتهيأ المناخ الاجتماعي والثقافي اللازم لتقدم العلم. وهنا ينفتح الكلام على آفاق واسعة، يصعب لمها في مقال منفرد.

البحث العلمي موجود، ولكن…
أ.د. حامد طاهر
بدأ البحث العلمي، تبعاً للمنهج العلمي الحديث (الذي يقوم على تعدد الملاحظات ووضع الفروض ثم التحقق منها لاستخلاص قانون علمي ينطبق على الظاهرة المدروسة) في إطار الجامعات العربية الحديثة. وكان يحمل في أعماقه أملاً كبيراً وتطلعات هائلة. لكنه ما لبث أن اصطدم بالعديد من العقبات، كان أولها: ضعف التمويل المتاح له. وثانيها: عدم التواصل الكافي مع مراكز البحث المتطورة في الدول المتقدمة، وثالثها: معاناة الانفصال شبه الكامل بينه وبين قطاعات الخدمات والإنتاج في المجتمع. ورابعها: غلبة البيروقراطية الإدارية على نشاطه. وأخيراً اصطدامه بثقافة مجتمعات ما زالت غير مقتنعة تماماً بأن البحث العلمي هو المحرك الرئيس لعمليات التنمية، والمؤهل بكفاءة للصمود والسبق في أي منافسة.

ومع ذلك فإننا نظلم القائمين على رعاية البحث العلمي في البلاد العربية إذا وصفناهم جميعاً بالتقصير أو البيروقراطية. فلا شك أن كل جامعة عربية تمتلك العديد من مراكز البحوث، وأن كل مركز يوجد فيه من الأجهزة والمعدات ما يضاهي أمثاله في مراكز البحوث المتقدمة في العالم. لكن هذه المراكز تشكو من عدم التكامل وانعزال بعضها عن بعض، إلى حد أن بحثاً واحداً قد يتكرر العمل فيه في أكثر من مركز في وقت واحد داخل الدولة الواحدة، كذلك فمن النادر أن تجد تعاوناً إيجابياً بين مركزين أو أكثر في دراسة موضوع واحد، أو محاولة حل مشكلة معينة، وذلك في الوقت الذي انتهى فيه الغرب من أمثال هذه العيوب بفتح الباب واسعاً أمام ما يسمى (التخصصات البينية) أي التخصصات العلمية التي يمكن بل يجب أن يتعاون فيها علماء من أكثر من مجال لحل مشكلة واحدة، أو لتطوير مشروع معين. ولعل أوضح مثال على ذلك ما يجري في مؤسسة الفضاء الأمريكية (ناسا) التي تضم علماء من كل التخصصات تقريباً، إلى جانب جمعها بين العسكريين والمدنيين في مشروعات مشتركة. هنا لم تعد التخصصات حجرات مغلقة بإحكام على العاملين فيها، وإنما فتحت الأبواب والنوافذ بينها، وأصبح التبادل العلمي المثمر يجري فيها جميعاً؛ لتحقيق الهدف النهائي للمشروع المقترح، أو للمشكلة موضع الدراسة.

لكن لابد من الاعتراف بأن البحث العلمي في جميع البلاد العربية لا يفتقد الكفاءات المتميزة والعقول الشابة المقبلة عليه. وبحكم موقعي في جامعة القاهرة، ألتقي بالعديد من هؤلاء وأولئك، وأكاد أقرر بأن أحداً منهم لا يبدو راضياً عن أحوال البحث العلمي، في نفس الوقت الذي يتحرق فيه شوقاً إلى المساهمة في أي مشروع بحثي جاد، وكثيراً ما يفاجئني باقتراح بعض المشروعات التي تصب مباشرة في خدمة قضايا المجتمع وتدعم تقدمه للأمام، لكنه يعود فيتأسف لضعف الإمكانيات، وتعقيدات الإدارة. وهذا موضوع في غاية الأهمية؛ لأن التقدم العلمي الذي تنعم به الولايات المتحدة الأمريكية حالياً، وتتصدر بسببه جميع دول العالم، إنما يرجع في المقام الأول إلى التغلب على هاتين العقبتين السابقتين، وذلك بتوفير كل الإمكانيات اللازمة، وتحقيق سيولة الإدارة العلمية بحيث أصبح يتوافق إيقاعها مع الحركة المتسارعة للبحث العلمي.

إن جوهر البحث العلمي يقوم على الابتكار، وإنتاج أفكار جديدة. وفي هذا الصدد، لا بد من إتاحة الفرصة المناسبة، وتهيئة الجو العام الذي تزدهر فيه ملكات الابتكار، وفتح الآفاق أمام الخيال الإنساني لكي يحلق بدون عوائق. وهذه الملاحظة تتعلق بإحدى خطوات المنهج التجريبي التي يعتمد فيها على (وضع الفروض) أي اقتراح الحلول المناسبة لحل المشكلات المعروضة. وكلما كان خيال الباحث نشطاً وبعيد المدى كان وقوعه على الأفكار المنتجة أكثر حظاً. لكن تنشيط الخيال عملية تربوية تبدأ في محيط الأسرة وتتطور في إطار المدرسة، وتنطلق في المرحلة الجامعية وما بعدها. ومهما كان الخيال جامحاً فلا ينبغي إيقافه، أو إحباط صاحبه، فإن الأفكار الكبرى التي أصبحت علامات فارقة في تاريخ البحث العلمي لم تكن سوى خيالات جامحة، أي أفكاراً تتجاوز حدود الزمن وظروف المكان، وتصطدم بما هو راسخ في المجتمع من أفكار مسبقة ومعتقدات شعبية ونفور من أي جديد ومحاربة غير المألوف.

الطريق إلى المستقبل
سمعت بنفسي وقرأت أكثر من تصريح لمسؤولين عرب يقولون فيها إن استيراد التكنولوجيا (وهي تطبيقات العلم) أوفر بكثير من استنباتها، والاستمرار في تحمل نفقاتها، والأهم من ذلك انتظار الوقت الطويل لكي تؤتي ثمارها. ولا شك أن مثل هذه التصريحات الصادرة عن مسؤولين هي التي أوقفت وما زالت توقف عجلة البحث العلمي العربي عن الدوران بالسرعة والكفاءة المطلوبتين. وبالطبع هي وجهة نظر تختار الطريق الأسهل، والأكثر ضماناً، بينما الطريق الآخر أكثر وعورة، وغير مضمون النتائج. فإذا ما توقفنا هنا عند مثال واحد، هو استيراد أو إنتاج السيارات، وجدنا البلاد العربية تضم مهندسين وفنيين مؤهلين تماماً لصنع سيارة محلية أو عربية، ولكن الملاحظ أن المنطقة العربية كلها تموج بمختلف أنواع السيارات من الشرق والغرب على السواء. ولا شك أن المسألة هنا متوقفة على (قرار) يقوم على رغبة حقيقية في إنتاج سيارة عربية، وساعتها سوف توضع كل الإمكانيات لإنتاجها. وأؤكد أن هذا أمر ممكن وغير مستحيل، لكن المسألة عند البحث عن الدوافع والبواعث الخفية يمكن أن نجدها مرتبطة بمصالح أصحاب التوكيلات التجارية، وحرصهم على استمرار مكاسبهم الوقتية.

وهكذا نرى أن استنبات التكنولوجيا في البيئة العربية لا يتوقف فقط على رغبة وإرادة، وإنما يحتاج قبل ذلك إلى تنظيف الأرض لكي يقوم عليها بناء قوي ومتماسك. ولعل المثال السابق يوقفنا على أن حركة البحث العلمي لا تنفصل عن الحركة الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية الموجودة في المجتمع كله. فهي تتأثر بها سلباً وإيجاباً، وتتفاعل معها خموداً ونشاطاً.

وإذا كانت الدول المتقدمة قد سبقت إلى استنبات العلم وتطبيقاته التكنولوجية، وتطويرهما، واستخلاص العديد من نتائجهما، حتى وصل الحال مع بداية القرن الحادي والعشرين إلى اعتبار ثروة الأمم لا تتوقف على مواردها الطبيعية، أو إنتاجها المحلي، أو أرصدتها المكدسة في البنوك، وإنما بالدرجة الأولى على تقدم البحث العلمي فيها، والعقول المبدعة التي تعمل فيه. لذلك لم يبق أمام البلاد العربية إلا أن تحاول النفاذ إلى تلك المنظومة العلمية العالمية من خلال التعاون البحثي أو المساعدة التقنية. وهذا معناه أنه إذا لم يكن في متناول العرب حالياً تنفيذ مشروعات بحثية ضخمة، فليس أقل من أن يشترك علماؤهم مع علماء الدول المتقدمة في مشروعاتهم البحثية، من أجل اكتساب الخبرة، والتدريب على آليات البحث العلمي وأما المساعدة التقنية فالمقصود بها الاتفاق على إنتاج بعض المكونات الصغيرة للأجهزة والآلات كما يحدث في الصين حالياً، عندما تنفرد بإنتاج شاحن بطارية التليفون المحمول الذي تصنعه السويد.

ويبقى بعد ذلك مجال واسع أمام البحث العلمي في البلاد العربية، وهو مجال لم أجد أحداً من الباحثين قبلي قد تعرض له، وهو ضرورة النهوض بالحرف اليدوية والصناعات التقليدية، ومحاولة نقلها نقلة نوعية تخرجها من إطار العمل اليدوي إلى آفاق الميكنة الحديثة. ويكفي أن أشير هنا إلى صناعة المشغولات الذهبية التي تفوقت فيها كل من إيطاليا وسنغافورة باستخدام التكنولوجيا الحديثة، وكذلك ما سبق أن فعلته اليابان بالنسبة لصناعة اللؤلؤ. وفي تقديري أننا بهذا التوجه لن ننشط البحث العلمي العربي فقط، وإنما نجعله أيضاً أداة لتطوير الكثير من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي كله.

لماذا لم نصنع..
سيارة؟
عبود عطية
تماماً كما يفترض التطور العلمي والتكنولوجي تعدد العناصر والجهات التي تتكامل وتشد بعضها البعض إلى الأمام لإنجاز الابتكار أو المنتج المتطور، فإن التقهقر العلمي يعود إلى عوامل متعددة تتفاعل في ما بينها وكل منها يتغذى من الآخر ليشد في الاتجاه المعاكس للتطور المنشود.

التعليم.. ما هي وظيفته حقاً؟
إن التفكير بعمق في واقع التعليم في البلاد العربية يعود بنا إلى اليوم الذي وضعت فيه أنطمته الأولى في النصف الأول من القرن العشرين.

ففي الأربعينيات من القرن الماضي، وعند وضع أنظمة التعليم الحديثة في لبنان وسوريا، نشب خلاف حول عدد سنوات الدراسة ما قبل الجامعية، وما إذا كان يجب أن يكون 11 سنة أو 12 سنة. والمفكر العربي ساطع الحصري، الذي كان متحمساً لنظام من 11 سنة، يعرض في كتاباته المطولة حول تلك المسألة حجج الفريقين ونقاشاتهما ما بين مؤيد لاقتباس نظام التعليم الفرنسي، وآخر يرغب في اتباع النموذج الإنجليزي. ومن هناك بدأت المشكلة.

كانت فرنسا وإنجلترا منذ ما قبل ذلك بكثير دولتين صناعيتين، تمتلكان من المهارات والعقول ما يغطي متطلبات تطورهما على كافة المستويات. ومهمة أنظمة التعليم فيهما كانت إيجاد عدد أكبر من كبار المتخصصين ليدفعوا إلى الأمام بواقع يتألف من مستويات متكاملة وعلى درجة محددة من التطور.

وباقتباس نظام التعليم نفسه كان ولا بد من أن تكون النتيجة نفسها: ظهور عدد كبير من الاختصاصيين وحتى النوابغ العرب من أمثال زويل وغيره. ولكن، طالما أن الواقع الاجتماعي والثقافي والصناعي العربي كان ولا يزال يفتقر إلى تكامل شرائحه ومستوياته بشكل يمكنه من أن يحمل هؤلاء الأفراد المتفوقين علمياً، وجدنا معظم هؤلاء يهاجرون إلى الغرب للعمل فيه والمساهمة في تطوير علومه. فهناك شعور بالغربة والعزلة عن المجتمع يتولد عند صاحب الاختصاص العالي أو صاحب أي طموح علمي كبير يدفعه إلى الهجرة إلى حيث ما قد يكون موضع ترحيب ويلقى الدعم والمساندة.

لا يحتاج المرء اليوم إلى الكثير من البحث ليعرف ما كانت عليه أوضاعنا العلمية والاجتماعية قبل قرن أو نصف قرن من الزمن. فآباء جيلنا كان معظمهم من الأميين أو ممن تعلموا القراءة والكتابة ونسوهما لاحقاً لقلة استعمالهما. ولذا فإن اقتباس أنظمة تعليم مهمتها إنتاج اختصاصيين يطورون العلوم انطلاقاً من حيثما وصلت إليه في فرنسا وبريطانيا، كان ولا بد أن يكون عقيماً في مجتمعات كان فيها آلاف القرى والمدن الصغيرة التي لم تعرف المصباح الكهربائي بعد.

فالنهوض بالمجتمع ككل وليس ببعض أفراده فقط، يجب أن يكون مهمة أنظمة التعليم. واختلاف الحاجة المحلية عما هي عليه في أوروبا يجب أن يدفع إلى تشكيل نظرة مختلفة تماماً عن تلك التي اكتفت بالتقليد. وهنا نسأل: ألم يكن من الأجدى أن تختصر مدة التعليم ما قبل الجامعي إلى تسع سنوات مثلاً لتدفع إلى سوق العمل والإنتاج باكراً جداً بعقول وأيدي ماهرة من كل المستويات المهنية، بدلاً من تقسيم المخرجات إلى نوابغ لا مكان لهم، وعاطلين أو متعلمين يعملون في غير ما درسوه وكأن الشهادة الجامعية هي للمكانة الاجتماعية فقط.؟ نطرح السؤال من دون أن نعطي جواباً. ولكن الأمر يستحق وقفة تأمل من دون شك.

العامل الاقتصادي
من جهة أخرى، ولو أخذنا التقدم التكنولوجي كوجه من أوجه التقدم العلمي طالما أن الحديث عنه يدور هذه الأيام أكثر من غيره، لتبين لنا فوراً معطىً جديداً يزيد على التعليم الواهن معوقات جديدة. فالتفوق العلمي في مجال التكنولوجيا يحتاج إلى أن يكافأ بتحويله من النظرية والمختبر إلى تطبيقات ذات مردود اقتصادي ومالي. وإلا فإنه سيبقى في إطار حكايات العلماء المنعزلين غريبي الأطوار. وهنا نشير إلى أن واقع الأسواق العربية لا يشجع على أي اختراق تكنولوجي عربي. فعندما يدور الحديث في هذا المجال عن العقل العربي يجب أن تكون هناك سوق عربية تتداول بمنتجات هذا العقل، وليس أسواق عربية مقسمة ومنغلقة على بعضها البعض بدرجات متفاوتة ما بين بلد وآخر.

ففي البلاد العربية من العقول ما يكفي على الأرجح لإنتاج سيارة عربية. ولكن لماذا لم تظهر هذه السيارة؟ الجواب يأتي من كارلوس غصن مدير شركتي نيسان في اليابان و رينو في فرنسا، الذي قال رداً على سؤال لماذا لا تقوم نيسان بإنشاء مصنع لها في الشرق الأوسط: كي يكون هذا المصنع مربحاً يجب أن نبيع عدداً معيناً من السيارات. ودراساتنا تقول إننا لن نتمكن من ذلك إلا إذا كانت هناك سوق واحدة تجمع ثلاث أو أربع دول عربية على الأقل.

وهذا الرأي تدعمه الملاحظة أن الاختراقات التكنولوجية في العقود والسنوات الأخيرة، لم تحصل إلا في دول تشكل أسواقاً كبيرة: الصين، الهند، إندونيسيا في آسيا، أو حيثما وفرت التكتلات الاقتصادية أسواقاً لدول صغيرة نسبياً مثل دول أوروبا الشمالية. وبات من المفروغ منه عجز الأسواق الصغيرة عن التصنيع لنفسها فقط، وبالتالي عن تلقف ثمرات العقول العلمية ومكافأتها.

والعامل الثقافي – الاجتماعي المحزن
خلال معرض أقيم مؤخراً في إحدى الدول العربية وكان مخصصاً لعرض آخر المبتكرات في عالم السيارات والإلكترونيات، روجت الشركات الأجنبية لمنتجاتها من خلال حلقات رقص ودبكة حول هذه المنتجات. وهذا الأمر، الذي تناقلت أخباره الصحف، يكاد يكون طرفة. ولكن هذه الطرفة.. محزنة.

يمكن لأي شخص كبير في السن أن يؤكد اليوم أن مفاهيم العمل والإنتاج والرفاهية كانت متلازمة مع بعضها البعض عند أبناء جيله أو جيل والديه. أما اليوم، فقد خرج الإنتاج من هذه المنظومة. وعند البعض بدأ العمل نفسه بالخروج، ليحل محله تلازم المال والرفاهية. وكلما كان المال سهلاً كلما كانت الرفاهية المنشودة أفضل. وفي أسواق صغيرة كالأسواق العربية تبدو الخدمات والثروات الطبيعية كافية للحصول على المال الضروري للرفاهية المادية.

وبالتمعن في أكثر الاهتمامات رواجاً في حياتنا الاجتماعية نجد أن معظمها لا يتجاوز إشباع متطلبات الحياة اليومية وبمستويات من الخفة والسطحية غير المسبوقة. أما الطموحات التي يشارك فيها الفرد الجماعة وتتطلع إلى الغد وما بعده فهي في تقهقر مستمر.. قد يبدو هذا الرأي قاسياً وفيه بعض التجني. ولكن المؤكد أن مشكلتنا مع العلوم ومع الاختراقات التكنولوجية هي أساساً ثقافية وتعود في حيز كبير منها إلى مفاهيمنا للحياة الاجتماعية ودورنا في الارتقاء بها إلى الأفضل. فكيف يمكننا أن نطلب اختراع سيارة، من شخص يغتبط إلى هذا الحد بالرقص أمامها؟

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك