لماذا تنهار مجتمعات وتتآلف أخرى؟

مريم ناجي

 

يبدو سؤال انهيار المجتمعات أو تماسكها سؤالًا بديهيًّا بعض الشيء، هنالك على الأقل أجوبة محفوظة تتناول ظاهرة قيام وانهيار المجتمعات، لكن الواقع إن إجابة هذا السؤال ليست على هذه الدرجة من البساطة. ففي حين أن مجتمعات تزدهر مثلاً بسبب تنوع أفرادها العرقي، فإن مجتمعات أخرى تشترك في نفس الصفة تنهار سريعًا، وتدخل في سلسلة من الحروب الأهلية. ما السبب بالضبط؟

بعبارةٍ أخرى، لماذا نجح «بناء دولة» في أماكن وفشل في أخرى؟ يطرح «أندرياس فيمر»، أستاذ علم الاجتماع والفلسفة السياسية في جامعة كولومبيا، في مقال كتبه على موقع «Aeon» منظورًا تاريخيًّا لعدة قضايا، منها كيفية بناء الدول وتشكيل الشعوب وماهية بناء الدولة وكيف يضع الأفراد حدودًا عرقية وقومية بينهم.

يوضح فيمر أن المأساة الحالية في سوريا تُبيِّن العواقب الإجرامية التي قد تترتب على فشل بناء الدولة.

هناك وجهان لمفهوم بناء الدولة: الأول، توسيع التحالفات السياسية عبر أراضي هذه الدولة، والثاني تحديد ولاء مؤسساتها، بغض النظر عمن يحكم حاليًّا. الأول جانب الاندماج السياسي، والأخير جانب الهوية السياسية لبناء الدولة. ولتعزيز كليهما، يجب أن تتخطى الروابط السياسية بين المواطنين والدولة، الانقسامات العرقية.

تعقد روابط التحالف الأواصر بين الحكومات القومية والمواطنين، أحيانًا عن طريق المنظمات السياسية الوسِيطة، مثل الجمعيات التطوعية والأحزاب والمجموعات المهنية. وبطريقةٍ مثالية، تربط جميع المواطنين بشبكات تحالُف تتمحور حول الدولة، وفي مثل هذه البلاد، يرى جميع المواطنين أنفسهم مُمَثَّلين في مركز السلطة، حتى لو لم يكن حزبهم المُفضل أو نصيرهم السياسي يشغلُ مركزًا في الحكومة.

في النهاية، المثقفون والنخبة السياسية، وكذلك الفرد العادي، سيرون جميع المواطنين، بغض النظر عن خلفيتهم العرقية أو الطائفية، أعضاء متساوين في المجتمع الوطني.

الديمقراطية كأفضل نتيجة

الصورة: pxhere

الديمقراطية لا تبني الدولة، لكن الدول المبنية والمؤسسة على تاريخ قوي، من المرجح أن تتحول إلى الديمقراطية.

في أمريكا مثلًا، يساوي معظم صُناع السياسة الخارجية بين بناء الدولة وتحقيق الديمقراطية، فهُم يؤمنون بأن الديمقراطية أفضل وسيلة لتحقيق التماسك السياسي.

يدور النقاش حول أن الانتخابات الديمقراطية تستقطب دوائر عرقيّة متنوعة تجاه المركز السياسي، وتشجع السياسيين على إقامة تحالفات واسعة خارج نطاق مجموعة الناخبين الذين يشاركونهم أصلهم العرقي. فالراجح أن تضم البلاد الديمقراطية مُمثلي الأقليات في تحالفاتهم الحاكمة.

لكن الأمر يختلف في عدد من البلاد التي تحولت إلى الديمقراطية حديثًا، حيث قد لا تكتسح الأغلبية العرقية السلطة إلا للانتقام من النخب المُهيمنة ومجتمعاتها العرقية. أبقت الولايات المتحدة على العبودية بعد فترة طويلة من وجودها الديمقراطي، ولقرنٍ آخر بعد أن حَرَم التحرر الأمريكيين الأفارقة من أي شكلٍ من أشكال التمثيل السياسي. ولهذا فإن العلاقة بين الديمقراطية والإندماج تحدُث لأن الدول التي يحكمها تحالف أكثر شمولًا ستُضفي طابعًا ديمقراطيًّا في وقتٍ أبكر وبطريقةٍ أسهل من الأنظمة المعتمدة على الاستقصاء، والتي تقاوم الديمقراطية بضراوة.

بعبارة أخرى، الديمقراطية لا تبني الدولة، لكن الدول المبنية والمؤسسة على تاريخ قوي، من المرجح أن تتحول إلى الديمقراطية.

تأسيس التحالفات

الصورة: Miguel Discart

يُسلط فيمر الضوء على ثلاثة عوامل أخرى تتطور ببطء عبر الأجيال، لكنها أكثر فعالية في بناء الروابط السياسية.

1. كيفية تنظيم العلاقات بين السلطة والأفراد

إن كان هناك بالفعل شبكة كثيفة من المنظمات المدنية التي تعتمد على هذا الأمر، فإن حاملي السلطة الجُدد سيعتمدون عليها لحشد المؤيدين وتجنيد القادة السياسيين. في ظل هذه الظروف، يصبح الإقصاء السياسي للأقليات العرقية أقل إمكانيةً.

المقارنة بين سويسرا وبلجيكا تُقدم مثالًا على ذلك. فهما، حسب ما يقول فيمر، دولتان ذات حجم وتكوين لغوي مماثل للشعب ومستويات قريبة في التنمية الاقتصادية. في سويسرا، تطورت منظمات المجتمع المدني، مثل نوادي الرماية ودوائر القراءة، في جميع أنحاء الإقليم خلال أواخر القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر. فهي تنتشر بانتظام في البلاد لأن الصناعات الحديثة ظهرت في جميع المناطق الرئيسية، ولأن مُدن سويسرا تفتقر إلى القدرة والحافز لكبحها.

عكس ذلك في بلجيكا، حيث اعترف نابليون بالقدرة الثورية لهذه الجمعيات التطوعية، وقمعها. الأهم من ذلك أن الجمعيات التي كانت موجودة في بلجيكا كانت مقتصرة على المناطق الناطقة بالفرنسية، والتي كانت الأكثر تطورًا وتعليمًا والأكثر سكانًا.

في 1831، عندما استقلت بلجيكا عن المملكة الهولندية، كان معظم الحكام الجدد للبلاد أعضاءً منذ فترة طويلة في مثل هذه الشبكات التعاونية الناطقة بالفرنسية. ودون التفكير في الأمر طويلًا، أعلنوا أن الفرنسية هي اللغة الرسمية للإدارة والجيش والقضاء.

أما أولئك الذين تحدثوا اللغة الفلمنكية فقط، على الرغم من تشكيلهم أغلبية سكانية، لكن قليلة نسبيًّا، فلم يكونوا جزءًا من هذه الشبكات، ولذلك استُبعدوا من الحكومة المركزية. حتى نهاية القرن التاسع عشر، حُكِم الفلمنكيون على أنهم في مستعمرة داخلية في بلجيكا الفرنسية. فشل بناء الدولة في وقتٍ مبكر، وأصبح الانقسام اللغوي مُسيَّسًا بشكل كبير خلال القرن العشرين.

سويسرا، تحولت إلى دولة قومية بعد حرب أهلية قصيرة وقعت عام 1848. اعتمدت النخب الليبرالية التي انتصرت في الحرب وهيمنت على البلاد طيلة أجيال، على شبكات المنظمات المدنية المشتركة بين الأقاليم متعددة الأعراق لتجنيد أتباع وقادة.

من ثَمَّ، فإن هيكل السلطة الناشئ شمل الأغلبيات والأقليات على حد سواء. منذ البداية، كانت كل مجموعة لغوية مُمثَلة في أعلى مستوى من الحكومة والإدارة الفيدرالية، تقريبًا حسب عدد متحدثيها. ومرةً أخرى، أصبحت الفرنسية والألمانية والإيطالية لغات الدولة الرسمية. وخلال معظم تاريخ سويسرا السياسي، وحتى يومنا هذا، ظل التنوع اللغوي مسألةً غير سياسية.

2. الموارد التي يتبادلها المواطنين مع الدولة

الصورة: Jamestgurley

المُرجح أن يدعم المواطنون الحكومة التي توفر لهم الاحتياجات العامة مقابل فرض ضرائب عليهم. الأمر ببساطة أنه كلما ازدادت قدرة الحكومة على توفير الاحتياجات العامة في كل مناطق الدولة، زادت جاذبيتها كشريك في عملية التبادل، وزاد أيضًا عدد المواطنين الراغبين في إقامة تحالف معها. غذت المساعدات الخارجية في الصومال، عوضًا عن الضرائب أو الجمارك، البيروقراطية سريعة الانتشار.

تقدم المقارنة بين الصومال وبوتسوانا توضيحًا آخر. فكلاهما دول قاحلة وذات أسس اقتصادية متشابهة ترتبط بتصدير الماشية، ولهما تاريخ استعماري متشابه.

عندما أصبحت بوتسوانا دولةً مستقلة عام 1966، أدارت حكومتها فرص التصدير لمربي الماشية، ووسعت البنية التحتية للمواصلات والمدارس والمرافق الصحية، وأنشأت برامج طوارئ لفترات الجفاف التي كانت تدمر اقتصاد الماشية بشكل دوري. وبذلك وفرت الاحتياجات العامة لجميع المناطق بالتساوي.

توجد أدلة قليلة على أن البيروقراطيين فضلوا أبناء جلدتهم عند تخصيص هذه الموارد للقرى أو المقاطعات. في المقابل، حصل الحزب الحاكم على الدعم عبر الأقاليم والدوائر الانتخابية مختلفة الأعراق، التي تُرجِمت بدورها إلى برلمان ومجلس وزراء، إذ كانت الأغلبيات والأقليات العرقية تقريبًا مُمثلة وفقًا لحجم سكانها. ثم بمرور الوقت أَنتجَ تشكيل السلطة الشمولية تماثُلًا قويًّا مع الدولة وأغلبية مُتحدثي اللغة التسوانية، وبالتدريج اعترفت الأغلبية التسوانية بمواطني الأقليات.

في الصومال، كانت ظروف بناء الدولة من خلال توفير الاحتياجات العامة أقل طواعية. فبعد توحيد المستعمرات البريطانية والإيطالية السابقة في دولة الصومال المستقلة، لم تحظ الدولة بقدرة كبيرة على توفير احتياجات للشعب. فالمساعدات الخارجية، عوضًا عن الضرائب أو الجمارك، غذَّت البيروقراطية سريعة الانتشار. عندما يأتي الأمر إلى توزيع المشروعات الحكومية، فإن البيروقراطيين يفضلون الذين يستطيعون دفع رشوة أعلى.

الانقلاب العسكري الذي حدث في الصومال عام 1969، وترأسه محمد سياد بري، غيَّر هذا الوضع مؤقتًا. نظرًا إلى افتقار القدرة المؤسسية، حاول نظام سياد بري توفير الاحتياجات العامة من خلال حملات عسكرية قصيرة الأمد، مثل تعليم البدو القراءة والكتابة أو إيصال الإغاثة إلى ضحايا الجفاف. لكن لا يُمكن بناء أي تحالفات سياسية وطيدة تتمحور حول الحكومة المركزية بهذه الطريقة.

بدلًا من ذلك، اعتمد سياد بري في حكمه باستمرار على أتباعه الأوفياء من تحالفه العائلي الخاص. وسرعان ما حمل المستبعدون من دوائر السلطة الداخلية أسلحتهم، وبتحريض التحالفات المتغيِّرة للعشائر وأمراء الحرب ضد بعضهم، تفككت البلاد إلى أجزاء بسبب عقودٍ من اشتعال الحرب الأهلية.

3. علاقات التحالف والروابط بين المواطنين على اختلافاتهم

يتحدث سكان الصين لغات مختلفة، ما يجعل بناء الدولة أمرًا أكثر صعوبةً. ومع ذلك تُكتب الرسائل والصحف والكتب بنصٍ موحد.

إن مد الروابط بين الأقاليم والانقسامات العرقية يكون أسهل إذا تمكن الأفراد من التحاور بلغةٍ مشتركة، ويقلل من الجهد اللازم لفهم نوايا كل طرف وحل الخلافات والتفاوض على حل وسط، وكلها عوامل مصيرية لبناء علاقات وطيدة قائمة على الثقة. لهذا، فإن الانقسامات اللغوية تُبطئ انتشار الشبكات السياسية عبر أراضي الدولة. يوضح القرنان الماضيان من تاريخ الصين وروسيا، كيف تُسهِّل وسائل التواصل المشتركة بناء الدولة. ففي بداية القرن التاسع عشر، شهدت الصين وروسيا أجيالًا من الحكم الاستبدادي على يد السلالات الحاكمة الإمبراطورية، والتي تضم مجموعات سكانية هائلة ومتنوعة، لكنها لم تخضع قط للحكم الأجنبي.

يتحدث سكان الصين عددًا من اللغات المختلفة، ما يجعل بناء الدولة أمرًا أكثر صعوبةً. ومع ذلك تُكتب الرسائل والصحف والكتب بنصٍ موحد. هذا النص ليس أقرب إلى أيٍّ من اللغات المنطوقة المختلفة، لذلك يمكن للأفراد من مختلف أركان البلاد أن يفهموا بعضهم دون عناء. كما مكَّن هذا التجانس الكتابي الدولة، طوال الفترة الإمبريالية، من توظيف البيروقراطيين عن طريق نظام من الاختبارات التحريرية. والنتيجة كانت أن النخبة البيروقراطية في الصين متعددة اللغات مثل الشعب. الأمر نفسه يجري على الطوائف السياسية التي تشكلت بين هذه النخبة البيروقراطية، وعلى الجمعيات الجمهورية المناهضة للإمبريالية.

في الإمبراطورية الروسية، لعب تباين اللغة دورًا مختلفًا للغاية. انهارت الإمبراطورية مرتين بسبب الحدود العرقية واللغوية: مرةً بعد الثورة البلشفية في أكتوبر 1917، وأخرى على يد زعيم الاتحاد السوفيتي «ميخائيل غورباتشوف» في عام 1989 تقريبًا.

عندما بدأ عصر السياسة الجماهيرية في روسيا أواخر القرن التاسع عشر، تجمعت شبكات التحالف مع الانقسامات اللغوية. ثم كما هو الحال الآن، يتطلب الوصول إلى جمهور مثقف من خلال الدعاية والصحف نصًَّا ولغة مشتركين. والأحزاب الشعبية التي ظهرت خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، كانت تهتم بمجتمعات لغوية محددة (مثل الأرمن والجورجيين والفنلنديين والبولنديين)، فتبلور الوعي الوطني في عشرات القوالب المنفصلة والمُحددة لغويًّا بدلاً من الهوية الشاملة.

وطدت سياسة القوميات السوفياتية بعد ثورة 1917 هذا الوضع بتعليم الأقليات القراءة والكتابة، وعلَّموهم بلغتهم الخاصة حتى خمسينيات القرن العشرين. تحت إشراف صارم من موسكو، سُمِحَ للنخب الأقلية بحكم المقاطعات والمناطق الجديدة المُحددة لغويًّا في الاتحاد السوفييتي. نتيجة لذلك، تشكلت شبكات التحالف النفعيّة الناشئة حديثًا داخل أقسام عرقية منفصلة.

كانت الأقليات غير الروسية مُمثلة تمثيلًا ناقصًا جدًّا في قيادة الأحزاب والجيش، الذي كان يُهيمن عليه جميع الروس. ليس من المفاجئ إذًا أن قادة الاتحاد السوفييتي لم يكونوا قادرين على تشكيل «شعب سوفييتي» مُتكامل عندما حاولوا أن يتحولوا إلى سياسة أكثر اندماجية تحت قيادة «نيكيتا خروتشوف» بعد 40 عامًا من الثورة.

سياسيًّا، استمر الاتحاد السوفييتي في تمثيل خليط من شبكات التحالفات العرقية. عندما انجلى الحكم الديكتاتوري تحت حكم غورباتشوف، تمزقت البلاد مع هذه التصدعات اللغوية إلى الدول المستقلة في لاتفيا وجورجيا وكازاخستان وغيرها.

كيف تتفاعل كل هذه العوامل معًا؟

الصورة: woodleywonderworks

بَنَت الحكومات الأوروبية دولها بسهولة أكبر لأن التعديلات الحدودية وعمليات التطهير العرقية أدت إلى سهولة الاندماج في نظام وطني.

لا تتناول الأمثلة التي أشار لها أندرياس فيمر مسألة كيف تتفاعل العوامل الثلاثة (الجمعيات التطوعية وتوفير الاحتياجات العامة والتواصل)، أو كيف تنوب عن بعضها؟

هناك عوامل إضافية يمكن أن تُعيق بناء الدولة أو تعززه. قد يتجادل عدد من المؤرخين حول أن التجربة الاستعمارية تُحدِثُ فرقًا، فقد عان كلٌّ من الصومال وبوتسوانا من سياسات «فَرِّق تَسُدْ» التي لعبتها القوى الاستعمارية، ما يجعل مهمة الاندماج السياسي الوطني أكثر صعوبة عندما ترحل القوى الاستعمارية. لم تكن أيٌّ من روسيا أو سويسرا تحت سيطرة أجنبية خلال القرون الماضية.

يتجادل خبراء الاقتصاد حول أن بناء الدولة مسألة تنمية اقتصادية في الأساس. هل كانت سويسرا ستُشبه الصومال التي لم تكن صناعة التصدير فيها ناجحة، أم إنها لم تكن لتصبح مركزًا عالميًا مُثمرًا جدًّا للصرافة والتأمين؟ قد يكون من الأسهل أيضًا بناء دول في بلاد مثل سويسرا، حيث لا تتداخل الاختلافات الدينية وحدود اللغة وتدعم إحداهما الأخرى.

أخيرًا، قد نتبنى نظرةً أكثر واقعية، ونأخذ في الاعتبار أن بناء الدولة ينجح في الأماكن التي دارت فيها حروب كثيرة، وأبقت سكانها متوحدين من خلال التضحية المشتركة. وبالمثل، يمكن أن تتمكن الحكومات الأوروبية من بناء دولها بسهولة أكبر لأن قرونًا من التعديلات الحدودية وعمليات التطهير العرقية أدت إلى شعوب أكثر تجانسًا وأسهل في الاندماج في نظام وطني.

كل هذه أسئلة تجريبية. للإجابة عنها، حلل أندرياس فيمر مجموعات البيانات باستخدام معلومات عن دول من جميع أنحاء العالم. وهذا لمعرفة إن كانت العوامل الثلاثة التي أشار إليها في مقاله، ستعزز التحالفات الحاكمة الشاملة في دول غير سويسرا وبلجيكا والصومال وبوتسوانا والصين وروسيا. ولإجراء هذا التحليل، نحتاج إلى رقمٍ يُشير إلى مدى نجاح بناء الدولة في كل بلد. ولهذا قاس فيمر نسبة السكان في المجتمعات العرقيّة غير المُمثَّلة في أعلى مستويات الحكومة. هذه البيانات متاحة من عام 1946 إلى 2005 في 155 دولة.

تساعد المقارنة بين ثلاث مجموعات من البلدان في توضيح نتائج هذا التحليل. لقياس توفير الاحتياجات العامة، يستخدم فيمر معدلات محو الأمية، لأن معرفة القراءة والكتابة تتأثر بالتعليم العام. المتوسط العالمي للبلدان 155 هو 65% متعلمين بين السكان البالغين، إذا كان 80% من السكان في بلدٍ ما، قادرين على القراءة والكتابة، فإن نسبة السكان المستثنين من الحكومة الوطنية ستكون أقل بنسبة 30% تقريبًا مما هي عليه في بلد نصف سكانه فقط متعلمون.

لا يوجد كثير من الدعم للتفسيرات البديلة لبناء الدولة التي ناقشها فيمر، مثل تاريخ الحكم الاستعماري أو ثروة البلد. وفقًا لتحليل إحصائي آخر، من غير الممكن أن تفشل البلاد في بناء الدولة إن تعرضت للحكم الاستعماري لفترةٍ طويلة جدًّا، أو إذا كان هذا الحكم قد اتخذ شكلًا مُحددًا (مثل الاستعمار الاستيطاني، حين لا يكتفي المستعمرون باستغلال السكان، وإنما يقتلعونهم من أرضهم بالتهجير مثلًا، أو الحكم غير المباشر، كما كان الحال في المستعمرات البريطانية).

الواضح تمامًا أنه لا يمكن أن نهندس الماضي، والذي هو هنا القرن التاسع عشر، بأثر رجعي لتتوفر لنا الظروف المثالية التي تدعم بناء الدولة في القرن العشرين. ولا يمكن تحسين قدرة الدولة على توفير الاحتياجات العامة في غضون عامين.

يحتاج الشعب إلى أن يمر جيلان على الأقل كي يتقن لغةً جديدة للتواصل. المنظمات التطوعية التي تتجمع حولها التحالفات السياسية لن تضرب بجذورها في المجتمع على المدى القصير. ولأجل تحقيق العوامل الأساسية الثلاث التي تسهِّل بناء الدولة، فإن الأمر يحتاج أجيال، ولا يمكن إنجازه في عدة سنوات.

النظام التعليمي القومي الموحد استراتيجية أخرى طويلة الأجل لبناء ناجح لدولة متجانسة. في جميع أنحاء العالم، قطعت البلاد شوطًا طويلًا في تعليم شعبها التحدث بلغةٍ مشتركة. والدعم المستمر للنُظم المدرسية القومية في مواجهة ضغوط الميزانية يقطع، كذلك، شوطًا طويلًا، ليس فقط في تحقيق نمو اقتصادي مُستدام والمساواة بين الجنسين، لكن أيضًا في المساعدة لتأسيس روابط سياسية عبر الانقسامات العرقية.

المصدر: https://manshoor.com/world/countries-nation-building/

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك