البركة في المعاملات والمال

د. عامر محمد نزار جلعوط

 

إن كثيرا من الورى في زماننا يفرقون بين العبادة والمعاملة، فقد يكون البعض أحيانا ضابطا لعباداته، لكن إذا أتيته من باب المال نسى أو تناسى رقابة الله عليه، وزين له الشيطان سوء عمله، وأوهم نفسه بكثرة الخير وإن كان بين البطلان ثم لا يجده بعد حين من الزمان لأنه لا بركة ولا خير ولا سعادة فيه، وهذا أمر خطير على المسلم في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتاكلوا فريق من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون}

فما هي البركة؟ وكيف يمكن أن نلحظ أسبابها في المعاملات ؟

أولا – مفهوم البركة:

البركة في اللغة : من برك، وبارك على الشي ء واظب وبارك الله الشيء وفيه وعليه، جعل فيه البركة.

قال الراغب : “ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس، وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر، قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة.

روى البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس قال : (عجبت للكلاب والشاء؛ إن الشاء يذبح منها في السنة كذا وكنا، ويهدى كذا وكذا ، والشاء أكثر منها! والكلب تضع الكلبة الواحدة كذا وكنا ).

وباختصار فمعنى البركة هو وفق المعاني التالية:

١. السعادة.

٢ . الثبات والدوام ولزوم الشيء .

٣. النماء والكثرة والزيادة.

٤ . الغيث والنبات والرزق .

٥. الخير الإلهي.

ثانياً – البركة في المعاملات:

إن البركة سمة إيمانية ليست منعزلة عن واقع الحياة، وهي إذا تغلغلت أسبابها في  القلوب أثمرت وأينعت خيراً عظيما في الدنيا والآخرة. قال تعالى: ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) [الأعراف: 96]

وتدور أسباب البركة في المعاملات والمال على أمور عديدة:

1- الحرص على بركة الزمان: فعن صخر الغامدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم بارك لأمتي في بكورها ) وكان إذا بعث سرية أوجيشاً بعثهم من أول النهار وكان صخر رجلا تاجرا وكان يبعث تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله.

2- الاستخارة: وهي الطلب من الله أن يختار له مما فيه الخير بدعاء مخصوص يدعو به بعد صلاة ركعتين، فإذا أراد العبد سفرا أو تجارة أو مشروعاً فليطلب من الله تعالى خيره قبل البدء فيه، عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول صلى الله عليه وسلم: إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم هذا الأمر ( ثم تسميه بعينه) خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وأجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، وقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به. قال: ويسمي حاجته. فصلاة الاستخارة ركعتين من غير الفريضة فتصح بعد أي ركعتين نافلتين لإطلاق الحديث ( فليركع ركعتين من غير الفريضة) .

ونقل عن عدد من العلماء القول باستحباب إفراد ركعتين لها يقرأ في الأولى الفاتحة وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية الفاتحة والإخلاص ثم بعد فراغه من صلاته يدعو الله تعالى بالدعاء السابق في الحديث مع الثناء على المولى عز وجل ثم يقدم المرء على الذي يشرح الله صدره له.

3- الاستشارة: قال تعالى: { والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم  ومما رزقناهم ينفقون } [ الشورى :38 ]

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إن المشورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة لا يضل معهما رأي ولا يفقد معهما حزم . وقال بعض الأدباء : ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار . وقال بعض البلغاء: من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل والعقل الفرد ربما ضل . ولا بد لهذه الشورى في المعاملات أن تكون على محورين أساسيين:

أولاهما الاستشارة الشرعية عن نوع العمل الذي يريد الإنسان أن يقبل عليه أهو حلال أم حرام والتعرف عما يدور حوك من شبهات قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [ الأنبياء: 7 ] فلا خير ولا بركة من مال يدخل للإنسان من طريق الحرام كتجارة التبغ والخمر وأذية الناس بأي أمر كان سواء في أمور الدين أو الدنيا.

وثانيهما شورى فنية مهنية من خلال الرجوع لأهل المهنة أو الخبرة الموثوق بهم وينصحهم.

4- الصدق عند البائع والمشتري: حكيم بن حزام رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما  .

ومن الصدق عدم الغش والخداع قال الله تعالى : {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [ المطففين:1- 4]

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة من طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال يا صاحب الطعام ! ما هذا ؟ قال أصابته السماء يا رسول الله ! قال أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ؟ ثم قال من غش فليس منا.

ومن تعامل مع الناس بالكذب والخداع ينفض الناس من حوله ويتركون التعامل معه فلا قيمة لماله المشوب بالشبهات إذا كان سيفقد بركته في الحال، وسيفض الأرباح عنه في المآل٠

5- تجنب الحلف في البيع: فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة )٠

6- المصافحة عند عقد البيع: عن خالد بن أبي مالك قال : بايعت محمد بن سعيد سلعة فقال: هات يدك أماسحك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : البركة في الماسحة٠

7- الحذر من الغلول: هو أمر مخصوص في التعامل المالي العام، ذلك لأن من يصيب منه شيء لا يبارك له ، ومن لا يصيبه يتأثر بضعف وتآكل ما في بيت المال٠

8- إيتاء الزكاة عن المال والصدقة: وأصل الزكاة في اللغة الطهارة والماء والبركة والمدح وكله قد استعمل في القرآن والحديث وتساهم الصدقات في بركة المال على الفرد وتجتمع ويعم خيرها لتشمل بركتها حياة الإنسان في الدارين فهي المساهمة في تطهير النفس من الشح والبخل خاصة ممن لا يتحقق فيه الغنى ، ولم تتعود نفسه عن دفع زكاة الأموال قال تعالى: { مثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ] البقرة: 216 ]، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن : 16 ] والصدقة سبيل للوقاية والحماية والرعاية الربانية.

وقال تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } [الإنسان 8-12]

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء”.

إضافة لما سبق وغيره فإن صاحب المال في المعاملات من زراعة وصناعة وتجارة وغيرها هو مستخلف على ما أعطاه ربه تعالى فبصدقاته التطوعية ينال الثواب عليها والمحبة من الناس قال الله تعالى: { آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}   [ الحديد: 7 ]

9- الأمانة في الشراكة عن أبي هريرة قال: ( إن الله يقول أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما ) أي معهما بالحفظ والبركة.

10- الوفاء والأمانة: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ  }  [المائدة: 1]

عن عروة البارقي قال: دفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشتري له شاة فاشتريت له شاتين فبعت إحداهما بدينار وجئت بالشاة والدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ما كان من أمره فقال له بارك الله لك في صفقة يمينك فكان يخرج بعد ذلك إلى كناسة الكوفة فيربح الربح العظيم فكان من أكثر أهل الكوفة مالا.

ومن الوفاء والأمانة العزم على رد المال المقترض لأصحابه سواء أكان نقداً أم بضاعة أم كل ما ينطبق عليه مفهوم المال شرعاً، عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله}

11- الحذر من الربا: لأن الربا ممحق للأموال مسبب في غضب الله لقول تعالى: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } [البقرة الآية: ٢٧٦] وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-279]

12- اتباع توجيهات الشريعة في شؤون التعامل: وأكبر آية في كتاب الله قد أظهرت وأبانت فيضاً من ذلك وهي الآية (282) من سورة البقرة – المعروفة بآية الدَّين- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}

13- صلة الرحم: وهي سبب للبركة في العمر والمال عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ضلى الله عليه وسلم يقول: {من سره أن يبسط له في رزقه، وأن يسأ له في أثره، فليصل رحمه}. فما ينبغي أن تتعلل من كان مشغولا بمعاش الدنيا في ترك صلة الرحم فهذه الصلة هي بركة للعمر والمال.

14- عدم الانشغال بأي مال أو معاملة عن طاعة الله تعالى: فما سعادة مال أعرض بصاحبه عن سبيل طاعة ربه فأهلكه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار} [النور: 36-37 ].

المصدر: https://islamonline.net/33313

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك