من وحي ربيع لم يزهر!

إبراهيم العلاوي الوزاني

 

تنطلق هاته المساهمة من تصورين: يميز الأول بين الحركة الاحتجاجية كتجريد تمرد على التعيين وغاب عنه أمر المدركات على عظمها لتأسيس مواقف نقدية لها استقلاليتها الحضارية، وتبعا لذلك وضع الأمة العربية أمام موجبات الوصل الحضاري الذاتي والقطع مع حالة الاستلاب الحضاري والإيمان بأن الحرية تعني حرمة الجسد والعقل والانعتاق من الاسترقاق الآدمي، ومن تحويل الإنسان إلى رقم من الأرقام، وبين الحركة الاجتماعية كفعل موجه ثقافيا يعي المآلات ويرتبط بوضع سياسي (ordre politique) ترتضيه فلسفة المجتمع لأنه ليس جرما مرتبطا بالأمن العام على النقيض من ظواهر "الباثولوجيا الاجتماعية" المرتبطة بوضع أمني (ordre sécuritaire) لا يقبل التساهل. ويرى التصور الثاني أن دوائر/ مستويات الفعل الإرهابي هي عينها بأطياف ما يسمى الإسلام السياسي، والتي حاولت أن ترث الشعب كلالةً بعد "غزوة الصناديق" جاعلة استقرار الكيانات السياسية العربية على كف عفريت و"الربيع" مغدُوراً. وإذا كانت وجهة النظر هي التي تخلق الموضوع وفق كلام "دوسوسير"[1] فهاته المساهمة، ذات الهوية الإبستيمية الخاصة، قراءة ذاتية لا تفصل بتعسف بين الذات العارفة والموضوع المعرّف ومتحيّزة لضرورة الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي من حيث إنه تراكم وأساس للبناء الحضاري.

التصور الأول: في ضرورة التمييز بين الحركة الاحتجاجية والحركة الاجتماعية

ينطلق هذا التصور من فكرة أن الأشكال الاحتجاجية، وهي في مستوى الحركة الاجتماعية، ليست ثورة على ما هو كائن في ظل غياب مشروعها. وفي هذا البعد الذي يميز بين الدولة والنظام تتطلب الأشكال الاحتجاجية، لئلا ينتهي الأمر بخراب الاجتماع والعمران، القطع مع ما يسميه خوسيه أورتيغا إي غاسيت "الديمقراطية المفرطة"[2]. ومن ثم، فالأشكال الاحتجاجية في البعد المشار إليه علم بالتموقع وليست مجرد تجريد؛ أي إن البداية فيها تكون دائما من النقطة الصفر مع وضوح الرؤية. وتبعا لذلك فحركة الأنبياء في التاريخ مثال لحركات اجتماعية راقية من حيث تحويل النظام إلى حركة بإعطاء السنن الاجتماعية القوية المتجذرة معنى ثوريا[3]؛ أي تجاوز "الذات" باستمرار والقطع مع النزعة الآبائية غير السوية بالمعنى السيكولوجي، لأنها تولد من رحم الجهل المركب (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)[4]. والنزعة الآبائية غير النزعة الأبوية وتجاوزها هو ما يجعل الحركات الاجتماعية، بالتحديد، هي هذه القدرة الإبداعية للإنسان في صناعة تاريخه والتأثير فيه وليست ثورة عبيد مذمومة تحرق كل شيء وتنتهي إلى الفوضى، إذ الثورة في عمقها، كسنة من سنن التقدم لا ترتبط بالحشود، محاولة القبض على النظام (الثورة الكوبيرنيكية مثلا). على ذلك فالتاريخانية، [5] كحسّ كوني تطور في النموذج الإدراكي الغربي مع المجتمعات الصناعية وتبلور في مشروع الحداثة، وكذا مسألة المدركات[6] والتي تعني "التميز بحضارة"[7]، مسألة استراتيجية وليست مجرد ترف فكري على اعتبار أن الحركة الاجتماعية رد فعل إرادي واع جمعي يهدف الدخول في فعل تاريخي للالتزام بالمنظومة وتطوير الأوضاع. ولعل أهم دور منوط بالحركة الاجتماعية كحاجز يقف بجانب العقل ضد تعسف السلطة هو تهذيب هذه الأخيرة، وهو الأمر الذي يجعل الحركات الاجتماعية مهمة لتوسيع آفاق التوصل/ الاقتراب "للديمقراطية" كقيمة وليس كمفهوم.

إن توصيف الأشكال الاحتجاجية من حيث هي حقيقة هندسية وعلم بالتموقع يفرض الوعي بالوجود كارتباطات[8] connexions (شعوبا وقبائل لتعارفوا). لذلك لابد وأن تنفتح الأشكال الاحتجاجية، عند انتقالها من مجرد حركة احتجاجية على مقاس حراك اجتماعي محدود إلى حركة اجتماعية على رحابة التناسب الرياضي المبني على التركيب بين العقل والإيمان وأن تتجاوز "ميزان السوق"، هذا الوحش المادي القبيح القاتل لكل القيم. ومن حسنات الفعل الاحتجاجي، في البعد المذكور، أنه يدفع لإعادة التفكير في السياسات العمومية وفي النظر إلى ما وراء النسيج (tissu) الاجتماعي من صمت فئات تعيش على الهامش ومن حيوات تنبض معاناة، وتمزقا، واغترابا، وضياعا وعدم اتزان. باختصار إنه دعوة لخلق المستقبل انطلاقا من تجاوز الحاضر (بعد فهمه) بصدر عار لكل رصاصة تصوب نحوه، لأن الدم يهزم السيف بخطاب/بلاغ يدوّي صوته لأجل الحرية، وب "سلمية" تسعى للحفاظ على الكيانات السياسية ولا تبرر العنف مهما "تلوّن". ومن حسنات الفعل الاحتجاجي أيضا أنه يعلم النظر إلى التاريخ كحركة تحكي إرادة الله تعالى، ولابدّ من تحقّق غاية العدل كصفة إلهية تعني أن "العدل هو البنية التحتية للوجود والطبيعة والمجتمع والعلاقات البشرية"[9]. إنه بالتعريف سنّة إبراهيمية من حيث تحطيمه للأصنام وثورته على ألوان "المصلحة" قاتلة الحقيقة: إنه مقاومة فينيقية (لا تشيخ) تعلمت الإبحار كفاحا مقبلة على الحياة لا النسق، ودعوة للنهوض، وحمل للأمانة المستمرة على طول خط التاريخ، وتعاهد على تحرير الإنسان من رداء الظلم الذي انتقل من المعابد إلى القصور.

التصور الثاني: الإسلام السياسي، تهديد للكيانات السياسية وتسويق للوعي الزائف

إقرار الفقهاء بيعة الإمام الجائر تعني ضرورة العنف المشروع، من خلال الدولة أو السلطان أو حكم القانون

يمتح هذا التصور، من خلال تجاوز نظرية الاحتمالات (théorie probabiliste) المرتبطة بظواهر الصدفة (hasard) والانفتاح على نظرية الإمكانات (théorie des possibilités)، من رؤية تسلم بأن واقع الهشاشة، وغياب العدالة الاجتماعية، قنبلة موقوتة تتطلب رؤية إستراتيجية تغيب (للأسف) بالكيانات القطرية العربية لغياب ثقافة التخطيط فيها، ذلك أن نظرية الإمكانات تفيد أن كل ما هو محتمل ممكن غير أن كل ما هو ممكن ليس بالضرورة محتملا. ومن ثم تسمح هذه النظرية بتعاط دقيق (précis) وأقرب للواقع مما يسمح لصانع القرار بامتلاك "مساحة من الإمكانات" (intervalle de possibilités) وليس رقما واحدا أي فهم اللايقين والتعقد لأجل قرار سليم. ووفق ذات التصور يكون تغول "المارد الإسلاموي"، نتيجة ضيق أفق الأنظمة العربية وخلقه في مختبرات رسمية (صناعة استخباراتية) ودعمه لوأد الفكر النقدي، نتيجة كذلك لمصالح جيوبوليتيكية متقلبة وللأموال الخليجية، دليلا يوضح غياب المقاربة الاستراتيجية (وليس التكتيكية فقط) بالكيانات السياسية العربية.

وإذا كان القرار استشرافا للمستقبل[10] من خلال تملّك مفاتيح فهم الواقع فقد أبانت هاته الكيانات عن "فقر جوهري" (pauvreté essentielle) من حيث عدم قدرتها، بلغة تدبير الأزمات، على تعلم الاشتغال في اللامتوقع وليس توقع اللامتوقع (المعرفة أيضا أنس باللاّمتوقّع!). ومن ثم، فقد أزفت آزفة إعادة النظر من لدن دائرة صانعي القرار (la haute sphère) لمحاربة هذا الخطر الطائفي، وقود حروب الكبار، لأنه من جهة ينتهي إلى التحصّن بالميليشيات ولا يؤمن بالعيش في دولة كاملة الأركان. ومن جهة ثانية، لأن العبرة إنما بدرجة الخطورة كامنة كانت أم معلنة. في هذا المستوى فدوائر/ مستويات الفعل الإرهابي هي أوّلا: النواة الصلبة المتشكلة من النشطاء (activistes)، والتي يحمل فعلها الإرهابي رسائل تحد للسلطة وللمجتمع يتعين تشفيرها؛ وثانيا: النواة المدعمة (بكسر العين)؛ وثالثا: المتعاطفون أو النواة النائمة (الهشاشة السوسيو- سياسية قد تفرز إرهابيين محتملين)... والدوائر/ المستويات المشار إليها تنطبق على جماعات الإسلام السياسي[11]. وهذه الجماعات كجزيء الماء (H2O) يمكن أن تتخذ أشكالا عديدة يتم تصنيفها على حالة المادة (الحالة السائلة: مرحلة الانتشار والتغلغل والاستيلاء على عمق المجتمع/ الحالة الصلبة: يتعين إذابتها وتفرض الحل القمعي لا الحل السياسي الإدماجي / الحالة الغازية: مرحلة التقية حيث التربص والاستعداد لمواصلة العنف تفرض القضاء على الأصولية كحاجة اجتماعية يفرضها المنطق الإستراتيجي). وعلى كل، فمحاربة هذه "البروباغاندا البدائية" - التي تتجاهل سنن الحياة، وتفتقد الرؤية والموازنة بين المعتقدات والتطبيقات، ولم تفهم جوهر العالم لتسير قدما إلى الأمام - ضرورة استراتيجية، لأنه بتطاولها على الدولة في استخدام العنف المشروع يكون دعاة الهويات القاتلة من أطياف الإسلام السياسي إرهابيون بهذا المعنى[12] لأنهم يثيرون التطرف ويدفعون باتجاه الانتحار والتشظي برسم علامات مسير على طريق ملغوم مستغبين في ذلك من ليس لهم ذاكرة بتمثلات "شارلي شابلانية" - تحتاج لنموذج انقيادي (confirmiste) تنطبق عليه مسلمة التوازي الأقليدية في علاقته بكمال الجوهر العقلي - وخيارات ضحلة وماكرة غير مقعدة تعوزها أساليب النظر العلمي وتترجم الإسفاف في النظر والعمل وتجسد إرادة الفساد باسم الدين السياسي، وتجعل دعاة التطرف بلغة أهل الجرح والتعديل "غير ثقاة". فجاهلية الإسلام الحركي، بابتعاده عن معاني وروح الدين وعن لغة العقل، تدفعه للاستقواء في أبشع صوره ولتثوير الوضع للتطاول على القانون وللتدشين تبعا لمشهد سريالي دموي يمتح من قانون القوة لا قوة القانون. وغير خاف أنّ إقرار الفقهاء بيعة الإمام الجائر تعني ضرورة العنف المشروع، من خلال الدولة أو السلطان أو حكم القانون، في مواجهة العنف غير المشروع (الجريمة) بمعنى التناغم والانسجام والنواميس الكونية المرتبطة بالسجل الإيجابي (registre positif) في مقابل رفض المقاومة السلبية اللصيقة بالسجل السلبي (registre négatif).

إن الضرورة الاستراتيجية المشار إليها لا تستقيم إلا من خلال التعليم وإنتاج نموذج "القادة المواطنين" "leadership patriotique le" لئلا تتفكك الدولة، خصوصا وأن هدف الإسلام السياسي هو الدولة الوهمية/دولة الإكليروس الإسلاموي وإقامة اللادولة والتمكين وتكريسها كأمر واقع وتقديم المجتمع/المريد قربانا باسم الله. ولمواجهة هذه اليوتوبيا المدمرة سلكت الأنظمة القطرية العربية سبلا عدة أهمها إدماج الإسلاميين في اللعبة السياسية jeu politique)) لما تشكله قدرتهم على الحشد والتعبئة من تأثير بالسلب على استقرار النظام في ظل غياب مرجعيات بديلة تؤصل لمدركات الأمة؛ وذلك من خلال الحل السياسي الإدماجي مثلا في التجربة المغربية؛ أي الاعتراف بهذه الحركات كقوى سياسية ودفعها للعمل داخل مبادئ النظام (نموذج العدالة والتنمية). على هذا الصعيد تنتصب أهمية مفهوم الأمن المجتمعي (sécurité sociétale)، لأن الأمر يتعلق بمستقبل المجتمع وذلك من خلال المحافظة على نسقه القيمي الخاص وهويته القومية، وهو ما يتنافى والمنظور التكنوقراطي للأمن المؤسس على رؤية ضيقة للأمور لا تعير اهتماما لتثبيت العرى التاريخية والثقافية القوية التي ترسخت بين مكونات اجتماعية تآلفت وفق منطق تراكمي يجعل في حكم الاستحالة إمكانية تقويض الكيان السياسي، سواء باسم قومنة الأقليات أو بداعي إعلاء الخصوصية أو ما إلى ذلك. بعبارة أخرى يغدو المجتمع، الذي يتحدد بالتعريف بكونه ليس برلمانا أو غزوة صناديق كما يريد الغرب الليبرالي وجماعات الإسلام السياسي، كيانا قائما بذاته وموضوعا متميزا للأمن وليس مجرد قطاع من قطاعات أمن الدولة. وهكذا ففك الارتباط، مع التاريخ ومحددات الانتماء، يهدد الوحدات القومية في وجودها. ويعني الإيمان بمنطق التاريخ وجود علاقة عضوية تكوّنت عبر الزمن بين الأرض والجماعة. وهاته العلاقة في الحالة المغربية هي ما يمنح معنى منطقيا وواقعيا للوحدة الترابية، ويجعل ما يسمى "الجمهورية الصحراوية" لا معنى لها، خصوصا وأن نحلة المعاش المرتبطة بالترحال تتناقض ومفهوم الدولة. زد على ذلك أن ما يصنع الأمة هو الماضي المشترك على الأرض المشتركة. والماضي المشترك المقصود بمعنى التعايش وليس التزامن وفق طرح البروفيسور سعيد خالد الحسن. مبلغ القول إذن، من خلال استحضار معطيي اللايقين (l’incertitude) والتعقيد (la complexité) وفهمهما، أن طائفة الإسلاميين لا تتجاوز كونها كائنات يرعبها الاختلاف، فتقاوم "المشترك"، وتدمر التعايش وتبرّر كل شيء وأي شيء نتيجة "تفكير" يهرب للعرف عند أي تورط أو مأزق (دعوي و/أو سياسي) رغم مرجعية الشرع التي تستثمرها (وهي على نقيضها) كأصل تجاري بفقهاء مزيفين في التنظيم ودعاة "فرقوا دينهم وكانوا شيعا". هو "تفكير" يؤمن بالثورة بمعناها المرتبط بالتشكيل الحضاري الغربي، حيث التجريد يتمرد على التعيين ويغيب أمر المدركات على عظمها. فالإسلاميون كما يقول أهل ريف مصر "زي الرهريط لا يسد ولا يليس" ومن ثم فهابيتوس (habitus) هذه الجماعات القائمة على ممارسة "مغالبة لا مشاركة" هو مقاومة الجمال، والاختلاف كثروة، وجعل الطبيعة بلا لون... لكنها البيئة الفاسدة وغياب تحكيم العقل في الشأن العام... فالحذر ثم الحذر من تمرير المغالطات فالوطن ذاكرة حضارية وخط أحمر وفصيلة دم ينهض برساميله الرمزية التي لا تردّ إلى العشيرة والطائفة، وليس مرفأ لجبناء النوع مؤلهي السلطة، وللرجعية التي تخاف "الكلمة" وتفر منها كالحمر المستوحشة، والتي لم تتعلم من الدين الحنيف "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"...

الأهمية الاستراتيجية للمدركات

من أهم دروس ما سمي بالحراك: ضرورة استبطان المنطق القرآني الذي يحاور. فيوم الحساب سؤال وجواب و"لو لم تكن المعارضة لصنعتها" على حد قول الملك الراحل الحسن الثاني لأنها بالمحصلة، من حيث إنها عين ثانية تقي من تطرف الدولة كقوة هدامة، بناءة وتمنح تصورات جديدة للماضي والحاضر والمستقبل، وهي في صلب القرآن والسنة وتنطبق عليها مسلمة التوازي الأقليدية في علاقتها وثقافة السمع والطاعة؛ ذلك أن استمرارية الكيان السياسي مرتبطة بحسن الإنصات لصوت المجتمع. ومن ثم يتعين على الكيانات السياسية استيعاب فكرة توطين المعارضة، لأن الأصل أن الدولة تقود المجتمع ولا تلغيه ولا تقرصن إرادته. فالسياسة لا يمكن أن تمارس من دون وجود معارضة مسؤولة لضمان الاستقرار السياسي وتحقيق التنمية، لأن كسر حلقات العنف يتم من خلال ممارسات ديمقراطية وقانونية وأخلاقية وثقافية تتأسس على نسق المدركات الجماعية التي تجعل قيمة الفرد مستمدة من الجماعة ومن استحضار مبدأ: "كن مع الجماعة ولو كنت وحدك" مما يدفع إلى التسليم بأن الكيانات "المجهرية" تحتاج، لأجل الانعتاق، هوية صاهرة كشرط لازب تشدّ عصبها. فضرورة الوحدة الإقليمية مطلب استراتيجي لحماية الدولة القطرية ذلك أن المدركات الجماعية هي العنوان المعنوي لما هو مشترك في التراث العربي الإسلامي مذ أصبح الإسلام هو العامل الأساسي الذي بني على عينه المجتمع، مما يدرك معه معنى وحدة المنطقة/الموحدة في كل شيء كما يستفاد مثلا من "تاريخ القراءات" لمحمد المختار ولد أباه[13]. والحقيقة تقال بأن الوحدة العربية موجودة لا تحتاج لصنع أو للحيلولة دون منعها من أن تتحقق. وما احتلال فلسطين وفق هذه الرؤية غير ختام للوجود العثماني في الإقليم العربي كله الذي لم يكن مستعمرا، بل ارتهن إرادة المنطقة في وقت مهم، حيث إن الحضارة العربية الإسلامية كانت مجتمعات هي بلغة ابن خلدون عصبيات جديدة.

تعتبر أطياف الإسلام السياسي إحدى أهم الأدوات فتكا بالكيانات السياسية من حيث تهديدها للسلم الاجتماعي بمنطق الصفقات وتنزيل "السياسات" بمنطق المعصومية

إن مبدأ: "كن مع الجماعة ولو كنت وحدك" الآنف ذكره يقطع والعقلية الباتريركية الجاهلية كاستمرار لطور الأعراب بالتعبير القرآني، حيث إن الرابطة في منطق أمر المدركات تتجاوز رابطة المواطنة والاستيطان المناطقي إلى رابطة الجوار الأخوي بين الناس في الجماعة. فالأساس، على النقيض من المنطق الليبرالي، هو الجماعة التي يساوي فيها الكل مجموع الأجزاء زائد التفاعلات التي تنشأ بين تلك الأجزاء[14] (أي xi ∏ + ∑ xi S=) أي إن الديمقراطية، بهذا المعنى كمنظومة ليبرالية، تقوم على الطابع القهري للسلطة من حيث إنها منظومة إلزام لا التزام، وبالتالي فهي أداة لتغول الدولة من خلال تحويل الناس لأرقام، وهو ما تجليه ديمقراطية الأغلبية لا ديمقراطية المبادئ.

وهكذا، فإذا كان الإسلام قد أحدث قطيعة مع العقل القبلي عبر الاندماج في هوية شمولية تفيد أن الشعور هو الشرع (الولاء للشرع) فالجاهلية، أو العقل الجمعي القبلي، استمرت مجاليا ومعماريا داخل الفضاء الإسلامي عبر توظيف آليات عدة للاستمرار، رغم أمر الشرع الموحد (الدروب كدور عمياء بدون شرف ترفض الاختلاط والحوار والجوار مع الآخر/ الزواج الداخلي...) وثقافيا عبر حركات ما يسمى الإسلام السياسي، حيث العجز عن تلمس مسار نقطة البداية، على المستوى النظري وعلى مستوى الممارسة أو البراكسيس بتعبير غرامشي، بفعل ثقافة التعصب والانعزال والوثوقية وفرض الأعطاب الثقافية واللامعنى، وبفعل سيادة ما يدعوه Charlie Munger بمعرفة السائق[15] (savoir du chauffeur). إن الجذر لدى جماعات الإسلام السياسي هو أحادية الطرف وتشييئ الإنسان واعتباره مجرد وسيلة لتحقيق ربح سياسي وعدم تقبل الاختلاف تحت سقف القانون مما يجعلها تستخدم في أدبياتها المفلسة "نون الجماعة" وضمير المتكلم بصيغة الجمع وليس بصيغة المفرد "لتأميم الآخر ضمن عشيرتها"، وهو ما يعني سوسيولوجيا احتماء بالجماعة ورفضا للحرية وهروبا من المسؤولية. بالمحصلة: رسم الإسلاميون، بعد الربيع العربي، ملامح زمن كئيب تؤثثه هستيريا ثورجية تحتل كل أشكال التعبير وتحاصر كل الصواب والمعنى. إنهم تحديدا قوى نكوص تقتات على شعارات البؤس اليومي، ولا يمكن أبدا أن تكون حركات اجتماعية، بالمعنى التوريني، لغياب مبدإ الهوية[16] وتحديد الذات من خلال فعل تاريخاني؛ وذلك بسبب طغيان إيديولوجيا محاصرة (بكسر الصاد) تمتح من ذهنية التحريم وتحاول بناء تصور مجتمع مضاد غير واضح المعالم ولا تحمل مشروع التحول الاجتماعي. فإذا كان قدر الشعب العربي في التنوع، فقد أبان الحراك العربي عن قصور الكيانات القطرية العربية في إدارة هذا التنوع. لكن بالمقابل، لا معنى للحقوق والحريات خارج الدولة لأنها والعدم سواء بدون شرعية القانون. فالدولة هي الدولة ضرورة ملحة وحقيقة لا يمكن الاختلاف حولها، فمنطقها هو التوحيد؛ أي إنها فوق الطوائف والقوميات لا دين لها وإرادتها فوق إرادة الفرد البوهيمي (الشبيه بـ "الهوبو" hobo الذي كلما تاه اضطر إلى التيه أكثر) بمعنى أنه لا يمكن الإفلات من هيجل!... غير أن احتراف المزايدة الإسلاموية على الجميع باسم المشترك (الهلامي عند جماعات الإسلام السياسي) لن يصمد بحكم أن هاته المزايدة، بحكم المنطق وبحكم السنن الكونية التي لا ترحم، لها قيامة ونهاية ف"استفت قلبك" أيها القارئ الكريم كما يقول خير الأنام، لأن القلوب إذا صفت رأت على حد قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ختاماً:

عطفا على ما مرّ تعتبر أطياف الإسلام السياسي إحدى أهم الأدوات فتكا بالكيانات السياسية من حيث تهديدها للسلم الاجتماعي بمنطق الصفقات وتنزيل "السياسات" بمنطق المعصومية (زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا!). زد على ذلك أن الإسلام السياسي يختزل السياسة في تواطآت "مافيوزية" يدفع تكلفتها "المستضعفون" غاليا ويجعل "الجماعة" فوق كل وطن ويحدد الهوية انطلاقا من استيهاماته الخاصة. بالمحصلة يكون الإسلام السياسي ارتدادا لمرحلة ما قبل الحضارة لأنه ضد الدولة وضد مدركات الأمة. ومنتهى النقاش في هذا المجال أن جماعات الإسلام السياسي بهذا المعنى ليست نخبة(élite)، لأنها لا تضبط بدقة جدل الخاص والعام في مجتمعاتها، إذ يعوزها التكوين النظري والاستيعاب الدقيق والتام لواقعها ذلك أن جدل الخاص والعام منطلق لفهم الآخر والتفاعل معه "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" (الحجرات: 13).

غير أن الخلل يكمن أيضا في السياسة العامة للدولة التي أدت إلى تنامي خطاب التطرف وكذا ممارساته. فالكيانات القطرية العربية في مجملها - بالإضافة إلى عوزها في بلورة مشروع وطني لا يسمح بتنافس القوميات وباستفحال الهويات الفرعية - ترفض، في وأد صارخ لكل مكتسبات الحداثة الإنسانية عبر تاريخها، أن تكون كيانات مدنية وذلك بتوظيفها الدين في السياسة مثل الأصوليين تماما.

من جهة أخرى، فإذا كانت الصهيونية هي حركة الإله غير التوحيدي في التاريخ[17] فإله جماعات الإسلاميين، التي تسلم بوجه "الما تنحتون"[18] كاستمرار لرسالة دين الشرك المداهنة للوضع الموجود، قبليٌّ أيضا. فلو كان مسوقو الوعي الزائف هم الطريق لأضلوا جبلاّ كثيرا باعتبار نوازع روح "السيبة" (siba) المتأصلة في إيديولوجيتهم غير أن مسار التاريخ يفيد أن المستقبل حتما للدولة، وليس للحشود أو "للديمقراطية المفرطة" كما سبق ذكره... فكفى سبّا للعقل باسم الدين فالفقهاء تعاملوا مع القول الواحد بالتأويل وأخرجوا علم التعارض والتراجيح[19] لأن الوعي من يخلق كل شيء كما أثبتت ذلك التجارب المخبرية للفيزياء الكمية.


 

 

[1] De Saussure (Ferdinand), Cours de linguistique générale, Paris, Ed. Payot, 1995, P23

[2] إي غاسيت (خوسيه أورتيغا)، تمرد الجماهير، ترجمة علي إبراهيم أشقر، دمشق، دار التكوين، ط1، 2011، ص 46-47

[3] بهذا الخصوص:

شريعتي (علي)، الحسين وارث آدم، ترجمة إبراهيم دسوقي شتا، بيروت، دار الأمير، ط1، 2004، ص 222-237

-----، محمد ص من الهجرة حتى الوفاة، ترجمة أبو علي الموسوي، ، بيروت، دار الأمير للثقافة والعلوم، ط1، 2002، ص 68-74

[4] الزخرف (43) آية: 22

[5] «… Dans une société à forte historicité, c.-à-d. où L’emprise de la production du travail sur la production des biens est forte, cette saisie de la créativité est pratique: la science est reconnue comme la créativité, comme la force directe de transformation de l’état de la nature. Au contraire dans une société à faible historicité, la créativité n’est saisie qu’abstraitement, non plus comme pratique, mais comme logos, comme ordre méta-social…» Touraine (Alain), Production de la société, Paris, éd. Seuil, 1973, P 48

- «l’historicité ne peut se manifester que si elle se transcrit en rapports sociaux» In Ibidem, P75

- «L’historicité n’est pas une construction idéologique. Elle est un ensemble d’orientations culturelles et sociales qui se présentent à l’acteur comme des données sociétales et non pas comme des croyances particulières ». Ibid. P 90-91

- «… Les sociétés « traditionnelles », qui se reproduisent plus qu’elles ne se produisent, sont des sociétés sans historicité», sociologie de l’action, Éd. du seuil, 1965, P 31

[6] الأمر الدال هنا أن مؤسس دولة باكستان كان إسماعيليا كما أن الأمازيغ هم من نشروا العربية بالمغرب الأقصى.

بخصوص مفهوم "المدركات الجماعية": الحسن (سعيد خالد)، علم الاجتماع، مقدمة تجاوزية، مركز الدراسات والأبحاث، مؤسسة خالد الحسن، الرباط، ط1، 2009، ص 77ـ78، ولنفس الباحث: المدركات الجماعية مدخل نظرية القيم، دار الأمان ومركز الدراسات والأبحاث، مؤسسة خالد الحسن (نشر مشترك)، ط1، 2015

[7] سيف الدولة (عصمت)، نظرية الثورة العربية، ج 3 المنطلقات ما هو مجتمعنا...من نحن؟، (بيروت، دار المسيرة، ط1-1979)، ص 135

[8] للاستئناس راجع أعمال Lynne McTaggart.

[9] شريعتي(علي)، أبي..أمي نحن متهمون، ترجمة إبراهيم دسوقي شتا، بيروت، دار الأمير، ط1، 2003، ص 113

[10] Cf. Sfez (Lucien), la décision, Paris, PUF, 1984

[11] العلاوي (إبراهيم)، "الفعل الاحتجاجي العربي: قراءة لا ديكارتية"، ص224 ضمن: (جماعي) الحركات الاحتجاجية في العالم العربي السياق والرهانات، الرباط، دار القلم، ط1، 2018

[12] للاستئناس ببعض النماذج التفسيرية للإرهاب:

- Servier (Jean), Le terrorisme, Paris, Presses Universitaires de France, QSJ, 1992

- Wieviorka (Michel), Sociétés et Terrorisme, Paris, Fayard, 1989

- Wieviorka (Michel), Face au Terrorisme, Paris, Liana Levi, 1995

- Moscovici (Serge), L'âge des foules, Paris, Ed. Complexe, 1981

- Apter (David), « Democracy and Emancipatory Movements: Notes for a Theory of Inversionary Discourse », Development and Change, n° 23, juillet 1992

- Crettiez et Ferret (Dir), Le silence des armes ?, Paris, La Documentation Française, 1999

[13] منشورات إيسيسكو 1422ه/2001م.

[14] الإشكال في أن الإنسان ذهب إلى الأجزاء، وغاص فيها ولم يرتفع إلى الكليات "وعلم آدم الأسماء كلها". فالتفكير بالملكية الخاصة مثلا يعطي لمالك آبار البترول الحق في أن يلوث مالا يملكه، وهو الهواء والماء فهو يفكر بالجزء الذي هو ملكية خاصة تخضع للقوانين الوضعية. أما ما يترتب عن "الأنا" وأثرها على ما هو ملك للكل، وهو خرق القوانين الطبيعية بالتلوث، فهو نوع من التركيز على الجزء وإغفال الكل الذي لا يساوي الأجزاء (الكل وفق النظرية الجشطلتية أكبر من مجموع الأجزاء). فالطبيعة ليست هي الجبال والبحار والهواء والإنسان بل هي الطبيعة + تفاعلات الإنسان مع الطبيعة. لذا فالطبيعة وفق هذا الطرح لا تفهم إلا في إطار تصوّر كون طبيعة تفاعلات القوانين تسري من فوق لتحت بحكم تراتبية شموليتها من فوق لتحت ولكون القوانين الكونية تحتوي القوانين الطبيعية والوضعية، غير أن "الأنا" عند الإنسان منعه من صياغة قوانين وضعية تتناغم مع باقي القوانين الطبيعية والكونية والربانية. وحاليا، هناك بوادر لقوانين وضعية تحترم القوانين الطبيعية والكونية مع ظهور قوانين حقوق الإنسان والطبيعة مع أحزاب الخضر في العالم (les Verts) وهي بداية جيدة لكن الخطورة تكمن في أن تطور الفكر بالأجزاء تقدم بشكل خطير قبل أن تتطور القوانين الشمولية المرتبطة أصلا بالأخلاق والجمال (Ethique et Esthétique) وهذا أوصل الإنسان إلى مفاهيم الجمال بتغيير أجزاء في طبيعة الأشكال البشرية، وفي الهندسة الجينية، وفي الذكاء الاصطناعي. بالمحصلة استيعاب هذه الأمور ضرورة ملحة قبل خراب مالطا.

xi ∏ + ∑ xi S= تفيد أن الكل= (الأجزاء) + (التفاعلات).

[15] Cf. Dobelli (Rolf), Arrêtez de vous tromper !, 52erreurs de jugement qu’il vaut mieux laisser aux autres, Traduit de l’allemand par Rolland (Sabine), Eyrolles,2013, p 69-71

[16] Touraine (Alain), Production de la société, Ed. Seuil, 1973, P 324-325

[17] انظر: الفاروقي (إسماعيل راجي)، أصول الصهيونية في الدين اليهودي، القاهرة، دار التضامن، ط2، 1988

[18] تعني بشكل عام إخضاع الناس بتعطيل ملكة العقل لديهم وجعلهم يكتفون بنخاع شوكي من خلال إخضاعهم بالتسليم للوضع الموجود وإقناعهم بأن هذا الوضع تجسيد لمشيئة الله تعالى وإرادته. انظر: شريعتي(علي)، دين ضد الدين، ترجمة حيدر مجيد، بيروت، دار الأمير، ط1، 2003، ص39-56

[19] انظر على سبيل المثال لا الحصر: النسفي (محمد بن محمد)، التراجيح، دراسة وتحقيق وتعليق الحوشاني (شريفة بنت علي بن سليمان)، مجلة جامعة الملك سعود، م19، العلوم التربوية والدراسات الاسلامية(2)، ص ص 889-959 (1427ه/2006م)؛ الأسنوي (عبد الرحيم بن الحسن بن علي)، نهاية السول شرح منهاج الوصول في علم الأصول، ضبطه وصححه ووضع حواشيه محمد علي (عبد القادر)، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1999، (الكتاب السادس: في التعادل والتراجيح)؛ الزركشي (محمد بن بهادر بن عبد الله)، البحر المحيط في أصول الفقه (كتاب التعادل والتراجيح ضمن الجزء السادس مع الفهارس العامة)، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية بالكويت، ط2، 1992؛ القرافي (شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن)، نفائس الأصول في المحصول، دراسة وتحقيق وتعليق عبد الموجود (عادل أحمد) ومعوض (علي محمد)، مكة المكرمة، مكتبة نزار مصطفى الباز، ط1، 1995، (ر الجزأين الثامن والتاسع)؛ الغزالي (أبو حامد محمد بن محمد)، المستصفى من علم الأصول، دراسة وتحقيق حافظ (حمزة بن زهير)، شركة المدينة المنورة للطباعة، ب ت (ر: الجزء الثاني المعنون بالأدلة).

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D9%85%D9%86-%D9%88%D8%AD%D9%8A-%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%B9-%D9%84%D9%85-%D9%8A%D8%B2%D9%87%D8%B1-6784#

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك