لم أكن أعلم بالأمر
سعيد ناشيد
تُقدّم لي تجربتي الشّخصيّة في الحياة دليلا مقنعاً بأنّ فكرة كوننا سنموت ليست بالفكرة الفطريّة في الإنسان، ولا تقع ضمن الأفكار القبليّة في عقل الإنسان، كما أنّنا لسنا مبرمجين لتقبلها بأي حال من الأحوال، بل خلاف ذلك فإنّ الفكرة الأقرب إلى الفطرة هي الاعتقاد بأنّنا كائنات خالدة، وبأنّنا وُجدنا لكي نعيش إلى الأبد، تماماً مثلما كان اعتقاد جلجامش في بداية الملحمة.
لو لم يخبرنا الآخرون، بطرائق مباشرة أو غير مباشرة ننساها في غالب الأحيان، بأنّنا سنموت في أحد الأيّام، لما أمكننا أن نعلم بذلك مهما طال بنا الزّمن، وبالتّالي كنّا سنسلم أنفسنا للموت حين يحين الوقت دون أدنى قلق أو توتر، تماماً مثلما نسلم أنفسنا للنّوم العميق في ليلة كلّ يوم، وتماماً مثلما تفعل الحيوانات الّتي تموت دون أن تعرف بأنّها ستموت، لعلّها تظنّ أنّها تغفو للنّوم.
لا يدرك الإنسان الموت إلّا على طريقة “سيحدث لي مثل هذا”، حين يرى موت الآخرين الأقربين. هذا ما جرى للنّوع البشريّ كافّة في الأزمنة الغابرة، وهذا ما يجري للفرد أيضاً، بحيث يحتفظ بالخلاصة وينسى التّفاصيل.
أمّا أنا، فلهذا السّبب أو ذاك، لم أنس التّفاصيل، بحيث لا أزال أذكرها. وها أنا أستطيع أن أسردها كما أتذكّرها:
اكتشفتُ فكرة الموت في مرحلة متأخّرة من عمري، وهذا ما قد يثير بعض الظّنون فيما أظنّ، غير أنّ والدي الّذي لا يزال على قيد الحياة شاهد على المشهد. بل لعلّه أكبر من مجرّد شاهد، لعلّه فاعل أساسي في بناء المشهد؛ فهو الّذي أنبأني بأنّ الإنسان كائن فان، وأنّنا سنموت في آخر العمر، ولم أكن أعلم بالأمر، فكان الخبر بمثابة صفعة أيقظتني وأخرجتني من “جنّة الخلد” الّتي كنت ألهو فيها بنشوة الخالدين.
كنت أظنّ أنّ الموت لا يحدث -إن حدث- إلاّ جرّاء جريمة قتل، أو بسبب حادثة سير، أو بفعل سقوط مريع من مرتفع شاهق. لم أكن أعرف أنّ الموت مآل يأتي في كلّ الأحوال، وهو أشبه بظلّ ملازم لكلّ شخص في انتظار أن يجثم على أنفاسه في أي لحظة، وأنّه لا يحتاج في آخر الحساب لأيّ أسباب، أو بالأحرى “تعدّدت الأسباب والموت واحد” كما قال شاعر عربي قديم. لم أكن أعرف أنّ الموت إمضاء إلهي يسري على كلّ النّفوس بلا استثناء، سواء أطال العمر أم قصر، فأحدث هذا “النّبأ العظيم” ارتجاجاً مدويّاً في أعماق كينونتي، ولا يزال الدّوي متردّداً إلى الآن.
كنت وقتها في عامي التّاسع، أجول مع والدي داخل فضاء ضريح محمد الخامس بالعاصمة المغربيّة الرّباط؛ فقد جرت العادة أن يصحبني أياّم الآحاد في جولات لأجل اكتشاف تاريخ بلدي بالحواس والمشي. كان يُفترض أن يكون درساً “مشائياً” في تاريخ المغرب، لكّنه صار درساً قاسياً في الحياة، بل لعلّه الدّرس الأشدّ قسوة في حياتي.
كنت أتأمّل في القبر المزخرف بالنّقوش تحت قبّة مهيبة حين سألته: ماذا يوجد هناك يا أبي؟
قال لي: إنّه القبر الّذي دُفن فيه الملك الرّاحل محمد الخامس.
سألته ببراءة: وهل هو ميّت؟
أجابني: نعم هو ميّت الآن.
قلت: من الّذي قتله؟
قال: لم يقتله أحد، بل مات “موتاً من الله”.
كانت تلك هي المرّة الأولى الّتي أسمع فيها عبارة “موتاً من الله”، فقلت له مستفسراً: هل معنى ذلك أنّ الله هو الّذي قتله؟ فلماذا قتله؟
تبسّم وقال: أظنّ أنّنا يجب أن نقول أماته بدل قتله؛ هذا هو التّعبير الأصحّ.
قلت: ما الفرق؟
كما لو أنّه يحاول الاستدراك، ردّ قائلاً: طيّب، في الطّبيعة جميع الكائنات الحيّة تنتهي إلى الموت، مثل الأزهار، والأشجار، والحيوانات، وكلّ البشر. طالما هناك حياة هناك موت أيضاً. ولولا الموت لما كانت هناك حياة. هكذا هي الطّبيعة حين ننظر إليها.
كان الجوّ وقتها خريفاً شاحباً كخريف كلّ عام في مدينة الرّباط، وكان لون السّماء رمادياً داكناً، بحيث تحاول الشّمس بمشقّة أن تطلّ من وراء حجاب الغيمات، وكان الهواء مزيجاً من عبق البخور المأثميّة، ورائحة الأشجار اليابسة، ونسيم هواء النّهر والبحر، فقد كان الضّريح على مرتفع يطلّ على مصبّ النّهر في البحر.
رغم اليأس الّذي غمرني إلاّ أنّي تمسكت بأمل في استدراك يترك لي متنفّساً في بعض الاستثناء، وهكذا طرحت السّؤال: هل كلّنا سنموت في النّهاية؟
ردّ عليّ بصوت حازم وهادئ: هكذا هي سنّة الحياة، لا أحد يعيش إلى الأبد؟ كلّنا سنشيخ، وكلّنا سنموت في الأخير.
قلت: هل أنت أيضاً ستموت يا أبي؟
قال: بكلّ تأكيد.
قلت: وأمّي أيضاً ستموت؟
قال: نعم.
بعد أن تناثرت الحروف على لساني، وضاعت منّي الكلمات لبعض الوقت، حاولت أن أستجمع أنفاسي لكي أطرح السّؤال الّذي لم يكن منه بدّ: هل أنا أيضاً سأموت يا والدي؟
كنت آمل أن أسمع إجابة غير الّتي سمعتها، كأن تكون إجابة لا تغلق باب الرّجاء على الأقلّ، أو تكون إجابة بالنّفي غير القاطع على أقلّ تقدير، أو يكون الدّليل غير قطعي الدّلالة، بحيث يترك الباب مفتوحاً أمام ترجيح احتمالات مغايرة. وبالفعل فقد جرت عادة والدي لدى إجاباته عن أسئلتي أن يترك باب الاحتمالات مفتوحاً بلا حسم، لكي لا يتوقّف عقلي عن التّفكير، كان بارعاً في هذا المنحى، وأنا مدين له في ذلك بالكثير. غير أنّ الجرّة لم تسلم هذه المرّة.
على غير العادة جاءت إجابة الوالد قطعيّة الدّلالة، لا احتمال آخر تتركه، ولا تنسيب تمنحه، حيث الموت حقيقة مطلقة، بل إنّه الحقيقة المطلقة الوحيدة ضمن الوضع البشريّ.
أجابني بنبرة جازمة حازمة: بدورك ستموت، لكن بعد عمر طويل، تحقق فيه آمالك كلّها.
تكفي عبارة “بدورك ستموت” لكي نضع نقطة على السّطر. لأنّ كلّ ما سيقال بعد الموت يصبح بلا معنى. الموت طريق “اللاّعود الأبديّ” إذا ما قلّبنا مفهوم العود الأبديّ لدى نيتشه وفق وصيّته بقلب القيم، يكفي قلب اللّفظ أيضاً حتّى نكون في قلب المعنى، وهو المعنى الّذي يجعل من تحقيق الآمال مجرّد جهد بلا طائل، ومع ذلك لا تتحقّق الآمال إلاّ في حدود ضئيلة جدّاً. ثمّ لا نجد ما نواسي به أنفسنا سوى التّفكير في أنّ الأبناء سيكملون، رغم ذلك لا أحد يكمل أشياء الآخرين. كلّ حياة هي مشروع مستقل بدوره لا يكتمل، كما ينبهنا سارتر، وليس دور الأبناء أن يكملوه.
هل استطاع الملك محمد الخامس الّذي يسكن رفاته في هذا الضّريح المهيب، أن يحقّق آماله الّتي نسجها بعد أن لم يعمّر من عصر الاستقلال، الّذي وسمه بـ”الجهاد الأكبر”، سوى وقت قصير؟! أليس من طبيعة الموت أن يجهض الآمال جميعها في منتصف الطّريق طالما يأتي الموت دوماً في منتصف العمر إذا حسبنا الحياة بحساب المشاريع؟
لا أحد من المقبورين حقّق آماله كلّها في النّهاية، سواء أكان ملكاً أم راعي غنم. لا يأتي الموت بعد أن يقول المرء، اليوم أكملتُ أعمالي وأنهيتُ أشغالي، بل يأتيه بغتة وعنوة ليقول له، توقّف واترك ما بين يديك واتبعني طوعاً قبل أن أجرجرك عنوة. وحده الحكيم من يكون جاهزاً لتلبية النّداء فور التقاط الإشارة، بلا شكوى ولا تذمّر، بل قد يودّع أحبّته الأحياء بابتسامة تخلد في ذاكرتهم، طالما من طبع العقل ألاّ يحتفظ بملامح لحظة الوداع حين تكون عابسة. ننسى الملامح العابسة بسرعة حتّى ولو كانت لأعزّ أحبائنا. إنّها لعبة الذّاكرة بإيجاز، لكنّها فوق ذلك لعبة الحياة إجمالاً. لذلك، من عادة الحكيم أن يعيش حياته بأسلوب فنّي، ويستقبل موته بأسلوب عسكري.
لا أذكر كلّ تفاصيل الحوار الّذي دار وقتها بيني وبين والدي، غير أنّه قال كلاماً كثيراً وهو يحاول أن يدفع عنّي الحزن الّذي غمرني في تلك اللّحظات، ويحاول أن يقنعني بتقبّل فكرة كانت بديهيّة لدى أقراني، لكنّها لم تكن كذلك عندي. بكلّ بساطة، وبكلّ سذاجة أيضاً، لم أكن أعرف أنّ الإنسان كائن من أجل الموت، بل كنت أحسب أنّ الإنسان خُلق لكي يحيا إلى الأبد.
كنت غارقاً في الهلع حين أرخيتُ يد والدي بعد أن شعرتُ أنّها فقدت دفء الحياة، ثمّ توقّفت عن المشي بعد أن شعرت كأنّي في طريق لا أبتغيه، بيد أنّي واصلت الأسئلة: عندما أموت، هل سيضعونني في قبر تحت التّراب؟
قال: سيحدث هذا، غير أنّ روحك ستكون في السّماء، وهناك تواصل العيش.
قلت: كيف ستصعد إلى السّماء؟ وكيف ستكون دوني؟!
قال: طيّب، العبارة الأدقّ أنّك ستكون حيّاً في السّماء.
حاولتُ أن أتمثّل المشهد قبل أن أردّ بنوع من التّذمر: لكنّي لا أريد الذّهاب إلى السّماء، أفضل البقاء على الأرض، سأفعل كلّ ما يجب لكي أبقى، سأكون مهذّباً لأجل أن أبقى، سأبحث عن مخبأ آمن لأجل أن أبقى، سأهرب إلى أبعد مكان من الأرض لكي أبقى، سأتوسّل لله لكي يدعني أبقى، فلا شيء يهمّني سوى أن أبقى، لا أريد أن أذهب إلى السّماء، أريد البقاء، لا أريد أن أموت يا أبي.
عندما قلت ما قلته، وكنتُ لا أزال متوقّفاً عن المشي، ثنى والدي ركبتيه وجلس القرفصاء قدامي لكي يقول لي كلاماً لا أذكر تفاصيله، لعلّه بذل جهداً جهيداً لكي يغيّر محور تركيزي، غير أنّ المحاولة لم تنجح؛ فقد كانت الصّدمة الّتي تلقيتها مفصليّة في حياتي، ولها ما بعدها.
في ذلك اليوم صارت كلّ الأشياء كئيبة، وكلّ الكلمات مريرة.
كنت بطيئاً في نموي بحيث تأخّرت في كلّ شيء، تأخّرت في المشي، تأخّرت في النّطق، تأخّرت في اكتشاف الرّعشة الجنسيّة أيضاً، وأخيراً تأخّرت في اكتشاف الموت، لكن، لربّما كان هذا البطء في النّمو مصدر قوّة من حيث لا أحتسب. من يدري؟ لربّما يقود البطء في الإدراك إلى إدراك بطيء، بمعنى عميق أيضاً.
تأخّر وعيي بالموت وبالتّالي تأخّر وعيي بالذّات فيما أظنّ، طالما أصل هذا من ذاك، ولا ينبثق الوعي بالذّات إلاّ من رحم الوعي الدّراماتيكي بالموت. ولأنّي تأخّرت في الوعي بالموت فقد جاء وعيي بذاتي مرهفاً فيما أظنّ، حتّى أنّ قصص الأطفال الّتي كنت أغوص في قراءتها مضطجعاً على بطني لم يعد بوسعها أن تصدّ عنّي قلق الموت الّذي صار يقض مضجعي ويحرمني من النّوم طوال ساعات من اللّيل ولسنوات طوال، أخشى ما كنت أخشاه فيها أن أنام فلا أصحو من النّوم مجدّداً، فأكون غائباً حين تستأنف الشّمس شروقها الصّباحي، وأبقى غائباً حين يواصل أطفال الحيّ ألعابهم الجماعيّة، وأظلّ غائباً حين يرنّ جرس المدرسة للدّخول، ثمّ يرن للخروج، وترث أختي ألعابي بعد غيابي.
هكذا ظلّت فكرة أني قد أموت في أي لحظة تقض مضجعي، وكثيراً ما كانت تنغص عليّ أوقاتي، فتحرمني من البراءة الطفوليّة التّي كنت أحتاج إليها حتى أتصرف على منوال أقراني.
طيّب، لعلّي أتذكّر الآن ذلك الدّرس الّذي يردّده المحلّلون والأطباء النّفسانيون حين يوصون الأهل بعدم التّأخر في إخبار أطفالهم بالحقائق ذات الصّلة بالهويّة والأصل والحقائق الطبيعيّة، من قبيل اليتم، والتّبني، والفقد، والنّسب، والهويّة الجنسيّة، والمرض المزمن، وما شابه ذلك، أمّا في حالتي فلم أتأخّر في معرفة حقيقة مرتبطة بالأصل والهويّة، بل حقيقة مرتبطة بالمصير والمآل، لدرجة أنّ فكرة أنّي سأموت حتماً بعد سنوات معدودة صارت كابوساً لا يفارقني.
لقد كان مبلغ همّي العثور على وصفة لأجل النّجاة من الموت، وظلّ ذلك الهمّ يراودني في أحلامي.
من يدري؟
لربّما تحيل بعض صور الحلم إلى حياة النّوع البشريّ برمّته كما يرى كارل يونغ، ولذلك، لعلّها آثار باقية لخطوات جلجامش الّذي مضى خلال الأزمنة القديمة في رحلة البحث عن عشبة الخلود، وبعد أن عثر عليها بجهد أسطوري ضيعها في غفلة منه، وضيعها إلى الأبد.