الاحتكاك الحضاري

خالد راتب

 

تلاقح الحضارات أمر واقع لا مناص منه، ولا سيما في عصر السماوات المفتوحة. ومن ينكر هذا التلاقح هو إنسان لا يعرف طبيعة العلاقات البشرية، فهو إنسان يريد أن يعيش في عالم غير العالم الذي نعيش فيه. وقد أثبت الدارسون والباحثون في ميادين التاريخ والاجتماع، أن الحضارات تتفاعل وتتعاقب وتتبادل، أي أن هناك احتكاكًا فعليًّا بين الحضارات. وهذا الاحتكاك الحضاري ينطلق من قاعدة التعارف. فالأمم والشعوب لا وجود لها من غير هذا التعارف الذي بدأ من تعارف أبينا آدم عليه السلام على أمّنا حواء، ثم انطلقت السلالة البشرية بعد ذلك في صورة الأمم والشعوب على أساس هذه القاعدة. فعن طريق التعارف تستطيع الحضارات أن تتفاهم.

يقول زكي الميلاد: “فالتعارف هو الذي يؤسس لأشكال الحوار ومستوياته ودرجاته، وإلى أشكال ومستويات ودرجات أخرى من العلاقات والتواصلات أيضًا، كالتعاون والتحالف والتبادل والإنماء والاندماج والتكامل، إلى غير ذلك من صور وأشكال وأنماط العلاقات، وبقدر ما يتطور التعارف تتطور تلك الصور والأنماط من العلاقات والتواصلات. وهذا يعني أن التعارف يسبق الحوار ويؤسس له أرضياته ومناخاته، ويشكل له بواعثه وحوافزه، ويطور له صوره وأنماطه، ويرتقي بدرجاته ومستوياته. ولهذا فإن التعارف هو القاعدة وليس الحوار”(1).

ونظرية أو قاعدة تعارف الحضارات مستنبطة من القرآن الكريم. وقد حدد القرآن الكريم مبدأ التعارف والتلاقح الحضاري، حيث جعل عامل المراقبة والتقوى هو أساس نجاح تفاعل الحضارات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات:13).

والمناخ الديني مناخ يعترف بالتعددية الحضارية ويقبلها على أساس من قاعدة الاختلاف الطبيعي بين البشر. وقد اعترف الإسلام باختلاف البشر وأنه يمثل ظاهرة طبيعية، وفي هذا يقول القرآن الكريم: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(هود:118-119). بل إن الاختلاف بين البشر سبب مهم من أسباب اجتماعهم وتعارفهم وتبادلهم للمعارف: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).

من إيجابيات الاحتكاك الحضاري

الاحتكاك الحضاري ليس كله خير، وليس كله شر، ولكن فيه الإيجابي والسلبي. ومن أهم إيجابيته:

خلق روح المنافسة بين الحضارات: فكل دولة تسعى إلى السبق الحضاري، وهذا السبق الحضاري لا يتأتى إلا بالعلم والعمل والتنمية الفكرية والثقافية والدينية. وهذا يدفع الأمم والشعوب إلى بذل كل ما يملكون لتحقيق تقدم حضاري شامل ومتكامل، ويجعل هذا، الدول في القمة الهرمية التقدمية. وفي هذه الحالة يجب على كل الحضارات -ومنها الحضارة الإسلامية- أن تقتبس كل الإيجابيات من الحضارات الأخرى ما دام هذا الاقتباس لا يؤثر على دينها. إذ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ببعض الوسائل الحديثة التي لم يعرفها العرب كحفر الخندق.

والاحتكاك الحضاري ما دام نافعًا ولا يخالف ثوابت الدين، فلا مانع منه بل قد يكون واجبًا، لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذ بها. وأصل هذا التبادل الحضاري النافع في الشريعة الإسلامية؛ وقد أذن صلى الله عليه وسلم بالتفاعل الحضاري والتواصل الثقافي مع أهل الكتاب، غير أنه صلى الله عليه وسلم رفض ما يعارض القرآن، وقبل ما يوافقه، وحذر مما لا يعلم صدقه من كذبه. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: “حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج” (رواه البخاري)، وورد في بعض ألفاظه: “ولكن لا تصدقوهم ولا تكذبوهم”.

عمارة الأرض وانتفاع البشرية بهذا التدافع: فمن غير هذا الاحتكاك تفسد الأرض، قال تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)(البقرة:251)، وما هذا التقدم التقني الحديث، إلا حصيلة هذا التدافع. فالتدافع الحضاري يدفع عجلة الإنتاج الثقافي والفكري والاقتصادي والسياسي، كما أنه يحقق اكتفاء ماديًّا ومعنويًّا في كل جوانب الحياة.

إعادة الأمة الإسلامية إلى خيريتها: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)(آل عمران:110)، وذلك عندما نرى الغرب قد أخذ بالقواعد والمبادىء الإسلامية، وتعامل معها بجدية فنهض وحقق تقدمًا حضاريًّا في الوقت الذي تأخر فيه أصحاب المنهج السليم والدين الحق، أصحاب رسالة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(العلق:1). فرسالة الإسلام رسالة العلم والقراءة في كتاب الله المنظور والمسطور. فالقرآن يوجه أنظارنا -بصورة ملحوظة- إلى تدبر آيات الله في الكون؛ في السموات والأرض، والشمس والقمر، والجبال والبحار، والنبات والحيوان… وكل ما يقع عليه الحس من كائنات، لكي نحقق -بالعلم- استغلال الطاقات الكونية المسخرة لنا أصلاً من عند الله: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الجاثية:13). فهذه الطاقات الكونية مسخرة من عند الله للإنسان. نعم، ولكنها تحتاج لأن يتعرف الإنسان عليها، كي يستغلها فيحقق السعادة للعالمين.

ومن هذه التوجيهات وغيرها في القرآن اتجه المسلمون إلى العلم، وإلى العلم التجريبي خاصة، فأنشأوا المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي تقوم عليه النهضة العلمية الحاضرة في أوروبا بعد أن تعلمت ما تعلمت في مدارس المسلمين. ومن قبل ذلك كان العلم على يد اليونان علمًا نظريًّا بحتًا لا يؤدي إلى تقدم كبير. وقد اعترف العالم بدور المسلمين في هذا الشأن؛ يقول العالم الأوربي المشهور “هاملتون جب” في كتابه “الاتجاهات الحديثة في الإسلام”: “أعتقد من المتفق عليه أن الملاحظة التفصيلية الدقيقة التي قام بها الباحثون المسلمون، قد ساعدت على تقدم المعرفة العلمية مساعدة مادية ملموسة، وأنه عن طريق هذه الملاحظات، وصل المنهج التجريبي إلى أوروبا في العصور الوسطى”(2).

من سلبيات الاحتكاك الحضاري

إن إمكانية الاحتكاك بين الحضارات أمر جائز، بشرط ألا يصل الأمر إلى الامتزاج الكلي الذي تنمحي معه الهوية؛ لأن الاحتكاك بين الحضارات لا بد أن يكون قائمًا على النِّدية وليس التبعية، ولا فرض الهيمنة الاقتصادية والثقافية والسياسية، والسيطرة العسكرية.

كما ينبغي أن يكون هذا الاحتكاك الحضاري نسبيًّا وبمعايير ورؤية شرعية، لا تتصادم هذه الرؤية مع أصول وثوابت الدين، ولا يعني الاحتكاك والتعارف بين الحضارات فقدان القيم والأخلاق، كما يجب أن تتوخى الأمم المتلاقحة حضاريًّا عدم الانخلاط دون وعي مع ما يخالف المشتركات الإنسانية والعقائدية والأخلاقية، والحذر من زيف الحضارات الغربية المتلونة بلون المادية البحتة. فالحضارات الغربية في أغلب حالاتها، تحمل فلسفات وقيمًا ومعايير ومفاهيم مغايرة تمامًا للمعايير والقيم والمفاهيم الإسلامية، وذلك لأن الحضارة الإسلامية لها خصائص وميزات لا توجد في الحضارات الأخرى. فالحضارة الإسلامية حضارة منها ما هو ثابت لا يقبل التغيير مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة؛ فالأخلاقيات الإسلامية -مثلاً- لا يمكن أن يطرأ عليها أي تغيير، فالأمانة هي الأمانة، والصدق هو الصدق، والعفة والكرامة الإنسانية… وكل الأخلاقيات هكذا في الإسلام، لا يمكن تغييرها بقوانين أو برأي الأكثرية، فهذا مستحيل، أما في بعض الحضارات غير الإسلامية، يمكن تغيير الثابت حسب ما يراه الناس؛ فالعفة عندهم تخضع للمعايير البشرية، فمن الممكن إنشاء علاقة غير أخلاقية كاتخاذ الأخدان، إذا وافق الأكثرية على ذلك بل يصبح هذا الأمر عندهم حرية وديموقراطية. فمثل هذه الحضارات المزيفة لا يمكن تزاوجها مع الحضارات الإسلامية، لأن لكل منهما طريقًا مختلفًا وسياقًا خاصًّا.

التقديس الأعمى للغرب ولكل ما يأتينا منه: إن تعظيم الغرب في كل شيء -فيما ينفع وفيما يضر- يعد جريمة؛ وذلك لأن الغرب يقصد ويهدف في دعوته للتبادل الحضاري تحطيم النموذج الإسلامي في التاريخ والواقع، وذلك برفع قيمة الغرب، حتى لا يبقى أمامك خيار إلا الاتباع الذليل، والتقليد الأعمى. وقد تم ذلك في أغلبه؛ حيث عظم كثير من الناس سلاح الغرب، ومدنية الغرب، وأخلاق الغرب، وعقل الغرب، وأدب الغرب، وفن الغرب، بل وعظموا لغة الغرب. حتى بعض المسلمين افتتن بالحضارة الغربية وبلغتها، وأصبح الرجل يحرص على تعليم الإنجليزية لابنه أكثر من حرصه على العربية، بل ومن تعليم القرآن. وحتى تدرج الأمر بنا إلى أن ابتلينا بما أطلقوا عليه مدارس إسلامية للغات، بحجة أننا يجب أن نعلّم أبناءنا لغة الغرب لندعوهم إلى الإسلام. أتتعلمها على حساب لغتك؟ وبحجة أن الأعمال المرموقة لا بد لها من لغة أجنبية جيدة، هل على حساب لغة القرآن؟ وحتى لو أتيت لابنك بمعلم للعربية في البيت، سيظل الطفل معظمًا للغته الأولى في مدرسته. أنا لست ضد تعليم الأطفال لغة أجنبية “ثانية”، ولكن بشرط أن تكون فعلاً لغة “ثانية”، لا أن ندرس للأطفال العلوم والرياضيات والجغرافيا والتاريخ باللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، أو أي لغة أخرى إلا العربية(3).

ولم يقتصر الأمر على تعظيم الغرب وتقديسه، بل وصل الأمر إلى قبول وتقديس كل ما يأتي من الغرب بحلوه ومره وخيره وشره، ما يحب ويكره.

الانبهار ببريق العلمانية والظن أنها المنقذ للإنسانية كلها: ولا حرية ولا حقوق ولا تعايش سلميًّا، إلا في ظل فصل الدين عن الحياة، وأن العلمانية ليست ضد الدين، وهي تهتم بأمور الدولة والسياسة، ولا تتدخل بالأديان.

إن قبول العلمانية بهذا المفهوم يهدد كيان الإنسان بما تحدثه هذه العلمانية من تناحر في أمور الاعتقاد، والاقتصاد والسياسة، والاجتماع البشري. فالعلمانية تعني أن الدولة بلا دين، وأقول الإسلام دين ودولة، وعقيدة وشريعة، ولا يقبل من المسلم أن يؤمن ويطبق الإسلام في الأمور العقائدية والاجتماعية، ويرفضه ويكفر به في الأمور السياسية والتشريعية. وبناء على ذلك نقول إن الاحتكاك الحضاري هنا ممنوع، لأن المسلم لا يمكن أن يكون علمانيًّا، لأن المسلم يوقن أن إقامة الشريعة الإسلامية تحقق التقدم والرقي والنهضة الحضارية للأمم كلها بما تحمله من عدل ورحمة، وأن العلمانيين المتطرفين غير قادرين على تحقيق رقي حضاري أبدًا والتاريخ والواقع يشهدان بذلك.

 

(*) دكتوراه في الشريعة الإسلامية / مصر.

الهوامش

(1) المفصل في أحكام الهجرة، لزكي الميلاد، جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة، علي بن نايف الشحود، 5/47.

(2) نقلاً من كتاب “منهج التربية الإسلامية” للأستاذ محمد قطب.

(3) أمة لن تموت 1/8، لراغب السرجاني بتصرف كبير وزيادات.

المصدر: https://hiragate.com/%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%83%d8%a7%d9%83-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b6%d8%a7%d8%b1%d9%8a/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك