جنيالوجيا الفكر النقدي العائد لعصر الأنوار

حسن أوزال

 

"لا يدلُّ الباروك على ماهية ما، بل هو خلافا لذلك عملية إجرائية، إن لم نقل علامة (...) ذلك أن علامة الباروك هي الطي تلو الطي إلى ما لانهاية".

جيل دولوز

هل بوسعنا أن نفهم ما حصل في عصر التنوير دون العودة إلى عصر الباروك؟ هذا هو السؤال الذي آثرنا الاستئناس به، تمهيدا لسلسلة أخرى من الأسئلة التي ما فتئت تؤرقنا، والتي تدور أساسا حول إشكالية واحدة هي إشكالية اللائكية من قبيل: ما أصلها؟ وكيف ازدادت ومتى؟ على يد مَنْ وأين؟ ولمَ أخفقنا في عالمنا العربي في تحقيقها؟ لكن قبل ذلك، لابد أن نعرج بداية، على مسألة أخرى تتعلق بهذه الصفة أو تلك التي دأبنا على أن نطلقها على عصر من العصور دونما سند معقول أو مبرر شاف. وهذا شأن القرن السابع عشر مثلا، الذي اختلف الكثيرون في تسميته، حيث ينعته البعض بالقرن العظيم le grand Siécle، بينما يفضل الآخرون تسميته بـ"عصر الباروك". وإذا صار من البديهي على ما يظهر أن نقرن على مرّ التاريخ كل عصر باسم ما، حتى اعتدنا القول على أن القرن الثامن عشر هو عصر التنوير، يليه عصر الثورة الصناعية؛ فالعصور الأخرى الموالية، لم تَحِد بدورها عن هذا المنحى، إذ عرَفَتْ سلسلة من التسميات الاعتباطية التي تبدأ بعصر الصورة وتنتهي بالعصر الجينومي مرورا بالعصر الرقمي والعصر المعلوماتي إلى غيرها من الألقاب التي تحتاج في الحقيقة إلى الكثير من التمحيص والدقة اللازمة، خاصة وأنها قُرِنتْ بعصور اتّسمتْ بالعنف والتقتيل، كما التفقير والإبادة. فلِمَ لا نُطلِق على القرن العشرين مثلا لقب قرن الفاشية كما لاحظ الفيلسوف الفرنسي ميشيل أنفري؟ ولِمَ لا نسمي عصرنا الحالي الأكثر ليبرالية بعصر التفقير؟ بعد هذه الإشارة، لا بأس أن نعود إلى موضوع حديثنا، ألا وهو القرن السابع عشر أو ما درج البعض على نعته بعصر الباروك، لنوضح أن الباروك أو الطي بتعبير دولوز[1]، هو ما يرمز أيضا لاقتران النور بالظلام le clair-obscur، وانبعاث خيط من الضوء من عمق ليل دامس؛ ذلك أنه قرن بقدر ما كان يَعِد بالخروج من الظلمات بقدر ما كان يُبشّر بإمكانية الانفلات من قبضة الظلامية الدينية بالأساس، مُعوِّلا في ذلك على قوة الفكر وسلطان الفن؛ على اعتبار أن الأسلوب الباروكي لم يكن ينحصر في الفلسفة والأدب فحسب، بل امتد ليطال كل مناحي الإبداع، سواء في مجال فن العمارة والتصوير والنحت والموسيقى أو الشعر والرسم. وإذا صح القول "بأن القرن السابع عشر هو قرن رامبرانت جار سبينوزا، وتحفته بعنوان فيلسوف تحت الدرج (هولندا)؛ فهو أيضا قرن الفنان الإيطالي Caravage ولوحته Petit Saint Jean à la source كما أنه قرن الفنان الفرنسي Georges de La Tour وتحفته الرائعة Madeleine pénitente"[2] ذلك أن قوة الباروك بنظر دولوز، تتجلى أكثر ما تتجلى، في تكسيره للحدود ما بين كل الفنون، والتأسيس بالتالي لفن شامل[3] un art total. فن شامل يتحقق في خضم هذه الوحدة التي ما كان لها أن تكون بحسبه إلا على نحو "امتدادي، حيث إن كل فن، يحاول أن يتوسَّع وأن يَتحقَّق أيضا في فن آخر يفُوقه (...) هكذا خرج فن الرسم من إطاره ليتحقق في فن نحت الرخام المتعدد الألوان، كما تحدى فن النحت ذاتَه، فتحقق في الهندسة، وعثرت الهندسة بدورها على إطار خاص بها في الواجهة la façade؛ إلا أن هذا الإطار سرعان ما انسلخ بدوره عن الداخل وبدأ يرتبط بما يجاوره بشكل جعل الهندسة تتحقق في تخطيط المدن"[4].

عصر الباروك هو عصر عُرِف أكثر ما عرف بفلاسفته الأحرار الذين يشتغلون بشكل منعزل وفردي تماما كما لو كانوا جزرا وسط أرخبيل

لكننا إذا ما اكتفينا بالمجال الفلسفي لا غير، انسجاما مع عنوان هذا المقال، الذي نرمي من خلاله إلى الكشف عن أصل الفكر النقدي العائد لعصر التنوير، أمكننا التوكيد أن عصر الباروك هو عصر عُرِف أكثر ما عرف بفلاسفته الأحرار les libertins baroques الذين يشتغلون بشكل منعزل وفردي تماما كما لو كانوا جزرا وسط أرخبيل؛ مع أن ما يجمع بين هؤلاء الفلاسفة، على الرغم من ذلك ويوحدهم هو أكثر بكثير مما يفرق بينهم. ذلك ما سنعمل هاهنا، جاهدين على إبرازه على كل حال، بعد تفييئنا لهم مذهبيا إلى فئتين: فئة أنصار النزعة الإيمانية التي تضم بيير شارون، لاموت لو فايير، سان إيفرمون وبيير غاسندي من جهة وفئة أنصار النزعة الحلولية التي تتكون من "سيرانو دو بيرجراك" وسبينوزا من جهة ثانية؛ لكن لنعلم على أن هذا التمايز المذهبي الواضح، لا يعدو أن يكون تمايزا ثانويا، لم يمنعهم بالرغم من ذلك، من الذود عن نفس الأهداف والسعي وراء نفس الغايات من قبيل السلم والطمأنينة كما السكينة، سواء في المجال العام أو الخاص؛ ذلك بطبيعة الحال ما جعلهم يكتبون ضد الحروب الدينية، وما تسببت فيه من عنف سياسي أدى إلى زهق الأرواح وإراقة الدماء (استمرت الحروب الدينية حوالي 35 عاما، عرفت خلالها مجزرة سان برتليمي Saint-Barthélemy 3000 قتيل في ليلة واحدة)، انتصارا وهو الأهم لقيم الاختلاف ونشدانا لعصر مشرق يحتكم فيه الجميع لنور العقل. على هذا الأساس، ذهب البعض منهم يبحث عن بذور هذا الأمل عند أبيقور، في الوقت الذي استنجد فيه آخرون بسينيكا أو بيرون و"سيكستوس أمبريكوس". ولما كانوا كلهم ودون استثناء يبحثون عن مخرج ما من مستنقع الدم والتقتيل حفاظا، وهو الأهم بنظرهم على الطمأنينة والسلم، امتنعوا عن توجيه سهام النقد للدين، فلم يعلنوا الحرب ضد الله ولا ضد الديانة الكاتوليكية التي اعتبروها إسمنت المجتمع وعربون التعايش، شريطة الإبقاء عليها في نطاق المجال الخاص. على هذا النحو إذن، قُدِّر للتصور الباروكي اختراق حقب التاريخ والتأثير على المدى الطويل، ولاسيما أن النزعة الإيمانية بقدر ما كانت تعفي الديانة الكاتوليكية من كل نقد بقدر ما كانت ترغم المسيحية على الابتعاد عن الحقل العام، معرضة إياها بالتالي رويدا رويدا للنسيان والتلف. بديهي إذن أن يتسم هذا القرن العظيم بازدواجية من بعدين اثنين، هما البعد الأبولوني والدينوزوسي، حيث مقابل النظام والنور، كما التزهد والهدوء، البساطة والقياس هناك أيضا الموسيقى واللاتناسق، الاعوجاج والعربدة كما الرقص وحماسة الحياة. وهذا كله مزيج ما فتئ ينعكس في الأسلوب الباروكي ذاته الذي ما فتئ يرشح بالحيوية والطاقة كما القوة والحبور واعدا باقتراب بزوغ نزعة تحررية. هذا ما تدل عليه إتيمولوجيًا، لفظة Libertin[5] ذاتها لِما تحمله من أوجه عدة، حيث إنها بقدر ما كانت تعني الهرطيقي والملحد، الفاسق والفاجر بقدر ما كانت تعني أيضا، الإنسان الحر أو بالأحرى كل من لا يؤمن بإله المسيحيين. لكن "لو ليبرتان" لم يكن في الحقيقة يعني الملحد أو الجاحد بوجود الله، أكثر ما كان يعني بالأحرى، الإيمان بالله على نحو أبيقوري، أي بشكل يضحى فيه كخالق غير مكترث لحياة الناس الذين يحيون دونما خوف من عقاب ولا رعب من حساب. وهذا إن كان يدل على شيء، فإنما يدل على أن مجالي الحياة والسياسة قد تحررا من سلطان اللاهوت، مادام أن العقل لا يمكنه أن يبقى خادما للاهوت ولا اللاهوت خادما للعقل كما أتبث سبينوزا في كتابه بعنوان "رسالة في اللاهوت والسياسة" موضحا على "أن لكل منهما مملكته الخاصة؛ للعقل مملكة الحقيقة والحكمة كما قلنا من قبل، وللاهوت مملكة التقوى والخضوع"[6]؛ معنى هذا أن الرجل الذي اعتاد تمحيص أجنحة الفراشة بمجهره، يريد أن نمضي قدما في توظيف العقلانية تنقيبا عن ميكانيزمات الواقع؛ وذلك سواء عبر الملاحظة والتحليل، البرهنة والاستدلال، أو عبر الفهم والاستنتاج. إن سبينوزا بتعبير آخر، إذ يصرح بضرورة تفادي التيولوجيا والدين، اللذين ما فتئا يُخضِعان كل شيء لمصفاة الأخلاق، فذلك ليس إلا تشبثا منه بالفلسفة التي يمارسها كعلم أو كهندسة، بكل ما تقتضيه من توظيف جيد للعقل. وتلكم هي إحدى سمات هذا العصر بالذات الذي بوسعنا استئناسا بكِتاب "مفكرو عصر الباروك الأحرار" للفيلسوف الفرنسي مشيل أنفراي، أن نؤرخ له بحدثين اثنين، على اعتبار أن عصر الباروك يبدأ بموت مونتاني عام 1592م، وينتهي بموت سبينوزا عام 1677م؛ أي إنه عصر ينحصر بين ميلاد صيرورتين فكريتين عز نظيرهما على مدار تاريخ الفكر. والملاحظ بشكل عام، أن أهم ما يميز فلاسفة هذا القرن كونهم ينحدرون جميعا من نفس الظروف التاريخية، ويشتركون في أربع سمات هي بمثابة القاسم المشترك بينهم نوردها كما يلي: "أولا كونهم جميعا سليلي جنيالوجيا مونتانيي؛ ثانيا كونهم يقترحون إبستمولوجيا خاصة، تقوم على نهج تفكيكي ارتيابي بالأساس. ثالثا يطرحون تصورا أخلاقيا غير مسبوق ينهض على أرضية إيطيقية راديكالية محايثة، رابعا لهم رؤى جديدة في كل ما يتصل بالمسائل الدينية تستند إلى اعتقادات إيمانية محضة Croyances religieuses fidéistes. لنقل بالأحرى أن لهم أصلا واحدا مشتركا ويَعِدوننا بثلاث ثورات: ثورة على مستوى المنهج وثورة على مستوى الأخلاق وأخرى على مستوى الدين."[7]

توضيحا للحظات الأربعة السالفة الذكر، يمكننا أن نقول فيما يخص اللحظة الأولى على أن متحرري عصر الباروك كانوا ينهلون على حد سواء من أفكار مونتاني، ويمتحون من المحاولات باعتبارها كتابهم المفضل. كتاب بقدر ما كانوا يقرؤونه بتمعن ودقة بقدر ما كانوا لا يخجلون البتة من الكتابة، انطلاقا منه بعد استيعابهم لكل ما يزخر به من أفكار؛ وهذا شأن "بيير شارون" على سبيل الذكر لا الحصر المعروف بتحفته "في الحكمـة" "De la sagesse". علاوة عن ذلك، تجدر الإشارة أيضا، إلى الأهمية البالغة التي حظيت بها مكتبة مونتاني الزاخرة بالعديد من كتب الأسفار والرحلات، والتي ورثتها "ماري دو غورناي" أوّلا، قبل أن تتركها بدورها لـ"لاموت لوفايير". وإذا أضفنا إلى هذا الإرث الفكري ما صاحبه من كشوفات جغرافية (اكتشاف أمريكا عام 1492م) أدت من جهتها إلى الدفع بمتحرري عصر الباروك إلى فهم أفضل للحقيقة، باعتبارها حقائق بالجمع لا المفرد، سيتضح لنا جليا كيف صار هؤلاء الفلاسفة يتبنون المنظورية perspectivisme أفقا وينهجون النسبية سلوكا، خاصة بعدما اكتشفوا أن الإنسان لم يعد هو الإنسان الأوروبي الأبيض اللون والمسيحي الملة فحسب، بل هو أيضا الإنسان الكوني الملون والطبيعي المتعدد الأديان. على هذا النحو إذن مضوا يفكرون في الدين بنوع من التبصر يقي من الوقوع في الحروب ثانية، ويصون المجتمع من التمزقات والاضطرابات السياسية، فتشبثوا أيما تشبث بالسلم المدني مقترحين تخريجة غير مسبوقة في المجال الديني شعارها النزعة الإيمانية. أما فيما يخص اللحظة الثانية، فهي لحظة بقدر ما تنهض على تبنيهم للنسبية الارتيابية العائدة أساسا إلى بيرون وسيكتوس أمبريكوس، بقدر ما تتخذ الشك أداة تسعف على الوصول إلى استنتاج الحقائق بشكل علمي. ولا بأس من الإشارة هنا إلى الفيلسوف "بيير غاسندي" المعاصر لديكارت، والذي يعود إليه الفضل لا في اكتشاف ما يدعى بالقصور الحركي L’inértie فحسب، بل وممارسة التشريح والجراحة أيضا، ناهيك عن تعاطيه لعلم الفلك، شأنه في ذلك شأن "لاموت لوفايير" و"سيرانو دو بيرجراك" و"فونتنيل". ولعل أبرز ما ميز هؤلاء العلماء الفلاسفة، إنما هو ثقتهم جميعا في النتائج العلمية وما يتوصلون إليه عبر الملاحظة والاستنتاج استنادا على الواقع لا غير؛ حتى أضحت الحقيقة معهم محط حساب دقيق ولم تعد تقوم كما السابق على أيّ برهان لاهوتي غيبي. هذا بينما تتميز اللحظة الثالثة، في مجملها، بعودة مفكري عصر الباروك الأحرار إلى التراث القديم عامة بحثا فيه عن الحِكَم القديمة. لكن هذه العودة تكاد تختلف تماما سواء عن تلك التي عرفها عصر النهضة أو عن تلك التي قامت بها السكولائية؛ ذلك أن استعادة التراث القديم في عصر النهضة وإبرازه للواجهة كان بوازع أفلاطوني محض تماما مثلما التجأت السكولائية إلى التراث الما قبل-مسيحي بحثا في الأرسطية عما يعزز أطروحتها بشكل يضحى فيه أرسطو خادما لها ليس إلا. هكذا لقيت الرواقية الغارقة في نزعة الألم le dolorisme المسيحية، صدى كبيرا وصارت ذات تأثير بالغ في الوقت الذي تَمّ فيه التعامل بنوع من النكران والتجاهل، سواء مع النسبية الارتيابية العائدة لبيرون و"سيكستوس أمبريكوس" أو مع النزعة الكلبية المناهضة للأفلاطونية والتي يتزعمها أنتيستين وديوجين، ناهيك عن الإقصاء الممنهج الذي طال التيار المتعوي الديناميكي العائد للقورينائيين وكذا الإهمال الكبير الذي عانى منه السفسطائيون بما في ذلك فكرة رائدهم "بروتاغوراس" التي ما فتئت تؤكد على أن الإنسان مقياس كل الأشياء؛ دون أن ننسى أخيرا الحيف الذي عانت منه النزعة المادية الذرية والتيار المتعوي الذي تزعمه أبيقور. لنقل بالأحرى على أن هذه العودة إلى التراث الإغريقي والروماني عودة إن كانت تدل على شيء، فإنما تدل على مدى انشغال مفكري عصر الباروك بالفلسفة الحية، باعتبارها فلسفة تتجسد في حياتهم اليومية وتنعكس في ما ارتضوه لأنفسهم من أسلوب للعيش. وهل يكون هذا النزوع هو ما دفع غاسندي إلى التصريح علنا بانزعاجه الكبير من دروس أرسطو التي تلقاها في عز شبابه؟ أكيد؛ ذلك أن الرجل يفضل فلسفة وجودية تُعلِّمه السعادة، وكيف يُنمي متعته في الحياة، عن خطابات جوفاء موغلة في التجريد. بديهي إذن، أن يمضي منتقدا الأرسطية طولا وعرضا مؤكدا أن أنصارها "يفضلون أن يقعوا في الضلال بصحبة أرسطو بدلا من أن يكونوا على صواب مع الآخرين"[8]، بل هو أكثر من ذلك، من لم يأنف منذ الصفحات الأولى من كتابه حول أرسطو بعنوان "أبحاث على شكل مفارقات فاضحة لأنصار أرسطو" (صدر هذا الكتاب عام 1624م بـ "غرونوبل" دون أن يحمل اسم المؤلف) من توجيه سهام النقد اللاذع لهذا التيار معترفا بقسوة ما كابده من عذابات، وهو يتابع محاضرات الجامعيين، التي تنبعث منها على حد تعبيره رائحة السكولائية باستمرار. نفس الموقف يتقاسمه معه، سبينوزا الذي كثيرا ما عبّر في كتابه "إصلاح العقل" عن مدى تفاهة الحياة المشتركة، سواء في بعدها الاجتماعي أو السياسي، داركا على أن إعمال الفكر لا يستقيم أبدا، لا داخل رحاب الجامعة ولا بصحبة الطائفة اليهودية التي كان ينتمي إليها، قبل أن تُشهر الورقة الحمراء في وجهه وتطرده شر طرد، ولا سيما بعدما يئست من مساومته بألف "فلوريس"[9]. لكن سبينوزا وهو لم يتجاوز بعد الثالثة والعشرين من العمر، ما فتئ يقر على أن هذا الطرد يناسبه كفيلسوف، حريص أكثر من غيره على استقلاليته وتشبته المستميت بحريته؛ لقد سنّوا ضده ترسانة من القوانين التي تمنع الناس لا من معاشرته أو الكلام معه فحسب، بل أيضا من الاقتراب منه (حيث لا تقل المسافة بينه وغيره عن مترين اثنين)، إلا أن الفيلسوف صمد أمام لعنة المجتمع، وأفلح في النأي بذاته بعيدا عن كل ما قد يزعج هدوءه وسعادته التي تصب كليا في التأمل والبحث عن الحقيقة، مكتفيا على نحو أبيقوري بتلبية رغباته الطبيعية والضرورية لا غير. لذلك، يحق لنا القول على أن هذه الاستماتة التي تحلى بها مفكرو عصر الباروك، والتي انعكست إيجابا في نمط عيشهم، هي ما ينطوي على نزعة براغماتية كانت أساس ارتباطهم بالتراث القديم والارتواء من معينه على اختلاف مشاربه، وهي نزعة نهلت من منهج الشك العائد لرواد التيار الارتيابي، قدر ما استفادت من اسمانية وطبيعانية الكلبيين، كما غرفت أيضا من هيدونية القورينائيين قدر ما تشربت منظورية السفسطائيين وجبلت بأخلاق التيار الأبيقوري، باعتبارها أخلاقا محايثة لا تكترث إلا بما يحقق سعادة الناس فوق الأرض أي في الهنا والآن. على هذا النحو إذن استطاع مفكرو عصر الباروك التأسيس لـ"أنطولوجيا مادية" Une ontologie matérialiste مقرونة بـ "إيطيقا هيدونية"Une éthique hédoniste. وبذلك يكونون من ناحية أولى، قد خلّصوا الأخلاق من ثنائية الخير والشر ليقيموها على أساس نفعي محض يكاد لا ينشغل إلا بالنافع والضار، قدر ما أفلحوا من ناحية ثانية في عقد نوع من المصالحة مع الجسد، باعتباره أداة للمعرفة خلافا للأديان التي طالما تعاملت معه كعدو ونظرت إليه كمصدر للشر والدنس. ليس هذا فحسب، بل إنهم آثروا، درءا للخطر الخارجي المحدق بهم، خلق جماعات صغيرة يمارسون فيها قيمهم ويعيشون حياتهم الخاصة دون التواجه مع ما يفرضه المجتمع السياسي والبلد الذي ينتمون إليه من طقوس. بديهي إذن أن يلجؤوا بدل الخارج الذي كان يفرض عليهم قيما غوغائية، إلى الداخل الذي يسمح لهم بحياة هادئة يسودها الود والمرح في صحبة الرفاق العارفين بكنه الحكمة. بعد هذا كله، يبقى لنا أن نشير، فضلا عن ذلك، إلى مسألة أخرى في غاية الأهمية بمكان، تتعلق بشغف المفكر الباروكي بالحيوانات. وهو شغف عز نظيره، ينطوي على حب معرفي وعشق فلسفي أشبه ما يكون بعشق ديوجين سينوبة للتعلم من الفئران الزاهدة والأسماك المستمنية وأخذ الدروس، سواء من الضفادع المتقشفة والديكة المعارضة لأفلاطون أو من ديدان الطعام وأسماك الرنكة؛ ذلك أن التعلم بنظرهم ينبغي أن يتم لا عبر الانتباه لعالم الحيوانات والإنصات إليها فحسب، بل أيضا عبر ملاحظة أنماط عيشها وطرائق تعاملها مع بعضها البعض. فلاشك أننا بذلك فحسب نستطيع أن ندرك كل ما هو إنساني فيها بنفس القدر الذي ندرك فيه كل ما هو حيواني فينا. تبعا لما سبق يستخلص مفكرو العصر الباروكي على أن الفرق بين الإنسان والحيوان ليس فرقا من حيث الطبيعة، بل فقط من حيث الدرجة؛ وهو الاستنتاج نفسه الذي وصل إليه فيما بعد داروين بأطروحته الشهيرة القائمة على براهين علمية.

يستخلص مفكرو العصر الباروكي على أن الفرق بين الإنسان والحيوان ليس فرقا من حيث الطبيعة، بل فقط من حيث الدرجة؛ وهو الاستنتاج نفسه الذي وصل إليه فيما بعد داروين

أما مجمل ما يلتقُون فيه كلحظة رابعة، فهو اعتناقهم للإيمانية كما أسلفنا. صحيح أن البعض منهم "ألوهي théistes وهذا ما يصدق على غاسندي، باعتباره كاتوليكي وأبيقوري في نفس الوقت، بينما البعض الآخر ربوبي déistes أو حتى حلولي panthéistes مثل سيرانو دو بيرجراك. لكن أغلبهم إيمانيين fidéistesوهذا شأن كل من: شارون، "سان إفريمون" و"لاموت لوفايير" الذين يتحاشون انتقاد "دين ملكهم ومرضعاتهم" - على حد تعبير ديكارت - فلا يهاجمونه أبدا، وذلك حتى ولو تعاملوا مع الأساطير والمعجزات والنبوءات بنوع من السخرية."[10] إنهم بهذا النهج الأبيقوري في التعامل مع الدين الذي بموجبه يضحى الله لا مبال بشؤون الناس، استطاعوا لأول مرة في التاريخ الفصل بين مجالين اثنين: مجال الإيمان ومجال العقل، ليتوج هذا التمييز الحاسم بين الدين والفلسفة بالتالي بميلاد حكمة محايثة مفصولة كليا عن الديانة الكاتوليكية الرعوية الرومانية. وبذلك يمكننا القول بأن الفضل، في ميلاد اللائكية، إنما يعود بالخصوص إلى مفكري العصر الباروكي الذين بمجهوداتهم الجبارة هاته، دشّنوا مرحلة جديدة في تاريخ الفكر التنويري، خاصة مع الإرهاصات الأولى لظهور كتابات شارون عام 1601م ونضالات غاسندي الطويلة، انتصارا للعقلانية[11] والأبيقورية كفلسفة للمتعة. والجدير بالذكر هنا أن نشير كذلك، إلى أن فكرة الفصل هاته بين الروحي والدنيوي التي لم تتحقق بعد في العالم العربي، فكرة ظل الغرب يناضل من أجلها منذ عام 1324م خاصة في إيطاليا، حيث دافع عنها Marsile de Padoue في كتابه "المنافح عن السلم" Le défenseur de la paix قبل أن يتبنى الفكرة عينها، مواطنه "بيرناردينو أوشينو" (1487-1564) ويصوغها في مؤلفه الممنوع بعنوان Le Catéchisme ou la véritable institution chrétienne الصادر عام 1561م، وهو الكتاب نفسه الذي أهداه مونتاني لصديقه بيير شارون سنة 1586م منبها إياه على أنه كتاب ممنوع من لدن السلطات الكنسية. مما ساعد هذا الأخير على بلورة تصور واضح يكاد يفوق تصور معلمه الذي دافع في المحاولات عن استقلالية الفلسفة وضرورة فصلها عن التيولوجيا. والحال أن "بيير شارون" هو من يوضح، منذ استهلاله لكتابه بعنوان "في الحكمة"، على أنه لا يكتب لرجال الدين ولا يتغيّا "تلقين الكهنوت أو التربية على حياة الرهبان" أكثر ما يتغيّا بالضبط التأسيس لـ"حكمة إنسانية ". وحتى لا يُستهان بهذه القفزة الثورية، لابد لنا من التنبيه إلى مدى أهميتها كخطوة حاسمة في تاريخ الفكر الغربي، حيث لولاها لما فسح المجال أمام نمو العقل التنويري الذي بلغ أوجه مع عملية قلب القيم والإطاحة بالأصنام التي أجراها نتشه في عز القرن التاسع عشر، بل ربما ذلك ذاته هو ما دفع بصاحب جنيالوجيا الأخلاق إلى التوجّه بالشكر والامتنان لـ"بيير شارون" لما تحلى به من جرأة كبيرة جعلته السبّاق إلى الفصل بين الدين والفكر، وصاحب الفضل في إعلان استقلالية العقل عن اللاهوت؛ هذا في الوقت الذي ما يزال فيه المفكرون العرب يجترّون التصور الرشدي التوفيقي غاضين الطرف عما ينطوي عليه من رجعية هي أساس تخلفنا إلى حدود الساعة.


[1]- يوضح جيل دولوز، في كتابه، الطي: ليبنتز والباروك، على أن الباروك Le Baroque لا يدل على ماهية ما une essence بل هو عملية إجرائية une fonction opératoire، إن لم نقل أنه علامة un trait؛ ذلك أن علامة الباروك هي الطي تلو الطي إلى ما لانهاية. انظر للمزيد من التفصيل كتابه بعنوان:

Gilles Deleuze, Le Pli, Leibniz et le Baroque, Paris, éd.Minuit, 1988 (collection critique)

[2]- Michel Onfray, Les Libertins baroques, Contre-histoire de la philosophie t.3, éd.Grasset, 2008, P.23

[3]- يغدو فن الباروك شاملا بنظر دولوز، عندما ينتقل امتداد الثنيات l’extension des plis من الفنون إلى الحياة، لأن هذه الحياة التي ما فتئ يرمز إليه بعبارة تخطيط المدن l’urbanisme مسكونة بالطي في كل تجلياتها، باعتبار الطي الدولوزي استعارة جمالية من ناحية أولى واستعارة ابستمولوجية من ناحية ثانية، الغاية منها إنما هي تفسير تعقد الكون كما لاحظ ليبنتز.

[4]- Gilles Deleuze, Le Pli, Leibniz et Le Baroque, Paris, éd.Minuit, 1988, PP.166-168

[5]- يعود التحديد الاشتقاقي لهذه اللفظة إلى الرومان الذين كانوا يعنون بـ"Libertinus" الإنسان المُتحرِّر.، وقد ظهرت لفظة "Libertin" في القرن السادس عشر، حيث وظفها "كالفن" لمهاجمة حلفاء إخوان الصفاء.

[6]- سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1997، ص.371

[7]- Michel Onfray, OP.Cité.P.27

[8]- Michel Onfray, OP.Cité.P.173

[9]- Florins نقد فضي كان سائدا حينئذ في هولندا.

[10]- Michel Onfray, OP.Cité.P.35

[11]- تلزم الإشارة هنا إلى أن غاسندي قد اتخذ قبل كانط، كشعار له، مقولة هوراس الذائعة الصيت "Sapere aude" التي تعني "تجرأ على استخذامك لعقلك". وللعلم، فإن كانط عندما استعاد هذه العبارة في مقالته الشهيرة "ما التنوير؟" عام 1784م، كان على دراية تامة بمشروع غاسندي، حيث يتوفر في مكتبته على بعض من نصوصه لاسيما منها التي تتناول نظريات كوبرنيكوس في علم الفلك و"تيكو برا" "Tycho Brahe". لقد تغاضى الفيلسوف الألماني ذكر الفيلسوف الفرنسي، حتى عندما عمد في أبحاثه الميتافزيقية إلى تمييز النومين عن الفينومين. للمزيد من التوضيح يمكن العودة إلى كتاب ميشال أنفري بعنوان:

Les Libertins baroques, Contre-histoire de la philosophie t.3, é t.3, éd.Grasset, 2008.

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%AC%D9%86%D9%8A%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D9%84%D8%B9%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%B1-6864

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك