رمضان زمان الكورونا .. بين المحنة والمنحة

سريعة كعادتها مرت الأيام، وتتابعت معها الشهور وتسابق الزمان، وتسارع الوقت .. وها هو الضيف الكريم يعود إلينا.

نعم لقد عاد رمضان كما عهدناه دائما ـ محملا بهداياه، وجالبا معه عطاياه، فرمضان شهر كريم عظيم الهبات، كثير النفحات، أيامه غراء، ولياليه زهراء، وموسمه موسم النفحات، وسوقه سوق العبادات والطاعات والقربات، فيه التجارة الرابحة والفرص السانحة، يتنزل فيه العطاء ويتحقق فيه الرجاء، ويرفع فيه الدعاء، وتفتح فيه أبواب السماء.

عاد رمضان كما عهدناه، ولكنه لم يجدنا كما كان يعهدنا.. فلقد أتى هذا العام في ظروف استثنائية مع تفشي وباء "الكورونا" الذي يضرب الأرض بطولها وعرضها، ففرض على الناس أحكاما للحجر، وأنواعا من الحظر، وأشكالا من العزل غيرت كل مظاهر الحياة، وتغير بلا شك الوجه المألوف لهذا الشهر عند المسلمين؛ فأكثر البلاد المسلمة اتخذت بالفعل قرارات بعدم الصلاة في المساجد جمعة أو جماعة أو تراويح ـ حفاظاً على حياة الناس وسلامتهم، وللوقاية من انتشار المرض المعدي وتفشيه.

ونتيجة لهذا سيقضي المسلمون في معظم البلاد رمضان بدون صلوات بالمساجد.. ولا تراويح وقيام.. ولا أدعية من الأئمة ولا بكاء للمصلين.. ولن يكون هناك اعتكاف.. ولا صلاة تهجد.. ولن يفرح الأصدقاء بتجمعهم في مساجدهم.. ولا تبادل التهاني المباشر بقدوم هذا الشهر المجيد.. ولن تكون هناك زيارات موسعة للأهل والأصدقاء.. ولا اجتماعات وعزائم كبيرة.. ولن يكون هناك ولائم ولا خيام للإفطار والسحور.. كما أنّ موائد الرحمة الشائعة في العديد من البلدان العربية والإسلامية لإطعام الفقراء والمعوزين، ستواجه ذات المصير.

إنه رمضان استثنائي بامتياز، لم يمر على الأمة مثله، ونتمنى ألا يمر عليها في المستقبل شبهه.



تشاؤم أم تفاؤل:

نظر بعض الناس إلى كل هذه الأمور نظرة حزن وتشاؤم وخوف من ضياع رمضان، فالاجتماع على الطاعة كان يسهلها على كثير من الناس، وانتشار الخير من أسباب إقبال الناس عليه، ورؤية الغالبية في طاعة يعين العاصي على التغلب على شيطان نفسه، ويبعث الحياء في نفسه من مخالفة الجمع والانفراد بالمعصية في زمن الطاعة.

وبعضهم يحزن على ما يفوته من الصلاة في الجماعات، والاستمتاع برؤية التجمعات المؤمنة في مواطن العبادات، ويتأسف على فوات سماع القرآن من أئمة مبدعين أصحاب الأصوات الندية التي تبعث على الخشوع وتستجلب الندم على التفريط أو الحنين إلى جنات النعيم.

وربما حزن البعض على أعمال جماعية كانت تؤدى كحلقات القرآن ومجالس الذكر ودروس العلم.. أو حتى في السعي إلى مساعدة المحتاجين، والصدقة على المساكين، ومعاونة المعوزين، والتوسعة على الفقراء وذوي الحاجات من المسلمين، خصوصا ورمضان شهر الجود والبذل والعطاء.

وأما أهل التفاؤل فيظنون بالله الظن الحسن، ويقولون: لا شك أن كل ما سبق من مثيرات الشجن، ومن أسباب الحزن والألم، ولكن ليس معنى هذا أن رمضان قد ضاع، وأن العبادات فيه قد نقصت أو توقفت، ولا أن الأجر فيه سيكون حتما أقل من سابقيه..

فالأجر بحمد الله مأمول لمن فاتته العبادة من غير تفريط، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا مرض المسلم أو سافر كتب الله له ما كان يعمله صحيحا مقيما]، وإذا كان هذا في السفر فكذلك كل ما منع المسلم من عمل اعتاده من أمر خارج عن إرادته.. وكذلك من كان عزم على العبادة بعزم صادق وبنية طيبة، قال صلى الله عليه وسلم: [ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة](متفق عليه).

عبادات جديدة:

ثم إن رمضان كورونا قد استجدت فيه عبادات، وظهرت فيه طاعات، وبدت للناس أنواع أخرى من القربات، وفَتَح لنا آفاقا جديدة من العمل، وفرصا أخرى لم نكن نجدها في غيره.

فعبادة الصبر على أقدار الله المؤلمة من هذا المرض الذي يفتك بالناس، والرضا بقضاء الله فيه، وانتظار الفرج برفع الله له ومعافاة الناس منه.. كلها أنواع جديدة من العبادات يثاب الناس عليها.



وعبادة البقاء في البيوت والتزام ضوابط الحجر والحظر، حفاظا على النفس وصيانة لها، وكذلك لدفع الضرر عن الناس وعدم تعريضهم للعدوى أو تسبب للأذى لهم.. هو طاعة لله ولرسوله في نحو قول الله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم}، ولقول رسوله صلى الله عليه وسلم: [ لا ضرر ولا ضرار]، وقوله: [لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه]، [والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده].



تحسر القلب على فوات العبادات والطاعات حيث أمر الله ورسوله وشرعه، والتألم على عدم تيسرها هو نوع عبادة ربما لا يستشعره كثير من الناس.

ومن العبادات: الندم على نعم لم نعرف قدرها، ولم نشكر ربها، ولم نحسن قيدها، كنعمة السعي إلى بيوت الله، وصلاة الجماعة، والجلوس في المسجد، والدعاء بين الأذان والإقامة، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وصلاة الملائكة على العبد وأجر الرباط، ولقاء الإخوان والسلام عليهم وتفقد أحوالهم.. كل هذه نعم كنا نرفل فيها ونغفل عنها، وآن والله أن نتحسر على فواتها والحرمان منها، ونكثر من الدعاء إلى الله أن يعيدها علينا وينعمنا بها.



عبادة التذلل لله وإظهار الافتقار إليه، والإعتراف بالعجز والإذعان لقدرته وعظمته وقوته، التي وقف العالم كلهم أمامها صاغرين فصدق فيهم قوله وهو أصدق القائلين: {ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}(فاطر).



عبادة الدعاء والجؤار إلى الله برفع البلاء والوباء، والتضرع إليه وإظهار الفاقة والحاجة والإقرار بأنه لا يرفع هذا البلاء إلا هو سبحانه جل شأنه.



فرص رمضان

إن عدم الصلاة في المساجد جماعة ليس معناه ترك الصلاة، فما زالت الصلوات الخمس واجبة، وما زال قيام رمضان وتراويحه سنة مقدور عليها في البيوت، فمن فاتته في المسجد لظرف خاص فعليه ألا يتهاون فيها، وعليه أن يصليها في بيته ومع زوجته وأولاده.

رمضان كورونا أوسع وقتا لمن كان يشتكي من ضيق الوقت، وازدحام الأعمال فلا يقدر على قراءة القرآن وكثرة التعبد لله بأنواع العبادات، فجاء الحجر ليجبر الناس على الجلوس في البيوت وليجدوا متسعا كبيرا من الزمان؛ ليظهروا لله تعالى الصدق، ويكثروا من العبادة "وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان".



رمضان كورونا فرصة لملء البيوت بالطاعة والعبادة والصلاة والقرآن.. يؤم الرجل أهل بيته في الجماعات، ويصلي بهم التراويح في البيت، أو يصلي من يحفظ من الأبناء فيجتمع أهل البيت على الصلاة فتمتلئ البيوت خيرا وبركة.



رمضان في زمن الكورونا فرصة لتجتمع الأسرة وتتحلق حول القرآن قراءة وتلاوة وتعلما وتدبرا، فيتعلم أبناؤنا وبناتنا ونساؤنا في البيوت ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم، ويعودوا للارتباط بالقرآن علما وعملا.



رمضان في زمن الكورونا ليس فيه سهر مع الأصحاب ولا لعب للورق، ولا جلوس على المقاهي ولا في المجالس حتى السحور.. وإنما كل هذا أصبح ـ بفضل الحجر ـ فرصة للجلوس مع الزوجة والأولاد، واجتماع الاسره اللصيق، وسؤالهم الدائم عن بعضهم البعض، والتقلل من وسائل التواصل التي كانت تشغلهم او التي كانت شغلهم الشاغل..



إنه فرصة للاجتماع حول القرآن، أو قراءة بعض الكتب، وعمل المسابقات الثقافية والدينية بين الأولاد بالاضافه الى بعض الالعاب وليكتشف رب البيت وربة المنزل بعض مواهب أولادهم وقدراتهم العقلية والعملية، وليتعرفوا على صفاتهم الشخصية ويتقاربوا أكثر وأكثر.



رمضان في زمن الكورونا فرصة للصدقة.. والجود فيه ربما أعظم من الجود في سابقيه؛ فقد توقف كثير من الناس عن أعمالهم، وضاقت بكثير من الناس معايشهم، وانضم عدد ليس بالقليل إلى قائمة المستحقين للزكوات والصدقات.. فابسطوا أيديكم بالصدقات (فقد كان النبي أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان)، سارعوا بإخراج زكاة أموالكم، وقد قرر السادة الفقهاء أنه يجوز تعجيل الزكاة؛ بل قد يكون تعجيلها هو الأفضل في مثل هذه الظروف التي نمر بها؛ لمساعدة الناس على قضاء حوائجهم الشديدة والمستعجلة، كما يجوز تعجيل زكاة الفطر لأول رمضان، كما نص على ذلك عدد من العلماء، مع إمكانية الاستعانة بالمؤسسات الرسمية والجمعيات الخيرية المختصة لإيصالها إلى مستحقيها.



رمضان في زمن الكورونا.. سيكون تجربة خاصة وفريدة ودعوة لتغيير بعض السلوكيات التي اعتاد عليها الصائمون، خاصة فيما يتعلق باللقاءات والتجمعات وعادات التسوق والسهر إلى ساعات متأخرة، ومن ثم محاولة تعديل هذه السلوكيات لتتناسب مع الأوضاع الراهنة من جهة، ولتكون مقدمة للتخلي عنها في المستقبل.



لا تنشغلوا عن رمضان بالوباء، ولكن انشغلوا برمضان عنه.. وتفاءلوا بالخير فسوف تنتهي هذه الغمة، ويزول هذا الفيروس، وتعود حياتنا إلى أفضل من قبل بنفوس راقية وانضباط حياة جديد ملىء بالأخلاق الجميلة، والأعمال الصالحة.

اللهم ارفع البلا والوبا والفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا وسائر بلاد العالمين.

اللهم كما بلغتنا رمضان.. فاللهم أعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك..

 

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك