خمسة عناصر في الإنتفاضة الشعبية الأميركية
صبحي غندور
الشرارة كانت في الفيديو الذي أظهر مدى الإجرام والعنف الذي مارسه بعض عناصر الشرطة الأميركية في ولاية مينوسوتا ضد الأميركي الأسود جورج فلويد، ومن هذه الشرارة انطلق لهيب المظاهرات الشعبية في مائة وخمسين مدينة بمعظم الأراضي الأميركية. لكن هل هذه الانتفاضة الشعبية الأميركية العارمة سببها فقط هذا الفيديو ومقتل فلويد؟!. ألم يحدث أمر مشابه في بداية الانتفاضات الشعبية العربية حينما كانت الشرارة في اقدام الشاب التونسي محمد البوعزيزي على إحراق نفسه في مدينة سيدي بوزيد، ومنها بدأت الثورة التونسية التي أشعلت أيضاً ساحات عربية اخرى؟!.
ويسمع الأميركيون الآن ما سمعته شعوب دول اخرى عن "الأيدي الغريبة" وعن "الجماعات الإرهابية" وعن محاولات اقحام الجيش الأميركي في مواجهات مع المدنيين، إضافة طبعاً لاستغلال المشاعر الدينية ورفع "الكتاب المقدس" أمام الكنيسة المجاورة للبيت الأبيض!.
نعم، أميركا تعيش الآن إنتفاضة شعبية كبيرة امتزجت في أسبابها خمسة عناصر، اثنان منها هما امتداد لممارسات على مدى قرونٍ طويلة بينما العناصر الثلاثة الأخرى هي متزامنة الآن مع حقبة رئاسة دونالد ترامب.
العنصر الأول، هو العنصرية البغيضة التي رافقت الهجرة الأوروبية للقارة الأميركية منذ مطلع القرن الخامس عشر حيث استعبد المهاجرون الأوروبيون الملايين من شعوب أفريقيا واجبروهم على العمل في المستوطنات التي اقاموها داخل الأرض الجديدة إلى حين حدوث الحرب الأميركية الأهلية في منتصف حقبة الستينات من القرن التاسع عشر بسبب إصرار الرئيس إبراهام لنكلون على إلغاء العبودية في الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي حدث دستورياً ولم يحدث مجتمعياً، فمشكلة العنصرية في أميركا كانت، ومازالت، هي "في النفوس" وليس فقط "في النصوص"!.
العنصر الثاني المساعد الآن على تفجر الإنتفاضة الشعبية، والمتجذر في التاريخ الأميركي، يكمن في مسألة "العنف" التي رافقت أيضاً غزوات المهاجرين الأوروبيين لأميركا الشمالية، بداية في مواجهة أصحاب الأرض الشرعيين، والذين يُطلق عليهم بهتاناً وزوراً اسم "الهنود الحمر"، ثمّ بين المهاجرين أنفسهم في الصراعات على الغنائم والثروات، وصولاً إلى ما تشهده الولايات المتحدة لأعمال عنف داخلي وقتل جماعي حتى داخل المدارس والجامعات والشركات والمصانع كما حدث عدة مرات في السنوات الماضية.
وما يزيد من حجم مخاطر "عنصر العنف" هو التعديل الثاني في الدستور الأميركي الذي اباح حق امتلاك الأسلحة بدون قيود صارمة ممّا سمح بوجود ميليشيات مسلّحة في أكثر من ولاية أميركية، وبعضها ينتمي لجماعات عنصرية متطرفة. أيضاً، فإنّ عناصر الشرطة في المدن والبلدات الأميركية يخضعون لدورات تدريب لأشهر محدودة، وبعض المدن الأميركية تستعين بخبراء إسرائيليين لتدريب عناصر الشرطة لديها مما جعل "منظمة العفو الدولية" تحتج على ذلك ومعها العديد من مؤسسات المجتمع المدني. وأليس مستغرباً أنّك لتكون محامياً في أميركا تحتاج لعدة سنوات جامعية لفهم ودراسة القوانين بينما يمكنك أن تكون شرطياً بدون حيازة شهادة جامعية وفقط بعد تدريب لأشهر قليلة!.
العناصر الثلاثة الأخرى المساهمة الآن في اشتعال الشارع الأميركي، والمرافقة لحقبة ترامب، والمفسّرة لما يحدث حالياً من حالات سرقة وعنف وسط بعض المظاهرات الشعبية، هي: الفقر والبطالة وتصريحات ترامب. فمحصلة الأشهر الثلاثة الماضية من انتشار وباء كورونا كانت حرمان اكثر من ثلاثين مليون أميركي من العمل ممّا زاد في نسبة البطالة والفقر وحالات الجوع والاضطرار لأخذ تبرعات غذائية في عدة ولايات أميركية. فكيف إذا كشفت أيضاً احصاءات نتائج وباء كورونا مخاطر عدم وجود الضمانات والتأمينات الصحية لدى تجمعات الأميركيين الأفارقة وبعض الأقليات اللاتينية حيث أعداد الإصابات والوفيات بينهم كانت ضخمة جداً.
أمّا تصريحات ترامب بشأن ما يحدث في أميركا الآن فهي كمن يطفئ النيران بصبّ المزيد من الوقود عليها وهو يوماً بعد يوم يزيد نيران غضب الشارع اشتعالاً، فمن تهديد باطلاق النار على المتظاهرين وباستخدام الكلاب البوليسية ضدهم، إلى تحريض حكام الولايات على استخدام القوة واعتقال المتظاهرين والتهديد بإنزال الجيش للمدن الأميركية، إلى قمع التجمع البشري أمام "البيت الأبيض" وهو أمر يتناقض مع ما في الدستور الأميركي من نص على حق حرية التعبير للمواطنين بأشكال مختلفة.
وقد هدّد ترامب بعنف الشارع من مؤيّديه، وهو يدرك بأنّ العديد من الداعمين له في عدّة ولايات أميركية هم أيضاً من دعاة التمسّك بحيازة الأسلحة وهم مستعدّون للنزول للشوارع تأييداً له، بل ربّما باستخدام العنف أيضاً، كما فعل أفرادٌ منهم في أمكنة عدّة مؤخراً بحجة وقف الحجر الصحي أو كما حصل في الأعوام الثلاثة الماضية من ممارسات عُنفية ضدّ مهاجرين لاتينيين أو ضدّ مراكز لأقلّيات دينية وعرقية أو ضدّ جماعاتٍ سياسية مختلفة عنهم.
ففوز ترامب بالانتخابات الرئاسية عام 2016 لم يكن العامل الأساس فيه شخصه، ولا طبعاً مؤهّلاته أو خبراته المعدومة في الحكم والسياسة، بل كان العامل الأساس هو الصراع الدفين الحاصل في المجتمع الأميركي بين المتمسّكين بأميركا الأصولية القديمة، التي قامت على الرجل الأوروبي الأبيض البروتستانتي، والعنصري أحياناً، وبين أميركا الحديثة "التقدّمية" التي أصبح أكثر من ثلث عدد سكّانها من المهاجرين من إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، والتي فيها التسامح الديني والثقافي والاجتماعي، والتي أنهت العبودية وأقرّت بالمساواة بين الأميركيين بغضّ النظر عن اللون والدين والعرق والجنس، والتي أوصلت باراك حسين أوباما ابن المهاجر المسلم الإفريقي إلى أعلى منصب في الولايات المتحدة. وقد نجحت قوى "أميركا القديمة" في إيصال ترامب إلى "البيت الأبيض" حتّى على حساب مرشّحين آخرين من "الحزب الجمهوري" بسبب قيام حملته الانتخابية على مفاهيم ومعتقدات هذه القوى الأميركية "الرجعية".
القسّيس الأميركي الأفريقي مارتن لوثر كينغ كان من أشهر دعاة الحقوق المدنية في حقبة الستّينات من القرن الماضي، وجرى اغتياله في العام 1968، بعد أن ناضل طويلاً من أجل تأمين الحقوق المدنية للأميركيين الأفارقة، ومن خلال إصراره على تحقيق ذلك بالوسائل السلمية وبنبذ العنف في المجتمع.
وها قد مضى أكثر من خمسين عاماً على ما جرى إقراره في حقبة الستّينات من قوانين تُنصف الأميركيين الأفارقة الذين عانوا لقرونٍ طويلة من ظلم واستعباد الأميركيين الأوروبيين، وتسبّب تحريرهم من العبودية بحربٍ أهلية بين الولايات الأميركية الشمالية والجنوبية في العام 1861، لكن جرى بعد ذلك حرمانهم من الكثير من الحقوق المدنية رغم أنّ الدستور الأميركي نصّ على المساواة في الحقوق بين المواطنين!.
فالعنصرية ما زالت قضية حيوية الآن في المجتمع الأميركي، وازدهرت مؤخّراً لأسبابٍ عديدة بينها فوز باراك أوباما، الأميركي الأفريقي، بالرئاسة الأميركية لفترتين (2008 -2016)، ممّا أيقظ مشاعر العنصرية الدفينة لدى فئة من الأميركيين، يتواجد معظمها في الولايات الوسطى والجنوبية، وهي تعتقد بتفوّق العنصر الأبيض وحقّه في السيادة على الأعراق الأخرى!. ثمّ جاء عهد دونالد ترامب ليضاعف أكثر من حجم الحساسيات العنصرية لدى البيض والسود معاً، وبحالة معاكسة لما كان عليه الحال في عهد أوباما حيث اعتبر العنصريون البيض أنّ فوز ترامب جاء لصالح معتقداتهم!.
المجتمع الأميركي يشهد الآن درجاتٍ عالية من الفوضى والعنف والانقسام والتحزّب، ولن يكون من السهل إعادة وحدة الأميركيين أو الحفاظ على تنوّعهم الثقافي والإثني في حال جرى تجديد انتخاب ترامب لولايةٍ ثانية، هذا إذا حدثت انتخابات في موعدها!.