جائحة كورونا: قراءات فلسفیّة

أحمد العطار

 

حين ترسم الفلسفة لوحتها الرّماديّة فتضع لونًا رماديًا فوق لون رمادي، فإنّ ذلك يكون إيذانًا بأنّ صورة من صور الحياة قد شاخت (أو شكلاً من أشكال الحياة قد أصبح عتيقًا)، لكن ما تضعه الفلسفة من لون رمادي فوق لون رمادي لا يمكن أن يجدّد شباب الحياة، ولكنّه يفهمها فحسب”.

هيغل –  فلسفة الحقّ

****

“لقد اكتفى الفلاسفة بتفسیر العالم بشتّى الطّرق، إلاّ أنّ تغییره هو الأهم .”

ماركس –  أطروحات حول فیورباخ

الفلسفة وكورونا:

سبق لهیغل أن وصف الفلسفة بطائر البومة (مینیرفا) الّذي یظهر في المساء، حین تكون الشّمس قد أفلت. بهذا المعنى تنتظر الفلسفة قلیلا، إلى أن تختمر الأفكار وتتّضح الصّورة وتتّجلى الرّؤية، فتبدي قولها وتصوغ أطاریحها، تنحت مفاهیمها وتقلب أسئلتها.

غیر أنّ جائحة كورونا قد ورّطت الجمیع على حین غفلة، بما في ذلك الفلاسفة أنفسهم، في محاولة لمسك بعض خیوط الحدث/ الجائحة، فمع فجائیّة ما حصل وما هو غیر متوقّع، لم یعد أحد یدري هل سیحلّ المساء أصلا مادام صبح هذا الوباء الطّویل لم ینجلي بعد؟

لقد انقلبت المعاییر والأفكار، والخطط والاستراتیجیات، وحتّى طرق العیش والتّواصل، كما السّیاسة والإقتصاد والتّعلیم. وأضحت مفاهیم الرّأسمالیّة والنّیولیبرالیّة، العولمة والسّوق الحرّة، الحیاة المشتركة والغيريّة… في مهب ریاح التّغییر والنّقد والمساءلة.

فهل سیشهد العالم ولادة جدیدة لنظام عالمي جدید “عالم مابعد – كورونا” ، أم أنّ الرّأسمالیّة ستجدّد جلدها كالأفعى وتنبعث من هذه الأزمة بشكل أقوى وأعنف؟

وما عسى الفلسفة تقول أمام هول ما نعیشه وأمام أمواج الفیروس “كوفید التّاسع عشر” الفاتك والهادر؟

بین جورجیو أغامبین وسلافوي جیجك: حياة عارية وبربريّة بوجه إنساني

قدّم صاحب كتاب “حالة الاستثناء” الفیلسوف الإیطالي “جورجیو أغامبین” تشبیها للوضع الّذي عاشته وتعیشه إیطالیا، أمام الاجتیاح الكروني وسمه بـ”الحیاة العاریة”، حیث تمّت التّضحیة بالحیاة الطّبیعیة، الصّداقة، العواطف، العمل، العلاقات الاجتماعیّة وحتّى القناعات السّیاسیّة والدینیّة، كما سعت الإجراءات الّتي قامت بها الدولة إلى التّفریق بین النّاس وتوسیع الهوّة بینهم، وهو ما یصیب الجمیع بالعمى على حدّ توصیفه.

لقد أضحى المجتمع متجرّدا من كلّ القیم، ساعیا فقط إلى محاولة لحفظ البقاء، فقد لا یكون هناك مسوّغ أو مبرّر لإجراءات العزل، ولحالة الطّوارئ والإغلاق التّام، متخوّفا أن تبقى هذه الإجراءات لما بعد رفع العزل، وبالتّالي تكون أداة في ید الدّولة لمزید هیمنة وتحكّم.

لقد عاشت الأمم – حسب أغامبین- كوارث وجوائح كثیرة، وأوبئة أشدّ فتكا وخطورة، دون أن یفكّر أي أحد بإعلان حالة الاستثناء والطّوارئ، الّتي سارعت الحكومات الیوم لتطبیقها.

لقد تمّ تقیید الحریّة، واختزلت حیاة النّاس في وظیفتها البیولوجیّة، وتمّت التّضحیة بالأبعاد الاجتماعیّة والسّیاسیّة والعاطفیّة.

حالة الاستثناء على النّقیض من المجتمع الحرّ، لدواع أمنیّة بحتة صودرت الحریّة، مادام التّخویف وانعدام الأمن ذریعة لا غبار علیها. مضیفا، أنّ إعلان الحرب على عدوّ غیر مرئي، في ظلّ حضر التّجوّل وتدابیر الطّوارئ، هي الأكثر عبثیّة بین كلّ الحروب، إنّها في الحقیقة حرب أهلیّة، “العدوّ لیس في الخارج وإنّما یكمن داخلنا”.

لعلّ جلّ القلق لا یتعلّق بالحاضر، بل بالمستقبل، فبمثل ما تخلّف الحروب سلسلة من التّقنیات المشؤومة، فمن الرّاجح كذلك أن تستمرّ التّجارب والإجراءات النّاتجة عن الأزمة الطّارئة: إغلاق الجامعات والمدارس، الاكتفاء بالتّعلیم عن بعد، حضر التّجمعات ولقاءات النّقاش السّیاسيّ والثّقافي، أو إلزامنا برسائل إلكترونیّة كوسیلة للتّواصل، وجعل الآلة بديلا لكلّ لقاء-عدوى بین النّاس.

من جهته سیفتتّح الفیلسوف السّلوفیني سلافوي جیجك مقالته بالرّغبة في الإصابة بالفیروس، یبدو التّمني غریبا، لكن لعلّه السّبیل للتّخلص من حالة الخوف والشّك ومن حالة الارتباك المنهكة، المترتبة عن الوضع الّذي یعیشه الفیلسوف أمام هذه الجائحة.

في تصوّر جیجك أنّ تغیرات جذریّة تحدث بالفعل الیوم، فلم نكن نتخیّل الانقلاب الّذي شهدته حیاتنا الیومیّة. لقد توقّف العالم عن الدّوران، كما أنّ المستقبل یبقى غامضا ومحیّرا، بینما تباشیر أزمة إقتصادیّة هائلة تلوح في الأفق. كلّ هذا یعني أنّ ردّ فعلنا یجب أن یحقّق المستحیل تجنبا للأسوأ، هذا المستحیل الّذي یبدو غیر ممكن ضمن إحداثیات النّظام العالميّ الحاليّ.

لا یعتقد جیجیك أنّ التّهدید الأكبر یتمثّل في انتكاسة إلى”بربریّة صریحة” أو صراع وحشي على البقاء، بل هو الخشیة من بروز “بربریّة بوجه إنساني”، تتّمثل في إجراءات قاسیة لحفظ البقاء تستمدّ شرعیتها ممّا یقوله الخبراء.

لقد رأینا تصوّرات لتقلیص الفرضیّة الأساسیّة لأخلاقنا الإجتماعیّة، فقد أعلنت إیطالیا عن إمكانیّة حرمان المسنین وأصحاب الأمراض المزمنة من الرّعایة الصّحیة، في حالة تفاقم الوضع، سیتركون ببساطة للموت. في هذه الحالة یتمّ انتهاك منطق البقاء للأقوى، أبسط مبادئ الأخلاق العسكریّة الّتي تنصّ بوجوب معالجة المصابین بعد المعركة، حتّى لو كانت فرص نجاتهم ضئیلة.

یضیف الفیلسوف: أنا واقعي جدّا، فعوضا عن التّوفیر والاقتصاد، یجب أن یكون الهدف الأوّل تقدیم المساعدة الغیر مشروطة للمحتاجین بغض النّظر عن التّكالیف.

وفي معرض انتقاده لجورجیو أغامبین الّذي اعتبر أنّ ما نعیشه هو “حیاة عاریة” تنزع إلى التّفریق بین البشر، اعتبر جیجیك أنّ ترك مسافة الأمان والتّباعد الإجتماعي هو أیضا إبداء لنوع من الاحترام للآخرین، خوفا من نقل العدوى بینهم. فالتّركیز على المسؤولیّة الفردیّة على أهمیّته، من شأنه أن یحوّر النّقاش الأهمّ حول: كیفیّة تغییر النّظام الإجتماعيّ والإقتصاديّ، إنّ معركة كورونا لا تكون إلّا یدا بید ضدّ “التّهویمات الإدیولوجیّة” ، وباعتبارها جزءا لا یتجزأ من النّضال البیئيّ الأوسع.

إنّ أزمة كورونا في تقدیره ذات ثلاثة أبعاد أساسیّة: بعد طبي (انتشار الوباء)، بعد إقتصادي (له تبعات إقتصادیّة بمعزل عن نتیجة الوباء)، وبعد آخر مهمّ ولا ینبغي الاستهانة به مرتبط بالصّحة العقلیّة.

فما نلاحظه الیوم هو تفكّك الإحداثیات الأساسیّة للعالم: (التّواصل الجسدي الیومي، الطّیران، العطل، إحداثیات الأسهم والرّبح…)، فلیس الانعزال وحده كاف للنّجاة، فلكي تنجح محاولات العزل یتوجّب أن تفعل الإمدادات الطّبیة الغذائیّة والخدمات العامّة.

“هذه لیست تصوّرات شیوعیّة مثالیة، وإنّما شیوعیّة تفرضها ضرورة البقاء العاري، ” ففي الأزمة كلّنا إشتراكیون”.

یضیف الفیلسوف متسائلا: فهل ما نعیشه سیمثّل فصلا جدیدا فیما أطلقت علیه “ناعومي كلاین” رأسمالیّة الكوارث، أم أنّنا سنكون أمام نظام عالمي جدید، أكثر تواضعا ربّما، ولكن أكثر توازنا؟

إدغار موران: أزمة اللاّیقین

اعتبر الفیلسوف الفرنسي إدغار موران في إحدى حواراته أنّ فیروس كورونا قد عرّى بشكل مأساوي وفوري المصیر المشترك للإنسانیّة. فما نشهده الیوم أنّ العولمة في سعیها لتوحید المجال التّقنيّ والاقتصاديّ للكوكب، لم تعزّز التّفاهم بین الشّعوب. فبات من الحاصل وأمام غیاب تضامن دولي ومنظّمات مشتركة لاتّخاذ تدابیر في مستوى الوباء، بروز ” انغلاق أناني للأمم حول ذاتها”.

من هنا یجب البحث – حسب موران – عن مسار جدید یتخلى عن العقیدة النّیولیبرالیّة، لأجل بناء سیاسة اجتماعیّة وبیئیّة مضادّة للأزمة. یعمل هذا المسار الجدید على تصحیح الأثار المترتبة عن العولمة من خلال إنشاء مناطق متحرّرة منها Démondialisées

فالمجتمع الیوم، یفتقد لهیاكل التّضامن التّقلیدیّة، الأمر الّذي ینبغي تعزیزه بین المواطنین والجیران والعمّال. إنّ الوضع یحتّم علینا كذلك، إعادة النّظر في النّزعة الاستهلاكیّة أو الاستهلاك المخدّر، كي نتخلّص من الكمّ لصالح الكیف.

یتّضح جلیا – حسب الفیلسوف- أنّ الزّمن مع الحجر الصّحي ینفلت من الاحتساب، هذا الوقت الّذي ينفلت من دائرة (المترو – عمل – النّوم)، یمكننا من استعادة ذواتنا وتحدید احتیاجاتنا الأصلیّة: أي الحبّ والصّداقة والحنان والتّضامن وشعریّة الحیاة. إنّه نوع من التّطهیر الّذي یطال طریقة عیشنا، وفهم أنّ العیش المشترك بطریقة جیّدة هو تحقیق إمكانات الأنا داخل النّحن المتعدّد  ((je-Notre.

فالخوف ممّا یحصل یغذي الأنانیّة الوطنیّة أو الدینیّة، وبالتّالي فالتّضامن الوطني ضروري دون إغفال الوعي المشترك لمصیر الإنسان. إنّ الإنسانیّة في أزمة، ورسالة الفیروس واضحة وعلینا سماعها.

تضعنا هذه الجائحة أمام أشكال متنوّعة من اللّایقین، فنحن لا نعلم شیئا عن مصدر الفیروس ولا بالتّحولات الّتي یمكن أن تحدث أثناء انتشاره، ولا نعلم حتّى متى تتراجع هذه الجائحة.

لا علم لنا بآثار الإغلاق الصّحيّ أمام أنواع التّقسیم، ولا على التّداعیات السّیاسیّة والاقتصادیّة الوطنیّة والعالمیّة، وبالتّالي فنحن أمام أشكال متنوّعة من اللّایقین.

إنّه لأمر تراجیدي أن تسیطر على حیاتنا طریقة تفكیر اختزالیّة – تقسیمیّة، وأن تتّحكم هذه الطّریقة في القرارات السّیاسیّة والإقتصادیّة. لقد أدّى التّشخیص إلى أخطاء في التّوقع و اتّخاد القرار، إضافة إلى هاجس الرّبح والاندفاع الجامح إلیه، وهي عناصر مسؤولة عن كوارث شتّى منها جائحة 2020.

وفي سیاق نظریّة الفكر المركّب الّتي ندافع عنها موران یضیف: أنّ العالم الیوم مهدّد بالتّخصص الشّامل والمعمّق القائم على التّقسیم بدل الحوار، لقد رأینا أنّ الباحثین المتّحدین لهم الرّیادة، فقد استطاعوا مواجهة الجائحة بتنسیق وحوار مزال یتوسّع بین أطباء العالم بمختلف تخصّصاتهم. إنّ العلم یحیا بالحوار، وكلّ رقابة علیه تمنعه من تحقیق نتائج أفضل.

یحیلنا موران إلى كتابه “مفهوم الأزمة”، فكلّ أزمة تتّشكل في ظلّ الارتباك وفقدان الیقین اللّذان تخلقهما، وتتّمظهر في قواعد عمل نظام معیّن. هذا الأخیر یسعى إلى الحفاظ على توازنه ومنع كلّ أشكال الانحرافات، الّتي تصبح إذا لم یتمّ صدّها قادرة على تهدید النّظام وتحطیم قواعده.

یمكن القول أنّ الأزمة تسیر في اتّجاهین:

الأوّل: یحفّز الخیال في اتّجاه البحث عن حلول مستحدثة.

والثّاني: إمّا أن یكون انكفاءا على حالة استقرار سابقة، وّإما أن یكون انتظارا لما ستجود به السّماء والعنایة الإلهیّة، على اعتبار أنّ الأزمة هي نتیجة أفعّال المذنبین، وهو ما یحدث تخّیلا بأنّ المذنب كبش فداء یجب التّضحیة به.

في الواقع حسب موران أنّ أفكارا كثیرة شاردة ومهمّشة تستعاد وتنتشر في كلّ مكان: العودة إلى فكرة السّیادة، الخدمات العامّة، الخوصصة، العودة إلى الثّقافات المحلیّة، مواجهة العولمة واللیبرالیّة الجدیدة.

ففي مواجهة نقص الخدمات العمومیّة رأینا انتشار صناعة الأقنعة الواقعیّة بأشكال تضامنیّة في مصانع خاصّة، مع تسلیم مجاني، وتعاون بین الجیران، ورعایة المسنین والأطفال، یوازیه غیاب لأشكال التّعاون بین الدّول.

إنّ الإغلاق الصّحي یحفّز قدرة النّاس على الانتظام الآليّ وتخفیف الضّغط، بالمطالعة والموسیقى ومشاهدة الأفلام. لقد حفّزت الأزمة القدرات الإبداعیّة للأفراد.

إنّ التّوجیهات مابعد الإنسانیّة ترفع إلى القمّة أسطورة الضّرورة التّاریخیّة للتّطور وقدرة الإنسان على تحقیق خلوده، والواضح أنّ الذّكاء الاصطناعي سیكون أداته لمراقبة كلّ ذلك.

فهذه الأزمة باعتبارها أزمة بیو- إیكولوجي لكوكب الأرض، عرّت بشكل واضح عجز الجنس البشريّ عن تحقیق إنسانیته:

فمن النّاحیة الاقتصادیّة : فقد زعزعت كلّ الدوغمائیات الموجّهة للاقتصاد الّتي تهدّد مستقبلنا بمظاهر الفوضى والنّقص.

وعلى صعید الدّولة الوطنیّة، فقد كشفت الخلل في سیاسات أعطت الأولویّة للرّأسمال على حساب العمل، وضحّت بالاحتیاط والوقایة من أجل مزید من المردودیّة والتّنافسیّة.

دون إغفال الجانب الإجتماعيّ: فقد سطعت التّفاوتات بین من یعیش مكدّسا في أمان ضیقة، وأصحاب المنتجعات والقصور الفخمة.

وعلى الصّعید الحضاريّ: فإنّها تعیدنا إلى التّفكیر في غیاب التّضامن ومظاهر التّسمم الاستهلاكيّ.

وباعتبارها أزمة فكریّة: فمن خلالها نكتشف حجم الثّقب الأسود في تفكیرنا، هذا الثّقب الّذي منعنا من تبصّر ورؤیة تعقیدات الواقع.

وكأزمة وجودیّة: فإنّها تدفعنا كذلك للتّساؤل حول احتیاجاتنا الحقیقیّة وحول تطلّعاتنا الّتي أخفاها اغترابنا في حیاتنا الیومیّة.

يجب أن نمیّز بین التّرفیه الّذي یخفى حقیقتنا وبین السّعادة الّتي نغنمها في لقاءنا بالأعمال الفنیّة الكبرى، حیث تلتقي وجه لوجه حقیقة قدرنا الإنسانيّ.

ومنه یمكن القول حسب موران، إذا كان قدرنا في هذه الأزمة أن نعیش هذا الإغلاق العامّ جسدیا، فمنه یجب أن یتغذّى التّقارب الذّهني بين البشر.

آلان بادیو : نحو مرحلة ثالثة للشّيوعيّة

یعمد توصیف الفيلسوف الفرنسيّ “آلان بادیو” إلى النّقد والتّبسیط، نقد التّفاعل بشكل عامّ مع الجائحة، والتّبسیط كمحاولة لعدم تهویل الأمر، مادام الفیروس سلیل عائلة سبق أن ضربت في 2003 ، دون أن تسعى الدّول إلى تمویل المشروعات البحثيّة والطّبیة في هذا المجال.

إنّ ” الأنا أوّلا” كقاعدة ذهبیّة للإدیولوجیا المعاصرة، تصبح بلا جدوى، ولا توفّر سبلا للنّجاة، بقدر ما تطیل كشریك متواطئ إمكانات الشّر. فلعلّ التّحدي الأمثل الّذي تمثّله جائحة كورونا هو “تبدید النّشاط الجوهريّ للعقل”، وإجبار الأشخاص إلى العودة إلى التّقلید (التّصوف، التّخریف، الصّلاة، النّبوءة، اللّعنة..) وهو الأمر الّذي یذكّرنا بالعصور الوسطى إبّان انتشار الطّاعون.

كما أنّ هذا الوضع یمكننا من ملاحظة تقاطعات وتناقضات متعدّدة للوباء:

تقاطع الطّبیعة والمجتمع في عاملين أساسين: عامل أوّل قديم يتمثّل في الحالة المزریة للأسواق ( في مدینة ووهان) الّتي تبیع الحیوانات وتتّبع العادات القدیمة.

وعامل ثاني حديث: مسؤولیّة الانتشار الكوكبي للمصدر الأصليّ للوباء، الّتي تتحمّلها السّوق العالمیّة الرّأسمالیّة، واعتمادها على الحركیّة المتواصلة والسّریعة.

يلمس هنا كذلك تناقض مهم في عالمنا المعاصر، حیث یوجد الاقتصاد وعملیات الإنتاج الضّخم للأشیاء المصنّعة تحت رعایة السّوق العالمیّة، والّذي یقوم على بعد تركیبي تشاركي بین الدّول، فمثلا تركيب هاتف نقّال يشحد جهود سبع دول مختلفة. ومع ذلك لا تزال القوى السّياسيّة وطنيّة في الأساس، أمام استبعاد أي إجراء يؤدّي إلى بروز دولة رأسماليّة عالميّة.

یشكّل الوباء أیضا لحظة یصبح فیها التّناقض بین السّیاسة والاقتصاد صارخا، حیث الدّول الأوروبّیة لم تعمد إلى تعدیل سیاساتها لمواجهة الفیروس. فوقوع الدّول في هذه التّناقضات جعلها تجنح في مواجهة الوباء، إلى احترام الآلیات الممكنة للرّأسمال، على الرّغم من أنّ طبیعة الجائحة تجبرها على تعدیل نمط السّلطة ونشاطاتها.

لعلّ استعارة الرّئیس ماكرون: “نحن في حالة حرب”، صحیحة إلى حدّ بعید، ففي الحرب أو الوباء تلجأ الدّولة إلى تجاوز المسار الطّبیعيّ لطبیعة طبقتها، والقیام بممارسات استبدادیّة، من أجل تجنّب كارثة استراتیجیّة، وهنا تصبح عودة دولة الرّفاه أو الإنفاق لدعم النّاس أو إعلان التّأمیم، عبارات لا تثیر أيّ مفارقة أو دهشة، هذه نتیجة منطقیّة لربح الحرب، مع الاحتفاظ بالنّظام الاجتماعيّ القائم.

إنّها ضرورة مفروضة من خلال إجراء یتقاطع مع الطّبیعة (من حیث الدّور البارز للعلماء)، والنّظام الاجتماعي (من حیث التّدخل الاستبداديّ للدّولة(.

فأمام هول الجائحة الغیر متوقّعة، لم یتم اتّخاذ إجراءات ما قبل الدّولة الماكرونیّة، وهو ما یتطلّب من الدّولة تشیید لمصالح بشكل عمومي وعلني، لا تهمّ فقط البرجوازیّة وحدها، مع الاحتفاظ مستقبلا على أولیّة مصالح الطّبقة الّتي تمثّل عصب الدّولة.

إنّ الدّرس المستفاد والممكن استخلاص حسب باديو، أنّه بات من الجليّ، أنّه لا یمكن للوباء أن تكون له أیّة عواقب سیاسیّة تذكر في فرنسا، فأمام التّذمر الباهت والواهن للشّعارات البرجوازیّة للتّخلص من ماكرون، فإنّ ذلك لن یمثّل بأيّ حال من الأحوال أي تغییر جدیر بالملاحظة. وبالنّسبة للمطالبین بالتّغییر السّیاسيّ يتوجّب العمل على إیجاد شخصیات سیاسیّة جدیدة، ومشروع مواقع سياسيّة جديدة، وتقدّم عابر للأوطان لمرحلة ثالثة من الشّیوعیّة، بعد مرحلة التّنظیر ومرحلة تجربتها الدوليّة الّتي انتهت بالفشل.

وبصدد التّفاعل مع الجائحة یمكن اعتبار أنّ وسائل التّواصل الإجتماعيّ أثبتت إلى جانب إثخانها لجیوب الأثریاء، أنّها المكان الّذي تناسلت فیه الشّائعات الغیر متحكّم فیها، مع شلل للمتبجّحین أو لمكتشفي المستجدات القدیمة، الظّلامیّة والفاشیة.

من هنا یدعو بادیو في خضم العزلة المعاشة، ألاّ نمنح المصداقیّة إلاّ للحقائق الّتي یتمّ التّحقّق منها بواسطة العلم، والمنظورات الّتي تؤسّس لسیاسة جدیدة وأهداف استراتیجیّة مبنیّة.

******

*- جورجيو أغامبين: مقالة نشرت في جريدة NZZ  السّويسريّة.

*- سلافوي جيجك: صحيفة Die Welt الألمانيّة.

*- إدغار موران: حوار مع مجلّة L’obs.

*- آلان باديو: مقال نشر على موقع verso  بتاريخ 23 مارس 2020.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/06/10/%d8%ac%d8%a7%d8%a6%d8%ad%d8%a9-%d9%83%d9%88%d8%b1%d9%88%d9%86%d8%a7-%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d9%84%d8%b3%d9%81%db%8c%d9%91%d8%a9/

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك