الجذور الثقافية بين الحضارات

 

العلاقات بين الحضارات ليست أسيرةَ حادثٍ آنيٍّ، كما هي الحال في عصرنا الحاضر عندما استولَت على الأذهان حادثة الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة من سنة 1422هـ الموافق الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر من سنة 2001م. وإن كانت هذه الحادثة غيرُ العادية قد أثَّرت ربما سلبًا على التواصل الحضاري بين الشرق والغرب عمومًا، وبين المسلمين والغرب خصوصًا.

 

مع هذا تظل العلاقات الحضارية لا تخضع لحدث آنيٍّ مهما كان حجمه في أوانه؛ إذ إن جذور هذه الثقافات راسخة متبادلة بين تأثر وتأثير، سواء بين الثقافات القائمة على وحي منزَّل؛ كاليهودية والنصرانية والإسلام[1]، دون مصادرة لخصوصية كلِّ دين، أم بينها وبين الثقافات التي اتكأت على هذه الديانات الثلاث، مع الأخذ في الحسبان أنه من نتائج هذا الحدث ظهرَت مناهجُ متباينة، منها ما أكد على الارتماء في أحضان الغرب والنَّهَل من معطياته الحضارية دون قيد أو شرط، وهذا نهجٌ في التبعية قديم، تجدَّد، مع اختلافٍ في المنهجية والتعبير[2].

 

ويقابله نهجٌ آخرُ مضادٌّ دعا إلى القطيعة الحضارية ونبذ كل ما هو غربي، ومن ثَم الانسلاخ من الهيمنة والتبعية، كأن التأثُّر بالإنجازات الحضارية الغربية يُفضي إلى تلك الهيمنة الغربية والتبعية الشرقية.

 

معلوم أن هذا الموقف السلبي من الحضارات الأخرى - والغربية منها خاصة - ينبع من إفراطٍ في الحرص على نبذ الدَّخيل على الثقافة الإسلامية؛ خوفًا عليها من منطلق أنها ثقافة قائمة بذاتها، لها خصوصيتها التي لا ينبغي أن تُخترق[3].

 

الحفاظ على الخصوصيات الثقافية داخل المجتمع العربي المسلم لا يَعني العزلة والتمترُس، ولا يتنافى مع التعايش بين الثقافات وتبادل المنافع بينها، وإظهار مكوناتها الإنسانية التي قامت على تكريم بني آدم، مهما بشَّر بعضُ المثقفين المتعجِّلين بسيطرة النظرة العولمية على هذا الكوكب؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].

 

وادِّعاء سيطرة العولمة قد يُثبت المستقبلُ القريب عدم فاعليته، لا سيما مع التواتر بين المفكرين على أنَّ الدعوة إلى العولمة في كل شيء لم تُثبت جَدواها؛ لأنها تَسير في اتجاه واحد، في ضوء شُيوع نظرية المركز أو المحور والأطراف، وأن الأطراف ينبغي أن تخدم المركز، وأنه لم يَظهر في الأطراف علماء مؤثِّرون، بل متأثرون، بحيث أصبح الإنسان في الأطراف غير مؤثر، حتى إذا ما "رحل" إلى المركز "لا يَلبث أن يُصبح عالمًا مرموقًا، أو باحثًا لامعًا بعد الهجرة إلى إحدى الدول الرأسمالية المركزيَّة، والانخراط في بنائها المركزي المتكامل"[4].

 

بل وصل الأمر إلى تسنُّم المناصب القيادية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، يتم ذلك بعد تبنِّي ثقافة المحور وتجاهل ثقافة الأطراف، وربما التنكُّر لها ولو ظاهريًّا؛ إذ يصعب واقعيًّا التنكُّر للجذور على الدوام.

 

ولذا فلا بد من التركيز على هذه الخصوصية الثقافية الدافعة لا الحاصرة، وأخذِها في الحسبان عند سَنِّ النظم والقوانين الغربية التي تَحكم العلاقات الإنسانية والاجتماعية[5]، وتتبناها المنظمات الدولية الحقوقية وغيرها، وتطالب الدول الأعضاء بتبنِّيها والعمل بموجبها.

 

يأتي التركيز على هذا البُعد من منطلق أن "كرامة الإنسان وحقوقه أمر لازم وثابتٌ له، قد ينطلق من معتقد ديني أو نص قانوني أو موقف إنساني، لكن حقوق الإنسان تبقى في النهاية أمرًا لا بد من سعي الأفراد والدول والمنظمات الدولية والجمعيات والمؤسسات المدنية للدِّفاع عن هذه الحقوق والمحافظة الدولية عليها"[6]. والمراد بهذه الكرامة والحقوق ما يتماشى مع فطرة الإنسان التي أقرتها التشريعات السماوية، وجاءت بها الكتب المنزلة، وبلَّغَها الأنبياء المرسلون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] انظر، هافانا لازاروس - يافه، الفكر الإسلامي والفكر اليهودي: بعض جوانب التأثير الثقافي المتبادل - الاجتهاد - ع 28 صيف العام 1416 هـ/ 1995م، ص 179 - 209.

[2] في تحرير الإشكال في المصطلح "الحضارة" انظر: المناقشة المستفيضة: الحضارة بين إشكاليات الترجمة وتعدد المفاهيم، ص 9 - 28، في: محمد جلاء إدريس العلاقات الحضارية: - دمشق دار القلم 1424هـ/ 2003م، ص 176.

[3] انظر: من النهضة إلى الردة، ص 111 - 153، في: جورج طرابيشي - المرض بالغرب: التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي - دمشق: دار بتراء. 2005م، ص 184. وينقل جورج طرابيشي هذه الجدلية عن منير شفيق في كتابه الإسلام في معركة الحضارة، ط 2، بيروت: دار الكلمة، 1983م.

[4] انظر: أيوب أبو دية، لماذا انحصرت التأثيرات العلمية المتبادلة بين العرب والغرب؟ ص 271 - 282، في: عبدالواحد لؤلؤة. وآخرين/ محررين، العرب والغرب، أوراق المؤتمر العلمي السنوي السابع لكلية الآداب والفنون، جامعة فيلادلفيا، عمان، الجامعة، 2003م، ص 599.

[5] انظر: فوزية العشماوي، الحوار بين الحضارات وقضايا العصر: العولمة وآثارها على الخصوصيات الثقافية - الاجتهاد، ع 52 و 53 (خريف وشتاء العام 2001 - 2002م/ 1422هـ)، ص 97 - 112.

[6] انظر: سعيد حارب المهيري، حقوق الإنسان في العلاقات الدولية الإسلامية - الاجتهاد، ع 52 و 53 (خريف وشتاء العام 2001 - 2002م/ 1422هـ)، ص 133 - 185.



المصدر: https://www.alukah.net/culture/0/99768/#ixzz6T94NbfNt

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك