أنكساغور: حينما صارت الفلسفة إبداعا للمفهوم

محمد غمري

 

“في كلّ شيء، جزء من كلّ شيء” أنكساغور

تقف هذه الورقة عند ثلاث لحظات أساسيّة، الأولى أنّها تتابع الخطو على مسار تطوّر المنجز المعرفي للحكماء الطّبيعيين فتضع أطروحة أنكساغور Anaxagore[1] ضمن سياق التّعارض بين المدرستين الإيليّة والأيونيّة ومحاولات تجاوزه؛ والثّانية أنّها تنظر في انبثاق الخاصيّة المفهوميّة للفكر الفلسفيّ كما تبلورت في عمليَّات تشكُّلها الأولى، والنّموذج المقترح هنا هو مفهوم “النّوس Nous ” الّذي نحته أنكساغور للدّلالة على العلّة الفاعلة والقوّة المحركة للموجودات؛ وأمَّا اللَّحظة الأخيرة فإنّها تستشرف أفق ما بعد مرحلة الحكماء الطّبيعيين، فتسائل المنطلقات والحصيلة، وتمهِّد السّبيل نحو التّفكير في مسارات انتقال الفكر الفلسفي اليوناني نحو طرح مشكلة الإنسان.

هذا قول مجمل، فإليك البيان مفصَّلا.

على غرار أمبادوقليس يتّخذ أنكساغور موقفا إيجابيا من المدرستين الهراقليطيّة والإيليّة، إذ يعترف بأهميّة البعد الفيزيقي المادي في التّأسيس للرّؤية الصّحيحة للكون، وبذلك فهو يحتفظ بمبدأي التّغيّر والصّيرورة مع تعديل مسارهما بحيث يشملان أحوال الوجود دون أن يعنيا انتقاله نحو العدم، كما يأخذ عن بارمنيدس مبدأ مطابقة الوجود لذاته ومفهوم الضّرورة الوجوديّة[2]، ما يعني أنّه يقرّ أيضا بالثّبات والسّكون، وبالتّالي فإنّ المقول الأنكساغوري يتحرَّك ضمن نفس المجال الإشكالي الّذي أعقب ظهور الفكر الإيلي: “كيف يمكن الحفاظ على وحدة الوجود المطلقة “الوجود موجود” مع قبول ما يتراءى أمام الامتداد الامبريقي من تغيُّر؟ كيف يمكن إحداث الانسجام بين وحدة الوجود من حيث الفكر، وتغيُّر الموجودات من حيث ما يظهر في الواقع الفعلي؟”.

فضلا عن ذلك، يسلك أنكساغور نفس المسار المنهجي الّذي وضعه أمبادوقليس، حيث يفكّر في “المبدأ” من زاوية التّكثير والتّعديد وليس الاختزال والتّوحيد.. لكنّه يختلف معه كثيرا في الإطار المعرفي، وينتقده في نقطتين أساسيتين: الأولى في قوله بالجذور الأربعة، والثّانية في قوله بالمحبّة والشّقاق كقوّتين فاعلتين.

يرفض أنكساغور إرجاع المبدأ الأنطولوجي للوجود إلى “الجذور الأربعة”، لأنّه قول ينبني على مصادرة عدم إمكانيّة تحوّل العناصر من كيفيّة إلى أخرى، في حين أنّ الواقع الفعلي يكَـذِّب هَذه المصادرة عندما تقدّم الملاحظة الحسيّة التّجزيئيّة شهادة ثبوت تحول الماء مثلا من حالته السّائلة إلى حالة بخار، أو تحوّل النّار بعد خمودها إلى تراب، ويترتّب عن ذلك أنّ أمبادوقليس ظلّ تقليديا في فكره ومتأثّرا بنمط التّفكير الأيوني حيث اقتصر على طرح سؤال الأصل (ما أصل الوجود؟) دون أن يكلّف نفسه عناء مضاعفة السّؤال ليقول: “كيف يمكن أن تتحوّل عناصر الطّبيعة من أصل أنطولوجي ثابت وواحد إلى مظاهر كسمولوجيّة وظواهر فيزيقيّة متعدّدة ومتغيّرة؟”.

من جهة أخرى، ينتقد أنكساغور الطّرح الأمبادوقلي حول أنسنة القوّة المحرّكة للكون، فالحبّ والكراهيّة عبارة عن مشاعر إنسانيّة، ولا يمكن أن يتحوّلا إلى قوّة فاعلة، لذلك فما يُحسب لأمبادوقليس هو تفكيره في القوّة الفاعلة في حدّ ذاتها، أمّا منتوج تفكيره فهو مردود إليه حسب ما يدّعيه أنكساغور، ذلك أنّ القوّة المحرّكة ينبغي لها أن تُؤثِّر دون أن تكون مادّيّة، وينبغي أن تُحدِث الاختلاط والامتزاج بين العناصر دون أن تكون طرفا فيهما.

إنّ جوهر الاختلاف بين أمبادوقليس وأنكساغور يكمن في تصوّرهما حول طبيعة العنصر/الأسطقس، فالأوّل يعتبر أنّه متناهٍ، بيْد أنّ تقسيم أشياء الكون على نحو تجزيئي  يتوقّف في لحظة الوصول إلى أحد العناصر/الجذور الأربعة الأصليّة، وبالتّالي فتقسيم الأشياء هو عمليّة متناهيّة تقف عند جِذر معيّن؛ في المقابل، يعتبر أنكساغور أنّ القسمة لا متناهيّة، فالجذر (الأصلي) هو نفسه قابل للانقسام بشكلٍ لا متناهٍ، ما يعني أنّه لن يتمَّ التّوصل إلى عنصر جذري خالص وخام، بيْدَ أن كلّ عنصر في حدّ ذاته سوف يتضمّن نسبة من العناصر الأخرى[3].

من هنا تأتي قولة أنكساغور الشّهيرة: “في كلِّ شيء، جزء من كلِّ شيء”، وبيان ذلك أنّ تحليل العناصر إلى أجزائها اللاّمتناهيّة يقود نحو إثبات عدم وجود عنصر أصيل وجذري، فعنصر النّار مثلا يبدو للحسّ أنّه نار خالصة، لكن تعميق النّظر سوف يفضي إلى أنّ هناك عناصر جزئيّة أخرى تدخل في تركيبة النّار لكنّها غير مرئيّة وغير ظاهرة. ومن ثمّة فإنّ أنكساغور لا ينظر إلى الأسطقسات بوسْمها موجودات متناهيّة ذات هويّة أنطولوجيّة موحّدة وثابتة، بل يقرُّ بأن كلّ أشياء الكون من حيث مكوّناتها هي في حقيقتها عبارة عن بذور Semences تحمل في ذاتها إمكانيّة أن تكون كلَّ شيء، ولا يتعلّق الأمر هنا بلحظة تكوينيّة في الأصل الكسمولوجي، أي في لحظة بدء تشكّل الكون، إنّما هو اختلاط يتمُّ على نحوٍ ممتدّ في الزّمان والوجود، حيث كلّ شيء يحمل في عمقه الانطولوجي كلَّ شيء.

محصول القول، إنّ أنكساغور يُعمِّق تكثير الأصل الأنطولوجي للكون، ويتجاوز الاختزال اإامبادوقليسي الّذي حصَر الإسطقسات في جذور أربعة، ومن ثمّة يقدّم الرّجل مفهوم “البذور” بوصفها علّة ماديّة، تحمل كلّ بذرة منها احتمالات لا نهائيّة من الكينونة المستقبليّة، أي ما يمكن أن تصير إليه مستقبلا؛ وإذا أمكن الأخذ بهذا التّصور فإنّه يلزم طرح السّؤال التّالي: حيث أنّ البذور هي العلّة الماديّة للكون، ومنها تشكّل كلّ شيء، فما هي القوّة الفاعلة الّتي جعلت البذور تمتزج ببعضها حتّى غلب عنصر على باقي العناصر الأخرى، فكانت الأشياء والموجودات بتعدّدها وتنوّعها الّذي نرى؟

ليست القوّة الفاعلة حسب أنكساغور محبّة تصل الأشياء ببعضها ولا شقاقا يفصل العناصر عن بعضها، فالقوّة الفاعلة عنده هي “العقل Nous”[4]، ولا يتعلّق الأمر هنا بموجود مادي كباقي الموجودات، بل هو “عقل” يتّسم بثلاث خاصّيات أساسيّة، أوّلها أنّه بسيط ونقي وخالص، على خلاف كلّ أشياء الكون الّتي هي درجات متفاوتة من الاختلاط، وثانيها أنّه محرّك للعالم إذ يضطلع بدور إسناد الحركة إلى كلّ موجود باعتباره الضّامن لصيرورة الأشياء وتغيرها في الامتزاج والانفصال، وثالثها أنّه عالِم بالكون، إذ يعلم بكلّ القوانين الّتي تنظّم الكوسموس وتحكمه، فهو الباعث على النّظام الّذي يسري في كلّ ظواهره، يقول أنكساغور: “والعقل يدرك جميع الأشياء الّتي امتزجت وانفصلت وانقسمت، والعقل هو الّذي بثَّ النّظام في جميع الأشياء الّتي كانت والّتي توجد الآن والّتي سوف تكون، وكذلك هذه الحركة الّتي تدور بمقتضاها الشّمس والقمر والنّجوم والهواء والأثير المنفصلين عنها”[5].

إنّ مفهوم “النّوس” يقدّم أحد الإجابات الممكنة لتجاوز مشكلة التّعارض بين المدرستين الأيونيّة والإيليّة، ذلك أنّه يحيل على خاصّيتين أساسيتين وهما المفارقة والمحايثة، فالنّوس مفارق للوجود الفعلي من حيث هو نظام وقانون ذو وحدة كليّة وثباث مطلق بالمعنى البارمنيدي، وهو أيضا محايث للكون من حيث كونه علة فاعلة تتدخَّل في تغيير الأشياء وإحداث الحركة والامتزاج والانفصال بين البذور بوصفها مادة منفعلة.

وهكذا يصبح انبثاق الموجودات مستوجبا لشرطين أساسيين: المادّة المنفعلة (البذور)، والعقل الفاعل (النّوس)، يقول أنكساغور واصفا ما بين المبدأ المنفعل والمبدأ الفاعل من اتّصال: “جميع الأشياء تحتوي على جزء من جميعها، ولكنّ العقل لامتناه وحاكم لذاته، غير مختلط بأي شيء، بل قائم بذاته…وهو أجمل الأشياء وأصفاها، ويدرك كلّ شيء إدراكا تامّا، ويتصف بالقدرة العظمى. وجميع الأشياء الحيّة، صغيرها وكبيرها، خاضعة لحكم العقل. وقد تولّى العقل الحركة الكليّة أصلا لكي تأخذ الأشياء في التّحرك. وفي البدء أخذت الأشياء تتحرّك عن نقطة صغيرة، أمّا الآن فالحركة تشمل جميع المساحة (الكونيّة) وستتّسع أكثر فأكثر”[6].

إنَّ ما ينبغي تسجيله مع أنكساغور هو هذا الانتقال النّوعي الّذي أحدثه الرّجل بواسطة مفهوم “النّوس”، فعلى خلاف الحكماء الطّبيعيين السّابقين أصبح التّفكير في الأصل الأنطولوجي للكون وفي علَّته الفاعلة مستقلا تماما عن الامتداد الواقعي، أي العناصر الطّبيعيّة أو الأسطقسات. فما نلحظه هنا هو تفكير في الكون بواسطة المفهوم بدل العنصر، وإذا كان بعض الحكماء الطّبيعيين قد بادروا إلى الانفصال عن العناصر الطّبيعيّة، فإنّ ذلك لم يحدث إلا نسبيا، نذكر هنا مفهوم الصيرورة الهراقليطي أو الوحدة الأنطولوجيّة مع بارمنيدس أو مفهوم العدد الفيثاغوري، لكنّ أنكساغور يضع ثنائيّة بارزة بين نظام التّفكير في الكون من داخل عناصره – نشير هنا إلى “البذور” بوصفها مادة العالم الأصليّة- وبين نظام التّفكير في الوجود من داخل إبداع المفهومLe concept .

نتحدّث هنا عن مفهوم “النّوس” بوسمه تجليّا للإبداع الفلسفي المجرّد، الّذي يعمل على بناء المعنى دون المرور عبر الإحالة المرجعيّة في الواقع التّجريبي، ولعلّ ما يمكن أن نرصده في هذا السّياق هو تبلور أهمّ خاصيّة من خصائص التّفكير الفلسفي، ألا وهي خاصّيته المفهوميّة، وإذا كانت الفلسفة المعاصرة تؤكّد على هذه الخاصيّة، فإنّ ذلك ليس من باب تجديد وظيفيته الفلسفيّة فحسب، بل بغاية الإشارة إلى أحد أشكال فاعليّة نشاطها الإبداعي، فمفاهيم الفيلسوف -كما يقول جيل دولوز- لا تهطل من السّماء ولا  تُستنبت من الأرض، بل هي تُبنى داخل الحقل المعرفي الّذي يشتغل في إطاره الفيلسوف وضمن مجال حدسه الخاصّ به[7]، لذلك فهي جديرة بأن تحمل توقيع صاحبها، لأنّها “ليست فقط مجرّد قاموس ومفردات، وإنّما هي سياق يرقى إلى مستوى سام أو إلى جماليّة رائعة”[8].

هكذا يصبح المفهوم واقعة فلسفيّة، فأنكساغور حين يبدع مفهوم العقل (Nous) داخل مجال رؤيته الطّبيعيّة، فإنّه بذلك يكوّن بل يخلق شخصيّة مفهوميّة ليست جامدة، وليست قالبًا للدلالة المحنَّطة والصَّنميّة، بل هي شخصيّة ديناميّة عابرة للتّاريخ والجغرافيا، ذلك أنّنا سنجد مفهوم العقل حاضرا في كلّ محطّات الفكر الفلسفي وإن اختلفت دلالاته من فيلسوف لآخر بين الجوهر المفكّر عند ديكارت والعقل النّقدي عند كانط، والرّوح المطلق عند هيغل.. وبقدر ما يمتدّ المفهوم في صيرورته الفلسفيّة والتّاريخيّة بقدر ما يتعمّق ارتباطه بمفاهيم أخرى مضايفة له أو مجاورة، كما تتجذَّر شبكته المفهوميّة في أكثر الأنساق الفلسفيّة الكبرى إحاطةً واحتواء لمباحث الفلسفة الأساسيّة (الأنطولوجيا، الإبستمولوجيا، الأكسيولوجيا).

يقول جيل دولوز: “لا يحيل كلّ مفهوم إلى مفاهيم أخرى داخل تاريخه فحسب، وإنّما داخل صيرورة اقتراناته الحاضرة كذلك”[9]، وفي قول آخر غير بعيد عن الأوّل: “خاصيّة المفهوم هي جعل المركّبات غير منفصلة بداخله: فهي متمايزة وغير متجانسة، ومع ذلك فإنّها غير منفصلة، ذلك هو وضع المركّبات، أو ما يحدّد قوام المفهوم”[10]، وفي قول قول ثالث يتحدّث فيه عن طبيعة العلاقات الّتي تربط المفهوم بذاته أو بما يضايفه أو يجاوره أو يُشابكه بمفاهيم أخرى، “ليست العلاقات داخل المفهوم علاقات تعريفيّة ولا علاقات ماصدَقيّة، وإنّما فقط علاقات إحداثيّة، وليست مركّبات المفهوم ثوابت ومتغيّرات، وإنّما مجرّد تغيّرات إحداثيّة وفق تجاورها”[11].

محصول القول، إنّ النّظر الطّبيعي لأنكساغور انبنى على مرتكزين: تكثير الأصل الكسمولوجي بواسطة العناصر الجزئيّة اللاّمتناهيّة (البذور)، وتوحيد الوجود بواسطة العقل (النّوس) بوسمِه علَّة فاعلة وكينونة عارفة وعقلا منظِّما يسمح بانبثاق عالم منتظم ومحكوم بالقانون. فهل نستطيع القول إنّ أنكساغور تمكَّن من حلّ لغز الكون ونجح فيما فشل فيه السّابقون عنه؟

لقد استطاع الرّجل أن يجعل من الوجود واحدا ومتعدّدا، ثابتا ومتغيّرا، متناهيا ولامتناهيا، فهل يعني ذلك أنّ الحكمة الطّبيعيّة قد حقَّقت أهدافها الكبرى وتمكّنت من وضع أطروحة عقلانيّة حول الكون تنأى عن التّقليدين الوثني والأسطوري، وتؤسّس لمنظور جديد مستوحى من إعمال القدرة الإنسانيّة على التّفكير سواء بواسطة أدوات الاستدلال التّجريبي المنفتح على الواقع، أو بواسطة الاستدلال العقليّ المكتفي بنور الفكر: هل نستطيع القول – بقدر كافٍ من الثّقة- أنّ نتاج الحكمة الطّبيعيّة قد اكتمل مع أنكساغور، وأنّ ما تلاه ليس سوى محاكاة وتقليد ونَسْخ؟

إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة تقتضي العودة على البدء، أي الرّجوع إلى نقطة البداية بهدف تقييم النّهاية، والنّهاية لا تعني الانتهاء، أي الاكتمال التّام والوصول إلى لحظة إغلاق النّسق، وإنّما هي لحظة تقويميّة نعاين عبرها منطلقات الحكمة الطّبيعيّة ومخرجاتها. والحقّ أنّ سؤال المنطلق والبداية كان “ما أصل الكون؟”، وهو سؤال كما هو معروف قديم جديد، قديم لأنّه شغَل الإنسان منذ وجوده، فالأساطير والأشكال المتعدّدة للخرافة هي نفسها إجابات مقترَحة على نفس السّؤال بغضّ النّظر عن الاتّفاق معها أو الاختلاف؛ وهو جديد لأنّه يسلك وجهة مغايرة في البحث، وكان التّفكير العقلاني وحده بوصلة معتَمدة لتلمّس الاتجاه الصّحيح ضمن هذا المسلك. لكنّ سؤال “ما أصل الكون؟” هو نفسه يقتضي مساءلة جذريّة في عمق بنيته ومدلولات دوالِّها، نتساءل: ما هو الكون في حدّ ذاته؟

إنَّ التّفكير في الكوسموس داخل التّقليد الطّبيعي لا ينفصل عن اللّوغوس، إنّهما يتماهيان ببعضهما إلى درجة التّطابق، ويعني ذلك أنّ الحكمة الطّبيعيّة عندما تُفكِّر في الكون فإنّها تضع الإنسان ضمنه كأحد مكوّناته الموضوعيّة على غرار باقي المكوّنات الأخرى، على اعتبار أنّ ما ينطبق على ظواهر الطّبيعة ينطبق أيضا على الذّات الإنسانيّة، ولذلك لم ينفصل التّفكير في الكون عن التّفكير في الإنسان من زاوية وجوده الطّبيعي كموجود تحذوه نفس القوانين الّتي تحكم العالم، وقد سبقت الإشارة – في كتابات سابقة- إلى أنّ الحافز على طرح سؤال الأصل الكسمولوجي هو الاعتقاد بوجود الوحدة الكلّيّة بين الإنسان والعالم على مستوى اللّوغوس، فكان الهاجس دوما هو العثور على تجلّيات هذا التّماهي بين وحدة المبادئ في العقل ووحدة القانون الّذي يحكم ظواهر الطّبيعة.

والواقع أنّ الحكمة الطّبيعيّة المتأخّرة خصوصا مع أمبادوقليس وأنكساغور، انتبهت إلى مسألة التّعدد والكثرة كأصل أنطولوجي تنتفي معه فكرة الوحدة، ويتحصّل عن هذا أنّ انهيار فكرة الوحدة/الأصل الّذي سيرافقه إفلاس مبدأ الوحدة على مستوى مبادئ العقل، وبالتّالي فإنّ تكثير الأصل الانطولوجي للكون سوف يستتبع بالضّرورة تصدُّع الوحدة بين الكسموس واللّوغوس بحيث سيصبح الإنسان غريبا عن نظام الكون ومنفصلا عنه، ومن هنا سوف يطرح سؤال الإنسان كمشكلة فلسفيّة: ما محلُّ هذا الكائن ضمن منظومة الكون وقوانينه؟ هل يمكن إخضاع السّلوك الإنساني لقانون كلّي على منوال ما تخضع له ظواهر الطّبيعة؟

نسجّل هنا أنّ مسألة الواحد في مقابل المتعدّد لم تعُد مطروحة كمشكلة كسمولوجيّة فحسب، بل أصبحت مشكلة إنسانيّة بالدّرجة الأولى، وهو ما سيُحدِث التّحوّل التّاريخي من منظومة الحكماء الطّبيعيين إلى منظومة الأنساق الفلسفيّة الكبرى بدءً من أفلاطون وأرسطو وصولا إلى آخر فيلسوف نسقي معاصر، وستُشكِّل اللّحظة السّقراطيّة بكلّ تفاصيلها وحيثياتها لحظةً وضعَت كلّ خطابات التّماهي والانسجام بين الإنسان والعالم على محلِّ التّشكيك وإعادة المساءلة، حيث أضحى على كلِّ فيلسوف يمنح لنفسه هذه الصّفة، أن يقدِّم نسقا كلّيّا يجيب فيه عن سؤال الطّبيعة وسؤال الإنسان، ثمّ يحدِث بين الطّرحين انسجاما كلّيا يضفي عليهما طابع الوحدة والتّماسك…

نعم، إنَّنا نشهد ميلاد نوع جديد من الخطاب، ألا وهو خطاب السّياسة والأخلاق الّذي يبحث له عن مسلك يحافظ من خلاله على الانسجام الكلّي بين العالم والإنســـــان، وبتعبير أكثر استشكالا للوضعيّة الرّاهنة نتساءل: كيف نجعل من السّلوك الإنساني المتعدد والمختلف خاضعا للنّظام ومحكوما بالقانون، بحيث يصبح ذا وحدة منسجمة تسمح بالاندماج داخل الوحدة الكوسمولوجيّة، وبالتّالي إعادة تحقيق وحدة اللّوغوس بين الإنسان العالم؟…

******

[1]  ليس هناك تحديد دقيق لتاريخ ميلاد أنكساغور غير أنّه يرجح ما بين 496 ق.م و500 ق.م، لكنه توفي في نفس العام الّذي ولد فيه أفلاطون، أي 427 ق.م، وهو يعتبر أوّل من أدخل الفلسفة إلى مدينة أثينا. تتحدّد أطروحته باختصار شديد في الفكرة القائلة بأنّ “في كلّ شيء جزء من كلّ شيء”.

[2] John Burnet, L’Aurore de  la philosophie Greque ; édition Française par Aug. Reymond, Payot-Paris, 1919, P 300 .

[3] John Burnet, Ibid, P 302.

[4] John Burnet, Ibid, P 307.

[5]  أميرة حلمي مطر، الفلسفة اليونانيّة: تاريخها ومشكلاتها، دار قباء للطّباعة والنّشر والتّوزيع، مصر – القاهرة، ط 1998،  ص106.

[6]  ماجد فخري، تاريخ الفلسفة اليونانيّة، دار العلم للملايين، لبنان – بيروت، ط1، مارس 1991،  ص47.

[7]  جيل دولوز/ فيليكس غاتاري: ما هي الفلسفة؟، ترجمة ومراجعة وتقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، لبنان – بيروت / المركز الثّقافي العربي، المغرب – الدّار البيضاء، ط1، 1997، ص30.

[8]  نفسه، ص33.

[9]  نفسه، ص42.

[10]  نفسه، ص42.

[11]  نفسه، ص43.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/08/01/%d8%a3%d9%86%d9%83%d8%b3%d8%a7%d8%ba%d9%88%d8%b1-%d8%ad%d9%8a%d9%86%d9%85%d8%a7-%d8%b5%d8%a7%d8%b1%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d9%81%d8%a9-%d8%a5%d8%a8%d8%af%d8%a7%d8%b9%d8%a7-%d9%84%d9%84/

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك